أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - النفس غير المطمئنة















المزيد.....

النفس غير المطمئنة


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2389 - 2008 / 8 / 30 - 07:29
المحور: الادب والفن
    



جسدها منطفيء. منطفيء جسدها. صخرة هامدة تتدحرج على فتنة من حصير، وهي على العكس نار موقدة تتقاذفها أمواج لا مرئية قارسة. البيت بدوره منطفيء إلا من دموع شمعة تظلل أفقه الخاثر، وتفتح كوة صغيرة على طاولة ميتة، وكتب معجونة وأحزان طليقة تداعب خيوط الدخان الهرم الذي يسافر في خلايا الجسد، ومرآة الحائط المهشم التي تجادلها. الليلة في الحقيقة داكنة، وداخلها قاتم، والبيت في خاتمة المطاف، يشدها في خليجها هدوء غريب، وتملأها عزلة خضراء تنهش منها الأضلاع، وتهلل لانتجاع الليل، وقيام ساعة الشمعة الوحيدة التي تتخللها، وتتوحد معها في وحشة مهجورة.

لليلة الثالثة تنام النفس غير المطمئنة وتفيق على الطوى، تقلب أشتاتها في فراغ رهيب يملأها بأشواط غريبة. قبلها كانت قد مسحت أكوام البيت من بقايا الخبز اليابس وشظايا البصل الجريح، وأعقاب الطماطم التافهة، التهمت الطيب والخبيث، وأتت على كل صالح لعادة الأكل. قلة النفس أو كثرتها، أو هو الحياء أو الرياء يعوقها أن تتدرج إلى جارتها وتبثها الرغبة في عتق الروح، لذلك قررت المقاومة فأربعون يوما، على الأقل، يستطيع المرء أن يحياها دون طعام.
صباح الأمس وفد وكيل هذه الأسلاك الكهربائية، لعن الله فيها العشرة، وقطع التيار عن مجالها، حاولت جاهدة أن تزرع في لينه شغاف الرحمة والاعتذار، لكنه كان عصبيا، وتظاهر بالنزاهة والصرامة، وصرف كل ضمائر المهنة البارزة والمستترة، وكانت تتأمله وهو يضحك على سذاجتها وبساطتها، ولم تجد بديلا عن أن تستعير بليل هذه الشمعة، يغرد على أطلالها وتستعين به لتتفقد أحوال أعضائها التي تمازجها الجدران.
قليل من الاحتمال مازال يترعرع في صدرها، تتقلب بين الفينة والأخرى القادمة، فيتخلخل حطامها ككثبان القصب، وتتشابك فرقعات المفاصل وقعقعة الأجواف، تتملى وضعها في أسى جارف ، وتقول: هذه النهاية الكبرى تدنو، فإلى أين المفر.

واستدار الليل، تسللت أهواله في محيطاتها، واستنفرتها قوات جوع رادعة، حاولت صدها بقدح من ماء، لكن الصولة كانت تفتح أمصارا وثغورا، فكرت في أن تضرب دورة يائسة في الدرب لتتفقد أحوال القمامات، ولكن رهبة ما تشاكسها فتعتصم بحبلها، وتفتح ذراعيها لمزيد من الذعر والارتكاس.
كانت الرغبة في النوم تبتعد عنها، مثلما تبتعد الأثمان عن أشيائها، تتهالك مهدودة تقلب الطرف في برية الخواء، وتنحر لوعة الشمعة الوحيدة، مرات تعود فتبني نورها، وتحفر عينيها في صمت كاسر تقرأ في جلده قرابين الجوع… يستطيل الليل ما طال، يستدير ما دار، ترتد الشمعة لبرد الانطفاء، ينطفيء جهاز الظلام على مشارف الفجر فيداعبها نسيم من صباح أليم، فتخرج عاصبة أمعاءها على الفراغ، تنقش خطواتها على هذه الشوارع البكماء. تسألها الطاولة المريبة، أقلام الحبر الجافة، الشمعة الميتة، الدمعة الجيفة: إلى أين؟ تقول: أنا ذاهبة لأزور قبر يومي.

* * * * * *

الوجه ( وجهها ) الشاحب يترقب عراء النافذة الهاربة من عمقها، يشتعل، ينتقل في شبه دائرة مهزوزة فتحمل النافذة صورته الضبابية من بعيد، ولا يعلق الوضوح بملامحه المهدورة. الأفق المتكلس، المتجبر، المهيمن، يتعب فيه، والفضاء شجرة خوخ طالعة في غير سماء، تلفح ذكريات نصف الجسد السفلي المحمل بأتعاب مجدولة.. قلما تنفتح هذه الطاقة على شيء غرير، والوجه طالما اعتلى نزوتها، والعين منه اكتنزت في جلود سديمية لا رائحة ولا لون لها، بينما يظل هو غارقا حتى حدود الانهيار. تقول لها المدامة العائدة أدراجها من سياق المحنة:
ـ عمي مساء، أيها الطلل الباغي. أو تدرين لم خيل اله تكبو على الشرفات؟ أو تدرين لم شمس الله تخبو وتموت على دوي الفصول؟

يتوزع الوجه ( وجهها ) أعقاب مرايا على الزجاج المتخلل فسحة النافذة، فتمتد يد طولى تزرع دموعا قارية على تضاريسه، تتأرجح وتتعلق ظلالها بطن النافذة كخطوات لا عقب لها، وعيناها تتعثران في دمالج اللحظة، ولا شيء يتواتر في الأفق سوى أنين متصاعد يلدغ ضيق المجال، ويتسع، يعلو حتى يرخي أشواكه على مسام القامة، تقشعر المفاصل المبعثرة، يسكن خليج الخوف حطام النافذة، وتجلس النفس غير المطمئنة على كريات البهو الفارغ، المغمور، تقول لدواخلها:
ـ أي لغة تتكلم هذه الفجوة بيني وبيني؟ من يوقف أبد هذه الصحراء في قيدي؟

ينغرز الوجه من جديد في مجرى النافذة، يعانقها، لا هي النافذة تنهار ولا هو يمضي لحال انتهائه، انفرط الشكل في الشكل، واغترب الآخر عن الآخر. ذكرى صغيرة ـ فقط ـ داكنة تحرك الساكن في مبيض الهوة القائمة، والوجه يتلوى مرات لتركبه ابتسامة غاربة تدغدغ قليلا مرعى الشفتين،ترتطم العين بالسور الأفقي الشائك وتتبدى أنواء هزيلة مثل نجيمات قطبية تسري في عراقة اليأس، يتضايق جدار الأفق وتندلع أوتار شتوية دافئة، تلعلع الطلقات في الحوض منه، تمتد اليد أو العين أو السيف، وتعود سيرة الأشياء لهوة الصدع، بينما النفس غير المطمئنة ترسو على خيط من عماء، وهي تردد:
ـ أي وداعة تنطلي على هذا السكون الهارب، من ريح الحلم لغابة هذه المحجة السوداء، أي زمان يفيق الآن من مهده ويعتريني كالمهزلة…

تسود الستائر المصبوبة على إكليل العتبات، ويتصاعد في حافاتها دخان رغبة ما تلهب الشماتة بين الأوراق المتدلية، يسود الوجه ( وجهها ) بينما حواشي النافذة تورق على فراغ دام تحرسه فيالق من ذباب جميل. ثمة غربة يتيمة تمي صدأ الغرفة من الانكسار، وصديد تاريخ مشلول يتفسح في خزائن الذاكرة وينشر غسيله على المناكب، تتعنكب الصور المجهضة في الرفوف على المائدة المقلوبة والبهو المسطح، وتبدأ أقدام نار لا مرئية تضع رحلها على سحنات الوجه(وجهها )فيسيخ وتنبت على معالمه حقول هذيان جليل، وموج صغير من إجاص الكآبة يفتح طفولته على الأفق، تلتحي الصومعة فيه وأقواس النصر، وتخرج المعاقل إلى عقلها، ولا شيء بين هاتيك القبور على سطح هذه الدوامة، يتراكم عجاج من الوقت على الوجه فتنغلق أساريره، تصرخ النفس غير المطمئنة في وجه القلق الصاعد:
ـ إلى أين أيها الليل المشتبك، الملتبس بالرهبة والإغراق..
تفكر مليا، تقف جامدة أمام النافذة، والنافذة تلبس لونها، تقول مع زجاجها:
ـ أيها الوقت الينقرني، تعال ، تعال، افكك رغبتي ، وشيد باطن هذه الحرب على الظاهر.

* * * * * *

السدرة الغريبة ، القريبة، مسمرة على كابوس من نور وهودج مكسور، ودوامة من الجوارح، ظلالها لا تشعر بالغرابة، تلك الممتدة بين القارعة وماء السماء، بين السدرة والطريق رأسمال من الأجساد تتحطم على دوي حجارات عظيمة..والنفس غير المطمئنة تقترب من حافة السدرة، تغلق كوعيها على خامات الحول المتقدمة في بلور العنفوان، وتمشي. وحين تورق السدرة تجلس النفس غير المطمئنة في خوفها.
في ظروف كهذه مختومة بالشمع، سوداء كقلوبنا، تستطيع النفس غير المطمئنة أن ترحل بقدر الرحيل، أن تشرب ما شاء الله، أن تصطاد زبناءها العابرين، وأن توقع على الدفتر الذهبي، وأن تنام حتى انقلاب النهار، لكن أحدا لا يستطيع أن يراهن على مقامها غدا أو بعد غد..
على طول الطريق كانت النفس غير المطمئنة، كأنما تتقدم على شظايا مرآت متكسرة، تضوع الدم من قدميها وتغزل حروفا صخرية تتكوم في كروم الفقراء، تتجرد من غلوائها ورقة في مهب التاريخ، وتستلقي على شفير معاملات صعبة، وترسو في النهاية على ضفاف السدرة تغازل خيطا باروديا من حناء الشرق، وتبنيي سورا من الخطوات..على المرأى كان الفقراء واحدا ، واحدا، يمشون على حفيف الموت، وزغاريد مبثوثة تتلوهم، عن بكرة زمانهم المحروق تصدعوا، وانتشروا، فأناخوا على الصاعقة…صوت بعيد، بعيد كان ينادي وحشتهم:
ـ أيها العابرون ، تزودوا بالدم والجوع، ولا يبتعد بعضكم عن بعض..

* * * * * *

آخر مرة شاهدت فيها النفس غير المطمئنة،أو أول مرة، كانت في بيتها، كان بيتا متواضعا تواضع البحر: سرير من دم مخيط، لوحة مقلوبة على الجدار، صورة طفل معمود، عينان على الباب، بندقية عتيقة، ومتاع ضال يقاوم في الظلام، ومقبرة شاغرة… فتحت في وجهي صدرها الشائك، وودعتني على شهوة السدرة الغريبة،القريبة، لم تعدني بلقاء، وارتحلت. ولما ارتحلت قابلها الليل، واغرورقت ثناياها برعب كبير،استلقت على رصيف الينابيع الساهية وقوة خفية تطاردها، تطاردها ، والطريق إلى السدرة يهدهدها وهي تغني:
لو بات عندي قمري، أهرقت فيه كأس العمر،
واقتربت من خلوتك أيها الوقت الذي يلغيني.

1983.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فصول المودة القديمة
- حالة شبه خاصة
- تكوين
- الولدعديشان
- تلخيص جراح قديمة
- العربة
- سبعة ( رجال )
- بلاد
- باب انقلاب الحال
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة
- باب القران
- باب العداوة
- ذكر ما جاء في باب التفويت
- باب التدشين
- لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - النفس غير المطمئنة