|
اختلاجات في حضرة محمود درويش
سعدي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 2390 - 2008 / 8 / 31 - 07:46
المحور:
الادب والفن
السابعة مساء التاسع من آب
مساء التاسع من آب ( أغسطس ) 2008 ، كنت في برلين ، أدخلُ مع الشاعرة الإسكتلندية جوان ماكنْلِي مقهىً يرتاده ذوو الحاسوب المحتضَن ( اللابتوب ) . كانت الساعة حوالي السابعة . صيفٌ ألمانيٌّ . في الرصيف التابع للمقهى زبائنُ يدخّنون سجائرهم . أنا أنظر عبر الزجاج إلى الرصيف وأهله . جاءت جوان ماكنلي بكأســي جُعةٍ كبيرتين . ما زلتُ أنظر إلى الشارع عبر الزجاج . مددتُ يدي إلى كأس الـجُعة ، فارتدّتْ . كنت أحسُّ بإحباطٍ وإنهاكٍ ، وبين لحظةٍ أخرى تعتريني رجفةٌ خفيفةٌ . لم أكن في المكان . كان شــيءٌ ما يأخذني بعيداً عن المكان ، عن جليستي ، عن كأس البيرة الألمانية ، عن كل شــيء . قلتُ لجوان : أنا أرتجف برداً ! لم نكن في مهبٍّ للريح . لكنّ برداً قادماً من سيبيريا ما كان يدخل إلى المقهى ، لـيُرعدَني وحدي . اقترحتْ عليّ أن نصعد إلى الطابق الأوّل ، اتّقاءَ بردٍ خاصٍّ بي . حملتْ كأسَي البيرة . وهناك بين ذوي اللابتوب المنهمكين جلسنا . ثانيةً لم أمدّ يدي إلى الكأس . حالةُ القنوطِ ظلّت ملازمةً . لم يكن القنوط وحده . كنت ضائعاً ، أتيهُ بين فلواتٍ بلقعٍ ، في قرٍّ مؤذٍ . في عالَمٍ من أذىً صافٍ دائمٍ كالقانون الطبيعيّ . تلك الليلةَ ، لم أقوَ على العودة إلى شقّة ابنتي شــيراز في ضواحي العاصمة الألمانية ، فأويتُ إلى شقّة جوان لأنامَ كمداً ! * عدتُ في الضحى العالي إلى ابنتي . قالت لي إن اسماعيل خليل ( المسرحي ) اتصلَ بي منتصف الليل . - هل قال شيئاً ؟ - كان يريد أن يخبرك ، برحيل محمود درويش ! * إذاً ... في حوالي السابعة من مساء التاسع من آب ( أغسطس ) كان محمود درويش ، يرحل عنا ، في مستشفاه الأميركيّ . هل كنتُ أحاولُ الاتصال به ، وأنا في المقهى ؟ هل مرقتُ في خطفةٍ أمام عينيه الغائمتَين ؟ لقد كنا في باريس ، في السابع من حزيران هذا . جاء إلى أمسيتي بمسرح الأوديون . لكنه قال لفاروق مردم ألاّ يخبرني بأنه هناك . التقينا بعد انتهاء الأمسية . قال لي : أنا راحلٌ غداً . هل حملت كلماتُه هذه ، الأقصى ممّا يمكن أن تحمل ؟ هل كنا نقول : وداعاً ؟ * قالت لي منى أنيس : كان محمود يودّعك !
لندن 27.08.2008
مساءٌ في آب 1982 بيروت
الصيف المنكسرُ ، يستمرّ حتى في المساء . بيروت محاصَرة ، والإسرائيليون على الأبواب . الظلام يُطْبِق على المدينة كما يطْبِق الدخان الثقيل . شارع الحمرا يبدو مهجوراً للوهلة الأولى . إلاّ أنه محتشـدٌ بالأشباح ، أشباحِنا ، وأشباحِ رؤانا ، محتشدٌ بأنفاسنا المختنقة . لا ماء في المدينة . لا كهرباء . نحن ، السائرين هائمين في الظلام ، وحدَنا ، نخدشُ حقيقةَ أن المدينة ميتةٌ وقد غادرَها أهلُها ، إلى الشمال : طرابلس والضّنّيّة ، أو جنوباً حتى المناطق التي احتلّها الإسرائيليون . الغرباء في المدينة هم السائرون في الظلام … نسير في العتمة . مصابيحنا اليدوية ذوات البطاريات الصغيرة ستضيء لنا السلالم آنَ نعود إلى غرفنا التي تظل تهتزّ حتى في الليل من انفجارات النهار . مصباحٌ يدويّ يتّقد فجأةً . أأنت هنا ؟ محمود درويش في ليل الحمرا ! * وجهانا في دائرة الضوء الضيّقة كانا متّســعَينِ .
لندن 29.08.2008
أواسط السبعينيات ببغداد
ربما كان ذلك في النصف الأول من السبعينيات . كنا ، على ما أتذكّر في منزل ناهدة الرمّاح . محمود درويش كان في بغداد المتفتحة ( على آفاق كاذبة ؟ ) آنذاك . زار " طريق الشعب " ، واحتفى بلقاء شيوعيين وشعراء كان عرفهم في أكثر من مكان ومناسبة . تلك الليلة امتدت السهرة أكثر من المعتاد . أغانٍ وموسيقى وأنهارٌ من الرحيق المصفّى . وكان عليّ ن أن أوصل محمود درويش إلى فندقه بسيارتي الرينو 16 التي كادت تنفجر بعديد ركّابها . محمود درويش كان إلى جانبي . ننحدر من جسر الجمهورية . فجأةً يغيب كل شــيء أمامي . ألتفت لحظةً إلى محمود درويش لأسأله : أهذا شارعٌ أم حائطٌ ؟ يقول : هل أوصاك أحدٌ بقتلي ؟ السيارة تندفع في شارعٍ بغداديّ ، بلا مارة ولا سيارات … شارعٍ بغداديّ في الفجر المبكر . محمود درويش سيظل يسألني كلما التقيتُه ، متذكراً رعب تلك الليلة : أشارعٌ أم حائطٌ ؟
لندن 29.08.2008
قمرُ بغدادَ الليمونيّ
لستُ أعرف سبباً لـ " نرفزة " كتّابٍ عراقيين معيّنين ، من وصفِ محمود درويش قمرَ بغداد بالليموني . قمرُ بغداد ليمونيّ ، حقاً ، لكن يبدو أن العراقيين لا ينظرون إلى السماء جيداً . ألم يقُل الجواهريّ العظيم : لم يعرفوا لونَ السماءِ لفرْطِ ما انحنت الـرقابُ ولفرْطِ ما دِيسَتْ رؤوسُهمو كما دِيسَ الترابُ ما علينا … أكان ذلك في أواخر الثمانينيات؟ 1989 مثلاً ؟ آنذاك كنت مقيماً ، على قلقٍ ، بباريس . محمود درويش كان يسكن بالتروكاديرو ، عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية . كنا نلتقي . أحياناً أدعوه إلى الخروج معي . أقول له : دعني آخذك يا محمود إلى باريس الأخرى . إلى مقاهي الجزائريين ، وحانات المغاربة ، ومطاعم الأفارقة . دعني آخذك إلى الضواحي … يقول لي : أنا أحسدك . أنت تتجول كما تشاء . تتعرف على باريس بطريقتك . أمّا أنا فسوف يتبعُني خمسةٌ من الحماية ! * في أحد الأيام تلقّيتُ مكالمةً هاتفيةً من محمود . قال : يجب أن أراك اليوم . قلت : ليكُنْ ! كان اللقاء في مطعمٍ غير بعيدٍ عن مسكنه . طلبتُ بطّاً ، فجاءني طبقٌ به لحمُ بطّ شبه نيّء ، في رقائقَ تكاد تشِفّ ! * من كان معنا ؟ لا أتذكر جيداً ، لكني أظن فوّاز طرابلسي الجليسَ الثالث . * قال محمود : عدتُ اليوم من النرويج . من قريةٍ قصيّةٍ بالنرويج . أريد رأيك في أمرٍ مُـلِحٍّ . قلت : أمرك ! قال : يا سعدي ، اسمعْني ... تلقّيتُ دعوةً لحضور المربدِ ، ولجائزةٍ تُسَلَّمُ إليّ إنْ وقّعتُ مسبقاً على قبولها . رفضتُ الأمرَينِ كليهما . ورغبةً مني في تجنُّب الأخذ والردّ ، سافرتُ إلى النرويج ، وأقمتُ في قريةٍ قصيّة . لكني في منتصف الليل تلقّيتُ مكالمةً هاتفيةً من أبو عمّار ، نصُّها : هل تريد أن تخرب بيتنا يا محمود ؟ يجب أن تذهب إلى بغداد ! قلت : هكذا ؟ قال محمود : نعم ... الآن أريد رأيك ! إنْ قلتَ لي : لاتذهبْ ، فلن أذهب ! * ما كنتُ بحاجةٍ إلى أن أُنعمَ النظرَ . قلت له : أنت في هذا الموقف ، لستَ محمود درويش . أنت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية . ممثلٌ رسميٌّ لشعبك وقضيّته . أنت تضحّي من أجل قضية شعبك . ليس بمقدوري ، ولا من حقي أن أقول لك لاتذهبْ . لكني سأظل أتذكّر ، بكل اعتزاز ، أنك استشرتَني ، مبدياً استعدادك للأخذ بما أرى ! * قمر بغداد الليمونيّ !
30.08.2008
#سعدي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- في رحيل كامل شياع - القتل مرتين
-
مطعمٌ شبهُ أميركيّ
-
أهوَ التّطابقُ المعهودُ ؟
-
مراجعةأم محاكمة ؟
-
ثلاث قصائد
-
الشعب الأميركي سيحرر العراقيين من جلاّديهم المحليين
-
الإدّعاء الشعبيّ
-
دخانُ اتفاقيةِ المستعمَرة الأبدية
-
ثلاث قصائد
-
مقام عراقي مع اغنية وبَسْتة
-
نعومي كامبل في البلدة
-
طويريج ، وما أدراك!
-
ثقافةُ عراقٍ بين سيفَينِ
-
رسالة إلى حسن الخياط
-
جائزة الإبداع تُمنَح إلى سعدي يوسف
-
لماذا نقرأ لك ؟
-
الله صامتٌ أيضاً
-
إعدام مقتدى الصدر
-
قصائد فورتَيسّا
-
منظّمة العفو الدولية
المزيد.....
-
خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو
...
-
في عيون النهر
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|