أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - سلام عبود - موت الماركسية أو ورطة النصر.... الحلقة الأولى: موت الاشتراكية المبتذلة















المزيد.....

موت الماركسية أو ورطة النصر.... الحلقة الأولى: موت الاشتراكية المبتذلة


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 2429 - 2008 / 10 / 9 - 07:12
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


الى روح الشهيد كامل شياع
" بالنسبة لي، لا أتفق مع المراهنين على حرب أمريكية لحل الأزمة العراقية، واجد موقفهم كموقف من يرى الأشجار دون الغابة، والحالة المفردة دون السياق، موقف من يراهن على نتائج آنية ويتناسى النظر في مقدماتها وعواقبها"، "جل ما أخشاه في مهادنة مثقفينا للأمر الواقع من منظور يتناسى أيديولوجية ودوافع الإدارة الأمريكية الحالية، هو أن تكرس على المدى الأبعد، وعيا ثقافيا تبريريا ومحافظا"
كامل شياع


أوقع تغيير الخطاب الآيديولوجي العالمي أطرافا ممن يضعون أنفسهم في صف اليسار في مواقع سياسية ونظرية خاطئة، "تبريرية و"محافظة"، مناقضة تماما لجوهر مبادئ الاشتراكية كنظرية سياسية وفكر فلسفي. فبعض أطراف الحركة الشيوعية اعتقد أن شعارات العداء للإسلام، تحت واجهة العداء للإرهاب، تخفف عنه ضغط العدو التقليدي التاريخي:"الامبريالية العالمية" و" النظام الرأسمالي"، كما كان يسميه، والذي ظل لحقبة تاريخية مديدة يتخذ من العداء للشيوعية شعارا رئيسا له. أما القوى اليسارية المهوسة بالعلمانية فقد أفادت من هذا المناخ سلبيا أيضا بالانغمار في ثقافة هامشية، تسلوية، مثل الاهتمام والانشغال باكتشافات دينية، ظنوها عظيمة، كاكتشاف أزمة الحيض لدى السيدة عائشة، وبطلان وجود ملائكة الموت، وغيرها من الملاهي الغربية الترفيهية، التحقيرية. هذا الانغمار الشكلي من قبل الطرفين يشير، في جوهره، الى أمر واحد هو أن القوة الدولية المنتصرة تدون بأقلام يسارية تقريرها النهائي عن هزيمة الشيوعية كتيار سياسي. إن أبرز مظاهر الهزيمة التاريخية لا تنحصر في سقوط النظم الشيوعية القائمة فحسب، بل تتعداها الى ما هو أهم، الى عدم مقدرة جزء كبير مما تبقى منها على تفهم واقع الهزيمة وتقدير حجمها وأبعادها ونتائجها، لأن الجثة المتفسخة لا تعي فساد كيانها ولا تشعر به. فعلى الرغم من تلك الهزيمة القاسية لم تراجع الحركة الشيوعية تجربة سقوط المنظومة الاشتراكية مراجعة نقدية معمّقة، واكتفى عدد كبير من أجنحتها بالهروب الى الأمام، من طريق ابتلاع الهزيمة برحابة صدر، والايحاء الى مريديه بأن سقوطها التاريخي كان قدرا جاءها من خارجها، هم معفيون من تحمل أسبابه ونتائجه. ولكن هذه الهزيمة السياسية، التي ترغمنا جسامتها على الاعتراف بها كحقيقة واقعية مرّة، ربما تجيبنا عن الأسئلة الجوهرية التي نريد الوصول اليها: هل استنفدت المادية الجدلية نفسها ولم تعد قادرة على العطاء كتيار فكري وما يرافقه من منظومة بناء سياسي؟ هل تعني هزيمة التيارات السياسية الحاكمة وتابعيهم هزيمة للمادية التاريخية في أسسها الجوهرية، الفلسفية خاصة؟ إن انحراف الأحزاب السياسية التابعة ومحاولة إفادتها من مناخ العداء لـ "الإرهاب"، من طريق تبني خطاب معارض للثوابت الجوهرية والأسس النظرية للماركسية: الموقف من الحروب العدوانية، ومن سياسة التمييز العنصري والقومي ( ابتلاع حقوق الأقليات الصغيرة باسم القوميات الصاعدة)، ومن موضوعات الاحتلال والمقاومة ( أصبحت كل مقاومة إرهاب)، والنضال ضد الاستبداد ( أصبحت كلمة نضال تعني الوقوف في صف الأعداء، وأضحى التماهي مع مشروع الحكم هو خط النضال الأساسي)، وإرضاء الشهوات والنزوع العرقي للحكام القوميين، والضبابية السياسية، والتنكر لحقوق ومصالح الفئات الفقيرة والشرائح المظلومة، والاستهانة بحقوق الإنسان الأساسية (حق العمل والحقوق القضائية وحق التعبير) عززت الميل الرامي الى تأكيد موت الماركسية في نظر كثيرين، حتى في صفوف أصدقائها ومريديها. لقد انعكس هذا الميل الانتقامي انعكاسا مباشرا على سلوك العناصر المتنورة والمجربة من الوطنيين والاشتراكيين المخلصين، خاصة ممن لم يتلوثوا بماض مشين، الذين شاعت في نفوسهم الخيبة والإحساس بالمرارة؛ وقاد هذا الميل التصفوي الى إحداث قطع بالغ الحدة في تسلسل الأجيال الوطنية، ظهر واضحا، جليا، في عزوف الأجيال الجديدة الشابة عن حركة النضال الاجتماعي والسياسي اليسارية، بسبب إخفاق هذا النهج في إيجاد سبل جديدة للعمل تناسب درجة تعقيد وخطورة الأوضاع وطنيا، وبسبب تدهور سمعة القيادة السياسية وسلوكها اللاوطني المريب. لكن هذا كله غير كاف، من وجهة نظرنا، لإلغاء حيوية النظرية وديمومة أسسها العقلية، لأسباب عديدة، أبرزها هو أن تطورالحركات السياسية والفكرية لا يقع ضمن مسؤولية التيارات الانتهازية والنفعية، التي كانت وستظل عدوا أساسيا للنظرية الجدلية على طول التاريخ وعرضه.
ربما يكون من المحزن الاعتراف بأن مرحلتنا التاريخية الراهنة تشهد تطابقا تاريخيا عالميا بين فوضى الفكر، التي هي جوهر النفعية الفلسفية الرأسمالية، وفوضى الممارسة السياسية، التي هي جوهر ومغزى التطور السياسي والعسكري الناشئ جراء انتصار الولايات المتحدة الأميركية وتحولها الى قوة وحيدة في عالم خال من الأقطاب القوية. وربما لا يكون مبهجا القول ان السلوك السياسي والموقف النظري لبعض الأطراف الشيوعية المنهارة، ومنهم الشيوعيون "المحليون" في العراق، يجسد لحظة التطابق التاريخية القاسية هذه تجسيدا بارعا، من خلال جمعهم بين الاسم الشيوعي والدعوة الى تأييد الاحتلال والغزو، والحرب، وتأييد العنف الحكومي والدولي، ونشر نظرية القدر الامبريالي أو الحتمية الأميركية كبديل للحتمية التاريخية، وغيرها من الحلول السياسية الغريبة على الفكر الجدلي، معبرين بهذا عن تطابق تام بين فوضى المفاهيم والقيم، كمهنج ثقافي، وفوضى المشروع السياسي، كعملية إجرائية. لقد أنتجت التجربة الشيوعية العراقية جيلا من القادة على درجة عالية من فقدان السوية السياسية، لم تعرف الحركات الشيوعية الأخرى مثيلا له؛ فمنهم من توجه نحو المشروع القومي في هيئته العرقية الخالصة ككريم أحمد، ومنهم من ذهب نحو حلول تحالفية شديدة الغموض والالتباس كمهدي الحافظ، ومنهم من ساير مشروع الاحتلال وعمل في خدمته بشكل مباشر من خلال قيادته لتيار شيوعي كحميد مجيد، الذي تولى شخصيا دور الشرطي المخبر العامل في ملاك قوات الاحتلال، من طريق تقديم معلومات دورية الى ضباط استخبارات الجيش الأميركي في المنطقة الخضراء ( نقلا عن النائب محمود عثمان)، أو في هيئة أمين عام حزب يقدم أوراق اعتماده لقائد محتل كعزيز محمد، ومنهم من انقلب من قيادة منظمات وهمية عالمية كمنظمات السلم والتضامن والتحرير الى تأييد مشروع الاحتلال المتعدد الجنسيات كنوري عبد الرزاق، ومنهم من انقلب من يسارية ثورية الى خادم لمشروع الديكتاتورية ثم الى متطوع صغير في فيلق الاحتلال كعزيز الحاج. أفضى هذا الانقلاب القيادي الكبير الى سيادة خطاب سياسي اغترابي، مستنسخ، مفرغ من الخصوصية الوطنية، يجمع بين التأمرك اليميني والنزعة العرقية والصهيونية والتحلل الأخلاقي؛ وهو خطاب انتقامي وثأري يرمي الى تدنيس الإرث الوطني عامة والاشتراكي خاصة، بهدف الحصول على شهادة حسن سيرة وسلوك، والحصول على براءة ذمة من ماض لم يعد يطابق مسابرة مشاريع الاحتلال ورغبات القوى العرقية والطائفية الحاكمة. لم يحدث اجتماع محكم لهذا القدر من الأفراد الأشرار والمسيئين وهذا القدر من الأفكار الشريرة والمسيئة قط ، كما يحدث الآن في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. لقد نشأت انحرافات وتقلبات وحتى خيانات مشينة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي الطويل من قبل، ولكن لم يحدث تحول معاد لجوهر توجهات الحركة الوطنية العراقية ومفاهيم الاشتراكية بهذه السعة والعمق في الصفوف القيادية العليا والحلقات القريبة منها، كما حدث خلال السنوات المنصرمة. هل ما يحدث مجرد مصادفات قدرية أم أنه نتيجة من نتائج التربية التاريخية؟ هل هي نزوة طارئة أم نهج ثابت؟ إن ولادة تشكيلة قيادية متعددة المسارات والتطلعات، موحدة المنشأ، لا تقيم وزنا لتاريخ الحركة التي أنجبتها وتربت في أحضانها، في هذه الحقبة المحددة، دليل على فساد الأرض التي سارت عليها التجربة الشيوعية في العراق لحقبة مديدة سابقة، ودليل على أن الحركة مقبلة على صراع قاس، عنيف، لن يحسم إلا بعودة الحركة الى مجراها الحقيقي أو بالتحول كليا الى كيان آخر، بهوية جديدة، مغايرة. لقد أخطأ كثيرون في تفسير حديث بول بريمرعن مقابلة كشف الكفاءة، التي أجرها لزعيمي الحزب الشيوعي عزيز محمد وحميد مجيد، والمفاضلة بين أهليتيهما في كتابه (عامي في العراق). فقد ظن كثيرون أن بريمر كان يهدف الى فضح وتوسيخ بعض مستخدميه. لكن الواقع غير ذلك. إن بول بريمر أذكى من أن يفعل ذلك. فهو، كممثل لقوة عالمية منتصرة، يهدف الى تسجل شهادة علنية لوفاة الشيوعية ممهورة بتوقيع زعيمين من قادتها الرسميين؛ هل كان هذا الحدث قدرا جاء من خارج مسار تطور الحزب تاريخيا؟ كيف تجيب ماركسية المنطقة الخضراء عن هذا السؤال؟ عن هذا السؤال لا يجيب أحد. لأن القيادات الراهنة غير معنية بالسؤال أو بالجواب، فلا صلة لها من قريب أو بعيد بما يسمى أو يعرف بالاشتراكية كنهج للنضال الطبقي والوطني والأممي، فهي منشغلة بأمور أكثر أهمية من سمعتها الشخصية ومن واقع الحركة السياسي والثقافي. لم يعد القادة الشيوعيون يكلفون أنفسهم عناء الدفاع عن سلوكهم أو مفاهيمهم، بل أخذوا ينيبون عنهم كلاب حراسة يتولون الدفاع عن أخطائهم وشرورهم، بمنحهم شهادة براءة ذمة أبدية، من طريق السباب والنباح الهادف الى إبعاد الجدل عن جادته الحقيقية وإغراقه في الضحالة والملاسنات السوقية، كطريق وحيد للهروب من استحقاقات الجدل ومسؤولياته. إن بريمر وحميد مجيد، اللذين التقيا على قاعدة شراكة سياسية تقوم على نظرية انتصار القدر الأميركي الحتمي، كبديل تاريخي يلغي قوانين النضال التقدمي الشيوعي، يؤكدان عمليا موت الماركسية المبتذلة، ماركسية السوق، ويؤكدان بسلوكهما هذا أيضا موت مشروعيهما، كحل محلي- أجنبي مقترح، قائم على فوضى السلوك والتفكير، وفوضى القيم والمفاهيم، وفوضى التجربة اليومية المختلة، المناهضة لأسس التفكير والممارسة الجدلية. إن هذا الاتحاد المريب وما يرافقه من خطاب دعائي ليس جديدا على تاريخ الفكر الجدلي. على العكس، كان الخلاف العنيف بين التيارات المتناحرة مادة أساسية تقع في صلب الصراع النظري المتعلق بنقاوة وصحة النهج السياسي. بيد أنه تحول في السنوات الأخيرة الى مادة توكل في الغالب الى عناصر متدنية المعارف والمواقف والمسؤولية الأخلاقية، تتولى مهام الدفاع عن قادة عاطلين عن التفكير وسياسات معادية للمصالح الوطنية. لم يقم أحد بزيارة اسرائيل إلا بادروا الى تمجيده منذ اللحظة الأولى، لم يخرق سياسي أحمق حقا وطنيا إلا وأعلوا من شأنه، لم يُفتتح سجن إلا مجدوا سجانيه، لم يطلق مرتزق النار على مواطن إلا دافعوا عن القتلة، لم تتمدد ميليشيا على حساب وحدة الوطن إلا باركوا فعلتها، لم تُدك مدينة بالقنابل إلا هللوا لقاصفها، لم يعذب مواطن في سجن إلا سطروا التهاني لجلاديه، لم يُنقد مسيء إلا تولوا الدفاع عن حقه في أن يكون مجرما. إنها عقدة الانتقام والثأر من كل ما هو وطني وعراقي وإنساني، وكل ما هو حيّ. ثقافة مَرَضيّة سوداء، متفحمة، أضحت خادما وفيا لكل ما هو دموي وشرير ولا إنساني، تتخصص في واجب واحد: حراسة مملكة الشر. أي شيوعية هذه! في أي كتاب، في أي مصدر، في أي صفيحة من صفائح التاريخ وجدوا هذا المثال الشيوعي المتقيح؟ هذا هو النهج الجديد والمراجعة النقدية للهزيمة، اللذان خُصت بهما مرحلتنا الراهنة، مرحلة الانعطافات الكبيرة، مرحلة سقوط تيار سياسي كامل وغروب منظومة تاريخية كاملة. لذلك لم تكن تلك الشهادات سوى وثائق تاريخية تؤكد على موت جيل من أجيال التفكير الشيوعي. لكنها في الوقت عينه، تؤكد على استمرار الظاهرة التاريخية: صراع المتناقضات. فهذه القيادات، تعرف إنطلاقا من قوانين الجدل نفسها، أنها لا تستطيع، مهما أوتيت من حيلة، أن تلغي استمرار ظهور أجيال مخلصة لثوابتها التاريخية، وظهور أصوات تسعى الى ديمومة وتطور النظرية، ووجود ضمائر لا تخفي رؤوسها في الرمال، أو تخشى من الاعتراف بإخفاقاتها، مستجيبة استجابة حيّة لمنطق التاريخ الذي لا يقاوم.
أين يقف الشيوعي الفرد من هذا الخلاف؟ وكيف يسلك في المنعطفات الصعبة؟ تلك هي مسؤوليته الشخصية. لكنها مسؤولية مكلِّفة. لأن فترات التغيير والانعطافات الكبيرة تتطلب وجود متنورين شجعان، مبادرين، وتتطلب وجود طراز خاص من الوطنيين، يستطيعون حمل أعباء التغيير وتجرع آلامه، وامتلاك العقل النقدي، الذي يؤهلهم لإدامة ما هو حي من الإرث التاريخي كعراقيين أصلاء، وليس كتابعين، اغترابيين، مستنسخين.
إن فهم الصراعات المحلية خارج سياق الظاهرة العالمية، وفصل الوطني عن العالمي، نهج غريب، لم تعرفه الحركة الشيوعية من قبل قط، بدأ يسيطر سيطرة تامة على فكر وممارسة القيادات الشيوعية الراهنة في العراق تحديدا، كنوع من الانكفاء الذاتي والعجز وقصور النظر، مصحوبا بميل ذاتي، أناني فاضح وشره، يجنح بقوة الى التكسب السياسي النفعي، من دون الاهتمام بعواقب ونتائج هذا السلوك على مستقبل الحركة وتاريخها. إن استنفار نوازع الربح والكسب السريع والحصول على الغنائم كبديل للسلوك الثوري ليس دليل طاعة للحاكم فحسب، بل هو أيضا تنكر علني لقواعد السلوك الوطني المبدئية، ساهم مساهمة مباشرة في توسيع جبهة الإرهاب و"العنف التجاري" والارتزاق السياسي وطنيا، على حساب النضال الوطني الحقيقي، الهادف الى تحرير المجتمع من بقايا النهج الديكتاتوري ومستجدات مرحلة الغزو. إن التنكر للإرث النضالي سلوكيا وفكريا تعزيز عملي لجبهة العنف التجاري المسلح، وتأكيد صريح على الإقرار بحرية وحتمية مشروع العنف والإرهاب الدولي والمحلي، كأمر واقع مسلم به، وكأداة وحيدة، مطلقة، لتسيير المعادلة السياسية القائمة على العنف والعنف المضاد، في الضد من المشروع الوطني العراقي، وعلى تناقض تام مع مصالح المواطن العراقي.
أثبتت أحداث السنوات المنصرمة أن الانتشار العسكري الأميركي الواسع والضربات المسلحة الكبيرة التي أنجزتها الولايات المتحدة الأميركية في غير مكان لم تزل تحتفظ بقوتها، إلا أنها أخذت تفقد شيئا فشيئا بعضا من زخمها السياسي، وفقدت جزءا كبيرا وأساسيا من زخمها الدعائي والأخلاقي، أما مثالها الإنساني فقد خسرته تماما جملة وتفصيلا. بيد أن الأزمة التاريخية العالمية الراهنة، التي ولدّها تسيد القطب الأميركي الوحيد، لم تجد بعد منافذ واضحة للحل، نتيجة لعدم ظهور المنافس التاريخي، كقطب مقابل، حتى الآن. لذلك فإن مهمة التعجيل باستنفاد زخم الهجوم الأميركي الشامل على المصالح التاريخية للبشرية لن يتم من دون تنشيط عناصر مواجهة الاستبداد الدولي والمحلي معا، وايجاد البدائل التاريخية المشتركة وطنيا وأمميا. فإذا كان البديل الدولي، كقطب مقابل أو جبهة مواجِهة، في هيئة دولة أو تحالف، لم يظهر بعد، إلا أن جبهة واسعة أخذت تنشط في مواجهة المشروع الأميركي، هي جبهة أميركا الجنوبية، التي فُعّلت تاريخيا خارج منطقة الصراع ضد الإسلام، وخارج شعارات محاربة ما يعرف بـ "الإرهاب الاسلامي". أما القوى الوطنية في آسيا وأفريقيا فلم تزل، جلها، عاجزة ومشتتة، تئن تحت وطأة الضغط المسلط عليها من قبل نهج وشعارات محاربة الإرهاب الدولي، وشعارات العداء للإسلام السياسي الانتقائية المنافقة، التي مزقت وحدة الأهداف الوطنية والأممية وشتت تفكيرها وقواها. فعدا التيارات العرقية والفئوية والمناطقية، لم تظهر في منطقتنا قوى فاعلة وناشطة سوى القوى الإسلامية بصنوفها المتنوعة: المتحالفة مع المشروع الأجنبي علنا، والمقاومة له، والإرهابية التكفيرية. وقد احتل الصنف الأخير، بدعواته التكفيرية المتطرفة، الواجهة الدعائية والإعلامية، ومُنح مرونة عالية في التحرك الإقليمي والعالمي، لما تمثله نتائج أعمال هذا الصنف، المحسوبة والمخططة جيدا، من عنصر إدامة لزخم الهجوم الأميركي وعنصر تجديد لآيديولوجيته وسياسته الميدانية العسكرية خاصة. كما جرى إعلاء شأن الجماعات المسلحة المحترفة، التي تتنقل من جهة الى جهة، بحسب الطلب، وجرى رفعها الى مستوى القوة السياسية، كشكل من أشكال خلخلة الأمان الاجتماعي على المدى البعيد، وزرع الألغام التاريخية المميتة، تحت واجهات طائفية ومناطقية أيضا. وفي الوقت ذاته يجري التعتيم على القوى الإسلامية التي تبدي ميلا معاديا للاحتلال على قاعدة وطنية خالية من نزعة التكفير والإرهاب الطائفي، وكذلك الحال مع قوى الاعتدال الإسلامي ذات النزوع الوطني، مثل النموذج الماليزي، الذي لم يزل يعاني من التهميش والعزل، خشية من قوة تأثيره على الآخرين، كبديل سلمي محتمل. أما القوى الوطنية اليسارية فقد فقدت أفقها السياسي تماما، بانقطاع ارتباط نضالها الوطني عن النضال العالمي وابتعادها عن ثوابتها الايجابية التاريخية، وتكريس سياسة الانكفاء والانعزال والتقوقع ومحاباة السلطات الحاكمة، التي لا تقود إلا الى الموت المحتم.
ما موقع النضال الشيوعي في منظومة النضال العالمي؟ هذا السؤال يجيب إجابة تامة عن أزمة القيادة الشيوعية الراهنة، في العراق خاصة.
إن إعادة الجدل الى نصابه الصحيح مسؤولية القوى الحيّة، والخلاقة، والفاعلة، التي تتسم بالاخلاص المطلق لمبادئ الحقيقة.
هذا الجزء من البحث مقدمة عامة لموضوعات متسلسلة تهدف الى إعادة بناء تصور جدلي للواقع الدولي الراهن، يؤكد على أن موت الماركسية السريري، الذي يحاول القادة الحاليون ومشايعوهم إثباته على أرض الواقع وفي الفكر ليس سوى وهم يخفي خلفه موت التيارات السياسية الشكلية والانتهازية، التي تتخذ من الخطاب الدعائي والسوقي والسطحي مادة للجدل لتبرير عجزها عن فهم الواقع في مواجهة خصومها ومنتقديها، ومما لا شك فيه أنه يثبت أيضا أن النظرية الجدلية قادرة على تأكيد حيويتها الفكرية المتجددة كأداة تفسير وتنوير وتغيير.

# جزء من مقدمة كتاب (البحث عن هوية)، معد بشكل خاص للحوار المتمدن، ستليه أجزاء من الفصل الثاني للكتاب، تستكمل وترتبط بموضوع (موت الماركسية المبتذلة) و(البيان الشيوعي المرحلة الاحتلال).



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللجنة الإعلامية للحزب الشيوعي العراقي تدعو الى محاكمة كاتب ...
- الشيوعي ما قبل الأخير (كامل شياع كما أراه)
- أسرار أزمة كركوك: المقدمات، الدوافع، النتائج
- المادة 24، الانتقال من التحاصص الدستوري الى سياسة كسر العظم
- الجوانب الخفيّة في الاتفاقيّة الأميركيّة العراقيّة
- من نوري السعيد الى نوري التعيس
- صولات الدم العراقية
- نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. الديموقراطيّة للاحت ...
- نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. تعبئة وتعميم الشر: ...
- نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. الشيوعية السحريّة أ ...
- نقد المثقف الشيوعي.. قيادة (طريق الشعب): فخري كريم نموذجاً.. ...
- نقد المثقف الشيوعي.. قيادة (طريق الشعب): فخري كريم نموذجاً.. ...
- نقد المثقف الشيوعي ..مخيلة العنف، من النفسي الى السياسي وبال ...
- نقد المثقف الشيوعي..فوضى اللغة والبواعث النفسية للعنف الثقاف ...
- نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد
- نقد المثقف الشيوعي
- محاكمة الأدب الفاشي عالميا
- إنهم يصرعون الله بالضربة القاضية
- تحالف الحكّام الشيعة والكرد: شراكة وطنيّة أم زواج متعة؟
- عراقي في لوس انجلس .. الحلم الأميركي والكابوس العراقي


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - سلام عبود - موت الماركسية أو ورطة النصر.... الحلقة الأولى: موت الاشتراكية المبتذلة