أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أزهار الصفا - الوهم القاتل















المزيد.....

الوهم القاتل


أزهار الصفا

الحوار المتمدن-العدد: 2431 - 2008 / 10 / 11 - 04:26
المحور: الادب والفن
    


طالما فتشت عنه في وجوه الناس , و حفرت بنظرها باحثة بعمق عن ملامحه الضائعة , في أوساط الوجوه المختلفة , و استقلَت أماني و أدعية عديدة , طالبة منها إيصالها إليه ... ذاك الشَاب ذو الملامح الملائكية البريئة الغارقة بالسكون , و ذو النظرات الصاروخية المتقصدة , الذي رأته مرة واحدة , في منزل جارها "سعيد" . و أسرها بنظرات الإعجاب المغلفة بالخجل , واصطاد حبها بسهم أطلقه _من دون قصد_ صوب قلبها . طالما صنعت من الأمنيات باقة أشوق للقائه , ورغبت باستعادة لحظات منحتها سحر نظرات لقلبها سجَانة , و حول روحها ملتفة . فكلما تذكرت نظراته , غطت عيونها زخات الماسيَة ناعمة من الدموع , و حرقات مؤلمة في القلب . وكلما سمعت صوت مزمار سيارة يدوي صداه في حيها , طارت إلى النافذة حاملة معها _بأحضان أمنياتها_ مصيص أمل لا يموت لرؤيته مرة أخرى ... وفي كل مرة لا يكون هو , مما يزيد من مدة مكوثها بالخوف , من أن تكون روحه قد انطفـأ نورها , أو داهمه القدر على حين غفلة بابتلاء لم يمكنه من الطير حرا في هواء الحرية , وارتفاعه عاليا ليرفرف فوق أغصان أملها , ويهب نسيم هوائه مشطِّرا لقلبها , كي يدخله ... ولا عادت تمتلك تلك اللهفة المجنونة , لأملها بأن الصوت في الحي صوته , والسيَارة المتمسمرة أمام بيت "سعيد" سيارته , ولا عادت تجسر على النسيان . بعد أن استوطن اليأس رغبتها بلقائه , أو حتى معرفة اسمه .

كم تمنت لو أنها تقبض على الشَجاعة بيديها , وتسأل جارها "سعيد" عنه , و تستفسر عن أحوله . وكم تمنت لو أنها من الأصل ما رأته , ولا ضاعت في حيرتها هذه ...

في صباح أحد الأيام ... أبت رصاصات الاحتلال إلا أن تفيِق "لبنى" على رائحة الرعب , وتبني سورا بينها وبين منام زخرف صورة ذلك الشَاب بأبهى حلته , عندما رأته يؤم بالمصلين , بعد أن قامت بنفسها , بالنداء للصلاة , بصوت يستتر خلف الغلظة , وفي كل ركعة ؛ كان يقرأ صورة الإخلاص . اختلطت أحداث المنام هذه مع صوت زخات هدير الرصاص على أرض الواقع ...

واستيقظت أفكارها مع صوت الخوف الذي يدب في أعماقها , ويزيد من عزف أوتار قلبها , ليستولي على نغماته العذبة , و يحولها لموسيقى تشدُو للموت طربا ... فالرصاص المنتشر في أرجاء مدينة جنين بكاملها أضاف لباب احتمالاتها واحدة , و هي : احتمال أن يكون هذا الرصاص
قد اصطحب ذلك الشَاب معه في سفر طويل الأمد . أبدي القدر . و خاصة أنه ذو هيبة سحرية ليست لأهل الأرض . و عيونه تخبر البشر كما الحجر أن هذه الحياة ليست كمثله ...

بعد أن دقت موجات القنبلة الصوتية جدار أذن لبنى واخترقت بابها , لتتخذ من جوفها مسكنا يلوح للخطر كلما استنشق طعمه , فاقت مزروعة بالخوف أفكارها , من الحلم , ومما يجري بالخارج . مدت رأسها من النافذة , وبعيون تحارب النعاس ؛ نظرت إلى الشارع . وما رأت سوى تلاميذ يتوجهون إلى مدارسهم , فأيقنت أنه تم استئناف الدوام المدرسي بعد فراق طويل نسبيا , بسبب أحداث الاحتلال الصعبة ...

بدلت لبنى ملابسها , و قبل أن تتجه إلى مدرستها , سألت والدتها قائلة :
_رأيت نفسي بالمنام أؤذن للصلاة . وكان شخص غيري يكرر قراءة سورة الإخلاص ... ما تفسير ذلك ؟؟
صمتت والدتها برهة بعد أن بهتت ملامحها . ثم قالت :
_هل تعرفين ذلك الشخص ؟؟
وقع لسان لبنى في بحر من الحيرة , من أن يخبرها الحقيقة , و أنها تعرفه و لا تعرفه , أو أن يتنكر لهذه المعرفة . ولكن خجلها من والدتها قاده للقول:
_ لا أعرفه بتاتا ...
هزت والدتها رأسها و قالت :
_ تفسير منامك : انتهاء أجل إمام تقي , ولربما يكون هو ذاته الذي رأيته .
شعرت لبنى بالضيق يلتف حول صدرها , لما سمعت , إلا أنها حاولت التخفيف عن ذاتها , قائلة مع نفسها :
"مجرد منام , و مجرد تفسير , و قد يكون خطأ".
واتجهت لا مبالية بما سمعت من والدتها إلى مدرستها , و عند باب المدرسة ؛ أوقفتها الصدمة لما رأت : و بعد أن سقطت عيناها على صورة ملصقة على أحد جدران المدرسة , ما عادت تشعر بشيء من حولها , ولا عادت تعرف ما لذي رمى بها ـ دون ذنب تقترفه ـ إلى شطآن الغربة الواسعة المظلمة , الشَديدة الهلاك , و سقاها من سم الظلام , بعد أن رأت ما رأت : صورة ذلك الشاب تزيِن جدار المدرسة .
وضعوا مع صورته نعوة له , بعد أن اجتاحته جرثومة الموت الصهيونية قبل أيام , ليسقط شهيدا برصاصة من رصاصات الظلم ,زرعت في جسده لتقتل معه قلب براءة فتاة ما عرفت الحب يوما قبل أن تعرفه وتغرق في سواد عينيه ,لتسبح وسطهما كي تصل إلى جسر شفاه بالحق مطالبة , و ذقن يحملهن من بعد أن نبت من بين ركام الانتظار , لحرية مأسورة , ليعلن الحداد والتضامن مع قيدها... و الآن : فاق حزنها , ونهض من مضجعه يمتطي براءتها ويلجمه بلجام الصمت المؤلم ... و استأثر قلبها المكسور بطرق أبواب الحزن , للمكوث عنده ... عادت إلى بيتها قبل أن تدخل المدرسة والسرعة تسابق قدميها .

دخلت البيت بجنون , ولم تدر ما تفعل . وبلا إرادة خرجت تتخبط بالدموع عيونها , وبالظلام قلبها , و بمريول المدرسة جسدها . متجهة صوب مقبرة الشهداء , حتى وصلت هناك ... ركض لسانها بين وعورة التلعثم في تلال التوتر والخوف والاضطراب , يستفسر عن موقع قبر فارسها النبيل , الذي امتطى جياد الشهادة مدافعا عن وطنه , و الذي عرفت اسمه متأخرة : "علي حامد" .

سألت أحد المسؤولين عن المقبرة عن قبره , إلى أن أرشدها مكانه , أخذت نظراتها تتراكض نحو قبره بعد أن أصبح التراب بيته ... وقفت بصمت يخيم عليه السكون , و بعيون غارقة بالاحمرار , غائرة داخل وجهها من شدة البكاء ... وبملامح باهتة , وصوت يختنق تحت البكاء , قالت :
_ لماذا تركتني وحيدة ؟؟
وأخذت تبكي من جديد , حتى ضجر البكاء من دموعها , وتكلم الصمت لصمتها , قالت مخاطبة القبر و أهله :
_ بحثت عنك بين النسمات العابرة ... تحت أصوات العصافير ... و فوق هبات الحنين ... لماذا تركتني بعد أن أثمرت ذاكرتي فوق أغصان ذكرياتي حبا لبراءتك ؟؟
و أحنت رأسها على حافة القبر , واتخذت من البكاء ونيسا لها ... و قالت بأمل مفقود طالبة منه القرب :
_ خذني إليك , فأنا لا مكان لي بهذه الدنيا من بعدك .

توالت الأيام وما زالت لبنى على نقس الحال , حتى استفاق قلبها في إحدى الليالي الطوال , على منام رأت فيه "علي حامد" واقفا على بعد قريب منها , صامتا لا يتكلم , و ركضت نحوه آملة أن يقترب منها , إلا أنه أوقفها بإشارة رسمها بكفه . فحزنت كثيرا على تصرفه , وقالت بلهجة لوم:
_ كم تمنيت أن أسمع صوتك بالدنيا , أو أتكلم معك فيها , لتمنحني فتات ذكرى أعتاش عليها من بعدك . ولكنك على ما يبدو كنت تنظر إلي , كما تنظر لشقيقتك , لذلك , لم تتحقق أمنيتي .
هز رأسه نافيا, و قال :
_ نظرت إليك كما نظرت إلي .
شعرت برذاذ سعادة غير ملموسة , و أمل منام طويل الذكرى , ولكنها أدركت جيدا أنها تتكلم معه من خلال نافذة خيال في المنام , لذلك , قالت له:
_ إذن تعال إلي كل يوم لأراك !!.
رسم على شفتيه ابتسامة خفية المقاصد , و قال :
_ أنت غدا ستأتين إلي .
قاطعة كلامه قائلة :
_ في المنام ؟؟
اتسعت ابتسامته , و اتسع معناها . و قبل أن يجيبها , فاقت على أنامل والدتها , تضرب بها على جسد لبنى المنتمي و المصغي بكل ما فيه للمنام و أحداثه , كما يضرب عاشق القيثارة على آلته , تخبرها بأن تنهض للذهاب إلى مدرستها .
فاقت من الحلم قبل أن يجاب على استفسارها , و أدركت أن هذا الحلم قرض من حزن أيامها الماضية , و أزهر لها سعادة سريِة , بالرغم من كونه خيالا .

مرت أربعة أيام دون أن تراه مرة أخرى بجيب المنام , وعادت كآبتها الماضية تحط رحالها على حياتها من جديد , بعد أن تلاشت آثار المنام مع الوقت .

وفي ساعات ما بعد العصر من اليوم الخامس , طلبت والدتها منها أن تحضر لها الدواء من الصيدلية القريبة من منزلهم ... دخلت الصيدلية ... و انزلق نظرها على طفل لا يتجاوز السنتين من العمر, معلق بعنقه سلسة تحتوي على صورة "علي حامد" ... انحنى نظرها راكعا أمام الصورة, و اقتربت من الطفل , تتأمل ملامحه الممزوجة برائحة ملامح الصورة عيونها , حتى صعد نظرها إلى امرأة كانت تقف بجانب الطفل , تعلقت نظراتها بملامح المرأة , وسألتها و هي تشير بيديها نحو الطفل :
_ ابنك ؟؟
أجابتها المرأة :
_ أجل .
_ ما صلة القرابة بين الطفل و الشهيد "علي حامد" ؟؟
_ والده.
إجابة صفعت كرامة و كبرياء لبنى . وصعقت قلبها . و ارتمى إحساسها قتيلا بين حنايا الواقع , بعد غدر وهمها له ... و عادت ذاكرتها ترقب بحذق الماضي , و ما حدث به , و كأنها تشاهد فيلما سينمائيا تراه لأول مرة ... كيف كان "علي" يقف أمام عيونها , يرمقها بنظرات إعجاب صادقة , تلتف حولها وتشدها إليه , و كيف ارتسمت على شفاهه ابتسامة بريئة من كل نفاق مقاصدها , تخبرها باهتمامه بها , إلى أن سقط قلبها بين أضلاع عيونه أسيرا . و ارتجف إحساسها لدفء حنانه , بعد سنين من برد وحدته... عادت إلى واقع حاضرها المرير القاسي , و التفتت نحو الطفل المحدق بها بدهشة , مقتربة منه ... و انطلقت أنفاسها الحارقة لتقبل جبينه . وقالت بذاتها :
_ " أنا عشقت والدك ... وطلبت منه أن يأخذني إليه ... لكنه لم يفعل , لأنه لم يحببني يوما ... و كانت تلك النظرات ؛ مجرد نظرات أضلت طريقها و مبتغاها ".
ثم ابتسمت ابتسامة قهر خفية , و بذاتها قالت :
_ " كنت أطلب منه أن يأخذني عنده . فالأجدر به أن يأخذ زوجته إليه , فمنامي مجرد كابوس . من شدة تفكيري به رأيته ...".

نهضت ببطء , وعيونها لا تزال معلقة بالطفل , حتى دغدغت الدمعة أجفانها , و طرقت نظرها كإذن لموعد نزولها ... خرجت لبنى من الصيدلية بسرعة مجنونة , وبعيون مغرورقة بالدموع الساخنة , راكضة إلى دروب النسيان , تارة تمسح دموعها المنسابة على خدودها , لتشعلها لهيبا حارقا مع لهيبها , و تارة : تمسح جزءا من ذكرياتها الوهمية لطلب طالما انتظرته بصبر واشتياق , طلب قتل أمامها صدفة ... طلبها من "علي حامد" أن يصطحبها معه إلى جنان الخلد ...
استمرت بالجري المتلعثم لا تأبه لأحد في المكان , إلى أن اصطادتها إحدى رصاصات الغدر العشوائية , المنطلقة من سلاح الغرباء , الذين اصطادوا قبلها عليا , و غيره الكثير , ظانين أنهم في غابات القضاء على الشعب المقاوم يمكثون . وفي نفس المكان الذي سقط به علي قبل عدة أشهر شهيدا , تسقط به اليوم لبنى شهيدة للوطن .



#أزهار_الصفا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أزهار الصفا - الوهم القاتل