أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة















المزيد.....

الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 2395 - 2008 / 9 / 5 - 04:51
المحور: الادب والفن
    



(في عالم الجور هذا ، استل˚ انفاسك الماً لتروي قصتي )
وليم شكسبير

انها قصتي .. قصتي وحدي وحسب !.. ذلكم ان شفار الحراب وأنصال السكاكين التي ما فتأت تعيث في حشاشتي وتحز شراييني حتى تخلفني روحاً مفتتةً وجسداً منزوفا !..
منذ ان ندهتني وقالت ( ايها السيد النجار تعال وفكك أول الأحلام وآخرها فتنة ) ، سحقني الهم سحقا واحتلّ جوانحي ، ودنا اليأس مني وشاركني التبغ بصمت مطبق ..
على موعدي جئت ..ورحت اعمل بصمت ..صمت تتوقد فيه الأحاسيس التي يقشعر لها بدني كل حين . كان صمتاً جليلاً ومهيباً يرين على ذلك البيت القديم .. صمت أزرق اللون ..أزرق كالموت يقطعه صرير دفع الآثاث في سيارة الحمل – الواقفة عند باب البيت المفتوح على مصراعيه - من آن الى آن.. الصرير الذي يفرط جوق العصافير على السدرة كلّما اشتدّ .
حين لاحت مني التفاتة من داخل الغرفة التي أعمل فيها، وعبر شباكها المفتوح تماماً ،المطلّ على باحة البيت المكشوفة ، التي تتوسطها تلك السدرة الوارفة ، كانت المرأة تعتمد بظهرها على جذع الشجرة .. ملفعة بالحرير الأسود المفزوع ، راميةً طرفها الساهم مثل حمامات البرّ .
في بعض الأحيان ، نسمع حقائق مؤثرة دون أن تحرك عواطفنا كثيراً . لا لأنها امور مسلّم بها .. لا أبدا بل ربما لكثرة ما نسمع وما نرى ، او ربما لأسترخاء وجداننا وتكاسله !.. وأنا أقول ذلك لكوني أعرف تلك المرأة معرفة لا بأس بها ، دون ان تعني لي هذه المعرفة شيئاً كثيرا . وفي الواقع لم تدفعني هذه المعرفة الى شيء سوى أن أكنّ لها بعض التعاطف والأحترام ..
كنت أعرف عنها مثلاً ان عتاة دهموا بيتها قبل سنين ، وأوثقوا زوجها ، وحملوه مثل كيس ملفوف ، ورموه في سجن يحمل من الأرقام أولها .. التهمه ذلك السجن ولم يعد أحد يسمع عنه شيئاً فيما بعد !.. وعقب سنوات أخر، وكأن الزمان والقتلة لم يتبدلا ، عثر الناس على جثة ابنها مرمية في ناحية ، وسيارته الأجرة مرمية في ناحية آخرى !.. ابنها الوحيد .. ابنها الذي كان يرعاها ويرعى أخته لوحده من بعد أبيه..
أفردت الأم جناحيها وضمّت ابنتها ، وعاشتا وحيدتين منسيتين..
عبر الشباك ، كانت الشفقة والألم يجرجران أنظاري الى المرأة ، حتى صار بامكاني أن أرى دمعاً حجرياً مبعثراً في مآقيها ، وأسمع صدى نشيج ٍٍٍ ضارٍ يتردد في أساريرها المرهفة .
في هذا البيت ، تقاسمت المرأة مع ابنتها رغيف الوحشة والحرمان أياماً طويلةً .. ومثلما يحدث للبنات عادةً ، جاءت سيارات العرس لتخطف البنت من حضن امها على صوت زغاريد الفراق المرير..
أمسيت أعمل ومشاعر متباينة تنتفض في دخيلتي ، وانا أرسل البصر أرمقها بين حين وآخر . بعد طول وقوف جلست بهدوء تحت الشجرة . كانت ساكنة تماماً ، تلك السكينة التي لم تكد تمنع جيشان كارثة تضطرم في كيانها ،
تتأجج من بين عينيها وحتى أنامل قدمها التي تضرب الأرض بايقاعٍ مضطرب !..
ما معنى أن تنزلق من منحدرٍٍ عالٍ وتسقط في الصفر ؟..منطرحاً على ظهرك في الصفر تحدق في القمم البعيدة عبرضباب كثيف وآمالك مبعثرة مثل رميم الفخار في القاع السحيق !.. ما معنى حياتك مطعوناً بمهارةٍ ، ومتضرجاً حدّ الموت؟.. انك بلا ريب لا يمكن ان تدرك جوهر ذلك حقاً الاّ اذا كنت تحتضر فعلا..
هاهي الآن كابية مستوحشة ، مثل أثرٍ تاريخي ناءٍ في البريّة متسربل بملاءة الوحدة القاسية !.. جرداء تساقطت أحلامها ورقة ورقة . وأمسى لا مناص لها من غلق بيتها والعودة الى أهلها لتدفن نفسها هناك الى الأبد ..
تملكني ضيق وانقباض سريع، وأخذت أشعربسخونة تتصاعد في صدري ..وكانت هي تلتف على نفسها وقد جلست الآن على الأرض طارقةً..
وحالما انتهيت من تفكيك الآثاث الخشبية حتى بادر الحمالون برفعها الى الخارج. بينما نهضت هي واجمة ونفضت عباءتها ، كمن أعطى كل مافي جرابه وخرج حسيرا . ثم بادرت الى زاوية من البيت عادت منها بسلسلة وقفل . وما ان جمعت عدة عملي ودنوت منها ،تيقنت انها كانت تذرف دمعاً مرسلاً .
في الشارع كان المساء مهجوراً وقائظاً ، الأضواء الصفراء تنشر الواناً من الكآبة وتفضح نثار غبار عفن . تصاعدت السخونة حتى بلعومي ورحت أحسّ بشيء غروي كثيف داخله ، حاولت جاهداً ان أقذف به .
بعد ان أنهى الحمّالون عملهم ، بادرت المرأة الى اقفال الباب الحديدي . بينما استدرت بوجهي نحو سياج البيت لأصلح هندامي ، ولفت انتباهي دغل غريب لم أره أو أعرفه من قبل ،ناتئاً من أسفل السياج ،يبدو امتداداً لحديقة البيت .نبت يبدأ بوريقات صغيرة تأخذ بالكبر تدريجياً ، ثم تنتهي بساق مستقيم خالٍ من الأوراق ..
تلكأت المرأة كثيراً في اقفال الباب ، وحين رمقتها كانت تنتحب راجفةً ولم يعد بأمكانها ضبط السلسلة !.. كنت أرنو اليها وأنا أشعر بدوارٍ ورغبة في القيء . تقدم منها سائق العربة ، وهوّن عليها ، وأخذ منها القفل والسلسلة ، وراح يغلق الباب ..
بعد لحظات صار الجميع داخل العربة التي هدر محركها . رحت أشعر بوطئة الحر وسورة الغثيان في صدري ، وثقل أقدام تدوس هامتي . بدأ جسدي يهتزّ وساقاي ترتجفان . استندت الى السياج محاولاً عبثاً ان ألقي ما في جوفي من نارٍ ، حتى غامت الرؤى في عينيّ ، وهويت الى الأرض متشبثاً بسيقان الدغل الغريب فاقداً وعيي !.. لا أدري ماذا حصل بعد ذلك ، الاً انني فتحت عينيّ الغائمتين على يد الحمال وهو يفرك صدري ويمسح على وجهي ، بينما وقف الحمال الآخر يستنطقني ..
رفعت بصري بتثاقل نحو السيارة ، وقد فتحت المرأة بابها وألقت برأسها نحوي ، وعيناها الشاخصتان المليئتان بالجمر تسكبان النار في عيني .. على طرف ذقنها كان هناك وشم أخضر يضفي على الوجه الملائكي كآبة عظيمة .. كانت امرأة شريفة كالسماء .. امراة من سكّر الله وتمره الهندي .. كانت توميء اليّ ولا أسمع ما تقول . حدّقت في عينيها متعباً ،فأرتعدت واهتز كياني ، ذلك اني أحسست بتيار حب ٍ جارف يغرقني ويلقيني صريعا .. حب لن تعرفوه ولن تجربوه أبداً ، ذلك لأنه حب من آخر نظرة .

--------------------------------------------
جريدة الصباح العراقية : 27 ايلول 2004 م



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برعم وردة على صدر العجوز
- اسقربوط البحر المظلم
- في أرض رجل ليس مريضاً :قصة قصيرة
- غسق الرشّاد البرّي (قصة قصيرة )
- غسق الرشّاد البرّي
- ضريح السرو : قصة قصيرة
- كرابيت GRABEIT
- هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت
- خلدون جاويد: قلب يغرد بالمحبة
- تفاح العجم
- احتباس
- الرجاء الصالح (الى استاذي د.شاكرخصباك )قصة قصيره
- أللوز ..من ذلك ألجبل أ لبعيد


المزيد.....




- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة