أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - الثلاثة















المزيد.....

الثلاثة


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2395 - 2008 / 9 / 5 - 04:54
المحور: الادب والفن
    



( إلى الأحبة: بوطيب، وإسماعيل )

كنا ثلاثة نعبر انحدار الليل، أطلال صداقات ميتة، وغسيل ذكريات تمعن في جريد القلب. الليلة هادئة كالأنقاض، ليلة شتاء مقلوب تطاول في خليجها أشلاء دوار قطبي يتمسح الجدران ويأكل أعماقها، وكانت في الأفق سحائب عمياء تخترق فوضى الرحيل. ساعتها ارتد رذاذ أوسع لمراكب الوجد، واستوت شارات الليل بذاكرة النهار. قال الثالث: لعلها ارتوت غابات المشي. تسير هذه الأرض الهوينى. تعرف طريقها ولا تلتفت إلى الوراء.

وسرنا الثلاثة. كانت المدينة غارقة في سفينة عومها، خرير نومها المتثاقل يدب في الخلاء دبيبها، والصمت القائظ يأكل ظلالها. الدروب الساقطة المتوردة هتفت بها أسواق طفولات تلعب في رأس الدرب، وأطفال تتعب في لغتهم الصغيرة فتنة الأحجار. لا طريق غير طريق الحانات. في هذا المعبد القديم تغسل الأيام صوفها، وتفتح اللذة كوتها لا شتباك النهر. ألا إن الحانات لله...
الصرخة المدوية في أطراف المدينة يحاصرنا صهيلها العانس، وفي الطريق الصغير كان المدى يطوى طي البكاء، تتهاوى منا الخطوات مهرولة في وشاحه، تستطيل الميمنة أو الميسرة، كل ارتقاء الغايات كان يبرر الخوف، ويرعى نخلة الهروب، ومشينا. الطريق البعيدة أقرب من القرب أو الصمت، كان البرهة البرهة يرتوي من ضيقنا، والأسرار المذعورة التي كانت تترقرق في حواشينا، فاتها وجه الزحام المتآكل، ونباح الأحذية المباغت إذ ترتطم أسنانها بجلد الرصيف...

كان المساء يلبس خوابيه، ويمضي في هدوئه الداكن كالجواري. وصل الثلاثة انتظارهم بعض الوقت، أضرموا عنان الحرب، وبدأ باب الترصيع، كانوا يهربون، كأنما كتائب تتعقب قطافهم، وتحفر التاريخ نحو أمانهم بالقوة والانكسار، كانوا يعاقرون خواء اللحظات البورية، هذه التي تتسلل من أبراج الوقت المشوي كالأحلام الكبيرة. كانوا يشربون كالبدو، وتتساقط الزجاجات الفارغة كضحايا حرب قديمة، تتناثر الخوذات وحطامها كرماد الأسواق، والحديث المصطخب يجري، وشوكة الاشتهاء بلا وعد كان يراود كل الأبواب المختومة ـ حرية الشارب أوسع ـ طالت ذوائب الليل واستطالت أمواج الطقوس، وتوارت أعصاب الكلام في غموض تلك السماء القانية، القاتمة التي كانت تشد الأركان...

أغلقت الحانة مصراعها في سراب الليل، وخرج الثلاثة للساحل الأقصى، واحدا واحدا تعتريهم شموس انكسار رهيب، تخفق منه الأرجاء وأغصان الضباب الأليم الذي كان يجلل حبال الطريق...

في الطريق كنا نميل كالعناقيد المترهلة، ومن كل مكان كانت أحجار الكلام ترتج، قتلنا هدوء هذه المدينة في السر والجهر. سار الثلاثة تتوزعهم مدائن من بخور ومن رعب دفين، شوارع المدينة بدت مقفرة كالمساجد خارج مواقيت الصلاة. بعض كلاب ضالة كانت تتراءى بعيدا سرعان ما تغيب في زحمة الجدران، الشظايا الميتة التي لاترحم هوانا، والرغبة في الفرح الشاخص حتى الرمق الأخير، أمنيات شفيفة كانت تسري بين الأغصان وتتوكأ على الرمال المستلقية هنا أو هناك. كان الخوف منا ينام على سرير البعاد والصراخ المغري يذهب بعيدا في المدى، يرش غبار مخاض ينام في الأعماق...

في المنعطف الأجرد على جناح الفجأة هبت مناكب الريح، خرج من كومة الطريق الشرطي المسعور، ورجل القوات المساعدة الأخضر، وانفرجت بيننا قباب صمت غريب، وقفا على التو، ضاق الأفق كالثوب الضيق، وارتسمت على الشرطي وهو يقترب منا قبائل من خيلاء، وأسارير من لذة الاصطياد. قال: افتحوا غربة الطريق... فتحنا القلب، وأسوار الصمت المغلوب، ولكنه كان يزداد غيظا، ويتهيأ للنزال. كانت البطاقات الوطنية بالنسبة إليه غير مقنعة تماما، لذلك اضطرمت في دواخله شهوة القتل التي كانت على وشك الخروج من عينيه الكلبيتين. صرخ في وجوهنا:
ـ أيها الأعداء، الكلاب، السفلة، ما أغراكم بقميص هذا الليل، أيها الأجلاف، الصعاليك الحلاليف..
كان يكيل الشتائم بالجملة والتقسيط، ويبصق في وجوهنا...لعن الله دين أرض تؤويكم، دولة تحميكم أيها الأنذال ، الأشرار... ونفد رصيد الكلمات النابية، لكن عود الغضب منه لم يرتو، وهاجت فيه جذور من عداوات عريقة، صفع ذات اليمين وذات الشمال،أوغل في شتم الآباء والأمهات، وفي ضروب الركل والرفس.

كنا الثلاثة نقول: هل هو الموعد، ما بال هذه الحرب بدأت قبل الأوان، نفكر في رصيد هذه الليلة البيداء. وكان رجل القوات المساعدة الأخضر جامدا كالصارية، لا يبوح بما يموج داخله. مرات كانت رغبة ما تدفعه أن يوقف إعصار الشرطي ويفتعل ضحكا أصفر، ولا يقرأ وجوهنا المكتوية كالصحراء، لكن الشرطي كان، الأحيان، يتحسس مسدسه كأنما يهدده، فيتنسم الرجل هواء الله في غضب كبير.
وحين هدأت بعض عاصفة الشرطي، قال رجل القوات المساعدة الأخضر:
ـ أي ثأر بينكم؟ من يكون هذا الشرطي الأجاج؟ هل تعرفون هذا الضلع الأعوج الناتيء في مرارة الليل..
أوصانا بسعة الصدر.كان وحده يتكلم كأن لا يد له على الإطلاق في ما جرى. وتعالى فينا صوته البدوي، بينما كان الشرطي مازال متماديا، ويذهب المذاهب في ألوان السباب، متحديا أعمدة الدولة ورموزها...
كان مع الثلاثة بعض أرغفة من نبيذ، فتح الشرطي هواه للهدم، أهرق الزجاج في عين الرصيف، وضحك حتى أعماقه السوداء. اتقى الله فينا، كما قال، وأسلمنا للهواء والليل... وانصرفنا. كلام ما كان رجل القوات المساعدة يردده وتصلنا أصداؤه كمهرجان قديم..

في تلك الليلة ذاتها، اهتاج الشرطي مزهوا، وكان أن استوقف سيارة سوداء في عرض الطريق، طلب من صاحبها الأوراق، قال الصاحب: لا أوراق. اشتعل الشرطي غضبا، بصق في وجه الصاحب على العادة، بينما ظل هو باردا كالمكان. سأله الشرطي من أي "الإخوة " أو البلاد، هو، لكنه لم يجب، وازداد سعاره، وقرر اقتياده للمركز.
وسار الثلاثة، ورجل القوات المساعدة كأنما لا يبالي. وحينما حلوا بالمركز، أدرك الشرطي أنه أخطأ الطريدة، فبكى، وشكا الحال والعيال، قال : إنه تراب الرجلين،العبد الذلول، الفقير إلى رحمة أسياده، قبل الأيدي والأحذية السفلى اللامعة، وخر على الأرض ساجدا يستجدي متضرعا،.. لكن ذلك كله لم يحل دون أن يسلم لرئيسه الأوراق، أوراقه وسموم المهنة، ويخرج من المركز عاريا كالهواء المنفوش...وظل رجل القوات المساعدة الأخضر وحده يقلب سيرة اللحظات ويتنفس هدوءه المخزني.

1991.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشجرة
- النفس غير المطمئنة
- فصول المودة القديمة
- حالة شبه خاصة
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة
- باب القران
- باب العداوة
- ذكر ما جاء في باب التفويت


المزيد.....




- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - الثلاثة