لا شك أن كارثة هولير ، يجب أن تكون قد فرضت - كردياً - شكلاً جديداً ، أو بداية لفهم جديد في منحى التعاطي السياسي / الثقافي الكردي مع استحقاقات عملية التغيير ، بمعادلاتها السياسية والثقافية والاجتماعية في المنطقة ، وكذلك تناول قراءة مفردات الواقع ، من حيث الآفاق والأهداف والأشكال والمرامي ، وفق رؤية سياسية / معرفية ، تستند في ركائزها الأساسية على تجليات العامل الذاتي في الحاضن الكردي ، ومن ثم ربطه بالظروف والعوامل الموضوعية الأخرى . بمعنى ، أن الثابت في السياسية الكردية يجب أن يتمحور في جوهره ، حول كيفية الارتقاء بالبنيان المجتمعي الكردي ، وسبل القضاء على مجمل المعوقات ، التي تشكل البعض منها تراكمات تاريخية ، قد يؤدي الاستمرار فيها ، وعدم تجاوزها ، إلى ممارسات قد تكون كارثية في المستقبل ، سواء على الصعيد الفكري أو السياسي ، أو على الصعيد المجتمعي .
عطفاً على ذلك ، وإذا أردنا أن نتناول الحدث ( الكارثة ) من زاوية نقدية ، والذي نعتبرها جزء من عملية المراجعة التي لا بد منها ، ونستند في تحليلنا على بديهيات المنطق ، الذي لا مكان فيه للعواطف والمشاعر والمحاباة ، نستطيع القول ، أنه ، وبغض النظر عن مجمل العوامل الأخرى التي ساهمت في ترتيب الأجواء وتهيئة المناخات لفكرة الجريمة - والتي كانت موضوع مقالنا السابق ( الرهانات الخاسرة ) - ، فإن العامل الأساسي الذي مهد لأن تأخذ طريقها إلى حيز الفعل ، هو الثقافة القبلية المتعشعشة بنسبة لا بأس بها في الذهنية السياسية الكردية ، والتي من سماتها البساطة في التعامل وعدم أخذها للأمور بحاملها العقلاني . هذه الثقافة التي جّرت وما تزال تجّر بويلاتها - منذ أن تفتحت الذهنية السياسية لدى الشارع الكردي عموماً ، وتبلورت لديه النزعة القومية التحررية - على الأداء وشكل التفكير السياسي الكردي . والتي غذت - هذه المرة أيضاً - الروح المعنوية لدى الطرفين الشقيقين في كردستان ، لأن تتجرأ وتفتح صدرها عارياً أمام المهنئين بالعيد ، لتتحول بعدها إلى كارثة جديدة تضاف إلى سجل الكوارث المجتمعية في الحالة الكردية . خاصة في هذه المرحلة ، التي يجب أن يعي فيها مهندسو السياسة الكردية ومصادر قرارها ، على أنها أخطر مرحلة تواجه القضية الكردية ، والبعد القومي السياسي الكردي . لأن من دلالات ما يجري في العراق ، وما سيتمخض عنه من نتائج ، ترسخ حقيقة عيانية غير قابلة لأكثر من تأويل ، وهي أنه ، إذا كان هناك من متضررين من التحولات التي تجري في العراق ، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي ، فإنه ، وإضافة إليهم ، تعتبر الذهنية المجتمعية السائدة في المجتمعات التي تشارك العيش مع الشعب الكردي ، والتي تربت على مخططات وثقافات سلطوية ، شوفينية وحاقدة على الحالة الكردية ، هي الأخرى نفسها - وهماً - أنها المتضررة من تبلور الطرح السياسي الكردي . وإلا ، فسوف نعجز عن إعطاء تفسير منطقي ، وإجابة شافية للتساؤل الذي يطرحه الشارع : كيف حصل كل هذا ، والشارع العراقي عامةً يشهد حالات من التوتر واللا استقرار..؟! . بمعنى أن قليلاً من الحذر والدراية كان كفيلاً بتجنبها .
نعود ونقول ، بأن الحالة الكردية عموماً ، وفي العراق خصوصاً ، أضحت من صميم المتغيرات التي تتبلور شيئاً فشيئاً في المنطقة ، وهي على تماس مباشر بمنظومة ما ستفرزها تداعيات التغيير ، إن لم تكن في قلبها . وبالتالي ستكون في مقدمة استهدافات المخططات - إن لم يكن الدخول من خلالها - التي تحاول عرقلة مسار الحدث التغييري ، بهدف تجنيب نفسها من دائرة الحدث ، ومغبة استحقاقاتها ، وبالتالي - والحالة هذه - فإن المطلوب كردياً ، العمل على جبهتين متوازيتين مترافقتين ، يتجسد أولهما في تعزيز وترسيخ الفهم القومي للموقف السياسي ، والذي يتطلب أولاً وأخيراً الارتقاء بالعامل الذاتي ، والذي من متطلباته ، إعادة النظر في البنى السياسية والأطر الحزبية ، ومجمل المواقف والسياسات المتبعة ، وشكل التفاعل والتعاطي مع متطلبات الحدث التغييري . بمعنى آخر هدم مرتكزات الثقافة القبيلة في بناء الموقف ، ورسم المستقبل السياسي للمشروع القومي الكردي . ويعني ذلك الانفتاح على الشارع ، وخاصةً الفئات المتنورة ، وإشراكه في عملية الهدم والبناء ، للوصول إلى إنجاز وتحقيق مرجعية قومية ، تفكر في الهم القومي بعيداً عن المكتسبات الفئوية . هذه العملية التي لا يمكن التكهن بنجاحها ونتائجها ، وتحقيق مراميها ، بالاستناد على الأشكال السائدة في الحقل السياسي الكردي من تشتيت الطاقات وفردنة المواقف وانشطار الأطر وعدم توحيد الإدارات .
هذا النموذج من التفكير ، والذي يتجسد فيه العقل الجماعي القومي الكردي ، سيدفع بالعامل الذاتي لأن يتفاعل ويلامس مجمل العوامل الموضوعية الأخرى ، والتي تمثل الجبهة الثانية التي يجب العمل فيهما ، ويساهم في تهيئة الأرضية لأن يشغل في دائرتها موقع قدم فاعل ومؤثر لها .. وبالتالي ، ونتيجة التلازم والتفاعل بين الجبهتين ، فإن الطرف الكردي يكون قد امتلك مفردات قوة الموقف السياسي على طاولة البحث والنقاش .
فوحدة الإرادة والإدارة ، ووحدة الموقف ووحدة القرار ، كلها تعابير سياسية تصب في منهجية العقل الجماعي ، الذي ينسف بالتأكيد رواسب الثقافة القبلية ، والذي يمهد الطريق أمام عمل مؤسساتي وفعل مدني ، إذا ما تم التعامل معه على قاعدة احترام المرجعيات الفكرية والسياسية والثقافية ، والتي من شأنها الارتقاء بالطرح وتعزيز الموقف ، وبالتالي الاستحواذ على احترام الخصم قبل الصديق .
وبما أن الحالة الكردية تعتبر في جوهرها ، تجسيداً لقضية شعب مضطهد ، يناضل من أجل التحرر والانعتاق ، ونبذ كل صنوف القمع والقهر ، فإنها – دون شك – تشكل إحدى الدعامات الأساسية للمحتوى الإنساني لقضايا الحرية والديمقراطية ، وتقف على النقيض من كل أشكال الإرهاب والطغيان والتسلط ، وبالتالي ستكون القوة الحاملة للفكر التنويري الداعي إلى احترام إنسانية الإنسان ، بغض النظر عن المنبت والانتماء ، فيما إذا جرى التعامل معها بعيداً عن استئثارات الثقافات الفئوية والشعبوية ، وهذا ما يقض مضجع الكثيرين من مهندسي المخططات الإقصائية ، لأنهم على يقين من أن مرامي مخططاتهم ومشاريعهم ستنتهي بالفشل إذا ما وعت المجتمعات المتعايشة مع الشعب الكردي على حقيقة ما ترمي إليه المشروع القومي الكردي .