أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ماهر شريف - هل لـ -الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟















المزيد.....



هل لـ -الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟


ماهر شريف

الحوار المتمدن-العدد: 739 - 2004 / 2 / 9 - 07:27
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


لم يعد أحد يجادل في أن انهيار تجارب ما سُمي بـ"الاشتراكية الواقعية" قد وجه ضربة قاصمة للماركسية، وأدخلها في طور جديد من أزمتها الأخيرة التي راحت تتبدى بصورة واضحة منذ سبعينيات القرن العشرين. وأقول الأخيرة لأن تاريخ الماركسية قد ارتبط بالأزمات والاعلانات الدورية عن موتها.

- الطور الجديد للأزمة وملامح التحول
فالأزمة تقبع، كما يرى بعض الباحثين، في جوهر الماركسية، التي تمظهرت بمظهرين مختلفين في آن معا: مظهر تراث ثقافي، ومظهر حركة سياسية، الأمر الذي جعلها تعيش توترا ظهر منذ البدء في الاسم الذي أطلقه أنجلز عليها وهو "الاشتراكية العلمية"، ذلك أن العلم يقوم على احترام استقلالية البحث النظري، وتخضع فرضياته للتحقق التجريبي في استقطاب دعم الجماهير، وفي تسلم السلطة السياسية والتوسع على النطاق العالمي. وهكذا، بتبنيها مبدأ وحدة النظرية والممارسة، كانت الماركسية تخضع نفسها لمعياري حكم  مختلفين. ويلحظ باحثون آخرون، من جهة أخرى، أن أزمة الماركسية، في طورها الجديد هذا، تتماثل، الى حد ما، مع الأزمة التي واجهتها الماركسية في نهاية القرن التاسع عشر، أثر رحيل أنجلز ومن قبله ماركس، والتي تميزت أيضا، كما والحال اليوم، ببروز شكوك كبيرة في وظيفية الثورة وراهنيتها، واحتجاج على الأولوية التي أضفتها المادية التاريخية على العامل الاقتصادي، وتملك الوعي بالطابع الاشكالي وغير المكتمل لفكر ماركس.
وكنت قد انخرطت، منذ مطلع التسعينيات، في هذا النقاش الدائر حول أزمة الماركسية، وأصدرت في عام 1995 كتابا بعنوان: "عن بعض مظاهر أزمة الماركسية" (دمشق، دار الينابيع)، حددت فيه مظاهر هذه الأزمة في ثلاثة رئيسية هي: أزمة "فلسفة البراكسيس"، التي نجمت عن القطيعة بين النظرية والممارسة، وأزمة "علم التاريخ" وأزمة "العجز عن بناء نظرية في الدولة". ثم واصلت جهدي في هذا المضمار وأعددت عدة دراسات تمحورت بشكل خاص حول الاسهام العربي في حقل الماركسية، الذي ظل ضعيفا وهامشيا، وحول آفاق تجديد الفكر الماركسي العربي، وحول إشكاليات تجديد المشروع الاشتراكي، ضمنتها أحد محاور كتابي الذي صدر في عام 2000 بعنوان: "رهانات النهضة في الفكر العربي" (دمشق، دار المدى). وبعد أن شرعت في ترجمة كتاب كورنيليوس كاستورياديس : تأسيس المجتمع تخيليا، الذي صدر قبل عدة أشهر عن دار المدى بدمشق، وجدت نفسي أقف أمام نقد حاد ليس لماركسية ستالين أو لينين وإنما لماركسية ماركس نفسه، انطلق منذ الستينيات، من منطلقات ثورية ووصل الى حد الدعوة الى تجاوز هذه الماركسية لأنها باتت تشكل، بعد أن تحولت الى "ايديولوجية"، عائقا أمام التغيير الثوري.
ومع أن نقد كاستورياديس قد جعلني أنظر الى مساهمة ماركس وأن أسائلها من زوايا جديدة، إلا أن ما أضافه لي هذا النقد من أفكار – لم يكن الكثير منها بعيدا، هو أيضا، عن طوباوية كل مشروع ثوري وأحلامه – لم يهز – كما ذكرت في تقديمي للترجمة – قناعة بقيت متمسكا بها، بالرغم من كل ما وقع، وهي "أن الانسان الذي يحلم بيوم قد تزول فيه أشكال الاستغلال والاستلاب والتمييز سيبقى في حاجة الى الاتكاء على ماركسية جديدة ومنفتحة، تقيم حوارا نقديا مع ماركس نفسه ومع كل الاضافات المستقبلية التي قدمت في الحقل الذي افتتحه، وتسعى بالانفتاح الى الثقافات والمساهمات التحررية والنقدية الأخرى وبمراعاة وقائع عالم اليوم ومستجداته، الى الكشف عما شاخ وتقادم، وعما بقي راهنا، في مساهمة طمحت الى أن تكون وعيا نقديا بالرأسمالية وحاملا لامكانية تجاوزها". ثم أضفت: "حقا لم نعد في حاجة الى أن نطلق على أنفسنا اسم "ماركسيين"، ولا أن نجعل من "الماركسية" مكونا وحيدا لهويتنا الفكرية، ولكن لا بد من الاقرار بأننا قد نكون عاجزين، طالما بقيت الرأسمالية القادرة على التجدد حية، عن إدارة الظهر لكل ما قدم، ولا يزال يقدم، في الحقل الذي افتتحه ماركس قبل أكثر من قرن ونصف القرن".
وقد رجعت مؤخرا الى عدد من المؤلفات الحديثة التي صدرت في السنوات الأخيرة في أوروبا، وبوجه خاص في فرنسا، على مساهمات غنية حول الماركسية وأزمتها ومصيرها، فاكتشفت أن "الماركسية"، التي قال عنها جان بول سارتر ذات يوم أنه "لا بمكن تجاوزها طالما لم يتم تجاوز اللحظة التاريخية التي هي التعبير عنها"، وعرّفها فريدريك جيمسون بأنها" "علم التناقضات الملازمة للرأسمالية"، لا تزال تحتل مهمة على خارطة الثقافة المعاصرة، إذ هي حافظت على بقائها ونجحت في التكيف مع المستجدات التي طرأت، لكن هويتها الفلسفية تنوعت كثيرا وباتت تقف أمام موضوعات جديدة، مثل تدويل الاقتصاد وتأثير تكنولوجيات الاعلام والتحولات التي طرأت على سيرورات العمل الانتاجي والسيطرة الذكورية والخطر الايكولوجي، كما أن مركز ثقلها  انتقل الى العالم الناطق باللغة الانكليزية، وبخاصة الى الجامعات الاميركية والبريطانية. والأهم من ذلك كله، أن العلاقة التي نسجتها الماركسية مع الأشكال المنظمة للممارسات الاجتماعية قد اختفت اليوم وتحولت الماركسية الى مجرد إشكالية نظرية قد تكون مختلفة عن غيرها من الاشكاليات النظرية في كونها تستبطن مشروعا للتغيير المجتمعي بأفق الاشتراكية، لكن دون أن يعرف أحد الى الآن كيفية تخليقه.
ولا يمكننا، بالطبع، أن نعزل هذا التحول الذي شهدته الماركسية عن إخفاق تجارب البناء "الاشتراكي" التي انتسبت إليها، ولا عن التطور الذي طرأ على الرأسمالية نفسها، والتي بينت تجربة الحياة، وبخلاف ما ذهب إليه ماركس، أنها تمتلك طاقة كبيرة على تجاوز الأزمات الطويلة والعميقة التي قد تواجهها وقدرة كبيرة على الانطلاق من جديد على أساس تجديد جوانب معينة في بنيتها وديناميتها. فالرأسمالية المعاصرة، التي حافظت على جوانب أساسية برزت منذ ولادتها، شهدت في العقود الأخيرة ظواهر جديدة أظهرت جدية التغير الذي لحق بها: تكنولوجيات انتاج جديدة، تزايد وزن المؤسسات المالية، تحول أشكال الملكية وأنماط التسيير، تراجع دور الطبقة العاملة "التقليدية" في عملية الانتاج في مقابل تنامي دور شرائح اجتماعية وسطى وتحلل الحدود الطبقية القديمة.. الخ.
وبحسب الباحثين جيرار دومنييل ودومينيك ليفي، تتميز المرحلة الجديدة التي دخلتها الرأسمالية بملمحين رئيسيين: الثورة التي طرأت على أشكال التسيير بالاستناد الى التقنيات الحديثة للمعلوماتية والاتصالات، والنيوليبرالية التي تتوافق مع تأكيد وزيادة سلطة وزنهم، راحت تشوش الحدود التي كانت تفصل البرجوازيين عن البروليتاريين، وتبرز أشكالا جديدة من الهيمنة الطبقية، وتضعف من أهمية العمل المنتج لصالح العمل التسييري أو الاداري، الذي يتوزع على مهمات التنفيذ والاعداد، التي يقوم بها المستخدم، وعلى مهمات التنظيم والادارة، التي يقوم بها الكادر البيروقراطي. وهذا التحول الذي طرأ على العمل، خلق تناقضا طبقيا جديدا قد يفضي الى الدمج بين مهمات المستخدمين ومهمات العمال المنتجين، والى تعميق الاستقطاب بين الكوادر، من جهة، وبين المستخدمين والعمال المأجورين من جهة أخرى. وتشهد الملكية الرأسمالية تحولات شبيهة بتحولات العمل، حيث وسعت النيوليبرالية الفصل القائم بين الملكية والتسيير، الذي جعل الملكية تتمركز في عالم المال وجعل التسيير يتمركز في المنشأة الاقتصادية.

- الثغرات ومكامن الضعف في بنية ماركسية ماركس نفسها
انطلاقا من صعوبة بل استحالة الفصل، لدى الحديث عن الماركسية، ما بين النظرية والممارسة، كان كورنيليوس كاستورياديس قد أشار منذ منتصف الستينيات، الى أن الماركسية باتت، بعد "تحققها"، عصية على الفهم في ظل وجود تنويعات مختلفة لها، تطرح كل واحدة منها نفسها على أنها البديل عن كل التنويعات الأخرى، معتبرا أن تجاوز هذا  التعقيد لن يكون ممكنا عن طريق عودة "خالصة" الى نتاجات ماركس، وذلك لأن ماركس كان هو نفسه قد أظهر أن دلالة نظرية ما لا يمكن فهمها بمعزل عن الممارسة التاريخية والاجتماعية التي تتوافق معها، والتي تتغلغل داخلها أو تشكل ستارا لها. ومن جهة أخرى، عارض كاستورياديس بشدة التوجه، الذي برز لدى بعض الماركسيين ومن أبرزهم جورج لوكاش، والرامي الى قصر الماركسية على منهج منفصل عن محتواه، مؤكدا أن المنهج لا يمكن أن ينفصل أبدا عن المحتوى في حالة نظرية تاريخية واجتماعية، وانه لا يوجد في التاريخ "منهج" متملص من الخضوع لتأثير التطور التاريخي الواقعي.
وتعبر النقاشات الدائرة اليوم في صفوف "الماركسيين"، حول مصير الماركسية ومستقبلها، والتي صارت تتركز بوجه خاص على اكتشاف وتسليط الضوء على الثغرات في نتاج ماركس وأنجلز، عن توجه يرمي الى نزع القدسية عن كل ما تراكم في الحقل الذي افتتحه ماركس، وعن نية لـ"تصفية الحساب" مع هذا الأخير، بعد أن كان "الحساب" قد صُفي مع ستالين ومن بعده لينين.
وتبرز في مقدمة هذه الثغرات والنواقص النزعة الاقتصادية، التي تمحورت حول فكر التقدم المستند الى التطور المتواصل للقوى المنتجة، والتي تركت – كما يرى كثيرون – حتى وإن لم تكن واعية ربما، تأثيرات سلبية على التطور اللاحق للماركسية.
فقد جعل  ماركس من العامل الاقتصادي مفتاحا لفهم تشكل المجتمعات. ومع أنه رفض فكرة وجود  قوانين عامة تضبط حركة التاريخ، إلا أنه قبل بصورة ضمنية فكرة أن مصير الرأسمالية مقرر سلفا بفعل تفاقم تناقضاتها الداخلية، وأن الأزمة الاقتصادية التي ستواجهها ستهئ شروط التحول الثوري للمجتمع. فماركس الذي عاصر أحداث ثورات 1848 في أوروبا، وشهد قيام كومونة باريس، تعامل مع زمانه تعاملا ميكانيكيا مع فكرة وجود رابط بين الأزمة الاقتصادية الرأسمالية وبين الثورة، ونظر الى مهمة تجاوز الرأسمالية بوصفها مهمة مطروحة على جدول الأعمال. وخلافا لما توقعه، بينت تجربة الحياة أنه ليس هناك مثل هذه العلاقة الميكانيكية بين الأزمة الاقتصادية وبين الثورة، وأن ظاهرات من نوع الأزمات الدورية لفيض الانتاج، والافقار النسبي أو المطلق للبروليتاريا، والتفاهم المتواصل لأزمة البطالة، والانخفاض المستمر لمعدلات الربح.. الخ، ليست ظاهرات تعجز الرأسمالية الحديثة عن مواجهتها.
لقد نظر ماركس الى الاستغلال الاقتصادي على أنه نقطة انطلاق ظاهرة المقاومة، ثم التضامن، بين صفوف البروليتاريا، بما يمهد لانتقالها الى النضال السياسي الهادف الى تحرير العمل من هيمنة رأس المال، ولم ير سوى عائقين رئيسيين يعترضان ذلك هما: التنافس بين العمال في سوق العمل، والاثقال الايديولوجية التي يرزحون تحتها، لكنه قدر أنه سيكون في وسع العمال تخطي هذين العائقين على المدى البعيد. ولهذا السبب لم يحلل ماركس بعمق الواقع المعقد والمتناقض للطبقة العاملة، وهو، إذ قدّس العمل المأجور، تجاهل أهمية أنماط أخرى من العمل كالعمل المنزلي الذي تمارسه النساء بصورة أساسية (تحضير الطعام، غسل الملابس)، والذي هو ضروري لتحديد قوة العمل وتهيئة العامل للاضطلاع بمهامه في يوم عمل جديد، كما أنه لم ينشغل بتحليل أوضاع العائلة العمالية.
ومن جهة أخرى، استهان ماركس بخطورة النتائج الايكولوجية التي تترتب على تطور  الرأسمالية ونزعتها الانتاجية، وحالت النزعة الاقتصادية التي سيطرت على نتاجاته دون قيامه بالتعمق في دراسة قضايا حساسة مثل قضية العلاقات بين الجنسين، وقضية الانتماء العرقي أو القومي، حيث بقي اهتمام ماركس وأنجلز بالهويات القومية اهتماما ثانويا. ويبدو أنهما اعتقدا بأن زوال الدولة سيكون كفيلا بجعل التمايزات القومية عديمة الأهمية. وهما تجاهلا، بتأكيدهما ضرورة إخضاع الانتماء القومي لمصالح الثورة الاشتراكية العالمية، قوة المشاعر القومية بين صفوف العمال أنفسهم، والذين اختاروا، في حالات كثيرة، التحالف مع البرجوازية ضمن جماعتهم القومية ضد عمال جماعة قومية أخرى.
وقد نجمت عن هذه النزعة الاقتصادية ثغرة كبيرة أخرى، تمثلت في موقف ماركس من العلاقة بين ما أسماه البنية التحتية والبنى الفوقية. فقد تصوّر ماركس المجتمع كهيكل تتشكل قاعدته من القوى المنتجة ومن العلاقات الاجتماعية التي تنتظم في داخلها سيرورة الانتاج، بينما يتكون "البناء" الذي يقام فوق هذه القاعدة من كل ما تبقى، أي من علاقات القرابة، والعلاقات السياسية، والدينية، ومن الأفكار والفنون. واعتبر أن هذه البنى الفوقية تظل مشروطة، في التحليل الأخير، ببنية المجتمع التحتية، أي الاقتصادية. ومنذ ستينيات القرن الماضي، انتقد كورنيليوس كاستورياديس موقف ماركس هذا، مشيرا الى أن البنى الفوقية ليست سوى نسيج للعلاقات الاجتماعية وهي ليست أكثر ولا أقل واقعية من غيرها، وهي مشروطة بالبنية التحتية بمقدار ما تكون البنية التحتية مشروطة بها، إن كان من الممكن – كما يتابع كاستورياديس – الحديث عن "اشتراط" للدلالة على تعايش مظهرين أو لحظتين للنشاط الاجتماعي. وفي السنوات الأخيرة، تطور، من داخل الماركسية أو بالأحرى من داخل الماركسيات، النقد لهذا الموقف الذي وقفه ماركس، حيث لاحظ الانتربولوجي المعروف موريس غودولييه، أن المعارف التي نمتلكها اليوم عن مجرى التاريخ تدحض فكرة أن علاقات القرابة وأشكال السلطة والتمثلات الدينية تتوافق في كل مرة مع شكل مادي للانتاج، محدد تاريخيا وجغرافيا، معتبرا أن التمييز بين بنية تحتية وبنى فوقية لا ينطوي على معنى إلا بوصفه تمييزا بين وظائف وليس بين مؤسسات. ففي بعض المجتمعات القبلية، اشتغلت علاقات القرابة كعلاقات انتاج، وتمتعت بقاعدة مادية مستقلة تمثلت في العلاقات البيولوجية بين الجنسين وبين الأجيال. وبحسب غودولييه، فإن المنظومات الدينية والفلسفية والسياسية تشكل من خلال بناها ووظائفها، منظومات متجانسة من الرموز والمفاهيم التي تتمتع باستقلال نسبي إزاء التحولات التي تطرأ على أنماط الانتاج. فالأديان، على سبيل المثال، لا يمكن تفسيرها فقط، ولا بصورة مباشرة، من خلال التحولات التي تطرأ على أنماط الانتاج، كما أن الفكر عموما لا يختزل الى مجرد كونه انعكاسا للواقع المادي، كما يبدو في بعض كتابات ماركس. أما القول إن الأفكار السائدة في مجتمع ما هي أفكار الطبقات السائدة فيه، فهو يتجاهل – كما يتابع – حقيقة انه يوجد، الى جانب العنف الذي تمارسه الطبقات، منبع آخر لسيطرتها، يتمثل في قبول الخاضعين للسيطرة ورضاهم عن هذه السيطرة، وهو رضى لا يولد، إذا كان حقيقيا ولم يكن مفروضا، إلا من تشارك المسيطرين والخاضعين للسيطرة في تبني التمثلات نفسها.

أما الثغرة الثالثة في بنيان الماركسية فقد نجمت عن المماهاة التي أقامها ماركس بين الرأسمالية وبين السوق التي لا يضبطها ضابط وتشتغل بصورة عشوائية. وكان الفيلسوف الفرنسي جاك بيديه من أكثر الذين تعمقوا، في السنوات الأخيرة، في تحليل هذا القصور. ففي نظره، لم يدرك ماركس أن "غنى" المجتمع الرأسمالي لا ينبع من شكله البضاعي وحسب، وإنما ينبع أيضاً من شكله المنظّم. كما لم يع أن التعاقد الحر بين الأفراد، في ظل الرأسمالية، لا يكون حراً إلا حينما يكون تعبيراً عن إرادة مشتركة حرة، وهي إرادة لا تبرز بصفتها هذه إلا إذا كانت شيئاً مختلفاً عن عشوائية الشوق، أي إلا إذا كانت شكلاً من التوافق والتخطيط المشتركين. ومن ناحية أخرى، اعتبر ماركس أن القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتزايد تمركز رأس المال، وتعمق الطابع الاجتماعي للعمل وتطبع الإنتاج بطابع علمي متعاظم، أن ذلك كله سيؤدي إلى إضعاف فعل " قوانين" السوق وإلى زيادة دور التنظيم، بحيث نصل إلى يوم تكون فيه الطبقة العاملة قادرة، من حيث العدد والكفاءة، على أن تأخذ بيدها هذا الشكل من التنظيم وتفتح الباب أمام الاشتراكية. ويحاول بيديه أن يبيّن مكامن "الخطأ" في مواقف ماركس هذه، فيؤكد أن الرأسمالية لا تتمثّل في مراكمة البضائع فقط، بل تتمثّل كذلك في الإدارات الحديثة، والطرق، وأنظمة التعليم، والإعلام وإنتاج المعارف، وأن سيرورة الإنتاج البضاعي نفسها هي، بمقدار ما تنطوي على تعاون بين الأفراد، سيرورة منظّمة لا تتم بصورة عشوائية، بحيث يمكن القول إن البنية الرأسمالية تقوم على الوحدة الجدلية بين السوق والتنظيم. ويلحظ أن اختفاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لم يفض إلى زوال الطبقات والدولة الطبقية بل أفضى الى تشكّل دولة طبقية من نوع آخر، وظهر بأن التنظيم يولّد، مثله مثل السوق، نظاماً طبقياً استغلالياً. وعلى هذا الأساس، يمكن الاستنتاج بأن "الخطأ" الرئيس لماركس- كما يعتقد بيديه – يكمن في كونه قد تجاهل حقيقة أن توسط السوق وتوسط التنظيم لا يؤخذان بتعاقبهما التاريخي المفترض وإنما في تضمنهما المتبادل التأسيسي. ففي إطار الرأسمالية، نجد تعاقدية بين الأفراد، يتطلبها السوق، وتعاقديه مركزية، يتطلبها التنظيم، وتشكّلان معاً قطبي مصفوفة التعاقدية الاجتماعية الحديثة.

وتمثّلت الثغرة الرابعة التي تمّ تسليط الأضواء عليها كثيراً في النقاشات التي تعمقت منذ منتصف التسعينيات، حول أزمة الماركسية ومدى مسؤولية " ماركسية" ماركس عن الانهيارات التي وقعت، في القصور الذي تجلى في مجال النظرية السياسية، وهو قصور لم يكن بعيداً عن قيام ماركس بتركيز الجزء الأكبر من نشاطه النظري على نقد الاقتصاد السياسي.
فقد أعتبر كثيرون من الذين شاركوا في هذه النقاشات أن السياسة كانت أقل الجوانب دراسة منهجية في فكر ماركس، إذ هو، بتأكيده المبالغ فيه على دور العوامل الاقتصادية، حجب الطابع الإشكالي والتناقضي للممارسات الاجتماعية، وبخاصة السياسية. كما أن عدم إيلائه الأهمية الكافية لدراسة وتحليل علاقات السلطة، ضمن العلاقات الاجتماعية، قد ترك تأثيراً سلبياً على تصوّره للسياسة، وهو ما تجلّى في بعض تردداته وقفزاته النظرية، حيث يتبنى في أحيان مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا، ويدعو في أحيان أخرى إلى طريق سلمي برلماني نحو الاشتراكية، دون أن يتوافق ذلك مع تنظير معمق لمسألة استلام السلطة. أما تصوره إمكانية إلغاء الحيز السياسي وإزالة الفصل بين الدولة السياسية والمجتمع المدني، في إطار مجتمع متصالح وشفاف، فقد كان ينبع، حسب نقاده، من رؤية رومانسية. ومن ناحية أخرى، أخذ على ماركس موقفه من الديمقراطية السياسية، واعتباره أن الديمقراطية، كما رأى أحد هؤلاء النقاد " ليست سوى شبح حكومة ذاتية في ظل وجود الطبقات والسيطرة الطبقية، وهي لا يمكن أن تكون هدفاً بذاتة، بل يمكن التضحية بها على مذبح متطلبات النضال البروليتاري".
غير أن الفيلسوف الفرنسي جاك تكسييه اتخذ موقفاً مختلفاً إلى حد ما من مسألة علاقة ماركس وأنجلز ونتاجهما بالسياسة، إذ هو حاول أن يثبت بأنهما انشغلا بالسياسة وكانا مفكرين سياسيين، وأنهما ابتكر مفاهيم لم يعد من الممكن التفكير في السياسة من دون اللجوء إليها، وأن فكرهما كان، بصورة أساسية، فكراً ديمقراطياً، وذلك بالرغم من وجود حجج عديدة تسمح للباحث بالاستخلاص بأن فكرهما كان غير ديمقراطي.
وبهدف تزكية افتراضه هذا، يعود تكسييه إلى "مخطوطة" عام 1843 (نقد الحق السياسي لدى هيغل)، التي طرح فيها ماركس مفهوم " الديمقراطية الحقيقية" التي تستند إلى مبدأ الاقتراع العام، فيعتبر أن ماركس، الذي انتقد في تلك "المخطوطة" انفصال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية والفصل بين الدولة والمجتمع المدني، قد أراد من خلال مفهوم "الديمقراطية الحقيقية" أن يضع حداً للانفصال القائم بين الحيزين السياسي والاجتماعي في الدولة التمثيلية الحديثة، وأن يؤكد على أن السيادة الشعبية لا يمكن أن تقتصر على الجانب التشريعي بل يجب أن تطاول الجانب التأسيسي السياسي وأن تمارس على مستوى السلطة التنفيذية أيضاً، بحيث يكون المجتمع المدني هو المجتمع السياسي الواقعي. لكن ثورات عام 1848 في أوروبا أحدثت انعطافاً في موقف ماركس وأنجلز ودفعتهما – كما يتابع تكسييه – على التخلي عن مفهوم " الديمقراطية الحقيقية" وتبني مفهوم " ديكتاتورية البروليتاريا" (الذي كان بلانكي أول من استخدمه)، ومنذ مطلع خمسينيات القرن التاسع عشر، صارا يتخيلان أن الانتقال من المجتمع البرجوازي إلى المجتمع الشيوعي هو مهمة مطروحة على جدول الأعمال (وقد أقر أنجلز فيما بعد بأنهما كانا واهمين في ذلك)، وأنه بات في وسع البروليتاريا، تنجز من خلال ثورة واحدة متواصلة مهمتين مختلفتين، إسقاط نظام الاستبداد الملكي القديم، من جهة، وتحويل المجتمع بصورة ثورية، من جهة ثانية. وبتأثير تجربة كومونة باريس – التي أدخلت تغييراً جذرياً على معنى الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية من خلال دمجها بين السلطات الثلاث، وقضت على علاقة الخضوع العمودية للإدارة السياسية وعلى التراتبية الدولتية – طرحا فكرة انحلال الدولة، ولكن ليس بمعنى اختفاء السياسة وإنما بمعنى إعادة تملكها من قبل الأفراد الاجتماعيين. ثم يتوقف الفيلسوف الفرنسي عند التمييز الذي أقامه ماركس وأنجلز بين الثورة في بلدان القارة الأوروبية وبين الثورة في العالم الأنغلوكسوني، حيث قدّرا بأن الثورة، بمعنى اللجوء الى الانتفاضة المسلحة، قد لا تكون ضرورية في بريطانيا أو في الولايات المتحدة الأمريكية، بل يمكن ضمان الانتقال السلمي إلى الاشتراكية باللجوء الى الاقتراع العام والاعتماد على الغلبة العددية للطبقة العاملة في المجتمع، لكنه يلحظ عدم ثباتهما على موقفهما هذا، حيث كان أنجلز يذكّر أحياناً بأن هذا الاحتمال قد لا يكون واقعياً لأن الطبقات السائدة في هذين البلدين قد ترفض التحوّل السلمي، مما يفرض على البروليتاريا اللجوء على العنف الثوري.
وبعد أن يشير جاك تكسييه إلى أن أنجلز قد أعتبر في كتاباته الأخيرة، وبخاصة في، " نقد مشروع برنامج ايرفورت" (1891)، وفي المقدمة التي كتبها الكتاب: "صراع الطبقات في فرنسا" (1895)، أن "الجمهورية الديمقراطية" يمكن أن تكون شكلاً خاصاً من ديكتاتورية البروليتاريا ظلت مسألة ثانية "ولكن غير ثانوية" في فكر ماركس وأنجلز بعد المسألة الأولى المتمثلة في الثورة، وأننا نجد أنفسنا، حينما نطرح مسألة الديمقراطية في فكرهما، أمام طروحات متعارضة واضحة، وهو تعارض نابع – في رأيه – من التصادم بين مبدئي الثورة والديمقراطية في ظروف القرن التاسع عشر، حيث لم تكن تداعيات الثورة الفرنسية قد انتهت ولم تكن الديمقراطية السياسية قد تأسست بعد.

-  من "الماركسية" إلى "الماركسيات الألف"
إن تداعي "الارثوذكسية"  الماركسية و"الماركسية" على السواء، باعتبار أن هذين المصطلحين يفترض أحدهما الآخر، قد مهّد الطريق أما ولادة عشرات المساهمات في الحقل الذي افتتحه ماركس قبل أكثر من قرن ونصف القرن، الأمر الذي دفع الباحثين ايمانويل فالرشتاين وأندريه توسيل إلى الحديث عن "الماركسيات الألف". وتسعى كل واحدة من هذه المساهمات، المنعزلة عن الممارسة السياسية للأحزاب الشيوعية التقليدية والطامحة إلى بناء علاقة جديدة بين النظرية والممارسة إلى إحياء التراث الماركسي على طريقتها، في إطار ما يُسمى ب "النيوماركسية" وما يُسمى ب " ما بعد الماركسية ". ويرى بعض المعنيين بهذه الظاهرة أن تعددية هذه "الماركسيات الألف"، التي تجد في أزمة النظام النيوليبرالي وأفكاره تسويغاً تاريخياً لولادتها، تطرح مسألة الاتفاق على حد أدنى نظري فيما بينها يستند إلى توفير إمكانية نظرية لتحليل الرأسمالية المعولمة وأشكالها، والاقتناع بأن هناك أملاً في بروز إمكانية واقعية لتجاوز أشكال الاستغلال والاستلاب والسيطرة التي تميّز هذه الرأسمالية وتوليد حركات وممارسات اجتماعية جديدة تضمن إطلاق طاقات المجموع وانعتاقه. ويحذر آخرون، من جهة أخرى، من خطر أن لا تنجح هذه  "الماركسيات الألف" في تجاوز الماركسيات القديمة بصورة نقدية وفي تجاوز العناصر المتقادمة في فكر ماركس نفسه، وأن تبرز من داخلها مع الوقت "أصولية" ماركسية جديدة ترتكز على التكرار الفظي لبعض مقولات محددة مستمدة من النواة الصلبة للنظرية.
وسأحاول فيما يتبع أن أتوقف عند بعض المقاربات والأفكار الجديدة التي تتبناها التنويعات المختلفة من هذه "الماركسيات الألف"، التي تجد في "تحريفية" برنشتاين، وفي "النظرية النقدية" لمدرسة فرانكفورت، وفي العلوم الاجتماعية "البرجوازية" نقاط ارتكاز تستند إليها، وهو الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل عن مدى ارتباطها ب "الماركسية" التي عرفناها قبل وقوع الانهيارات.
ويلاحظ، بداية، أن تعظيم شأن العوامل الثقافية يشكّل قاسماً مشتركاً بين العديد من أصحاب هذه المقاربات والأفكار " الماركسية" الجديدة. فقد استندت بعض اتجاهات "الماركسية التحليلية" الأنغلوسكسونية، التي يمكن إدراجها ضمن "النيو ماركسية"، إلى مفهوم "المادية الثقافية" وأعادت إحياء "ماركسية" رايموند ويليامز ( 1921 – 1988) الذي ركّز، تركيزاً خاصاً، على دور الكلام، والأدب والثقافة بوجه عام، وراهن على قدرة الفاعل على تغيير شروط  وجوده وليس على حتميات تاريخية واجتماعية واقتصادية متصوّرة. ويحاول أحد ممثلي هذه "الماركسية التحليلية"، وهو جون رومر، إعادة النظر في موقف ماركس من الطبقات والاستغلال الطبقي، وذلك باعبتاره أن سلوك الأفراد هو الذي يفسر، في الواقع، كل الممارسات والمؤسسات الاجتماعية. أما فريدريك جيمسون، الذي لجاُ إلى مناهج التحليل النفسي والسيميائية والبنيوية مع استمراره في النظر إلى الماركسية بوصفها "أفقا لا يمكن تجاوزه"، فقد أكد على دور "المخيّل" و"اللاشعور السياسي". كان ماكس هوركهايمر (1895 – 1973)، وهو الذي ابتكر مفهوم "النظرية النقدية" الذي صار يميّز أنصار "مدرسة فرانكفورت" ، قد أعطى، منذ مطلع الثلاثينيات، الأولية للفلسفة الاجتماعية على حساب الاقتصاد السياسي، وطرح على نفسه مهمة بلورة نظرية اجتماعية تستند، بالإضافة إلى مناهج الاقتصاد، إلى مناهج السوسيولوجيا والفلسفة وعلم النفس. وفي الاتجاه نفسه، يأخذ بعض ممثلي "ما بعد الماركسية" على الماركسية التقليدية تعاملها مع الثقافة بوصفها "تزييناً" يزين علاقات الإنتاج، ويعتبرون أن تجاوز هذا الموقف والتركيز على دور العوامل الثقافية بات أمراً ضرورياً ومنطقيا في زمن أصبحت فيه التمثّلات نفسها موضوعات إنتاج واستهلاك أساسية. وفي فرنسا، طرح جيل دولوز، الذي انطلق من أن الاقتصاد لا يتطبع وحده  بطابع مادي بل إن المادة ماثلة في كل مكان وهي لا تقتصر على ميدان الإنتاج وحده، مفهوم "صور الفكر"، معتبراً أن هدف "المادية التاريخية" اليوم يتمثّل في تحليل العلاقات بين الدولة النيوليبرالية وبين "صور الفكر" التي تكوّنها، وأن النظرة إلى الايدولوجيا يجب أن تتغيّر، بحيث لا يُنظر إليها بوصفها مرآة أو انعكاساً للقاعدة المادية وإنما بوصفها هي التي تنتج التمثّلات وتخلق المعنى وتنظم المادة نفسها. أما عالم الاجتماع الشهير بييربورديو، الذي دعا صراحة إلى بلورة نظرية في العلاقات الاجتماعية تحل محل " المادية التاريخية "، فقد طرح مفهوم "الرأسمال الثقافي" في مواجهة مفهوم "الرأسمال الاقتصادي"، وذلك بعد أن وسع نطاق استخدام مفهوم "رأس المال" ليشمل، إلى جانب الاقتصاد، حقل الثقافة، وحقل السياسة وحقل الدين، مضفياً على "الرأسمال الثقافي" صفة "الرأسمال الرمزي". وفي نظريته عن الثقافة والتربية، أظهر بورديو أن المنافسة بين الأفراد تمثّل شكلاً من أشكال الصراع الطبقي، وأن سوسيولوجيا التربية تنطوي على سلطة طبقية، وأن الدولة التي تحتكر ممارسة "العنف الرمزي الشرعي" لا يمكن أن تكون إلا دولة طبقية، وأن المساواة الشكلية التي تراعيها ضمن مؤسساتها الثقافية تخفي وراءها علاقات خضوع. واستخلص أن العلاقة الطبقية تمارس عبر توسطين: توسط الملكية الخاصة وتوسط الأهلية والكفاءة، الأمر الذي يؤدي الى بروز تقسيم للعمل بين نوعين من المسيطرين: أولئك الذي يمارسون السيطرة الاقتصادية، وأولئك الذين يمارسون السيطرة الرمزية. وهكذا قدم بورديو – وكما يشير جاك بيديه – رؤية للسيطرة الطبقية في المجتمع الحديث أكثر شمولية من رؤية ماركس.
وتشكّل إعادة النظر في العلاقة بين النظرية والممارسة، في إطار الماركسية، محوراً من محاور التجديديين الذين يحاولون إحياء تراث ممثلي "مدرسة فرانكفورت"، ومن أبرزهم تيودور أدورنو ( 1903 – 1969 ) الذي كان قد انطلق من أن ماركس قد ترك وراءه مسائل عديدة معلّقة، وهي ظلت معلّقة لأن الذين اضطلعوا بمهمة مواصلة ما بدأ به لم يولوها ما تستحقه من اهتمام، وان هدف "النظرية النقدية"، التي عرفّها بأنها ممارسة نظرية للبحث المتطلع إلى التغيير، هو مواجهة هذه المسائل من داخل الماركسية وليس من خارجها، ولكن بعد تجاوز دوغماتية الديالكتيك الماركسي. وفي نظره، لا يمكن أن تكون هناك وحدة بين النظرية والممارسة، الأمر الذي يفرض على المنظر، من أجل النجاح في التنظير، أن يبقى في حالة توتر دائم مع الممارسة، وأن النظرية لا تهدف إلى توجيه الفعل وإنما إلى التنبيه والإنارة. ومع يورغن هابرماس، انتقلت "النظرية النقدية" لـ"مدرسة فرانكفورت" : من "نيو ماركسية" إلى "ما بعد ماركسية"، حيث سعى هابرماس إلى تحرير هذه النظرية من التأثير الهيغلي – الماركسي، الذي كان يُلمس في كتابات هوركهايمر وادورنو، واقترح،، عوضاً عن بلورة نظرية عن الرأسمالية، صياغة نقد متماسك للمجتمع الرأسمالي، القائم على التشيؤ والاستلاب، بحيث يحل نقد التأثيرات السلبية للنظام الرأسمالي محل نقد بنيته. وبهذا التوجه،كشف هابرماس – وكما يلحظ جاك بيديه – بشكل أفضل مما فعلته الماركسية الحاجة إلى بلورة فكرإيجابي عن الديمقطراطية السياسية.
ويتشارك أنصار "مدرسة بودابست" مع انصار مدرسة "كوزو اونو (1897-1977)" اليابانية، في انتقاد "المادية التاريخية" التقليدية التي عجزت عن الإحاطة بالواقع. ويعتبر أنصار المدرسة الأولى أن إلغاء علاقات السوق، في المجتمعات التي انتسبت الى الماركسية، قد توافق مع الغاء استقلالية المجتمع المدني لصالح الدولة، وأن الخطة، في مجالي الانتاج والتوزيع، قد تعارضت مع الديمقراطية والحرية والتعددية، وأن إحلال ملكية الدولة قد أفضى الى الديكتاتورية والى بروز طبقة بيروقراطية داخل اطار الدولة – الحزب. أما أنصار المدرسة الثانية، الذين عارضوا مفهوم "الاشتراكية العلمية"، وانطلقوا من ضرورة فصل الممارسة عن العلم، على اعتبار أن العلم يمتلك معاييره الخاصة ولا يحتاج الى أي وجهة نظر خارجة عنه حتى وان كانت وجهة نظر البروليتاريا، فقد رفضوا التعامل مع "المادية التاريخية" بوصفها علماً للتاريخ يقوم على قاعدة مفهوم نمط الانتاج، ورأوا أن نظرية ماركس لا تصلح سوى لتحليل الرأسمالية. واذ نظروا الى الاستغلال باعتباره تملكاً من قبل الرأسمالي لناتج عمل العامل، الا انهم رفضوا ادراج مقولة "صراع الطبقات" ضمن نظرية المجتمع الرأسمالي "الخالصة".
وأخيرا، تبرز في اطار هذه "الماركسيات الألف" ما يمكن ان نسميه بـ "الماركسية الايكولوجية" التي تسعى الى ضمان اللقاء بين النقد الماركسي للرأسمالية والنقد الايكولوجي للنزعة الانتاجية، معتبرة انه بات من الممكن اليوم الجمع بين هذين النقدين اللذين ظلا مفترقين لفترة طويلة، حيث تماهى النقد الأول مع تجارب الدول "الاشتراكية"، التي كان تخريبها للبيئة لا يقل خطورة عن التخريب الحاصل في الدول الرأسمالية، في حين تردد النقد الثاني طويلاً قبل أن يدرج علاقات الانسان بالطبيعة في اطار العلاقات الاجتماعية. واذ يؤكد أنصار هذا التوجه أن "الماركسية الايكولوجية" تندرج في تراث النضال العمالي، عبر مطالبتها بضمان العدالة الاجتماعية واحتجاجها على "العقلانية" الاقتصادية الرأسمالية، الا أنها تفترق عن هذا التراث في رفضها "اسطورة" التقدم التقني الذي يحمل وعداً بالوفرة، معتبرة أن الشروط المادية لليوتوبيا الماركسية، بخصوص الانتقال من "ملكوت الضرورة" الى "ملكوت الحرية"، لن تتحقق أبداً، وأن من الملح التحلي بأخلاق المسؤولية في التعامل مع الطبيعة ومراعاة محدودية تسامحها، والعمل على توفير العدالة الاجتماعية ليس للمحرومين في المجتمعات القائمة اليوم وانما ايضاً للأجيال القادمة.
ويلاحظ أن الاسهام العربي لا يزال ضعيفاً في النقاشات الدائرة حول مصير "الماركسية" ومستقبلها، وذلك يعود، في الأساس، الى ظاهرة سابقة على الانهيارات تمثلت في ضعف مستوى الانتاج العربي المستقل في الحقل المعرفي الذي افتتحه ماركس. فمع الاقرار بأهمية الجهد النظري الأصيل الذي بذله عدد من الماركسيين العرب في العقود الأخيرة، مثل مهدي عامل والياس مرقص وغيرهما، الا أن سمير أمين كان العربي الوحيد الذي نجح، باجتهاداته، في أن يكون له حضور عالمي على ساحة التنظير الماركسي. فهو احتل مكانة مهمة، الى جانب ايمانويل فالرشتاين وآخرين، بين أنصار مدرسة التبعية ونظرية "النظام الرأسمالي العالمي"، وأنكر منذ زمن بعيد الطابع الاشتراكي للثورات التي وقعت في روسيا والصين وغيرهما، وأنتج، أو طور، مفاهيم تحليلية جديدة، مثل مفهوم "التطور اللامتكافيء"، ومفهوم "فك الارتباط" ومفهوم "ما بعد الرأسمالية"، وأقام تمييزاً فريداً بين الرأسمالية، كنظام عالمي قائم فعلاً، وبين نمط الانتاج الرأسمالي على الصعيد العالمي، محاولاً التعرف الى الاسباب التي تجعل تاريخ التوسع الرأسمالي يتماهى مع تاريخ الاستقطاب العالمي بين تشكيلات اجتماعية مركزية وطرفية، والاحاطة بواقع هذا الاستقطاب المحايد للرأسمالية والناتج عن قانون التراكم  على الصعيد العالمي. وفي ضوء الدروس المستخلصة من الانهيارات التي وقعت، والتي هزت الى حد ما الأسس التي أقام عليها بعض مفاهيمه، حاول سمير أمين، في كتاباته الأخيرة، أن يدخل بعض تعديلات على مواقفه، حيث صار يركز على مفهوم "تجاوز الرأسمالية"، ويعتبر أن رفض الرأسمالية، بالرغم من كونها قد أنتجت عالمية "مبتورة ومشوهة"، سيعني "الخروج من التاريخ"، مما يجعل الامكانية الوحيدة المتاحة هي العمل على بلورة مشروع يسعى الى تكملة ما بدأت الرأسمالية في تحقيقه، ليس في المجال المادي وحسب بل ايضاً في مجال الحرية الفردية والديمقراطية السياسية، وذلك في أفق الوصول الى تجاوزها، مع الاستمرار في توجيه النقد لمظهرين رئيسيين من مظاهرها، هما الاستلاب السلعي والاستقطاب العالمي.

إشارة:
استندت هذه المساهمة إلى المصادر والمراجع التالية:
جيريمي برشر، تيم كوستيلو، برندان سميث: العولمة من تحت. قوة التضامن  (تعريف أسعد كامل الياس)، الرياض، مكتبة العبيكان، 2003.
 



#ماهر_شريف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - ماهر شريف - هل لـ -الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟