حين سقط بطل الوطنية ، عبد الكريم قاسم صريعا في مثل هذا الشهر من عام 1963م المشؤوم ، كنت انا ومن على شاكلتي صغارا ، لم تتخطَ أعمارنا بعد الخامسة عشرة من العمر ، لكننا نحن الصغار أدركنا أن الخير الذي هبط على العراق سيرحل برحيله، وأن الشر سينزل بالعراق كله ، هذا ما جعل صبيحة الجمعة ، المصادف لليوم الثامن من شباط الأسود صبيحة ذهول وحزن وغم نزلت في النفوس ، واستبدت كمدا في القلوب .
لقد بكت نساء العراق عبد الكريم قاسم في الشوارع ، وطافت المظاهرات في اكثر من مدينة ، وعمّ الرفض لانقلابي القطار الامريكي أهوار العراق وجباله ، وكنت أنا واحد من هؤلاء الصغار ، ومن هذه الملايين الحزانى ، والتي لم يكتفِ الكثير منها بنفث الآهات ، بل اندفع هذا البعض لشجب هذا الانقلاب والانقلابين ، وكل على طريقته .
في صبيحة الجمعة تلك دخلت أنا مركز للشرطة ، إذ لم يكن أمامي غيره ، فكل دوائر الدولة تعطل في يوم الجمعة ، أخذت منه ورق الكاربون ، بغيتي ، وعدت الى الدار مسرعا .
في المساء ، وفي بيت صديق ، أنجزنا نحن احتجاجنا ، رغم أن بعض أعضاء المجموعة ، وكنت أنا من بينهم ، وفي سن الثالثة عشرة من العمر ، قد تعرض للاعتقال أواخر أيام الزعيم بتهمة الشيوعية !! كان الاحتجاج مئات النشرات التي تشجب سلب مقدرات ثورة الرابع عشر من تموز ، وقتل الزعيم عبد الكريم قاسم ، وكنت أنا كاتب النص :
( الوعي الوطني في مدينتكم يستنكر أشد الاستنكار التلاعب بمقدرات ثورة الرابع عشر من تموز ، ومقتل زعيمها الفذ عبد الكريم . التوقيع : الوعي الوطني الديمقراطي.)
حين هبطت الساعة السابعة من مساء يوم الانقلاب الأسود كانت المناشير قد غطت جميع الشوارع والدور ، ودوائر الدولة ، وقد استهدفنا بشكل خاص بيوت نفر من البعثيين .
بساعة واحدة مزقنا الخوف الذي أراد بيان 13 أن ينزله بشعبنا الأبي ، والذي يميز بسطاء الناس فيه بين من هو الوطني ، ومن هو الذي يعيش على فتات الأجنبي . لقد كانت اذاعة الانقلابين من بغداد ، وعلانية ، تتغنى بالموت : اقتلوهم حيثما وجدتموهم ! هكذا كانت المسعورة هناء العمري تردد من راديو الانقلابين .
لقد كان لعملنا هذا أكبر الأثر في نفوس الناس ، حيث تجلى ذلك في موقف المفوض حياوي الذي يقود أنفارا من الشرطة ، تحرس مجموعتنا ، وذلك حين تُنقل من السجن الى قاعة المحكمة للمثول أمام الحاكم العسكري المعين للمنطقة الجنوبية : عبد الجبار محيسن، بعد أن تعب الحاكم العسكري ، رشيد مصلح ، على ما يبدو ، من اصدار أحكام الموت في العراق قاطبة ، فاختص باصدار أحكامه على الناس في المنطقة الوسطي .
لقد أقسم لي حياوي باغلظ الايمان ، وأنا أجلس الى جانبه في مقعد السيارة التي أعادتنا الى السجن ثانية ، أقسم وبصوت خفيض من أنني لو كنت قد أخبرته مسبقا بأننا سنقوم بتوزيع مناشير تشجب انقلاب القطار الامريكي لأمر هو شرطة المدينة بعدم إزالة تلك المناشير من الشوارع ، وأعمدة الكهرباء ، وواجهات الدكاكين والبيوت.لكنني ساعتها لم أحمل كلامه على محمل الجد ، فهو ذاته الذي اعتقلني آواخر أيام عبد الكريم قاسم وعمري لم يذرف بعد على الثالثة عشرة ، وبتهمة هي أنني مرشح لعضوية الحزب الشيوعي .
ويبدو أن عملنا هذا ظل ُيذكر كل مسؤول شرطة ينزل مدينتا ، فقد رحل المفوض حياوي عنها ، وحلّ محله معاون الشرطة الملقب : أبو ثائر ، وفي مساء من يوم من أيام عهد عارف الأول ، وبينما كنا نحن : أنا واثنان من ذات المجموعة ، نسبح في نهر قريب من دائرة الشرطة صرخ فينا ثلاثة عناصر من عناصر شرطة تلك الدائرة ، وطلبوا منا مرافقتهم ، فقد أمر مأمور تلك الدائرة باعتقالنا ، وكان هذا رابع أعتقال لنا ، وحين اقتربنا من تلك الدائرة سأل المعاون ، أبو ثائر ، ومن على بعد : من يكون هؤلاء؟ فقال أحد أفراد الشرطة المرافقين لنا ، واسمه موسى : هذا فلان وفلان وفلان! فقال المعاون على عجل : اتركوهم ، اتركوهم هؤلاء اخوة نزيهة . دخلاتهم للسجون أكثر من طلعاتهم ! مع أننا لم نر وجه معاون الشرطة هذا أبدا من قبل ! وكان هو يقصد بنزيهة وزيرة البلديات في عهد عبد الكريم قاسم ، وعضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي .
وها هي ذكرى شباط الأسود تمر علينا ، وها هو عبد الكريم قاسم صورا تملأ المحلات والمقاهي من جديد ، ويزين اسمه ساحة هنا ، وساحة هناك ، وتترحم الناس على روحه الطاهرة ، مستذكرة فيه الوطنية الحقة ، والاخلاص للوطن والناس ، فقد حدثني صديق عائد من العراق بأنه دخل مطعما من المطاعم فوجد صورة الزعيم عبد الكريم قاسم مرتفعة فيه ، فترحم عليه ، فما كان من جميع رواد المطعم الحاضرين وقتها إلا أن ترحموا عليه كما ترحم هو .
إن الذي حفظ حب الزعيم عبد الكريم في قلوب الناس في العراق هو وطنيته التي لم يساوم عليها ، ونزاهته التي أفزعت المقبورين والاحياء من أعدائه ، واخلاصه وتفانيه في خدمة العراق والعراقيين ، فقد سأله صحفي أجنبي مرة ، وهو يعقد مؤتمرا صحفيا في وزارة الدفاع : متى تتزوج ؟ فرد على الفور : حين لا تكون هناك صريفة ( كوخ) على وجه أرض العراق .
لقد قام الزعيم عبد الكريم قاسم وحكومته ، وأخص بالذكر هنا وزيرة البلديات في زمنه، الدكتور نزيهة الدليمي ، باعمال جليلة ، خدم فيها العراق والعراقيين ، فقد عرفت قرى ومدن كثيرة في عهده الكهرباء ، والماء الصحي ، والسيارة ، والمدارس ، والمستوصفات والمستشفيات وغيرها الكثير.هذه الاعمال هي التي جعلت عدوه المقبور أحمد حسن البكر يقول : من أين كان عبد الكريم قاسم يأتي بالأموال ليبني بها كل هذه المشاريع ! وهي ذاتها التي حفظت له هذا الذكر الطيب في قلوب الملايين من العراقيين .
فهل من العدل أن يُكرم مجلس الحكم الحالي عبد الرزاق النايف أولا ، ثم يُكرم عبد الكريم ثانيا ؟ فالنايف كان يهدد بحرق بغداد ، شأنه في ذلك شأن صنوه ، صدام حسين، الذي حمله هو الى قمة السلطة في انقلاب 17 تموز الأسود ، حين قال : إنه سيسلم العراق أرضا دون شعب ! والعراقيون يعتبرون النايف باشراكه صداما في ذلك الانقلاب الأسود مساهما في كل الجرائم والمآسي التي نزلت في العراق ، تلك الجرائم التي أطالت كل فرد فيه .
كان المفترض باعضاء مجلس الحكم أن يخضعوا الشخص المكرم لمعايير تبتعد عن العلاقات الشخصية ، وتجرد من دوافع غير وطنية ، رغم أن عبد الكريم قاسم لا يُكرمه راتب تقاعدي يصدره مجلس الحكم ، يكفيه من التكريم حب عظيم ، وذكر طيب يعيش في قلوب وعقول العراقيين ، خاصة سوادهم الاعظم من الفقراء .
لقد سن الزعيم عبد الكريم سنة ما سنها حاكم عراقي قبله ، فقد ردّ هو الاعتبار للموتى والأحياء من العراقيين الوطنيين ، والذين أعدمهم الحكم الملكي الجائر ، أو الذين أبعدهم ذلك الحكم ، وبمشيئة الأنجليز ، خارج العراق ، ومن هؤلاء فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراق ، والزعيم الوطني الكردي الملا مصطفى البرزاني .
ومع هذا فعبد الكريم ليس بحاجة الى ردّ اعتبار من مجلس يُكرم قتلة الشعب العراقي المظلوم بهذا التكريم !