أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد مضيه - فرقة ناجية واحدة أم اكثر؟















المزيد.....



فرقة ناجية واحدة أم اكثر؟


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2426 - 2008 / 10 / 6 - 08:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟





عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟






عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟
عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟





عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟



عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟















عطر الدين لا يخمد عفونة الفساد
2- فرقة ناجية واحدة أم أكثر؟
التباين والتعارض في تقديم الإسلام لجمهور المسلمين قديم وتواصل مواكبا لصراعات المصالح أو لتباين البيئات الاجتماعية. في صدر الإسلام ألهمت الدعوة النبوية العرب توحدهم في كيان اجتماعي ، كما ألهمتهم قضية تسمو بها نفوسهم وطموحاتهم. قام نظام الحكم الذي أقره الرسول على البيعة، أي على رضا الرعية، فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. والعربي يجمع بين النقيضين:عشق الحرية على المستوى الشخصي والالتزام بالعرف الذي يقضي بطاعة شيخ القبيلة على المستوى الجمعي. مطاوعة الزعيم القائد، الانقياد الطوعي لرتبة عالية أمر مألوف لدى العرب. وقد اقر الدين الجديد هذا النظام وأسماه " الشورى". نظام الحكم قام على البيعة، أي على رضا الرعية؛ فأصبحت الخلافة عقداً بين الحاكمين والمحكومين. ينتخب الرئيس ويطلب مشورة الملأ من القوم وله أن يتجاوزهم وينفرد بالقرار. واعتبر الرسول قضية الحكم مسلّمة ثابتة على هذا المبدأ؛ فلم يوص بنمط اختيار الخليفة ولا أراد أن يدشن نهجا مغايرا لما ارتضاه للمسلمين في حياته.
أيقظ الوحي في نفوس المسلمين من خاصة النبي ضميراً دينياً قوياً ملتزما بدعوة المعروف والنهي عن المنكر، ملازما للمرء في القول أو العمل أو التفكير. ونزاهة الحكم لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة والرضى والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل ، لا يعرف فتنة ناشئة عن أثرة أو تحكماُ أو إكراها ، ولا يحل مشكلات الدنيا بوسائل الدنيا ، وإنما يحلها بوسائل الدين المعتمدة قبل كل شيء على صفاء النفوس ونقاء الضمائر وطهارة القلوب، وتتخذ الدنيا كلها وسيلة إلى الآخرة من جهة ووسيلة إلى دنيا جديدة تزداد رقياً وصفاءً ونقاءً وطهراً كلما تقدمت بها الأيام من جهة أخرى.

ولما كان العرب يتطيرون، يتفاءلون ويتشاءمون، شأن كل مجتمع بدائي معرفته بالأسباب ضئيلة، يربط أفراده شئون حياتهم كافة بمعتقدات وأساطير وخرافات، سعى الرسول لتذليل المشقة؛ من ناحية أنزل القرآن تحريما للشفاعة بالقبور والأحجار، وبادر الرسول، كما يقول الباحث خليل عبد الكريم، إلى انتزاع الأسماء القبيحة الموحشة المنفرة المحبطة، وركب للأماكن على اختلاف أنواعها أسماء حسنة مليحة سارة مبهجة منشطة ليظل الأصحاب والأتباع في حالة حركة دائمة لا تكل ولا تمل في خدمة الدين الذي بلغهم إياه، ودولة قريش التي أقامها في المدينة. تشكلت حول الرسول أريستوقراطية لم تستمد مكانتها من ثراء أو حسب ونسب؛ بل من بلائها في الالتفاف حول الرسول وتصديق دعوته وترويجها والدفاع عن الدين الجديد. مضى التقليد في عهدي أبي بكر وعمر؛ دعا أبو بكر المسلمين إلى نقض البيعة معه إذا ما خالف أوامر الله ، وحمد عمر ربه إذ تصدى له من بين المصلين من يقوّم اعوجاجه بحد السيف.
غير أن الخليفة الثالث ، عثمان، لم ير في الخلافة تكليفا ًتلقاه من المسلمين يرده متى شاء أو شاءوا، وإنما " ثوباً أسبغه الله عليه، وليس له أن ينزعه عن نفسه، وليس لأحد آخر أن ينزعه عنه، وإنما الله وحده هو الذي يملك تجريده من هذا الثوب يوم يجرده من ثوب الحياة". قدم عثمان الأقارب عند المغانم وائتمن مروان بن الحكم مستشاره ، وهو الذي استمر يناهض الإسلام حتى فتح مكة وأطلق سراحه الرسول. ومروان ساند حكم معاوية وأشار عليه بمصاهرة اليمنيين ضد القيسية من قبائل الحجاز، فدشن بذلك نزاعا داخليا تواصل حتى العصر الحديث. ثم قفز إلى دار الخلافة وأبقاها في نسله حتى انهارت دولة بني أمية. وعبد الملك بن مروان، ولده، هو القائل: " والله لو جاءني في مقامي هذا من يقول لي اتق الله لقطعت عنقه".
قريش لم تتخل عن المكر، كانت أمهر العرب وأمكرهم من غير شك. وكان عم يددري بذلك؛ فمنع القرشيين من الهجرة وأبقاهم في مكة والمدينة. قريش تزدري القيم المقررة، وتستهزئ بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، وتستبيح كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة. نظر السادة في قريش إلى الدين وسيلة لا غاية. تحركت النفوس بنوازع الطمع وشهوة التملك والأهواء بما فاء به الفتح من مغانم. بدل اريستقراطية التقوى نشأت وتمركزت في الأمصار وفي مدن الحجاز، مكة والمدينة والطائف،أريستقراطية من الأثرياء الكسالى تملكوا الأموال والعقارات يملأون فراغ وقتهم بالمجون والإسراف بالملذات ويستوردون الزنوج عبيدا كي يعملوا بها. نشأ تضارب جلي بالمصالح . وتكفل فقهاء السلاطين بتفسير النصوص المقدسة أو تأويلها أو تبديلها عن طريق تلفيق الأحاديت ونسج الحكايات الزائفة عن الرسول.
في معركة الجمل كشفت المصالح والأهواء عن ذاتها، وتقاتل الملأ من أصحاب الرسول والمبشرين بالجنة. وأثناء الصراع بين علي ومعاوية شاعت مقولة استحسان" الصلاة مع علي والجلوس على مائدة معاوية". وانفصل عن الإمام علي جمع كبير منهم الخوارج الذين واصلوا المعارضة العنيفة لعلي وللحكام الأمويين من بعده؛ وانفصل أيضا خلق كبير من الأنصار توجه إلى معاوية طمعا في الثروة. ومن بين هؤلاء زياد بن أبيه الخطيب البارز، والذي عمل قاضيا لدى علي ثم كبير مستشاري معاوية. ويقال أن زياد هذا طلب من ستة علويين أسروا سب الإمام؛ ولما رفضوا أمرهم بحفر حفرة في الأرض إلى أن جاوز عمقها ارتفاع قامة أطولهم؛ ثم أمر بدفنهم أحياء في الحفرة. واستمرت ضلالة شتم علي من على منابر المساجد زمن بني أمية إلى أن ألغاها الخليفة عمر بن عبد العزيز. وفي خطبة جاءت بمثابة تدشين لدستور الحكم الأموي، أحدث زياد بن أبيه قطعا مع المنهج النبوي مؤولاً الخلافة سلطانا مطلقا وملكا عضوضا أدواته الإدارية والفكرية دنيوية ؛ إنما تأخذ الغطاء الديني : " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا". فرض معاوية الجبرية فلسفة للحكم، حيث أقدار الناس مسيّرة بما لا إرادة للبشر فيها. "لو لم يرني ربي أهلا لهذا لما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن فيه لغيّره." والجبرية بطبيعة الحال تناقض ما ورد في نص القرآن الكريم من نواه وأوامر. فقد تعهد الوحي الإلهي الناس بالنصح والتوجيه والتقويم: " مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (النساء 79)، " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (سبأ 50) . ورغم هذه النصوص المناهضة للجبرية، تواصلت هذه فلسفة للحكم وللحياة البشرية مع تعاقب حكم الاستبداد في العصور الوسطى والعصر الحديث. إغراءات المنفعة الدنيوية وضعف الإرادة يضلان عن الصراط المستقيم. هيمنت أنظمة الحكم على مقدرات الناس واستأثرت النخب الحاكمة بالثروات العامة، وفي معظم الحقب فرضت أنظمة السخرة واشتطت في التعسف في نهب جهود الكادحين.
مرحلة الخلافة الأولى تخللتها صراعات فكرية اتخذت الطابع الفقهي. فالدين الجديد ما زال قويا في الضمائر وسيرة النبي طرية لم تزل ، والدولة الجديدة أحدثت تطورات اجتماعية أسفرت عن تمايزات سببها المكانة الاجتماعية وتنوع المكان والبيئة السكانية. تطور التشيع للإمام علي بزخم قوي ردا على فجور الحكم الأموي في التشبث بالخلافة. ناهض الشيعة الأمويين بتفضيل علي فواجههم أهل السنة بأحاديث صنعوها في فضل أبى بكر وعمر ، واخترع بعضهم أحاديث في فضل الصحابة جميعا ليكيدوا للشيعة. فحسب تقديرات العلامة احمد أمين في كتابه فجر الإسلام فان " الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" . وفي تفصيل ذلك أكد أحمد أمين في كتابه" فجر الإسلام" ص 214،" كما أكد هذه الحقيقة الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق في كتابه : " القرآن والنبي" .
في هذه الأثناء تطور علم الكلام على أيدي البعض من المعارضين، أمثال معبد الجهني تلميذ أبو ذر الغفاري و الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي . لم يتسامح الحكم الأموي مع أي منهم، وانتهوا نهايات مفجعة. توجه معبد الجهني إلى الزاهد حسن البصري، وساله يستحثه إلأى النهوض: ما رأيك في قوم ينهبون مال المسلمين وينكلون بهم ويزعمون أنه من عند الله ؟ وأجاب البصري : كذب أعداء الله! الكتفى الحسن البصري بالزهد دليل احتجاج. ومن قبل استمر أبو ذر الغفاري يكرر: بشّر الأغنياء بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . وبدأت ثورته التي لم يستطع احد إخمادها وراح يندد بالسياسة الخاطئة المتبعة مثل كنز الأموال وإعطاء هذه الثروات لشخوص معدودة مقربة من الحاكم وعدم توزيعها على الشعب بالعدل. بدأ يناشد بأفكاره المساواتية في الشام وفي حضرة معاوية علناً ويندد بسياسته وسياسة الخليفة المتبعة، ولم يأبه من شيئ وظل ينتقد سياسة الدولة المحابية للأغنياء, إلى أن ضاق معاوية به ذرعا وبعثه الى عثمان. واصل ابو ذر الغفاري الطعن بعثمان لأنه أطلق يده قي مال المسلمين واستعمل الأحداث وولى الطلقاء( مشركي مكة ممن استمروا يناهضون الرسول حتى فتح مكة وأطلق سراحهم) وأبناءهم على عامة الشعب حتى ضاق به عثمان؛ فأمر بنفيه هو وابنته الى صحراء الربذّة، حيث أقام بها حتى مات غريباً وحيداً ومنفياً دفاعا عن المنهج النبوي، كما استوعبه.
مضي معبد الجهني على درب أستاذه إلى أن اعتقل وقتل. وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز أطلق يد غيلان الدمشقي في أموال بني أمية وكنوزهم ومقتنياتهم. صاح بعد صلاة يوم جمعة : تعالوا إلى أملاك الظلمة ، تعالوا إلى أملاك من استأثروا بأموال المسلمين !! وراح يبيع المقتنيات بالمزاد العلني. بعد رحيل عمر، ولم يستمر حكمه سوى عامين، نكل الأمويون بالفقيه الجريء، قطعوا يديه وساقيه فلم يتوقف لسانه عن طلب التغيير فقطعوه ومات شهيد الجور على عدالة الإسلام.
أما الجعذ بن درهم ، فبعد ان اختتم خالد بن عبدالله القسري خطبته فى يوم عيد الأضحى من عام مائة وأربع وعشرين للهجرة( 15 / 10 / 742 من الميلاد)، بالقول "أيها الناس : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإنى مضح بالجعد بن درهم !!! "... ترجل من المنبر شاهراً سيفه ، ميمماً وجهه شطر أسيره " الجعد " الذي كان مقيداً في أصل المنبر ، ليضع سيفه على عنقه بكل قسوة ويذبحه كما يفعل الناس بأضحياتهم على مرأى الآلاف من أهل مدينة الكوفة الذين احتشدوا لأداء صلاة العيد بمسجدها الجامع. لم يكتف الوالي الأحمق بجريمة الاغتيال، فأمر بإرساله إلى جهنم واضعا نفسه مكان رب العالمين.

من جانب آخر، تجاوزت قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة، وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر. ومع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 هجرية، الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ظهر الفقهاء يحملون راية المطالبة بالعدل، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التي كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الفقهاء وحفظة القرآن ). ثم تلقف الحارث بن سريج راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية.
وفاجأ العباسيون الناس بسلوك أشد قسوة من الأمويين. كان أول ضحاياهم أنصارهم ممن قادوا معاركهم المظفرة، فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور. فهو الذي قضى على أبى مسلم الخراساني، وهو الذي قضى على الرواندية، وحارب أتباع أبى مسلم الخراساني فى أقاصي الشرق، وعذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه. وتصدى الحكم العباسي لثورة الزنج في أهوار البصرة والتي نشبت تطلب العدالة الاجتماعية المغيبة . ثم انفجرت الثورة الخرّمية ونشطت حركات الاسماعيلية وحركة القرامطة، وكلها تنشد تطبيق ما في الإسلام من مساواة بين الأمم وعدالة وتكافل اجتماعيين.
ارتكب خلفاء بني العباس جرائمهم بفتاوى دينية يصدرها أتباعهم من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد في الدين على الخليفة. نقل أبو عمرو الأوزاعي ولاءه من الأمويين للعباسيين وأفتى بقتل "المرتد عن دينه"، كي يبرر الحملات الدموية ضد بني أمية. والفتوى تناقض النص المقدس، حيث يأتي القرآن على ذكر الردة ولا يقرر لها عقوبة دنيوية وإنما عقوبة أخروية. والنص المقدس صريح في القول " لا إكراه في الدين" ، لكم دينكم ولي دين " و " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ثم إلى ربكم ترجعون .."، وآيات بينات أخرى تنهى عن الإكراه في الدين. وما من واقعة مؤكدة تشهد ان الرسول أجاز لنفسه مخالفة حكم القرآن؛ بالعكس من ذلك ، فإذ نبهه القرآن إلى وجود منافقين حوله منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف، لم يعرف عنه أن اتخذ إجراءا ضد المنافقين ممن يعرف. علاوة أنه سمح للمرتدين الذهاب بسلام إلى مكة..
وآيات بينات أخر قطعت بأن الرسول لا يعلم الغيب؛ ولكن الأغراض الدنيوية وضرورات الإذعان للجور وتحمل المحن الاجتماعية النازلة من الحكام دفعت فقهاء الظلام للافتراء على الرسول، وتقويله ما يبعث السلوى الزائفة والخنوع في قلوب ضحايا الظلم والقهر والاستلاب، باعتبار ذلك قدرا من الله لا يرد. فقد ورد في القرآن الكريم أكثر من مرة أن الرسول لا يعلم الغيب: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ َّ (الأنعام ) ، " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " (الأعراف 188) ، " قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ"( الأحقاف 9) ، " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ"( الجن8) . وما أكثر المحن التي تتالت على المسلمين وسوف تحدث في ظل اختلالات الحكم وجيّرت قدرا لا راد له بمقتضى "نبوءات" مسندة للرسول. والله لا يقبل الضر بعباده. ما يتوجب توكيده هو أن الله لا يسيرّ الناس إلى الخطيئة ، وإنما يسيرهم إلى الصواب ، وعلى لسان هود ورد في القرآن الكريم قوله: " ان ربي على صراط مستقيم ".
لكن العقلانية لم ترفع الراية البيضاء؛ تواصلت في الفقه والعلوم والفلسفة. اشتهر الإمام أبو حنيفة النعمان في التاريخ الفقهي بالخروج على أئمة أهل السنة والجهر بجواز الخروج على الحاكم الجائر. أفتى بأن الخلافة لا تورث ولا تكون بالوصاية و لا تفرض على الناس بالإكراه، و لا بد من البيعة و أن تكون حرة بالاختيار و له في هذا قول مأثور: "الإمامة تكون باجتماع المؤمنين و مشورتهم". وعلى النقيض من الأوزاعي اعتزل ابو حنيفة الأمويين ثم العباسيين وجلب على نفسه سخطهم؛ إذ لم يكن الرجل ليخالف فعله قوله. رفض محاولات السلطة المتتالية لشرائه و رفض تولي القضاء مرارا،و عندما أصر عليه أبو جعفر المنصور أصر هو على رفضه و حبس في ذلك و عذب دون أن يساوم. هنا نرى أبو حنيفة النعمان رجلا يرى مهمة المؤسسة الدينية في حركتها و إنتاجها الفكري في حفظ حقوق العباد والمجتمع (جماعة المسلمين) ويرفض تبعيتها للسلطة. وتقول بعض المصادر أن الإمام أبو حنيفة بايع محمد ذو النفس الزكية ، وكان من قبل قد بايعه أبو جعفر المنصور ضمن جمعية سرية جمعتهما وتعد لقلب حكم بني أمية؛ غير أن الإطاحة بحكم الأمويين مضى في طريق مغاير، فآلت الخلافة لأبي جعفر المنصور، الذي لم يأمن جانب محمد النفس الزكية وظل يكيد له إلى أن ظفر به ونكل به .
نادى أبو حنيفة النعمان بالاستحسان العقلي؛ وبذلك قدم العقل على النقل المتمثل في باعتماد الأحاديث وأكثرها مدسوس؛ ثم طور المعتزلة العقلانية فقالوا بحرية الإرادة وبمسئولية الفرد عن أعماله.
وتحدى عبد اله بن المقفع استبداد الخليفة فوضع على لسان الحيوان انتقاداته اللاذعة لتردي القيم بسبب الاستبداد:" وجدت أن من لا مال له إذا أراد أمراً قعد به العدم عما يريده . ووجدت الفقر رأس كل بلاء ، وجالباً لصاحبه كل مقت ومعدن النميمة . وجدت الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً ، وأساء الظن به من كان يظن به حسنا. فإن أذنب غيره كان هو للتهمة موضعاً . وليس هناك من خلة للغني مدح إلا وهي للفقير ذم . فإن كان شجاعاً قيل أهوج ، وإن كان جواداً سمي مبذراً ، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليدا". فهم الخليفة الرسالة وعاقب المرسل بالموت."
في عهد المأمون،غد ا الاعتزال المذهب الرسمي للخلافة، واستمر ذلك ستة عشر عاما في عهود المأمون والمعتصم والواثق، "تولى المعتزلة المناصب القيادية بما في ذلك منصب الوزير الذي شغله أحمد بن دؤاد. وهذا لم يغير إيديولوجية الدولة القائمة على التوحيد ووحدانية الشريعة ذات المصدر الإلهي الواحد". أولى الفكر المعتزليّ قيمة عليا لإرادة الإنسان باعتباره متميزا عن بقية مخلوقات الله بالعقل، وهو مسئول أمام الله في الدار الآخرة، ولا يستقيم مع العدالة الربّانية أن لا يتمتع الإنسان بحرية الإرادة كي يستحق حساب الآخرة. أولى المعتزلة للعقل دورا مميزا في فهم الشريعة، وتفسير الظواهر حسب مبدأ السببية.

في كنف تغليب العقل على النقل، تطور علم الكلام والاجتهاد على أيدي الحسن البصري وواصل بن عطاء، وأشيع حوار أعلام الفقه وأئمته، وأبدعت الحياة العقلية اجتهادات الأئمة الأربعة، ثم تبلور الفكر المعتزلي، إلى جانب علوم اللغة والفلسفة وعلوم الطبيعة والعلوم الإنسانية. تطوّر العلم التجريبي في الثقافة العربية – الإسلامية، وظهر أعلام في الطبّ والرياضيات والفلسفة والأدب والنقد الأدبي من بينهم البيروني والرازي وابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا والأصفهاني والجرجاني والفارابي وابن طفيل وإخوان الصفا وأبو العلاء المعري وأبو حيان التوحيدي والرازي وابن رشد وابن خلدون. توصل هؤلاء إلى الحكمة من خلال التجريب وإعمال العقل. لم يدّع أحد منهم أنه اكتشف "إعجازا علميّا في القرآن"، شأن المتطفلين على علوم الغرب في عصرنا المسخوط بالوهن والشعوذات.
لكن حقبة ظلامية امتدت قرونا متتالية وابتلعت في جوفها كل منجزات العقل في العلوم والفقه والفلسفة وغيبتها من الوعي الاجتماعي ومن التراث. كيف بدأ التدهور وكيف مضى ؟



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يذهب عطر الدين عفونة فساد الحكم؟
- يجدفون وسط دوامة العولمة
- نتظر من عام القدس الثقافي
- النزاهة وحرية التجمع في فلسطين
- كبق نستثمر البنية الثقافية لمحمود درويش
- تصعيد المقاومة مسئولية قوى الديمقرطية
- الثقافة العربية في فسطين البدايات والإعاقات (4من 4)
- رفيقنا الذي رحل عنا
- الثقافة العربية في فلسطين البدايات والإعاقات 3من4)
- الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد ال ...
- -الثقافة العربية في فلسطين ( 1من 4حلقات) البدايات والإعاقات
- خنق الماركسية من خلال احتضانها
- نكبة تفرخ نكبات وكوارث
- النضال الطبقي في البنية الكولنيالية-3
- النضال الطبقي في البنيةالكولنيالية
- من ركام المحنة تنبت العقلانية
- النضال الطبقي في البنية الكولنيالية
- خطورة الفساد تتجاوز إهدار المال العام
- الأرض في المشروع الصهيوني
- الاحتلال يعزز مواقعه في العراق ... ولو بصعوبة


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد مضيه - فرقة ناجية واحدة أم اكثر؟