أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - بلكميمي محمد - فكر وحوار : نظرية الراسمالية المغربية 1















المزيد.....


فكر وحوار : نظرية الراسمالية المغربية 1


بلكميمي محمد

الحوار المتمدن-العدد: 2440 - 2008 / 10 / 20 - 08:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    



ان السؤال الاول هو التالي : في أي اتجاه تسير الراسمالية المغربية ؟ بمعنى ، اين تتجه تلك الراسمالية موضوعيا ، وفق قوانينيها الضرورية الخاصة بها ، وليس وفق هذا المسؤول الحكومي او ذاك ، اورغبة هذا المعارض السياسي او ذاك ؟
هذا سؤال مركزي على الصعيد النظري ، وحاسم على الصعيد السياسي . لماذا ؟ لان المعارض السياسي التقدمي ، لايمكنه ان يمتلك ارادة سياسية فعالة في الوضع ، الا اذا كان يمتلك وعيا نظريا عميقا لذلك الوضع ، ان المناضل في حقل السياسة ، مثل ُربان السفينة داخل البحر .
فكما ان الربان الذي يفتقد الى البوصلة المغتاطيسية ، سيظل تائها وسط الامواج ، وربما سيلقى حتفه ، رغم قوة عضلاته المفتولة ، كذلك فان المناضل الذي يفتقد الى البوصلة النظرية التي توجهه في الاتجاه السليم ، سيظل هو الاخر تائها وسط الصراع الطبقي ، وربما سينتهي الى الغرق السياسي ، رغم قوة وصدق ايمانه النضالي .
لكن كيف يمكن بناء نظرية علمية للراسمالية المغربية ، ومن ثمة بناء تلك البوصلة المنشودة ؟ .
ان هذا الامر يتطلب شرطين ضروريين ، لا غنى لاحدهما عن الاخر ، شرط موضوعي ويعني ان الراسمالية المغربية نفسها ، يجب ان تكون قد بلغت مستوى من التطور والنضج ، يجعلها قابلة للاختراق الفكري وللتنظير العلمي . اذ بدون ذلك الشرط ، فان أي فكر مهما كانت موهبة صاحبه وقدرته التحليلية ، فانه سيبقى مجرد فكر اجوف ، لاتتعدى قيمته حدود الذات التي انتجته .
ان الراسمالية المغربية في اللحظة التاريخية الراهنة(80) قد تفتحت براعمها واتضحت معالمها ، واصبحت بالتالي قابلة للاستيعاب النظري .

اما الشرط الثاني ، فهو شرط ذاتي محض ، لانه يتعلق بالمنهج المعرفي ، لكن ذاتية المنهج المعرفي نفسها ، لايجب فهمها على انها ذاتية مطلقة ، بل كذاتية نسبية . ان الاولى : وهي السائدة في اغلب مناهج المعرفة ، تفهم الفرق بين ذات المعرفة وموضوع المعرفة ، على انه فرق مطلق . بمعنى ان الذات التي تفكر في موضوع ما ، لها وجود قائم الذات ومستقل كليا عن الموضوع الخاضع للتفكير ، كما ان الموضوع بدوره له وجود مستقل قائم بذاته ، فالعلاقة اذن بين الذات المفكرة وموضوع التفكير هي علاقة خارجية ، لانه اثناء عملية التفكير ، يظل كل طرف من الطرفين يحتفظ بتمايزه وانفصاله عن الطرف الاخر . ولذلك فان الحقيقة العلمية بالنسبة لذلك المنهج المعرفي ، لاتتطلب اكثر من بلورة التصور الذاتي المطابق للموضوع .
ان ذلك المنهج له فعلا مشروعيته العلمية ، لكنها مشروعية محدودة جدا ، لانه لايدرك الحقيقة في عمقها وشموليتها ، بل فقط في بعض جوانبها المعزولة والمجردة ، وهذا لسبب بسيط : فهو ينظر للموضوع كشيء معطى فانه يجرده عن سياقه العام ، مما يؤدي الى تفكيكه ، وبالطبع فان الموضوع المفكك ، لايمكن ان ينتج بدوره الا فكرا مفككا ، والفكر المفكك لايمكنه الوصول الى جوهر الحقيقة .
ان النقيض للفكرالتفكيكي ، هو الفكر العقلاني الجدلي ، فهذا الاخير لا ينظر الى موضوعه من الخارج ، كما يفعل الاول ، بل يدخل فيه ويغوص فيه ويتوحد معه توحدا تاما ، بحيث يصبح الفرق بين الفكر وموضوعه مجرد فرق نسبي ، لان الفكر يبحول الى موضوع والموضوع يتحول الى فكر . وحين يتحقق الاندماج بين الطرفين النقيضين ، ويصبح الموضوع نفسه ذاتا فاعلة تتحرك بمحض ارادتها الخاصة ، وتتطور من طور الى اخر ، ومن حالة الى اخرى ، وليس كشيء معطى ، مجرد ، جامد ، كما يتخيله الفكر التفكيكي ، حينئذ تصبح مهمة الفكر كلها هي الغاء الفكر كفكر ذاتي ، ونبذ كل الافكار الغريبة عن الموضوع التي تحاول ان تتسلل اليه من ذات الشخص ، وبالتالي حصر دور الفكر في هذا الدور : التقيد الصارم بعدم التدخل في الحركة الذاتية الحرة للموضوع ، والاكتفاء برصدها وعكسها – في ضرورتها وموضوعيتها – عكسا نظريا .
من هنا يصبح معيار الحقيقة العلمية ، ليس هو تطابق تصور الفرد مع الموضوع / كما هو الشان بالنسبة للفكر التفكيكي / ، بل هو تطابق الموضوع مع ذاته .. مع مفهومه .
انطلاقا من ذلك الاساس النظري ، تطرق عبد السلام المؤذن بالتحليل ، في العرض التالي الى موضوع الراسمالية المغربية .


1- جوهر الراسمالية الكولونيالية المغربية .

ان الراسمالية الكولونيالية ، هو الشكل الاول الذي ظهرت به الراسمالية بالمغرب . لذلك سينطلق بحثنا من هذا الشكل البدائي التاريخي .
في مطلع السبعينات من القرن الماضي وبالتحديد سنة 1873 ستدخل اوربا الراسمالية في ازمة اقتصادية عميقة وطويلة ، دامت اكثر من 22 سنة ، لم تعرف خلالها سوى سنتين من الانتعاش الاقتصادي العابر ، هما سنتا 1889 و 1890.
ان تلك الازمة قد فجرها التطور الكبير للراسمالية التنافسية الحرة ، وهو التطور الذي بلغ اوجه في السبعينات من ذلك القرن ، وعبر تلك الازمة ، طرح التاريخ هذه الحقيقة : لم يعد بالامكان ان تستمر الراسمالية في العيش على نفس النمط التنافسي الحر الذي سارت عليه حتى الان .
لكن هذه الحقيقة التاريخية ، لم يلمسها ولم يعها سواء رجال الاعمال المنخرطون في النشاط الراسمالي العملي ، او علماء الاقتصاد البورجوازين المنظرون لذلك النشاط اذ كان الجميع يحلم بامكانية استئناف النشاط الاقتصادي ، على نفس الارضية التنافسية السابقة ، ولان التاريخ لا تتحكم في حركته ، رغبات الناس واحلامهم الذاتية ، بل قوانينه الموضوعية المستقلة ، لذلك وجد الراسماليون انفسهم ، وبدون وعي منهم ، يتكيفون شيئا فشيئا مع الضرورة التاريخية ، هكذا بدا العالم يشهد بالتدريج ، حدوث ظاهرة التمركز الاقتصادي ، هذه الظاهرة التي ادت بدورها في نقطة معينة من التطور ، الى بروز ظاهرة الاحتكار ، لانه كلما تقوى التمركز ، كلما قل بالمقابل عدد الراسماليين ، وبالتالي اصبح في الامكان التفاهم فيما بينهم ، وتحويل صراعاتهم التنافسية الى اتفاقات احتكارية .
ان صيرورة الانتقال من نظام التنافس الحر الى نظام الاحتكارات الكبرى ، التي كانت في البدء تسير ببطء ، وتردد سرعان ما امسب تتحرك بخطى حثيثة سريعة ، اذ ما ان اقبل مطلع القرن العشرين ، حتى تحقق التحول النهائي للراسمالية الغربية ، من راسمالية تنافسية حرة الى راسمالية احتكارية .
ان الظاهرة الجديدة التي احدثها ذلك التحول الاحتكاري ، هي ظاهرة الراسمال التمويلي ، الناجمة من جهة ، عن التمكز الضخم للصناعة والابناك ، ومن جهة ثانية عن اندماج وتحكم الابناك في الانتاج الصناعي ، والنتيجة الحتمية لذلك التمركز المالي- الصناعي ، هي بروز فائض هائل من الراسمال التمويلي ، اين يمكن صرفه وتوظيفه ؟ بالتاكيد ليس داخل بلد المنشأ . وهذا ليس لان البلد مستغن عنه ، بل بالعكس من ذلك تماما ، فهو في امس الحاجة اليه ، لان الزراعة كانت ولاتزال في ذلك الوقت تعاني من تخلف كبير بالنسبة للصناعة المتطورة .
ثم ان الصناعة نفسها ، لم تكن متطورة في مجموع قطاعاتها ، بل كانت الصناعة الخفيفة متخلفة عن الصناعة الثقيلة ( وفي الحقيقة ان تفاوت التطور هو قانون عام ينتمي لصلب النظام الراسمالي ، وهذا القانون لايمس فقط العلاقة الداخلية بين قطاعات الانتاج للبلد الواحد ، بل يمس كذلك العلاقة الخارجية بين الدول ، فالمانيا مثلا التي كانت في منتصف القرن 19 تعتبر كمية تافهة من ناحية التطور الصناعي بالنسبة لبريطانيا ، اصبحت في نهاية القرن اكثر البدان الاوربية تطورا ) .
ولان الرأسمال هو بالضبط راسمال ، وليس شيئا اخر، فلذلك لم يكن هم الفائض من الراسمال التمويلي هو استثماره ، في القطاعات المتخلفة ، ولا هو تسخيره لتحسين الشروط المعيشية للشعب ، بل البحث عن مجالات افضل تدر ربحا اكبر ، وتلك المجالات ذات الامتيازات الجيدة ، قد مثلتها تاريخيا البلدان الزراعية الماقبل راسمالية الزاخرة بالثروات الطبيعية المتنوعة ، وبقوة العمل الرخيصة ، هكذا سيصبح الراسمال التمويلي وطنه الاصلي ، ليحط عنوة فوق اوطان الاخرين .
في عصر ماقبل الراسمال التمويلي ، كانت اوربا تكتفي فقط بتصدير المنتوجات المصنعة الى البلدان الزراعية ، ولذاك كانت العلاقة بين الاثنين مجرد علاقة تجارية ، اما في عصر بزوغ الراسمال التمويلي ، فقد اصبح تصدير ذلك الراسمال نفسه ، هو الذي يحظى بالمقام الاول . لقد حدثت اذن قفزة نوعية عبر الانتقال من تصدير ناتج التجارة الى تصدير مصدرها ذاته .

لنقارن عمل العامل اثناء عمله ، مع عمله بعد انتهاء عملية الانتاج وظهور المنتوج المصنع الجاهز .
في اللحظة الاولى تكون العلاقة هي مابين العمل الحي .. المتحرك الذي تجسده قوة العمل النشطة ، وبين المادة التي يريد العمل تصنيعها وتغيير شكلها .
وفي اللحظة الثانية ، بعد انتهاء عملية الانتاج ، نجد انفسنا امام منتوج مكتمل التصنيع . ماهي حقيقة ذلك المنتوج؟
انه عبارة عن وحدة بين ضدين : المادة التي تغير شكلها بفعل خضوعها للعمل ، والعمل الذي تغير شكله ايضا بحكم تجسده في المادة واندماجه العضوي معها ، لقد تحولت المادة اذن الى عمل ( وهذا هو معنى المنتوج المصنع )

...كان المغرب من بين البلدان الزراعية ، التي اخضعها الراسمال التمويلي ، وفي سنة 1912 ، لم يكن بالامكان تصدير ذلك الراسمال الى المغرب ، بدون تصدير في نفس الوقت جهاز الدولة الكولونيالية ، الضامنة لحمايته ، ان سنة 1912 تعتبر حدا فاصلا ، بين مرحلتين مختلفتين جذريا في التاريخ المغربي . فالعلاقات الاجتماعية القديمة ، التي سادت المغرب قرونا طويلة من الزمن ومنحته خاصيته الزراعية المتميزة بالركود ، وجعلته يعيش على هامش التاريخ منذ القرن السادس عشر ، سرعان ما اخذت تتعرض للانكسار تحت ضربات الراسمال التمويلي ، الذي وضع المغرب فجاة في صيرورة تاريخية جديدة ، حبلى بالتناقضات التي افرزتها جدلية التاريخ ، والتي لايمكن ان تقود في نهاية الامر الا الى الارتداد عن المشروع الكولونيالي نفسه.
ان جوهر تلك التناقضات المحركة للتاريخ المغربي في العهد الكولونيالي ، هو العلاقة بين الراسمال التمويلي الاجنبي وقوة العمل المغربية لذلك لابد من التوقف عند تلك العلاقة لتحليلها في جدليتها .
قبل البداية للانكسار للبنية الاجتماعية المغربية ، تحت ضغط الراسمال الاوربي ، كانت قوة العمل تتكون اساسا من الفلاحين المغاربة ، الذين يمدون المجتمع بحاجياته المعيشية ، في هذه اللحظة البدائية اذن كانت العلاقة بين الراسمال الوافد الى المغرب من اوربا ( فرنسا خاصة ) ، وبين قوة العمل المغربية المرتبطة بالانتاج الزراعي التقليدي علاقة استقلال تام بين الطرفين ، اذ كان كل طرف يتمتع بوجود قائم الذات : فالراسمال الفرنسي يحمل في كنهه ، كأساس ، العمل المأجور الفرنسي ، والعمل المغربي كان لايزال يعتمد على نفسه بشكل مباشر ، لانتاج المواد المعيشية لتجديد قوته ولضمان استمرار تناسله ، ضمن البنية الاجتماعية القديمة .
ولذلك يمكن القول ، في هذه اللحظة البدائية ، بان الاختلاف بين الراسنال الفرنسي والعمل المغربي ، هو اختلاف يدخل في اطار التنوع المجرد بين الاشياء ، وبالتالي فان كل طرف من الطرفين له وجود لامبالي ا تجاه علاقته بالطرف الاخر ، وان هذه العلاقة هي مجرد علاقة خارجية .
ان مفهوم الاختلاف القائم على هذا التنوع ، بين الرسمال الفرنسي والعمل المغربي ، شبيه باختلاف التنوع الذي تندرج فيه كل الاشياء الاخرى ، من هذه الزاوية اذن ، فان الاختلاف بين الراسمال الفرنسي والعمل المغربي ، مثله مثل الاختلاف بين الدب القطبي وقلم الرصاص ، او بين القمر والنهر ، او بين اية اشياء اخرى تخطر بالبال .
لكن الراسمال الفرنسي الذي قبل الافتراق عن «أهله وأحبابه » في وطنه الاصلي ، والذي لم يستطع تثبيت اقدامه في وطن غيره المعادي له ، الا عبر معاناة المحن والويلات ، فانه لم يقم بكل تلك التضحيات الجسيمة لكي تبقى علاقته بالعمل المغربي ، مجرد علاقة خارجية مطبوعة باللامبالاة ، وتنتمي لصنف الاختلاف البدائي القائم على التنوع ، فلقد هاجر الراسمال الفرنسي الى ارض المغرب من اجل هدف محدد هو : السيطرة على ثرواته الطبيعية ، لكن تلك السيطرة غير ممكنة بدون قوة العمل المغربية ، التي تتولى حفر المناجم ، وشق الطرق والموانئ ، وزرع الضيعات ، وتشييد البنايات .
ان الراسمال الفرنسي هو اذن في حاجة ماسة الى العمل المغربي . فالاول لايستطيع العيش والنمو الا بواسطة الثاني ، لذلك فالعلاقة بين الطرفين ليست علاقة خارجية ، بل داخلية عضوية . وفي اطار هذه العلاقة الداخلية ، لايمثل العمل المغربي بالنسبة للراسمال الفرنسي ، شيئا قائم الذات يوجد ازاء ، او فوق ، او تحت ، او خلف ، او امام ذلك الراسمال ، بل يمثل الطرف الاخر للراسمال .
من ناحية اخرى ، لان وجود الراسمال مرتبط بضرورة وجود العمل ، لذلك ااصبح وجود العمل نفسه متربطا بضرورة وجود الراسمال . وبنفس المنطق اذن يمكن القول بان العلاقة التي يربطها الراسمال بالعمل ، ليست علاقة شيء غريب يوجد بجانب شيئ غريب اخر ، بل هي علاقة داخلية بين قطبين ، يمثل فيها الراسمال الطرف الاخر للعمل ، تماما كما مثل العمل الطرف الاخر للراسمال .
اننا اذن ازاء هذه المفارقة الدقيقة : ففي الوقت الذي يتربط فيه وجود كل طرف من الطرفين ، بوجود الطرف الاخر ، في هذا الوقت بالذات ، يحرص فيه كل طرف على الحفاظ على هويته الخاصة المستقلة ، المتميزة عن هوية الطرف الاخر . ان المسالة في جوهرها تشبه العلاقة بين الموجب والسالب : من ناحية لايمكن تصور وجود شيء موجب ، بدون وجود ، في نفس الوقت ، شيء اخر سالب ( اذ او انعدم السالب لما صحت تسمية الموجب موجبا ) .. لكن من ناحية اخرى ، ان الموجب هو موجب لانه ليس سالبا ، والسالب هو سالب لانه ليس موجبا . كذلك هو الحال في العلاقة بين الراسمال والعمل : ان وجود طرف ، مرتبط بضرورة وجود الطرف الاخر ، وفي نفس الوقت ان تاكيد هوية احدهما يقتضي نفي واقصاء هوية الاخر .. ان الراسمال ليس هو العمل ، والعمل ليس هو الراسمال ، رغم ترابطهما .
يتبين اذن مما سبق ، بان الاختلاف بين الراسمال والعمل ، لايقوم على التنوع ( كما كان في اللحظة البدائية للعلاقة بينهما ) ، ولكنه يقوم على اختلاف من صنف جديد هو التعارض .

لنستمر في النقاش ، قلنا بان العلاقة بين الراسمال والعمل ، هي علاقة تعارض ، بمعنى ان الراسمال ليس هو العمل ، والعمل ليس هو الراسمال ، لكن لنتامل المسالة بمزيد من التذكير . فالعامل المغربي لكي يكون قادرا على العمل في ورشة الراسمالي الفرنسي ، لابد لبطنه ان تحتوي على شيء من الطعام ، ولجسمه ان يحتمي بشيء من اللباس ، من اين تاتيه تلك المواد ؟ بالطبع ليس هو الذي يصنعها . اذ منذ ان فارق وضعه كفلاح مرتبط بالارض فقد في نفس الوقت القدرة على انتاج وسائل عيشه بنفسه ، لقد اصبح اذن يحصل عليها بواسطة الاجرة النقدية التي يتقاضاها من الراسمالي الفرنسي ، فالراسمالي يحول راسماله الى اجرة للعامل ، والعامل يحول الاجرة الى مواد معيشية ، وهذه المواد بدورها تتحول الى طاقة تمكن العامل من تحريك قوة عمله وفق اغراض الراسمالي . والنتيجة تصبح بالتالي : ان الراسمال هو عمل .
لننظر الان الى المسالة من الزاوية المعكوسة . فالمنتوجات المادية ، التي تتمخض عنها في نهاية المطاف العملية الانتاجية والتي يتملكها الراسمالي كملكية خاصة ، هي في حقيقة الامر نتاج لقوة العمل المصروفة فيها .. نتاج لجهد عضلات واعصاب العامل المستهلكة فيها . ولذلك يمكن القول في نهاية التحليل ، ان العمل هو راسمال .
والخلاصة العامة التي يمكن استخراجها من كل ما سبق ، هي التالية : من ناحية لاحظنا بان الراسمال ليس هو العمل ، والعمل ليس هو الراسمال . لكن من ناحية اخرى لاحظنا ان الراسمال هو عمل ، والعمل هو راسمال .
اننا اذن امام تناقض ، وليس فقط امام تعارض ( كما كان الحال في السابق ) لقد تدرجت علاقة الاختلاف بين الراسمال الفرنسي والعمل المغربي ، عبر حركتها الجدلية ، من الشكل البدائي البسيط للاختلاف الذي هو التنوع ، الى شكل متطور ، هو التعارض ، ثم الى شكل ارقى ، هو التناقض ، لكن التناقض بدوره ، لايمكنه ان يشكل اللحظة النهائية لتلك الحركة الجدلية ، لانه هو نفسه في حاجة الى حل .
فماهو اذن حل التناقض التالي ان الراسمال ، في نفس الوقت ، هو ذاته أي: ( راسمال ) ، وليس ذاته أي ( عمل)
والعمل ايضا ، في نفس الوقت ، هو ذاته (أي عمل ) ، وليس ذاته ( أي راسمال ) ؟
ان الصيغة النظرية الوحيدة ، الممكنة عقلانيا ، لحل ذلك التناقض ، هي توحيد الضدين ووحدة الاضداد هذه ، هي نفسها غير قابلة للتحقيق ، بدون توحيد عنصر التجاوز بعنصر المحافظة للطرفين المتناقضين ، عبر انتقالهما من حالة الحركة الى حالة السكون .
ربما تبدو هذه الفكرة مجردة بعض الشيء ، فسنوضحها ببعض الامثلة الملموسة .
لنقارن عمل العامل اثناء عمله ، مع عمله بعد انتهاء عملية الانتاج وظهور المنتوج المصنع الجاهز .
في اللحظة الاولى تكون العلاقة هي مابين العمل الحي .. المتحرك الذي تجسده قوة العمل النشطة ، وبين المادة التي يريد العمل تصنيعها وتغيير شكلها .
وفي اللحظة الثانية ، بعد انتهاء عملية الانتاج ، نجد انفسنا امام منتوج مكتمل التصنيع ، ماهي حقيقة ذلك المنتوج ؟ انه عبارة عن وحدة بين ضدين : المادة التي تغير شكلها بفعل خضوعها للعمل والعمل الذي تغير شكله ايضا بحكم تجسده في المادة واندماجه العضوي معها ، لقد تحولت المادة اذن الى عمل ( وهذا هو معنى المنتوج المصنع ) ، وتحول العمل الى مادة لانه اصبح يتقمصها ويذوب فيها . فالتناقض الذي كان قائما بين العمل والمادة ، اثناء العملية الانتاجية ، قد تم حله ، بعد انتهائها ، عن طريق توحدهما في شيء ثالث جديد ، هو المنتوج المصنع ، وهذا المنتوج يمثل تجاوزا لهما ، لان العمل والمادة ، خلال العملية الانتاجية ، ليس هو نفس العمل والمادة بعدها ، لكنه في نفس الوقت يحافظ عليهما ، لان الذي تغير ليس هو العمل في حد ذاته ، ولا المادة في حد ذاتها ، بل فقط شكلهما ، لقد انتقلت المادة من مادة غير مصنعة الى مادة مصنعة ، وانتقل العمل من عمل متحرك سائل الى عمل متجمد في المادة .
مثال اخر ، جسم الرياضي ، فهذا الجسم الذي يتميز بقوة عضلاته ، وتناسق اعضائه ، ليس شيئا معطى سلفا .
بل هو نتاج لوحدة ضدين : مادة الجسم ، والتمارين الرياضية التي ادخلت عليه .
مثال اخر : عقل المفكر ، هو نتاج لوحدة ضدين : مادة خام التي هي الدماغ ، والنشاط النظري الذي غير شكلها وجعلها اكثر قدرة ومرونة في التعامل القضايا النظرية .
ونفس الشيء يمكن قوله ايضا بالنسبة للحيوانات التي خضعت لتدجين الانسان ، فالحمار مثلا ، لم ينتقل من شكله البدائي المتوحش ( حمار الغابة ) ، الى شكله الحالي المدجن المنضبط ، الا بعد قرون من الترويض والعمل.
ان الشيء نفسه قد حصل يالنسبة لقوة العمل المغربية ، ذلك ان توحيد الراسمال الفرنسي بالعمل المغربي ، لم يكن بالامر السهل الهين ، بل كان عملية جراحية قيصرية عسيرة جدا وشاقة جدا . وهذا امر مفهوم ، لان الفلاح المغربي الذي ظل لقرون خلت ، مرتبطا بارضه وبوسائل انتاجه ، لايمكنه ان يقبل في رمشة عين ، ومن تلقاء نفسه الانفصال عن وسائل انتاجه ليتحول الى عامل مأجور . الا اذا كان ذلك الانفصال قد تم بالقوة والعنف ، وبالنار والدم . وحتى بعدما كان يتم اجبار الفلاح على الانفصال عن وسائل انتاجه ، فانه كان يرفض العمل في مقاولات الراسمال ، لانه لم يتعلم بعد تقاليد الانضباط لظروف الانتاج الراسمالي الحديث . ومن اجل تامين وسائل عيشه ، كان يمارس اعمالا خارجة عن القانون الفرنسي ، مثل ، التسكع والنهب ، وقطع الطرق ، والاجرام ، ان تزايد الاعمال الاجرامية ، قد دفع السلطة الكولونيالية الى بناء العديد من السجون منذ الفترة الاولى للعهد الكولونيالي . لقد مثل السجن اذن ، اول مدرسة حقيقية لفرض الانضباط في العمل الحديث على الفلاحين المتمردين . من السجن كانت افواج الفلاحين تساق في الصباح الى اوراش العمل ، تحت الحراسة المشددة ببنادق الجنود ، واليه كانت تعود في المساء . ان الانضباط في العمل الذي اصبح اليوم من الامور العادية في حياة البروليتاري المغربي الحالي ، لقد كلف جده البروليتاري المغربي الاول – لتاسيسه وترسيخه- آلاما عظيمة وعذابا لايحتمل .
في كتابه " المغرب واوربا" ، يروي « جان لويس مييج »، كيف ان التجار الاوربيين الوافدين الى الى المغرب ، بعد انفتاحه على اوربا في النصف الثاني من القرن الماضي ، لم يجدوا قوة العمل الكافية لشحن جلود وحبوب وصوف المغرب في البواخر الاوربية ، مما جعلهم يفكرون في جلب العمال من اوربا . ومع ذلك فان الحاجة الى قوة العمل المغربية ، كانت في ذلك الوقت ضعيفة جدا بالمقارنة الى الحاجة اليها في مرحلة الاستعمار الكولونيالي المباشر . ان انتزاع اعداد كبيرة من الفلاحين من ارضهم وفصلهم عن وسائل انتاجهم ، وتحويلهم الى عمال طيعين في قبضة الراسمال الفرنسي المنتصر ، هي اشياء لايمكن تصورها بدون معاناة كبيرة ايضا .
ان هذه الوحدة المتناقضة بين الراسمال التمويلي الفرنسي ، وبين قوة العمل المغربية .( وهي الوحدة الاندماجية التي تم صهرها بقوة الحديد والنار ، والتي قامت عليها الراسمالية الكولونيالية برمتها ، هي ما اسماها الفقيد عبد السلام المؤذن ب جوهر الراسمالية الكولونيالية .







#بلكميمي_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اتجاه تطور الطبقة البورجوازية
- تحول راسمالية الدولة الى طبقة بورجوازية - تابع -
- تحول راسمالية الدولة الى طبقة بورجوازية
- ظهور راسمالية الدولة التبعية
- من الراسمالية الكولونيالية الى راسمالية تبعية
- تحول الراسمالية الكولونيالية الى راسمالية تبعية - تابع –
- تناقضات الراسمالية الكولونيالية المغربية - تابع –
- تناقضات الراسمالية الكولونيالية المغربية .
- تطور الراسمالية الكولونيالية المغربية .
- نظرية الراسمالية المغربية – عبد السلام المؤذن-تابع-
- نظرية الراسمالية الكولونيالية المغربية عند عبد السلام المؤذن
- جوهر الراسمالية الكولونيالية المغربية لعبد السلام المؤذن
- نظرية الرأسمالية المغربية لعبد السلام المؤذن
- نظرية الراسمالية المغربية – عبد السلام المؤذن ... الجزء الثا ...
- نظرية الراسمالية المغربية عند عبد السلام المؤذن 1


المزيد.....




- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - بلكميمي محمد - فكر وحوار : نظرية الراسمالية المغربية 1