أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - الوحدة الدّينيّة















المزيد.....


الوحدة الدّينيّة


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 2438 - 2008 / 10 / 18 - 07:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


"يا أهل الأرض إنّ الفضل في هذا الظّهور الأعظم أنّا محونا من الكتاب كلّ ما هو سبب الاختلاف والفساد والنّفاق وأثبتنا فيه ما هو علّة الألفة والاتّحاد والاتّفاق نعيمًا للعاملين". (بهاءالله- لوح الدّنيا مترجمًا)
تعدّد المذاهب وتشتّت الآراء في القرن التّاسع عشر
لم يكنْ العالم في يوم ما بعيدًا عن الوحدة الدّينيّة كبعده عنها في القّرن التّاسع عشر. نعم عاشت الجامعات البشريّة العظمى الإسلاميّة والمسيحيّة والكليميّة والبوذيّة والزردشتيّة جنبًا لجنب، ولكنّها بدلاً من أنْ ترتبط ببعضها بوفاق ووئام في مجموعة متّحدة كانت في عداء مستديم وكفاح مرير بعضها مع البعض الآخر، بل كان الأمر أدهى وأمرّ حينما انقسمت كلّ جامعة منها وانشطرت شطرًا بعد شطر وتحولّت إلى مذاهب عديدة يناصب بعضها بعضًا العداء المرير، مع أنّ السّيد المسيح قال:
"بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إنْ كان لكم حب بعضًا لبعض".( يوحنا 13: 35 )
وكذلك جاء في القرآن الكريم:
"شَرَعَ لكم من الدّين ما وصّى به نوحًا والّذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه".( سورة الشورى 12 )
وقد دعا مؤسّس كلّ دين من هذه الأديان العظيمة أتباعه إلى المحبّة والاتّحاد، ومع ذلك فقد أهمل الهدف الذي توخّاه مؤسّس كلّ دين وضاع في خِضَمْ من التّعصّبات والتقّاليد الشّكلية وعدم التّسامح والتّعصب الأعمى والرّياء والفساد والتّحريف والخصام والانقسام، وأصبح عدد الطّوائف والفرق المتباغضة في العالم في بداية العصر البهائيّ ربّما أكثر منه في أيّ عهد سابق في تاريخ البشر، وكأنّما الإنسانيّة في هذا الزّمان تجرّب كلّ نوع من أنواع العقيدة الدّينيّة وكلّ نوع من أنواع التّقاليد والرّسوم وكلّ نوع من أنواع القوانين الخلقيّة والاعتبارات الأدبيّة.
وفي الوقت نفسه ظهر الكثيرون ممّن كرّسوا جهودهم لتحرّي قوانين الطّبيعة وأصول المعتقدات وفحصها بالنّقد وسرعان ما اكتسبوا معارف علميّة جديدة ووجدوا حلولاً جديدة لكثير من مشاكل الحياة. وساعد ظهور المخترعات كالبخار والسّكك الحديديّة والصّحافة وأنظمة البريد على انتشار الأفكار وعلى امتزاج الأنواع المختلفة من الآراء وأساليب الحياة امتزاجًا واسعًا خصيبًا.
وأصبحت المعركة المسمّاة بـ "المعركة بين الدّين والعلم" معركة شديدة واجتمع في العالم المسيحي نقّاد الكتاب المقدّس مع علماء الطّبيعة على مخاصمة سلطان الكتاب المقدّس وعلى تفنيده إلى مدى معيّن – ذلك السّلطان الّذي ظلّ قرونًا عديدة الأساس الّذي بنيت عليه عموم العقائد السّائدة المقبولة، فازداد عدد المرتابين في صّحة التّعاليم الكنائسيّة زيادة سريعة، حتّى أعلن عدد كبير من القسس ورجال الدّين سرًّا وعلانية شكوكهم وتحفّظاتهم حول المعتقدات الّتي يتمسك بها أفراد مذاهبهم.
ولمْ يكنْ هذا الفيضان الفكري والاختمار العقلي الّذي رافق انتشار الاعتراف بفشل التّعصّبات القديمة والعقائد الماضية والّذي رافق الجهد من أجل الحصول على معارف أوسع ومعلومات أكمل – نعم لمْ يكنْ مقصورًا على الأقطار المسيحيّة بل كان واضحًا بين سكّان جميع الأقطار والأديان وظهر متباينًا هنا وهناك.

رسالة بهاءالله

ففي هذا الوقت الّذي بلغ فيه الخصام وبلغت فيه الفوضى أوجها، أعلن بهاءالله دعوته المدوية وكأنّها نفخة الصّور، داعيًا الإنسانيّة إلى:-
"أنْ يتّحد العالم على عقيدة واحدة وأنْ يكون الجميع إخوانًا وأنْ تستحكم روابط المحبّة والاتّحاد بين بني البشر وأنْ تزول الاختلافات الدّينيّة وتمحى الاختلافات العرقيّة... لا بدّ من زوال هذه المشاحنات والبغضاء وهذا السّفك للدّماء وهذا الاختلاف حتّى يكون جميع النّاس جنسًا واحدًا وأسرةً واحدة"( من كلمات بهاءالله إلى البروفسور براون. انظر الصفحة 45 ).
حقًا إنّها لرسالة مجيدة، ولكنْ كيف يمكن تطبيق مطالبها؟ فكم دعا الرّسل النّاس ووعظوهم، وكم تغنّى الشّعراء، وكم ابتهل القدّيسون من أجل هذه الأشياء آلافًا من السّنين! ولكنّ الفوارق الدّينيّة لا زالت حتّى الآن قائمة لم تنته، ولا زال سفك الدّماء والانشقاق إلى هذا الحين سنّة جارية لمْ تُنسخ! فما الّذي سيظهر يا ترى فتتحقق به اليوم هذه المعجزة وتتم؟ وهل هناك من عوامل جديدة ظهرت في الميدان؟ وأليست الطّبيعة البشريّة هي ذاتها لم تتبدل، وسوف تبقى على ما هي عليه لن تتبدل ما دام العالم باقيًا؟ وإذا اختلف شخصان أو اختلفت أمّتان على شيء واحد في المستقبل أفلا تتحاربان من أجله كما فعلا في الماضي؟
وإذا انقسمت الأمم السّالفة إلى مذاهب عديدة أفلن يشاركها الدّين البهائيّ ذلك المصير ذاته؟ فلننتظر الجّواب على ذلك من التّعاليم البهائيّة.

هل يمكن أنْ تتبدّل الطّبيعة البشريّة؟
إنّ علم التّربية والدّين كليهما يقومان على القول بأنّ الطّبيعة البشريّة يمكن تبديلها. وفي الواقع إننا لا نحتاج إلا إلى القليل من التّحريات لنثبت أنّنا نستطيع القول بالتّأكيد بأنّ كلّ حيّ من الأحياء لا يمكن أنْ يكون في منجاة عن التّغيير أبدًا، وبدون التّغيير لن تكون هناك حياة، حتّى أنّ المعادن لا تستطيع أنْ تصدّ التّغيير فيها، وكلّما صعدنا في سلم الخليقة ازدادت التّغييرات تنوّعًا وتعقيدًا وغرابة. وفضلاً عن هذا، فإنّ هناك في تطوّر المخلوقات ورقّيها على اختلاف أصنافها نوعان من التّغيير – أحدهما بطيء تدريجي يكاد يكون غير محسوس، والآخر سريع فجائي يحيّر العقول، وقد يحدث النّوع الأخير في الوقت الّذي يسمى بـ "المرحلة الحرجة". ففي المعادن نرى مثل هذه "المرحلة الحرجة" مثلاً في الذّوبان والغليان حينما تتبدّل المّادة الصّلبة فجأة إلى مادة سائلة أو يصبح السّائل غازًا. ونرى مثل هذه "المرحلة الحرجة" في عالم النّباتات أيضًا عندما تشرع البذرة في الإنبات والبراعم في الانفجار مكونةً الأوراق ونرى "المرحلة الحرجة" نفسها في عالم الحيوان عندما تتبدّل الدّودة الصّغيرة فجأة إلى فراشة أو تخرج فراخ الدّجاج من قشور البيض أو يخرج الطّفل من رحم أمّه. ونشاهد تحوّلاً مشابهًا لهذا في حالات النّفس البشريّة الرّفيعة حينما يولد المرء "ولادة جديدة" فيتبدّل جميع كيانه تبدّلاً جذريًا يتجلى في أهدافه وفي أخلاقه وفي أطواره وفي أفعاله. ومثل هذه "المراحل الحرجة" يؤثّر غالبًا في جميع النّوع الواحد من الأحياء أو في مجموعات الأنواع من الأحياء تأثيرًا ذاتيًّا كما يحدث حينما تنفجر البراعم في جميع النّباتات فجأة نحو حياة جديدة في زمن الرّبيع.
ويصرّح بهاءالله أنّ "مرحلةً جديدةً" وزمان "ولادة جديدة" للبشريّة على الأبواب كما أنّ للأحياء أزمنة انتقال إلى حياة جديدة أتمّ وأكمل. وعندئذ ستتبدّل أوضاع الحياة التّي استمرت قائمةً منذ فجر التاريخ حتّى وقتنا الحاضر تبدّلاً قطعيًّا سريعًا وستدخل الإنسانيّة إلى صفحة جديدة من الحياة تختلف عن الصّفحة القديمة اختلاف الفراشة عن الدّودة التي تحوّلت عنها أو اختلاف الطّير عن البيضة الّتي نشأ منها، وستنال الإنسانيّة جمعاء تحت نور الظّهور الجديد بصيرة جديدة تبصر بها الحقيقة، وكما أنّ بلدًا كاملاً يتنوّر عند شروق الشّمس كذلك البشر جميعهم سيرون رؤية واضحة، ولا شكّ أنّ كلّ شيء يكون مظلمًا معتمًا قبل ساعة واحدة من الشّروق وبعد الشّروق يصبح كلّ شيء منيرًا.
ويقول عبدالبهاء ما ترجمته:-
"إنّ هذا دور جديد للقوّة البشريّة. فقد تنوّرت جميع الآفاق، وسيصبح العالم حقًّا حديقة أزهار وجنّة."
وما نراه في الطّبيعة من التّشابه والتّوافق يؤيّد هذا الرّأي، فالرّسل السّالفون قد تنبّأوا بالإجماع بمجيء يوم عظيم كهذا اليوم، كما أنّ علامات الأزمنة تدلّ دلالة واضحة على أنّ التّبدلات والتّغيرات الثّوريّة العميقة في الأفكار والمؤسّسات البشريّة مستمرة حتّى الآن في تقدّمها. فما أعقم الجدل والتّشاؤم بعد هذا كلّه، والقول بأنّ الطّبيعة البشريّة لنْ تتبدّل، مع أنّ جميع الأشياء الأخرى في تبدّل مستمر؟
الخطوة الأولى نحو الاتّحاد
ومن أجل ترويج الوحدة الدّينيّة يوصي بهاءالله بالأخذ بالتّسامح والإحسان إلى أقصى الحدود، ويدعو أتباعه إلى "المعاشرة مع الأديان بالرّوْح والرّيحان". وكتب في آخر وصيّة أوصاها في لوح وصّيته المعروف بـ (كتاب عهدي) بالنّص:-
"قد نهيناكم عن النّزاع والجّدال نهيًا عظيمًا في الكتاب( الكتاب الأقدس. ). هذا أمر الله في هذا الظّهور الأعظم وعصمه من حكم المحو وزيّنه بطراز الإثبات..." إلى أنْ قال في هذه الوصيّة ذاتها ما ترجمته:-
"يا أهل الأرض إنّ مذهب الله هو من أجل المحبّة والاتّحاد فلا تجعلوه سبب العداوة والاختلاف. أرجو أنْ يتمسّك أهل البهاء بهذه الكلمة المباركة: (قلْ كلّ من عند الله) فإنّ هذه الكلمة العليا بمثابة الماء لإطفاء نار الضّغينة والبغضاء المخزونة المكنونة في القلوب والصّدور، وبهذه الكلمة الواحدة تفوز الأحزاب المختلفة بنور الاتّحاد الحقيقي. إنّه يقول الحقّ ويهدي السّبيل، وهو المقتدر العزيز الجّميل".
ويقول عبدالبهاء:-
"إنّ ترك التّعصّبات محتوم على الجميع، وعليهم جميعًا أنْ يذهبوا إلى كنائس ومعابد ومساجد بعضهم بعضًا، لأنّ ذكر الله يكون في جميع هذه المعابد، ففي الحين الّذي يجتمع فيه الجميع على عبادة الله ما الفرق يا ترى في اجتماعاتهم؟ إذ لا يعبد أحدهم الشّيطان! فعلى المسلمين أنْ يذهبوا إلى كنائس المسيحيّين وصوامع الكليميّين والعكس بالعكس: على الآخرين أنْ يذهبوا إلى مساجد المسلمين. ويتجنّب هؤلاء النّاس بعضهم بعضًا بسبب التّقاليد والتّعصّبات الّتي ما أنزل الله بها من سلطان. وفي أمريكا دخلت صوامع اليهود المشابهة لكنائس المسيحيّين ورأيتهم جميعًا منهمكين في عبادة الله.
"وفي كثير من هذه المجامع تحدّثت عن الأساس الأصلي الإلهيّ الّذي هو أساس الأديان جميعها، وأقمت الدّلائل والبراهين على حقيّة رسل الله ومظاهره المقدّسة، وشوّقت الجميع وحثثتهم على محو التّقاليد العمياء. فعلى جميع الرّؤساء الرّوحانيّين أنْ يذهب بعضهم إلى كنائس البعض الآخر، ويتحدّثوا عن أساس الأديان والتّعاليم الأصليّة الإلهيّة، ويعبدوا الله بكمال الاتّحاد والاتّفاق والألفة في معابد بعضهم، ويتركوا التّعصّبات العقيمة تركًا تامًّا"( مجلة نجمة الغرب ج9 العدد 3 الصفحة 37).
فلو تمّت هذه الخطوات الأولى وتأسّست حالة وديّة متبادلة من التّسامح بين الطّوائف الدّينيّة المتنوّعة لرأيتم ما أعظم التّغيير الّذي يحدث في العالم! ومن أجل تحقيق هذه الوحدة يلزمنا في الحقيقة شيء أعظم من هذا. فالتّسامح من المسكّنات لمرض تعدّد المذاهب، ولكنّه ليس بالدّواء الناجع له، لأنّه لا يستأصل سبب المرض.

مرجع الهداية
لقد عجزت المجتمعات الدّينيّة المتنوّعة في الماضي عن خلق هذه الوحدة، لأنّ أتباع كلّ واحد منها اعتبروا مؤسّس مذهبهم مرجع الهداية الوحيد وأنّ قانونه الّذي جاء به قانون إلهيّ واعتبروا أيّ رسول آخر أعلن رسالة تباين رسالته عدوًّا للحق. ولأسباب مماثلة كثرت المذاهب المختلفة في كلّ مجتمع، واتبّع أتباع كلّ منها مرجعًا أصغر، واعتبروا تفسيرًا معيّنًا من تفاسير رسالة المؤسّس كأنّه كلّ الدّين الحقيقي لذلك المؤسّس وما عداه باطلاً وضلالاً. ومن الواضح أنّه ما دام الحال على هذا المنوال، فإنّ الوحدة الحقيقيّة مستحيلة، ولنْ تتحقق. أمّا بهاءالله فيعلمنا أنّ جميع الرّسل كانوا حملة الرّسائل الحقّة من الله وأنّ كل واحد منهم أعطى النّاس في يومه أسمى التّعاليم الّتي كانوا يستطيعون تحمّلها وربّى البشر ليستعّدوا لقبول التّعاليم الّتي يأتيهم بها من سيأتي بعده. وبهاءالله يدعوا أتباع كلّ دين إلى أنْ لا ينكروا الإلهام الإلهيّ الّذي جاءت به الرّسل الآخرون. بل يعترفوا بالإلهام الإلهيّ الّذي جاءوا به جميعًا ويروا تعاليمهم متّفقة في أساسها وأنّها أجزاء في خطّة عظمى لتربية الإنسانيّة وتوحيدها. وهو يدعو جميع النّاس على اختلاف تسمياتهم إلى احترام رسلهم عن طريق وقف حياتهم من أجل تحقيق الوحدة الّتي جاهد في سبيلها جميع الرّسل وتحمّلوا العذاب. وفي رسالته إلى الملكة فكتوريا يشبّه العالم برجل مريض تفاقم مرضه لأنّه وقع في أيدي متطبّبين. ويخبرنا بهاءالله بكيفيّة شفائه فيتفضّل بالنّص:-

"وما جعله الله الدّرياق الأعظم والسّبب الأتّم لصّحته هو اتّحاد من على الأرض على أمر واحد وشريعة واحدة، وهذا لا يمكن أبدًا إلا بطبيب حاذق كامل مؤيّد. لعمري هذا هو الحق وما بعده إلا الضّلال المبين. كلّما أتى ذلك السّبب الأعظم وأشرق ذاك النّور من مشرق القدم، منعه المتطبّبون وصاروا سحابًا بينه وبين العالم، لذا ما طاب مرضه، وبقي في سقمه إلى الحين".
تتابع الأديان وتطوّرها

يرى الكثيرون أنّ حجر العثرة العظيم في طريق الوحدة الدّينيّة هو الاختلاف الظّاهري بين الأديان الّتي جاءت بها الرّسل. فما أمر به أحدهم حرّمه الآخر فكيف إذن يكون الاثنان على صواب؟ وكيف يقال أنّهما يعلنان إرادة الله؟ نعم لا ينكر أنّ الحقيقة واحدة لا تتغيّر، وأنّ الحقيقة المطلقة واحدة لا يمكن أن تتغيّر، ولكنّ الحقيقة المطلقة هي بشكل غير محدود مستحيلة على الإدراك البشريّ الحاضر، وأنّ أفكارنا حولها يجب أنْ تتغيّر بصورة مستمرة. وبفضل من الله سوف تستبدل أفكارنا القديمة النّاقصة بمرور الزّمن بأفكار أنسب وأليق. ويقول بهاءالله في لوح إلى أحد البهائيّين الفرس ما ترجمته:-
"أيّها النّاس إنّ الكلمة تقال بمقدار معّين حتّى يصل النّاشئون إلى مرحلة البلوغ، ويجب أنْ يُعطَى اللّبن إلى أطفال العالم بمقدار معّين، حتّى يدخلوا العالم الأكبر ويستقّروا في خيمة الوحدة".
فاللبّن يقوّي الطّفل حتّى يستطيع أنْ يهضم فيما بعد طعامًا أصلب منه. وقولنا بأنّ أحد الرّسل كان على حق في إعطائه تعاليم في زمن من الأزمان وأنّ الرّسول الآخر لا بدّ أنْ يكون على خطأ وضلال في إعطائه تعاليم أخرى في زمن آخر كقولنا بأنّ اللّبن أحسن غذاء للطّفل منذ أوّل ولادته وهو وحده لا غيره يجب أنْ يُعْطى أيضًا للرجل البالغ وأنّ إعطاء أي غذاء غيره خطأ وضلال. فيقول عبدالبهاء في إحدى خطاباته ما ترجمته:
"إنّ كل دين من الأديان الإلهيّة ينقسم إلى قسمين (فالقسم الأوّل) وهو الأساس والأصل ويختص بالعالم الباقي وبالأخلاق وبأساس التّعاليم الإلهيّة وببنيان الشّرائع الرّبانيّة، وهو عبارة عن محبّة الله الّتي لنْ تتغيّر ولنْ تتبدّل وهي هي لا غيرها، (والقسم الثّاني) وهو الفرع، ويختص بالجسمانيّات أي بالمعاملات، وهو يتغيّر ويتبدّل حسب رقيّ الإنسان وحسب مقتضى الزّمان والمكان. فمثلاً في زمان موسى لو سرق إنسان شيئًا مهما كان صغيرًا قطعت يداه، وكان قصاص العين بالعين والسّن بالسّن قصاصًا ساري المفعول، ولكنّ ذلك لم يعد ضروريًّا في زمان السّيد المسيح، فنسخ. وكذلك الطّلاق انتشر إلى درجة لم يبق فيها قانون صالح للزّواج لهذا نهى السّيد المسيح عن الطّلاق. وفي زمان موسى عليه السّلام كان الزّمان والمكان يقتضيان نزول أحكام القتل العشرة في التّوراة، وذلك لأنّ حفظ نظام الهيئة الاجتماعيّة لم يكن ممكنًا حينذاك، وكان يستحيل الأمن والاستقرار بدون تطبيق هذه الأحكام الشّديدة، لأنّ اليهود كانوا يعيشون في صحراء التّيه، ولم تكن هناك دار للحكومة ولا سجن أو زنزانة. لكنّ أمثال هذه الأحكام والقوانين لم يكن ضروريًّا في زمان السّيد المسيح. إذن اتّضح أنّ القسم الثّاني من الدّين لا أهمّية له لأنّه يختص بالمعاملات وبأساليب المعيشة. لكنّ أساس الدّين الإلهيّ واحد، وقد جدّد حضرة بهاءالله هذا الأساس الإلهيّ"( من كتاب الفلسفة الإلهيّة الصفحة 146. ).
ومع أنّ دين الله دين واحد قام بتعليمه جميع الرّسل، إلا أنّه شيء حيّ ينمو على الدّوام، وليس بشيء ميّت لن يتغيّر ولن يتطوّر. ففي تعاليم موسى نرى البذرة، وفي تعاليم عيسى نرى البرعم، وفي تعاليم محمد نرى الزّهرة وفي تعاليم بهاءالله نرى الثّمرة. ولا تضّر الزّهرة بالبرعم، ولا تضّر الثّمرة بالزّهرة، بل تحقق آمالها، ولا بدّ أنْ يتشقّق الكأس ويسقط لتتفتّح الزّهرة، ولا بدّ أنْ تتناثر أوراق الزّهرة لتظهر الثّمرة وتنضج، فهل كان الكأس أو كانت أوراق الزّهرة عديمة النّفع حتّى وجب رميها ونبذها؟ كلاّ، فإنّهما كانا في وقتيهما لازمين صحيحين، وبدونهما ما كانت الثّمرة لتظهر. وهكذا الحال مع تعاليم الرّسل المتنوّعة، فإنّ ظواهرها تتبدّل من عصر إلى عصر، ولكنّ كلّ دين فيها يكمل سالفه، وليس أحدها بمنفصل عن الآخر، ولا هو بمناقض له، وإنّما المراحل المختلفة في تاريخ حياة دين الله الواحد هي الّتي جعلت الدّين مرّة بمثابة بذرة ومرّة أخرى بمثابة البرعم ومرّة أخرى بمثابة الزّهرة وجعلته الآن يدخل مرحلة الثّمرة.

عصمة الرّسل

يعلمنا بهاءالله أنّ كل من يوهب مقام الرّسالة يُعطى البراهين الكافية على رسالته ويخوّل بمطالبة النّاس بطاعته ويمنح سلطة نسخ تعاليم من سبقه من الرّسل أو تغييرها أو زيادتها، ففي كتاب الإيقان يقول ما ترجمته:-
"لأنّه بعيد جدًا عن فيض الفيّاض وبعيد عن واسع رحمته أنْ يجتبي نفسًا من بين جميع العباد لهداية خلقه ولا يؤتيها الحجّة الكافية الوافية، ومع ذلك يعذّب الخلق لعدم إقبالهم إليها، بل لم يزل جود سلطان الوجود محيطًا على كلّ الممكنات بظهور مظاهر نفسه، وما أتى على الإنسان حين من الدّهر انقطع فيه فيضه أومنع نزول أمطار الرّحمة عن غمام عنايته... والمقصود من كلّ ظهور حصول التّغيير والتّبديل في العالم سرًّا وعلنًا ظاهرًا وباطنًا لأنّ شؤونات العالم إذا لم تتبدّل يكون ظهور المظاهر الكليّة عبثًا لا ثمرة منه"( الإيقان - الترجمة العربية - ص10 طبعة القاهرة 1934 ).
فالعصمة لله. أمّا الرّسل الإلهيّون فإنّهم معصومون لأنّهم حملة الرّسالة الإلهيّة إلى أهل العالم، وتبقى رسالة كلّ واحد منهم نافذة المفعول إلى أنْ تأتي رسالة أخرى تحلّ محلّها، يحملها إليهم نفس الرّسول أو رسول آخر غيره.
والله هو الطّبيب الأعظم الّذي يستطيع وحده أنْ يشخّص مرض العالم ويصف الدّواء المناسب له. وإذا ما وصف دواء في أحد العصور، فإنّ ذلك الدّواء لن يعود مناسبًا للعصر الّذي يليه حين تختلف أحوال المريض، وإنّ التّشبث بالدّواء القديم عندما يصف الطّبيب دواءً جديدًا عمل لا يكشف عن عدم الثّقة بالطّبيب وحسب بل يعتبر كفرًا به ونقضًا للعهد معه. وقد يضطرب اليهودي حين تقول له أنّ الأدوية الّتي وصفها موسى لعلاج مرض العالم قبل ثلاثة آلاف سنة قد أصبحت أدوية غير مناسبة وفات أوانها. وكذلك قد يضطرب المسيحي حين تقول له أنّ محمّدًا جاء بكلّ دواء لازم وثمين ليضيفه إلى ما وصفه السّيد المسيح وقد يضطرب المسلم إذا أوضحت إليه بأن الباب وبهاءالله كالرّسل السّابقين لهما الحقّ في تغيير الفروع الدّينيّة. إلا أنّ الإخلاص لله طبقًا لوجهة النّظر البهائيّة يتضمّن احترام جميع رسله والطّاعة إلى أحدث أوامره التي قدّمها رسوله إلى عصرنا الحاضر، وبمثل هذا الإخلاص وحده نستطيع الوصول إلى الوحدة الحقيقيّّة.



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة حضرة بهاءالله
- دواعي التجديد
- خروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها
- الشمس والكواكب
- الأمة الوسط
- قضية ماريو وأندرو إلى أين وإلى متى؟؟؟؟!!!
- قادة عمي يقودون عميانا
- أسباب اعتراض الإنسان على رسل الله
- الميزان
- القيامة والساعة
- الموت والحياة
- التمثيل والتشبيه في الكتب السماوية
- شاهد ومبشر ونذير
- التوحيد في كتاب الله
- سُرُج نورها واحد
- لا يا شيخ الأزهر-تحروا....تسلموا
- المهدي وعيسى
- تأويل المتشابهات
- بشارات الكتب السماوية
- وقت الميعاد


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - الوحدة الدّينيّة