أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - القيامة (تقريبا)















المزيد.....

القيامة (تقريبا)


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2406 - 2008 / 9 / 16 - 03:46
المحور: الادب والفن
    



الشارع مغلق كالهدوء، وباب الرغبة كليل كالرهبة العارية. يتكيء القلب على زجاج مقبرة منسية في الأقاصي، نجومها تحدق في المدى، وأشياؤها الحرى تجلس على حافة من فراغ تغلق مدارات الهواء، وأسراب قيامات تمضي بعيدا حيث تساقط ذكريات بلورية بيضاء ككلاب صغيرة تدق جرس ليل مغمور.كانت القارات نائمة، وحدها أغصان الهواء ترفرف في الأعماق كقهقهة قديمة، تطن في ذلك الخلاء المأكول كعشب الندامى، وترسم خطواتها الذائبة في خيط الانتظار.. قال في نفسه ( وقل من بقيت فيه شذرة نفس ): ما أضيق عباب هذه السفوح الورقاء، هاتيك السطوح الرمادية المتحدة بالخرائب، المغمورة بالضرائب المتشحة بسواد الدماء الحبلى بالدمار...
لا وقت لهذا التعب...
في الشارع رجل باهت يتفسح محموما أو يكاد، لا ظل له تماما كأحلام الصبابة، تأكل المسافات قدميه، كأنما يمشي في المرايا والدروب المرمرية، مشية الخوف المليء بكل فتات الحروب، يتهيأ للموت بين الخطوة والأخرى، قدماه تأكلان صفيح الوقت، الوقت الأرقط المغروز في مجازر المدينة ( المدينة مجزرة، وفي كل صباح يجد المرء نفسه مذبوحا باسم الأعراف )...
قال في داخله: لماذا تركوني لفجوة هذه الريح، تقسو علي الممرات وسائر الغبار المطعم بالآلام، يشرب الوعيد الأنخاب في دمي، وحيد قرن هذه الصخور، تمر الريح ويمضي اشتهاؤها، يلبس الشارع كالحذاء، الحذاء العسكري الرهيب، والمارة يستغيثون، قوارب من هباء تلوح في البعيد، لكنها لا تبالي، تتعب الأصداء في طينها، ويهرب الطريق إلى ضالة ضلاله الراسخ في جلد المدينة، ينام الرجل في الشارع كالعادة وببطء غريب تتقد حواشيه كالكمين، ينفجر دفعة واحدة، والشارع مختبيء فيه يرمقه من شرفته، كي لا ينأى بصدره عن تفاصيل برد الساحة، وتناهى إلى برج الخوف، وبدأ يفكر في الصراخ..

قالت السماء: تعبت يداي، سأضع حدا لهذه الذكرى، وأهرب بجلدي الأزرق ، الأزرق الناضج كاللغو، وهبطت على برية الأرض، وانطبقتا انطباقا، عانقت حرقة الماء أشلاء السماء، ذهب الدوي في دواة الأرجاء، وارتطمت الأفواه بالأفواه، الأنفاق بالأنفاق، الطقس بالطقس، والعسس بخفق الليالي، وضجيج العربات العائمة، وخرج الناس عراة للميادين المهجورة، يقرأون فاتحة الغرق،اختلط المائل بالحائل، والسافل بالغافل، والعاقل بالحابل، والهارب بالهارب، والقائم بالقاعد، وانكسرت هوة المسافات، كانت فلول السماء شاحبة تماما، حين خانتها دفة الأقدام، وزلت بها نحو بركة الأرض، ولما صدمتها أطرافها، كانت مسامها تصطك فتخرج بنات النجوم من مدارها، تسافر في فناء الشارع الطلق، وتغلق يقظتها على المعالم الشاخصة كمدافع عتيقة..

رائحة الرعب الموبوءة تركب الشارع، الشارع مغمض القبض، وحده الرجل الفالت من الفجوة يلهث، ويتلاشى دبيبه في باحات من فقاعات متوردة تتراءى بعيدا ولا تقترب، لا يصدق أن مسامير الليل تثقب هجيع الشارع ورائحة الجثث الطرية تمل مجاريه كالنسيان. فكر في أن يبتسم أو يخدع صرخته النائمة، ويخاتل صمته المتثائب، وعض على ذكريات هشة نهرته يطل منها وجه طوفان غزير أو قلق من الغبار الثقيل، واستجمع بقاياه كقبضة الأرواح، وقال في داخله ( الفضاء الوحيد الذي ظل بعيدا عن عيون الداخلية المحيطة بكل الأسرار ): إني عنقود هذه القلاقل المغروسة في الكف، المجد لسفائن الفتنة، إنما أضع يدي على رعشة الإسفلت، لتسافر الأطباق وأكوان الحطب الميمون... بينما كانت تترجرج المنارات والأسوار، وحدود العاصفة التي تخبو في قبضة الأفق الأليفة..

قالت الأرض: ياعراء هذه الزرقة، من براك أيها القبو الظاميء، إذ تضايقت أفنانها، توسدت ظلالها وترامت، تشتت وريقات،أشواكا،وارتدت أواحتدت،أوامتدت بألوانها، وغمرت خارطتها، وقدت طعمها، خرجت الشمس من صدأ الليل خرقة من جمره القاسي، وارتدت غفوتها، ضاقت الكائنات منها، كانت الدبابات والمصفحات والمدرعات والغيوم الاستطلاعية تزحف اشتدادا، والدروب والجوارح والكواسر والمواخير ترتعد من فرق هذا الانقلاب.يستفيق بغتة ويمسح طاولة السكينة، واستيقظ الناس كل ذلك الصباح على شظايا صغيرة من زرقة ندية تذروها الريح، وتملأ سحنة الشارع، وأفخاذ الأرض اللزجة كأوراق دفتر منبوذ..

أوصدت الآلهة أبوابها، واندفق الغضب عاليا، وانطفأ ومض العيون الشاهق، وارتدت الصيحات للصيحات، والموج للموج، وهرب الناس للناس باتساع فوهة الخواء للمجالس والحانات والمساجد المحمومة، والملاعب المعشوشبة، والمسالك الخضراء، والمدارس الطافية، والقاعات المغطاة، والخيام المنثورة، والمخافر الثرثارة.. فألفوها خرابا تنام فيها صور آسنة ركدت من تجاعيد الركض ومياه جارفة كالطاعون، وكانوا على الأرجح لا يتقنون فن العوم، فاستنفرت الدولة الظافرة الرجال رجال الإطفاء والإنقاذ، والبيادق والبنادق والمرتزقة وقوات التدخل السريع، السريع كنظرات الأعداء، ولكن أحدا لم يفلح في وقف أقواس النزيف، أو يضمد أطراف الجرح.. كانت السماء تتلاشى كالرنين في عبوة الأرض وتتبدد رويدا رويدا كالدمعة المنفوشة..

كانت الكائنات تصرخ، لكن مهب الإعصار كان يلف الأشجار والأحجار، وزريبة العالم، وكان ثمة طيف بخار غير مرئي يتصاعد من حطام السماء المقشرة، كأنما هو رداء يسع الأفق.. كانت الجبال مجللة بثلج اللهيب، أجنحتها الراحلة تمضي في كأس الجرح، وأرداف السماء تتراءى من الداخل كبرميل مثقوب، وهب الناس لمائدة الفراغ العريق يتهافتون على التقاط فتات الزرقة المتناثرة في أعاليها، ويمضون في الأغوار تنقيبا عن نفط جديد أو حلم قديم، عن اللؤلؤ والمرجان والضرائب المباشرة وغير المباشرة تحدوهم، ولم يفلحوا في لوعة القبض، كانت الجبال يوما عن يوم تتآكل في زحمتها سيول زرقاء حامية، تهاجر نحو الأسفل وتجرف الشارات والقمامات والبلديات الخرافية والمجموعات الحضرية المسمومة، والوصايا الآكلة طالعة وهابطة..

خرجت الشياطين من الأغلال، وباعت الأرض مهادا، عاثت في رمانها فسادا، جاء الكساد من كل الجهات ( لهذا الوطن وجهه وقفاه، ففي أي الجهات أنت )، وعم الغباء والغلاء، زاغت التيجان عن الهام، وصار الوالد يجحد بنيه، والربع ربعته، والصمغ ضفائره، والعين معماها، واستشرت الغفلة بين البائع والشاري، وأكل السيف قصعة الرقاب، وقال الإنسان للإنسان في تلك الغداة لم تف هذه الأرض بوعدها، لتكن كل هذه الجسور في ارتقاب يد تستطيل لتنفث خيل الروح في غمد المأسدة ، أكل هذا ما تحلم به هذه المراكب الملقاة في قلب الزوبعة... ظل مع ذلك الأسد أسدا، والسراج سراجا، والذئب ذئابا، ولما لم يكن من القتل بد، خرج المحاربون الأوغاد من حمم المدن المكسورة سودا، وأمعنوا في أودية الدم، ودقائق الرعب وبوادي السفاح، كان منهم المجاهد والمرابط، والبوجادي والمقدم والوازر والمستوزر، والشيخ والمريد، والعاشق والحاقد،والساقط والدجال، والبوحاطي،والشقي والسعيد.. أبطلت يومها السماء شرائع الأرض، واستسلمت في قبضة عين، مات هواؤها، غار ماؤها، وبدأ نورها يكبو بعيدا باتجاه معاول التيه، وانهارت الأنهار، والنهارات، وتحدث الملأ بعد ذلك عن فرسان غرباء يأكلون لحم آدم في حضرة حواء، ويشربون دماء بنيهم، ويتلذذون بعرق قيظهم، عن جنود صناديد، وتجار الأسلحة والأضرحة، وقطاع طرق بزي قطاع خاص أو مضاربين يتناسلون كالأنبياء، تأتيهم حمى الوحي البكرة والأصيل..

شبرا وراء شبر، كانت أجراس القيامة تقترب، الشيء فالشيء، الذروة فالذروة، وبات الأطفال يتهجون تعاويذ الرمل، والصبايا في ارتقاب خلاخل نجوم هاربة، وهلت مواقد الفناء كالمطر المفاجيء، قضمت رغبة السماء حلمات الأرض الضائعة، وتهارج الناس كصديد العاهات، شاءت الأقدار أن ينبت في كل صدر قبر، وفي كل بيت مأتم، وفي كل مأتم دخان، وفي كل دخان غيم، ومن كل غيم كانت تشتعل حروب داخلية صغيرة أو كبيرة تستعجل الدمار...واستمرت الحال على ذلك، وكان الناس يمضون ولا يبالون، أيديهم على رؤوسهم، أسرى شباكها، فقيل: الأرض لمن يمشي عليها، والسواقي لمائها، والماء لمجاريه...
وانشقت السماء ( كذلك قالت الأرض لمدارها: أتدري كم يؤلمني هذا النبع، وأنا لا أطيق هذا اليبس..كم عدد هؤلاء الموتى، يمضون من غير وداع ويشرحون صدرهم للنسيان ) وخرجت دابة الساعة تنادي في الناس:
ـ إني حامل هذه الأرض على ظهري، هاربة بها من قبضة الجمر، وها أنا أدلكم على صبري. قد تعبت. غضبي لكم..
وارتجت الأرجاء جداول من خراب تجلجل في برية الكون الكليلة. تقدمت الدابة قليلا، هوت على كرة الأرض، ألقت بها رمادا، بعيدا نفضت ماءها ومرعاها، شقتها الشقين: الشق البارد والشق الحار، وأغلقت منتهاها..
وهناك استيقظ الرجل في لبدة الشارع، وقال بصوته العالي: هذا بيتي. ولما لم تكن هناك حياة، دلف إلى داخله، وارتاد ركنا قصيا فيه، ونام فيه كنبي مهزوم.

1997.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخوف
- لقاء
- ولاء
- الضاحية
- الثلاثة
- الشجرة
- النفس غير المطمئنة
- فصول المودة القديمة
- حالة شبه خاصة
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله


المزيد.....




- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - القيامة (تقريبا)