أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند جعفر حسين - الكتابة على الجدران بين الفن والسياسة















المزيد.....


الكتابة على الجدران بين الفن والسياسة


مهند جعفر حسين

الحوار المتمدن-العدد: 2436 - 2008 / 10 / 16 - 00:39
المحور: الادب والفن
    


بعد سقوط بغداد بأيام، بدأت جدران المدينة تمتلئ بشعارات وكتابات مختلفة يخطّها أناس مختلفون بخطوط وألوان مختلفة؛ بعضها سياسي وبعضها رذيل وبعضها مجرد خربشات . اليوم، وبعد مرور خمس سنوات ونصف وطلاء وإعادة طلاء الكثير من الجدران المشوّهة ، ما زلنا نسمع سياسيين ومثقفين يصرّحون بين الفينة والأخرى أن "الشخبطة" على الجدران ظاهرة "غير حضارية" وتعطي صورة "غير لائقة" عن البلد أو المدينة؛ أنها دليل "جهل وتخلف"، "تخريب" للمتلكات العامة وما إلى ذلك. لكن السؤال الذي لا يجيب عليه هؤلاء وأمثالهم هو لماذا لا يزال شباب الحيّ يشخبطون على الجدران ولا تزال الحركات السياسية المختلفة تستخدمها لإيصال رسائلها إلى الجماهير ، رغم الكمّ الهائل من وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية الحديثة و الحضارية ؟

في تحديد المصطلح

تشير كلمة "غرافيتي" graffiti في اللغات الأوروبية إلى أي رسم أو نقش أو كتابة على الجدران، والتي قد تتراوح بين نقش بسيط ولوحة فنية معقدة. وكلمة "غرافيتي" مشتقة من الإيطالي "غرافياتو" graffiato التي تعني خَدَشَ أو خَمَشَ أو حَكَّ سطحاً [1]. ففي الأزمنة القديمة كان الناس يكتبون ويرسمون بالحفر على الجدران باستخدام آلات حادة، أو قد يستخدمون الفحم أو الطباشير. والكلمة اليونانية "غرافين" γράφειν، أي يكتب، آتية من الجذر نفسه. حديثاً باتت كلمة "غرافيتي" تُستخدم في الكثير من لغات العالم لتعني الرسم أو الكتابة على الجدران باستخدام أصباغ أو رذّاذات لونية، والذي يعتبره البعض فناً وآخرون تخريباً للمتلكات العامة.

في كتابه مبنى الأسطورة الصادر عام 1979، اصطلح الباحث خليل أحمد خليل تعريب الكلمة بـ"الكتابة على الجدران" [2]؛ وقد شاع استخدام هذه التسمية في العربية منذ ذلك الوقت. على كل حال، هي تسمية غير دقيقة، إذ إن الـ "غرافيتي" قد يشير إلى رسوم أو نقوش جدارية كذلك، كما بيّنا أعلاه. يستخدم بعضهم كلمة "جدارية"، لكن هذه، رغم دقّتها، قد تسبب بعض التشويش بسبب دلالاتها التاريخية.

يمكن، إذن، تقسيم الجداريات إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

* النقوش الجدارية، كما في الزخرفة وفن العمارة وما إلى ذلك.

* الرسوم الجدارية، ويمكن تقسيمها إلى الرسوم الجدارية التاريخية، كما في الكهوف؛ اللوحات الجدارية، كما في الكنائس؛ والرسوم الجدارية الشعبية الحديثة، أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً بالجداريات الشعبية.

* الكتابات الجدارية، والتي يمكن تقسيمها إلى خربشات شخصية وشعارات أو رسائل سياسية، اجتماعية أو ثقافية. كما يمكن تقسيمها من الناحية الفنية إلى كتابات جدارية عادية وأخرى فنية، حيث تُستخدم خطوط فنية، تقليدية أو مبتكرة.

من الكهوف إلى القطارات إلى لوحات الإعلانات

يعود تاريخ التدوين الجداري إلى عصور ما قبل التاريخ، حيث كان الإنسان البدائي يعبّر عن انفعالاته وأفكاره ومحاكاته للطبيعة من خلال النقوش والرسوم على جدران الكهوف والمغارات، أو على الألواح والرُقُم الحجرية. وقد أكدت الكشوفات الأثرية ذلك، فالنجوم الثلاثة المرسومة على جدران كهوف "لاسكو" في فرنسا تعود إلى ما يقارب 16,500 عام؛ وكذلك الأمر بالنسبة لكهوف تاسيلي في الجزائر، التي اكتشفها الرحالة بربنان بينما كان يجتاز الحدود الجزائرية-الليبية في عام 1938. وقد وُجدت في هذه الأخيرة نقوش ورسوم عجيبة يعود تاريخها إلى 20,000 عام، تصوّر مخلوقات بشرية تطير في السماء ورجالاً ونساء يرتدون ثياباً حديثة كالتي نرتديها في زمننا الحالي. وأكدت الكشوفات الأثرية أن فن الجداريات ظهر أول مرة في بلاد الرافدين ومصر قبل الميلاد بحوالي 3,000 سنة، قبل أن ينتقل إلى أوروبا خلال العهدين اليوناني والروماني [3]. ومن الجدير بالذكر أن المصدر الوحيد لما نعرفه عن الصفائية -وهي إحدى اللهجات العربية السابقة للعربية التي نتكلمها (أو بالأحرى نقرؤها ونكتبها) اليوم- هو نقوش صخرية اكتٌشفت في الصحراء السورية-الأردنية-السعودية ويُعتقد أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. وسُميت بالنقوش الصفائية نسبة إلى منطقة الصفاء جنوب شرقي سوريا، حيث اكتشفت أول مرة عام 1857.

يعود الاهتمام بظاهرة الكتابة على الجدران حديثاً إلى اهتمام العلماء والسلطات المحلية بالكتابات التي بدأت تظهر على جدران المراحيض العامة في بدايات القرن الماضي. وكان أول من أرّخ وحلّل هذه الظاهرة في جانبها اللغوي-الاجتماعي سنة 1928 الباحث اللغوي الأمريكي ريد، الذي درس مجموعة كبيرة من الكتابات على جدران المراحيض في منطقة غرب الولايات المتحدة وكندا [4].

تمثّل مدينة نيويورك الأمريكية بالنسبة لحركة الغرافيتي الحديثة ما مثّلته إيطاليا يوماً لفنّاني عصر النهضة، حيث نشأت في أحياء المدينة حركات شبابية مارست هذا "الفن" باعتباره "نوعاً من الهزل والمزاح" [5]. وتعود الظاهرة في نيويورك إلى منتصف السبعينات، حيث بدأت مجموعات من شباب المدينة باستخدام الجدران للتعبير عن ذواتها وأحاسيسها على شكل صور وكتابات هزلية ومثيرة للضحك. ولسبب أو لآخر، ارتبط هذا النوع من الرسوم والكتابات بالأنفاق والقطارات، إذ يبدو أن الكتابة عليها كانت بمثابة المغامرة. أما الجماعات التي بدأت هذا الفن فكانت غالباً من الأمريكيين الإفريقيي أو الإسبانيي الأصل، غالباً من الطبقات الفقيرة والمحرومة والبعيدة عن الحياة العامة الرسمية. ورويداً رويداً، طوّر هؤلاء أدواتهم وأساليبهم وصولاً إلى إبداع اتجاه جديد في الكتابة والرسم.

لا بدّ من الإشارة أيضاً أن ظهور الغرافيتي وتطوّره ارتبط بحركة الـ "هيب-هوب" Hip-Hop، التي بدأت تظهر في نيويورك في السبعينات. إذ شكّلت الجداريات الشعبية أحد العناصر الأربعة الأساسية لثقافة الـ "هيب-هوب" بالإضافة إلى الـ "راب" Rap (وهو نوع من الشعر الشعبي الإيقاعي)، الـ "دي جي" DJ (وهو شخص يختار ويمزج أغاني للجمهور، خاصة في النوادي والبارات)، ورقص الـ "بريك" Break dance.

لكن الغرافيتي -أو على الأقل الكتابات الجدارية- لم يكن حكراً على حركة الـ "هيب-هوب"، إذ كانت العصابات الأمريكية طوال عقد الستينات تستخدم الجدران لتعليم مناطق نفوذها. وفي أواخر الستينات بدأ بعض "فنّاني الشوارع" يوقّعون باسمهم على الجدران بأشكال فنية، فيما يُدعى في الإنكليزية بالـ "تاغينغ" Tagging [6]. كما أن هناك أمثلة كثيرة على استخدام الجدران لنشر شعارات سياسية أو ثقافية في مناطق مختلفة من العالم قبل ذلك بكثير. على سبيل المثال، امتلأت جدران باريس خلال تظاهرات الطلبة والعمال في أيار (مايو) 1968 بشعارات سياسية وثورية من قبيل "الضجر معادٍ للثورة".

تشير المراجع [7] إلى أن بداية الاهتمام الأوروبي بالغرافيتي بدأ عن طريق السيّاح الذين كانوا يزورون نيويورك ويشاهدون أعمال الشباب التي تغطي جدران المدينة. وبدأ هؤلاء يتحدثون عن الظاهرة التي أثارت اهتمام جامعي التحف والمصورين في أوروبا. ظهرت إحدى أولى المجموعات التي رصدت هذه الأعمال الفنية من خلال محاولة صغيرة قام فيها أحد المهتمين الإيطاليين بجمع أعمال أسماء لمعت في نيويورك، ونُشرت المجموعة في حدود عام 1978. عام 1979 أقام مقاول فني إيطالي آخر معرضاً لفنانَي غرافيتي أمريكيين، لي كوينونز وفاب فريدي، في صالة عرض في روما، إيطاليا. في الفترة نفسها تقريباً، قام مهتم هولندي بالغرافيتي، وهو جامع تحف اسمه ياكي كورنبلت، بلقاء فنانين عُرفوا في شوارع نيويورك بتصاويرهم الفنية على الجدران والقطارات، ثم نظّم معرضاً لمجموعة منهم في مدينة روتردام الهولندية. في أوائل الثمانينات ظهرت بضع أغان وأفلام (كأغنية Rapture لفرقة "بلوندي" وفيلم Wild Style لتشارلي آهيرن) احتوت لقطات تتعلق بالغرافيتي، وكانت بالنسبة للكثيرين في أوروبا أول مرة يرون فيها هذا الشكل الفني. عام 1983 ظهر أول فيلم وثائقي كبير عن ثقافة الهيب-هوب، وخاصة الغرافيتي، بعنوان Style Wars (حروب الأسلوب)، ليتلوه عام 1984 فيلم هوليوودي بعنوان Beat Street، ومنح هذا الأخير الهيب-هوب والغرافيتي شعبية عالمية.

في أواخر الثمانينات - وخاصة بعد أن قررت سلطات نيويورك المحلية أن تزيل كافة القطارات المغطاة بالغرافيتي من الخدمة، فيما سُمي آنذاك بـ "حملة القطارات النظيفة" التي بدأت في أيار 1989- خرج الكثير من ممارسي الغرافيتي من أنفاقهم وقطاراتهم ليبدؤوا عرض رسومهم وكتاباتهم على جدران الشوارع، فيما بات يُدعى "صالات العرض الشارعية". في الوقت نفسه، بدأ بعض فناني الغرافيتي المحترفين بعرض أعمالهم الفنية في صالات عرض خاصة، بل إن بعضهم صار يملك أستوديوهات خاصة كالرسامين التقليدين، رغم أن الجدل لا يزال محتدّاً فيما إذا كان يمكن اعتبار الغرافيتي فناً أم لا.

مع ازدياد شعبية الجدرايات الشعبية، على كل حال، بدأت بعض الشركات الكبرى باستخدامها لأغراض تجارية كالإعلان والتسويق. فأطلقت شركة الحواسيب العملاقة آي بي إم، مثلاً، حملة إعلانية في الولايات المتحدة عام 2001، حيث جنّدت شباباً ليرسموا على الجدران باستخدام الزذّاذات اللونية كلمات "سلام، محبة ولينوكس". ومع ذلك، تمّ اعتقال بعض هؤلاء "الرسّامين التجاريين" لتخريب الممتلكات العامة وغُرّمت الشركة بأكثر من 120 ألف دولار. في عام 2005، أطلقت شركة سوني حملة مشابهة، لكنها تفادت مصير آي بي إم بالدفع مسبقاً لأصحاب الأبنية التي رُسمت عليها الإعلانات. هذا وقد استخدمت شركات أخرى قنوات الإعلان التقليدية، كلوحات الإعلانات على الطرقات، لكن مع توظيف خطوط وأساليب الغرافيتي المميزة.

حرب الجدران

بالعودة إلى بغداد، كانت الكتابة على الجدران إبّان حكم البعث محظورة بشدة، وكانت الشعارات الجدارية الوحيدة التي يعرفها العراقيون هي شعارات بعثية أو قومجية من قبيل "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة". الاستثناء الوحيد كان فترات الانتخابات ، حيث كان البعثيون يجبرون الناس على تزيين الجدران بشعارات مناصرة للرئيس. أما أولئك الذين كان يُقبض عليهم وهم يخطّون شعارات مؤيدة لأحزاب أخرى غير البعث (حزب الدعوة الشيعي غالباً)، فقد كانوا يُعدمون في الغالب.

أما اليوم فثمة بالكاد جدار لا يحمل شعاراً أو موقفاً سياسياً أو أخلاقياً، بدءاً بشعار "سنعود مع جيش محمد" الإسلامي ووصولاً إلى الشتائم الرذيلة. فبعد سقوط نظام صدام حسين وحصول العراقيين على شيء من الحرية، أُتيح لهم، أفراداً وجماعات، التعبير عن أنفسهم وعن مواقفهم للمرة الأولى منذ سنين طويلة. تزامن ذلك مع غياب وسائل الإعلام لفترة من الزمن، فأخذت الأحزاب والحركات السياسية، بعد غيابها عن الساحة لعقود، بملء الجدران بشعارات وكتابات سياسية للتعريف بنفسها وجذب الجماهير إليها. وبذلك أصبحت الجدران وسيلة إعلام لمن لا يستطيع، ولو مؤقتاً، اللجوء الى وسائل الاعلام التقليدية.

لكن، على الرغم من مرور سنوات على سقوط النظام وامتلاء البلاد بمئات الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية، لا تزال هذه الظاهرة مستمرة، بل في ازدياد. ولم تجدِ نفعاً محاولات المدارس والدوائر الرسمية بإعادة طلاء جدرانها، إذ سرعان ما تعود الشعارات والكتابات لتظهر مرة أخرى، ليعاد مسحها، لتظهر أخرى من جديد.

ربما أمكن تفسير ذلك بأن القنوات التلفزيونية تزداد في ابتعادها عن السياسة يوماً بعد يوم، وأن الصحف، رغم محاولاتها الحثيثة، لا تصل سوى عدد قليل من القرّاء. أضف إلى ذلك أن الوضع الأمني يمنع الناس من تنظيم التظاهرات والاجتجاجات العامة، فيجد المتخبّطون في سوق السياسة أنفسهم يخرجون إلى الجدران بدل الشوارع، وتحت ستار الليل لا في وضح النهار.

والسائر في شوارع بغداد في الأيام الأولى للاحتلال كان سيلحظ الحرب الدائرة على الجدران بين مؤيدي النظام البعثي السابق وأعدائه الكثر. فحيثما خُطّت كلمات من قبيل "يحيا الرئيس صدام حسين"، كُتبت فوقها أو قريباً منها أخرى معادية، من مثل "الموت للخائن صدام حسين". وكثيراً ما كان المتحاربون يحاولون مسح شعارات بعضهم البعض بحك الجدار أو بالكتابة على شعارات أعدائهم بلون آخر، عادة ما يكون لونهم السياسي المميز. قرب باب المعظّم، على سبيل المثال، كان شعار باللون الأزرق يصرخ "عاش العراق، عاش صدّام، عاشت المقاومة العراقية الشريفة"، ليردّ عليه آخر باللون الأصفر "حزب البعث حزب قوّادين".

فيما بعد، إذ أخذت القوى السياسية العراقية المختلفة تعلن حضورها في الشارع وتحارب بعضها البعض، بات للألوان بحدّ ذاتها دلالة سياسية. فالأحمر للحزب الشيوعي، بشعاره الشهير "وطن حرّ وشعب سعيد"، والأخضر للإسلاميين بشعارتهم المختلفة، بعضها تاريخي وبعضها معاصر - رغم أن التركمان يستخدمون الأخضر أيضاً في شعاراتهم الجدارية القليلة، من قبيل "يعيش تركمان كركوك". ورغم أن بعض السياسيين العراقيين يتمتعون بشعبية قليلة (كأحمد الجلبي، مثلاً)، إلا أن مناصريهم القلائل لم يقصّروا بدورهم في ملء الجدران بالشعارات المناصرة لهم، خاصة في أحياء أو مناطق نفوذهم. في حالة أحمد الجلبي، كان شعار "الجلبي مهندس الديمقراطية" شائعاً على الجدران القريبة من مقرّه في حي المنصور. لكن الشعارات المؤيدة للجلبي لم تنجُ هي الأخرى من ردود الأعداء . فتحت أحد شعارات "الجلبي رمز الإخلاص"، خطّ أحدهم ببديهة واضحة "الجلبي رمز الاختلاس".

ليست جميع الشعارات التي تمتلئ بها جدران بغداد من صنع الأحزاب والحركات السياسية أو مؤيداً لها، بالطبع. على العكس، ثمة الكثير منها معاد للأحزاب أو منتقد لها. فتعلن جدارية في بغداد القديمة، مثلاً، أن "العاهرات أشرف من الأحزاب"، وتمزح آخرى على حائط قرب جسر الجمهورية "لا الحكيم ولا الجلبي، كل الأريده بيرة ولبلبي".

هذا وقد تشهد الجدران أكثر من حرب شعارات رمزية بين القوى السياسية المختلفة. فحتى وقت قريب كانت جدران المساجد في البصرة تثير هلع السكان إذ كانت جماعات إسلامية مسلحة تنشر عليها قوائم بأسماء الأشخاص "المرشحين للقتل"؛ أو كانت تُكتب عليها "براءات ذمّة" من قبل أشخاص يعلنون "توبتهم وعودتهم إلى جادّة الصواب" نزولاً عند شعارات التهديد الآنفة الذكر. وقد تطلّبت إزالة هذه القوائم جهداً عسكرياً كبيراً، إذ أخذت وزاراة الداخلية والأجهزة الامنية الأخرى على عاتقها مهمة مكافحة هذه الظاهرة.

أما في بعقوبة، فبدأت دوريات الشرطة بعد العملية العسكرية الكبيرة في حزيران 2007 تلاحظ ظهور كتابات على الجدران خطّتها -على حدّ قول السلطات الرسمية- جماعات مسلحة تهدد العوائل التي تنوي العودة إلى منازلها بأنها ستتعرض للقتل أو الخطف. وكان المميّز لهذه التهديدات هو اللغة الطائفية التي ركّزت على العوائل الشيعية بشكل خاص.

الأخطر من هذا وذاك، في رأينا، هو إشاعات بأن قوات الاحتلال تستخدم الكتابات الجدارية لإثارة النعرات الطائفية وزعزعة الاستقرار في البلد. إذ نقل مراسل وكالة "فرانس برس"، جوزيف كراوس، قبل فترة أنه رافق وحدة عسكرية أمريكية كانت مهمتها الوحيدة مفاقمة التوتر بين المقاومة الوطنية وجماعة القاعدة المزعومة باستخدام الكتابات الجدارية [8]. فكتب كراوس أن أحد مترجمي الجيش الأمريكي، وهو متّهم الآن بزرع بذور الفتنة والطائفية، كان يملئ جدران سامراء سراً بشعارات وتهديدات تبدو وكأنها من صنع القاعدة أو الجيش الإسلامي بهدف زيادة التوتر بين الفريقين.

هذا وقد نشر بعض الجنود الأمريكيين صوراً لكتاباتهم الجدارية في العراق في مدوّنات ومواقع إلكترونية عدّة [9]. ويُظهر بعضها صوراً لجنود أمريكيين في زيّهم العسكري وهم يخطّون كتابات جدارية في مناطق مختلفة من العراق، رغم أن هذه قد تكون تصرفات فردية للجنود أكثر منها تنفيذاً لأوامر من فوق.

من نافل القول إن حرب الجدران هذه ليست اختراعاً عراقياً. فقد كانت الشعارات الجدارية من أبرز مظاهر الانتفاضة الفلسطينية الأولى وانتشرت لتشمل أغلب المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. ويُرجع الدارسون سبب كثافة هذه الظاهرة آنذاك إلى عدة عوامل، منها أنّ الانتفاضة دفعت في موجاتها الأولى قطاعات كبيرة من الفلسطينيين للانضمام إلى الفئات العاملة أو مؤازرتها، فازدادت "الأيدي الكاتبة" وتضاعفت، بالتالي، كتابات الجدران. كما تحطم حاجز الخوف عند الفلسطينيين ولم يعد جيش الاحتلال مصدر خوف بقدر ما أصبح "هدفاً للصيد". بالإضافة إلى ذلك، كان ناشطو الانتفاضة بحاجة إلى توصيل مضمون البيانات السياسية إلى الجماهير بوسائل جماهيرية، خاصة وأن البيانات لم تكن تصل دائماً إلى كافة المناطق، وإذا وصلت فلم تكن كافية، فكان يُترجم مضمونها ويُنقل إلى الناس في القرى والأحياء من خلال الشعارات الجدارية. وقد جمع ودرس باحثان فلسطينيان، ابراهيم محمد وطارق محمد، هذه الشعارات في عمل أكاديمي، ربما كان الأول من نوعه في العربية، بعنوان شعارات الانتفاضة [10].

كذلك قامت الصحفية اللبنانية ماريا شختورة بجمع الشعارات التي شهدتها الجدران اللبنانية خلال الحرب الأهلية في كتاب بعنوان حرب الشعارات (لبنان 1975-1977)، والذي صدر عن دار النهار للنشر عام 1978. ويضمّ الكتاب صوراً لمئات الكتابات الجدارية التي التقتطها المؤلفة خلال حرب السنتين، وتختلط فيه الشعارات السياسية للقوى المتحاربة وكتاباتها ضدّ بعضها البعض بالبذاءات الأخلاقية الفردية.

في المقابل، لم يصدر إلى اليوم -على حدّ علمنا- كتاب أو عمل يوثّق هذه الظاهرة في العراق، رغم أن عدداً من الصحفيين والمعلّقين الأجانب كتب عن الأمر في بعض الدوريات والمواقع أجنبية. على سبيل المثال، كتبت آنيا سيزادلو في مجلة "كريستيان ساينس مونيتور" مقالاً عام 2004 بعنوان "الغرافيتي يزهر في بغداد بعد أن كان محظوراً" [11]. ورغم أن المقال يكاد يعتمد تماماً على مصدر وحيد هو ضابط متقاعد يُدعى أمير نايف توما، والذي تصفه الصحفية بأنه "فرجيل جحيم الغرافيتي البغدادي"، إلا أنه جيد من حيث توصيف الظاهرة ووضعها في سياقها العراقي.

بالمثل، نشر المراسل السابق لمجلة التايم الأمريكية وينديل ستيفنسون، والذي كتب خلال الأشهر الأولى للحرب سلسلة "رسائل أخبارية من العراق" لموقع "سليت" الإلكتروني Slate، نشر في الموقع نفسه قائمة طويلة بشعارات جدارية مترجمة إلى الإنكليزية قال إنه حصل عليها من بروفيسور إنكليزي مقيم في بغداد قام، على سبيل الهواية، بجمع الشعارات التي امتلأت بها جدران بغداد وترجمتها إلى الإنكليزية في دفتر مدرسيّ صغير [12].

يبقى أن نقول إن ما اصطلحنا على تسميته بالجداريات الشعبية، سواء كانت شعارات سياسية أو تخطيطاً أو لوحات فنية عالية الجودة، تندرج ضمن ما يمكن أن ندعوه بفنّ العامّة. فهي غالباً ما تخرج من الناس العاديين وتخاطبهم؛ وهي بسيطة ومباشرة لا يحتاج فهمها إلى كثير علم وثقافة. وهي، علاوة على ذلك، إبداع عامّ لا تقيّده حقوق الملكية أو الشهرة أو شروط النشر والرقابة.


هوامش:

[1] انظر مدخل "Graffito" في Oxford English Dictionary 2. Oxford University Press, 2006.

[2] خليل أحمد خليل، مبنى الأسطورة. دار الحداثة، بيروت، 1979. ص226. انظر أيضاً الموسوعة العربية الميسرة، دار نهضة لبنان، بيروت، 1407 هـ. م2، ص1085؛ معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، أحمد زكي بدوي. مكتبة لبنان، 1986. ص 379.

[3] انظر Robert Reisner, Graffiti: Two Thousand Years of Wall Writing. 1964.

[4] المصدر السابق.

[5] انظر Chalfant, H. and Prigoff. J.: Spraycan Art. Thames and Hudson, London. 1992. ص7.

[6] A History of Graffiti in Its Own Words. New York Magazine, June 25, 2006.
http://nymag.com/guides/summer/17406

[7] انظر مثلاً Spraycan Art. سابق.

[8] http://www.metimes.com/storyview.php?StoryID=20070509-042321-7266r
انظر أيضاً http://blog.foreignpolicy.com/node/4963?fpsrc=ealert070605.

[9] على سبيل المثال، انظر http://www.yeeta.com/_Iraqi_Graffiti

[10] الكتاب متاح على موقع المركز الفلسطيني للإعلام:
http://www.palestine-info.info/arabic/books/shearat/shearat.htm

[11] http://www.csmonitor.com/2004/0206/p07s01-woiq.html
وهناك ترجمة عربية غير رسمية هنا:
http://www.al-jazirah.com/magazine/24022004/almlfsais3.htm

[12] http://slate.msn.com/id/2093154/entry/2097273
---------------------------------------
نشرت هذه المقالة في مجلة أصداء الإلكترونية:
http://asdaa-magazine.org/Iraqi_graffiti.html



#مهند_جعفر_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند جعفر حسين - الكتابة على الجدران بين الفن والسياسة