أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدّين بن عثمان - تعطّل وظيفيّ: قصّة















المزيد.....



تعطّل وظيفيّ: قصّة


عزالدّين بن عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2386 - 2008 / 8 / 27 - 09:21
المحور: الادب والفن
    


1
عاد لبيب الخشيف من العاصمة إلى مدينته الصّغيرة، قحطانة، بشهادة في التـّـجارة، وهو يمنّي النّـفـس أماني لا حدود لها وفكره مليئ بمخطـّـطات لا آخر لها، لكن يعوزه المال الذي لا تتحقـّـق المشاريع من دونه وعائلته تعيش أوضاعا مزرية. والده المكفوف تقدّمت به السّنّ فأصابه الخرف وصار يهذرم وهو قابع في غرفته طوال اليوم. وأمّه، ماوية، امرأة تعدّت الخمسين، ومع ذلك تعمل في مصنع الآجر، وهو المصنع الوحيد في المدينة، تعبـّـئ الشـّـاحنات وترافق السـّـائقين لتفرغ الحمولات لدى الزّبائن، وذلك لكي تعيله وأخواته السـّـتّ. ظلـّـت ماوية تكدح وتشقى وظلّ لبيب يحلم ويعتبر نفسه مثقـّـفا مؤمنا بأنّ الإرادة تتغلـّـب دوما على الظـّـروف مهما كانت قاسية، لكنـّـه كلـّـما طرق بابا لم يفز سوى بالفشل والإحباط. لم يضعف بادئ الأمر، إلاّ أنّ اليأس تغلـّـب عليه ولفّ قلبَه القنوط بعد سنتين من البحث الدّؤوب. كره المدينة وناسها ولم يعد يخرج لتجوال إلاّ عندما يجنّ اللـّـيل. وفي شتاء السّنة الثـّـالثة من عودته قضى الموت على والده. حزنت ماوية وبناتها السـّـتّ حزنا شديدا. أمّا لبيب، وإن آمن بأنّ الموت قد أراح والده من العذاب، فقد أطبقت على قلبه الكآبة. وما إن تغلـّـبت ماوية على ترحها واستأنفت عملها حتـّـى هجم عليها الموت، هي أيضا، ذات صباح، وأطاح بروحها شرّ إطاحة إذ دهستها شاحنة ملأى بالآجر وطحنت ضلوعها وأحشاءها. فطر الحزن والجزع قلب لبيب وقلوب أخواته السـّـتّ.

لزم البيت، ويقضـّـي اليوم متنقـّـلا، دون توقـّـف، في أرجاء الغرفة مترنـّـحا كالمخمور وهو مطأطئ ويفرك كفـّـيه من حين لآخر ويلوم نفسه لوما شديدا وكأنّ ما حلّ بأمّه كان من صنع يديه. سمعتـْه أخته الكبرى، ريحانة، ذات مساء يتألـّـم ويقول: "ويلي! ماتت أمّي من أجلي. وقبل موتها تحاشتنيَ النّاس لأنّ جيبيّا خاويّين، ولم يكن أحد يعبأ بي أو بحديثي. أقنعتُ نفسي بأنّ ذلك طبيعيّ جدّا إذ لا يلتفّ النّاس حول شخص لا منزلة ولا قوّة له ولا ينصتون إليه. ويحي! أنا المحكوم عليه، المُعدَم، السـّـعيد في شقاوته! أنا البليد الأحمق، يعيش على هامش الأحداث في بلده! حملت الفراغ وعشت في فراغ. أحببت كلّ ربيع مَرّ. أحلامي كانت حلوة ولكنّها واهية؛ كنت أقول بقائي في قحطانة فرحي... آه! ولكنّ ما حدث أفقدني الحسّ. آه! آه! دفعت الكثير وأحلم باليوم الذي نعيش فيه في نعيم! لكنّ هذا لا يهمّ؛ أريد فقط أن أفهم الى أين نسير؟ هل أنا عبقريه طبيعيّة؛ أم أنّي واهم؟ ويحي! كيف تجمّدت دماغي وقد كنت فكرا متوقـّـداا؟". فاض كبد ريحانة حنوّا على أخيها الصّغير فذهبت إليه وعانقته طويلا وحاولت أن تخفـّـف ما به فتنهّد وقال لها:
ـ أنا أعيش بالأماني يا ريحانة؛ ولذلك خمد فكري وتجمّد ذهني. أنا لا أُدين أحدا يعيش في عالم من الأحلام، لأنـّـنا نائمون في قاع المحيط ولن يتغلـّـب علينا أحد في مضمار الأحلام! فمتى تبزغ النـّـجوم ويخرج القمر، يا ريحانة؟
ـ اسمع، يا أخي، أرى أنّك تتفلسف وأنا لا أفقه في الفلسفة شيئا ولا أعرف الأحلام أيضا ولذلك أقول لك فقط إنّ تلك الكارثة التي حلـّـت بنا لا يد لك فيها فكفّ عن التـّـألـّـم وأخرج للإكتساب. لئن لم تجد عملا في الحكومة بإمكانك أن تتعاطى صناعة حرّة. إلى متى ستظلّ مرتدما في البيت؟
ـ أيّة صناعة أتعاطى وأنا لا أحسن غير التـّـجارة؟ عليّ أن أجد عملا قبل كلّ شيء وأن أدّخر مالا أفتتح به محلاّ تجاريّا...
ـ عندي فكرة. استلف مبلغا من جارتنا درّة؛ إنّها تملك مخبزة وستقرضك مالا تتاجر به في الثـّـياب المستعملة أو التـّـوابل أو موادّ التـّـنظيف أو أيّ شيء آخر.
ـ لكنّ إيجار المحلاّت التـّـجاريّة غال جدّا؟
ـ لن تؤجّر محلاّ. بإمكانك أن تصبح تاجرا متنقـّـلا. نعم؛ تحمل السّلع إلى القرى والدّشر المجاورة مثل البيّاعين القدامى.

كان لبيب يعاني من صعوبة في اتـّـخاذ القرارات ولا يخلـُـص إلى رأي أو حُكم من دون الافراط في التـّـفكير. ظلّ يقلـّـب بصيرته فيما عساه يفعل وفيما يتاجر فيه إلى أنّ جاءته ريحانة بمبلغ من المال استلفته من جارتها درّة. وبعد فترة من الاضطراب والتـّـلجلج خرج لبيب للإرتزاق، لكنّ النّاس وقفوا مشدوهين، في الصّباح الباكر، حين رأوه مارّا في الشـّـارع الرّئيسيّ للمدينة يسوق بغلة بيضاء محمـّـلة بزنبيل محشوّ بالبضاعة التي سيتاجر فيها وعلى كتفه جراب مملوء أيضا. لم يخجل من المشي وراء البغلة البيضاء بقامته الفارعة وإنّما راح ينادي بأعلى حنجرته في تحدّ للجموع العاطلة التي تنظر إليه في استغراب: "صوابين، مراهم، مساحيق... خلطات لتكبير الثــّـدي، زيوت تجعل الوجه ممتلئا... دهون تجعل الجلد مشعـّـا...". لقد أجبرته الظـّـروف في النّهاية على أن يتحوّل إلى بائع متجوّل يبيع موادّ التـّـجميل ومساحيق النّساء والعطور، يتنقـّـل من حيّ إلى آخر ومن قرية إلى أخرى وقد ترسّخ إيمانه بأنّ المال ليس أصلا لكلّ الشـّـرور كما يعتقد النّاس.


2


قطع لبيب المدينة ممتطيا ظهر البغلة البيضاء وطاف في أحيائها، وفي كلّ حيّ أوقف البغلة وظلّ ينادي "صوابين، مراهم، مساحيق... خلطات لتكبير الثــّـدي، زيوت تجعل الوجه ممتلئا... مستحضرات تجعل الجلد مشعـّـا..." حتـّـى جاءت النـّـسوة والفتيات الجميلات وأحطن به فباعهنّ ما طلبن. وفيما هو متوجّه إلى إحدى القرى المجاورة أغرق في التـّـفكير وراح يقول: "لم يطرأ أيّ تغيير على قحطانة منذ خمسين عاما عدا الأحياء القصديريّة التي أحاطت بها والأكواخ التي بُـنيت على مشارفها. ناسها كانوا يستهزئون بي لأنـّـي عاطل واليوم يسخرون منّي لأنـّـي أمتطي ظهر هذه البهيمة. لم تتغيّر العقول وأمام اللاّمبالاة ليس هناك خيارات متاحة: عليّ أن أتشبـّـث بمبادئي وألاّ أعير اهتماما للسّخرية. لئن سلـّـمت بضعفي أخضع لمن هو أقوى منّي". وعندما بلغ القرية أخذ ينادي بأعلى صوته لكن لم تأتيه أيّة امرأة أو فتاة وكأنّ القرية غير مأهولة. وفيما هو يتأهـّـب للذّهاب إلى قرية أخرى سمع صوتا يناديه: "أنتظر يا بيّاع، أنتظر!". أوقف البغلة واستدار ناحية الصـّـوت فرأى فتاة تحثّ الخطى نحوه. حدّق فيها عندما اقتربت منه وأجال بصره في جسمها المكتنز؛ لقيها جميلة وإن كانت داكنة اللـّـون كأنـّـها الغسق. فتاة ريفيّة تلبس حذاء رجل وشعرها الأسود مكوّم على سطح رأسها لكنّها تتـّـقد قوّة وابتسامتها العريضة غير مصطنعة. ارتاح إليها لبيب بالرّغم من أنّ رائحة العود التي تفوح من شعرها قد سطعت أنفه ما إن وقفت أمامه بوجه متهلـّـل.
ـ ماذا تبيع يا بيّاع؟
ـ اسمي لبيب فأرجو أن تناديني باسمي!
ـ وأنا اسمي أتلاد!
ظنّ أنـّـها خرقاء إذ لم تفهم ما قصد لكنّه قال لها:
ـ أنا أبيع العطور ومساحيق التـّـجميل فماذا تريدين يا أتلاد؟
ـ اريد محمّرا للشـّـفاه ومجمّلا للرّموش وقارورة من المسك وأوقية من العود وشيئا من السّواك ورطلا من الحنّاء وأوقية من البخور.
ـ ليس عندي ما طلبت وإنّما لديّ عطور مخلوطة هي من أفخر الطـّـيب الموجود في بلادنا وعندي موادّ تجميلٍ عصريّة.
ناولها محمّر الشـّـفاه وكحلا للرّموش فراحت تفحصهما وعندما أخبرها بالثـّـمن وجدته مشطّا لكنّها لم تنصرف وبقيت تنظر إليه ووجهها تعلوه الحسرة. أدرك لبيب ما يختلج بداخلها ورجّح أنّها فتاة تتوق إلى الحضارة ولكن يعوزها المال مثله فأعطاهما إيّاها مجـّـانا. وفي غمرة فرحتها لقفت يده وقبـّـلتها ثمّ قالت له:
ـ في الغد جئني بقارورة من المسك وجئني بالكافور والبخور والعود والسـّـواك.
ـ إلى أين أجيئك بهم؟
ـ أنظر هناك؛ ذلك البيت هو بيتنا فجئ بهم إلى هناك.
قالت ذلك ثمّ ودّعته وانصرفت يستطيرها الفرح ولبيب يتبعها ببصره.

ظلّ، طوال الطـّـريق، يفكـّـر في أتلاد وقد تبدّى له مذ رآها أنّ في نفسها براءة ريفيّة لم تعد موجودة في الفتيات المتحضّرات. وعاد إلى المدينة مهدود القوى لكنّه اقتنى لها ما طلبت قبل عودته إلى البيت. ومن الغد توجّه إليها بعد تطوافه المعهود في المدينة. نادى بأعلى صوته عندما بلغ المنزل "أتلاد، أتلاد، أنا البيّاع لبيب"، لكنّ أتلادا لم تأت للقائه وإنّما فتحت الباب عندما أوقف البغلة البيضاء أمام المنزل. بقي ممتطيا ظهر البغلة ينتظر قدومها لكنّها نادته قائلة:
ـ ترجّل عن البغلة يا لبيب. هات ما جئت به من بضاعة وتعال؛ ستتناول الغداء عندنا فأنت لا شكّ جائع.
أقتادته إلى غرفة ليس فيها سوى سرير وحصير مفروش أمام السـّـرير وقطعا من الأثاث البالي. دعته إلى الجلوس على الحصير. مدّ لها لفافة وقال:
ـ قد وضعت فيها الأشياء التي طلبت منّي بالأمس وزدت عليها قارورة من زيت الجوز الهنديّ وقارورة من الدّهان المثبّت لموادّ التـّـجميل على الوجه وقارورة من الزّبدة المقاومة للتـّـجاعيد، هديّة منّي إليك.
لقفت يده وقبـّـلتها كما فعلت بالأمس ثمّ خرجت مسرعة وجاءته بالغداء. لم يكن في البيت سواها غير أنّ لبيبا لم يسألها أين ذهبا والداها وإنّما بقي ينتظر أن يأتيا ليسلـّـما عليه. طال انتظاره، وفرغ من الأكل فجاءته أتلاد بالشـّـاي ولم يأت أحد سواها. جلست قبالته، وهو يحتسي الشـّـاي، محوّطة ركبتيها بذراعيها ومن حين لآخر تجذبهما إلى فوق أو تمدّ رجليها ثمّ ترفعهما وتجذبهما مجدّدا من الرّكبتين حتـّـى يلامسا نهديها. اندهش لبيب من تصرّفها ولكنّه أحسّ، شيئا فشيئا، برغبة جامحة في أن يداعب جسمها وأن يقبّل شفتيها وقد أدرك أنـّـهما وحيدين في البيت. رأت أتلاد عينيه تحملقان في جسمها ووجهه قد احمرّ وأصابعه ترتجف فقالت له:
ـ هذا ليس سلوكي الاعتياديّ، يا لبيب، ولكنّي أحببتك مذ رأيتك بالأمس وكنت خائفة ألاّ تأتي. أمّا الآن وقد جئت ففرحي عظيم.
لم يقل شيئا ولكنّه في لحظة ما انتفض قائما وقال لها:
ـ أريد أن أعانقك يا أتلاد وأن أقبـّـل شفتيك فتعالي إليّ.
انتصبت واقفة وتقدّمت منه فعانقها بلهفة وقبّل خدّيها وشفتيها وهو يختلج. وحين تركها وقد خاف أن يفاجئهما أحد أخرجت ذراعيها من الفستان وتركته يسقط إلى أسفل قدميها. آه! إنّ جسدها أجمل ممّا كان يعتقد. التصق بها ولم تصدّه عن جسمها الممتلئ، الغضّ، روائح العود والخزامى التي تفوح منه. أضعفه الحرمان من جسد الأنثى فلم يستقرئ العواقب، وانتهت بهما القبل الحارّة والعناق واللـّـذّة الجامحة إلى الفراش. وعندما نهض ليرتدي ملابسه وينصرف بكت أتلاد بكاء مرّا وقالت له:
ـ أخاف أن تعتبرني داعرا يا لبيب وتنقطع عن زيارتي.
ردّ عليها قائلا بعد تفكير:
ـ لو تـَفـلتِ في البحرِ، يا أتلاد، والبحرُ مالحٌ، لأَصْبَحَ ماءُ البحرِ من رِيقك عَذْبا(1).
لم تفهم ما قاله ولكنـّـها كانت صائبة فيما ذهبت إليه ظنونها فقد اعتبرها، في قرارة نفسه، عاهرا باعته جسدها مقابل موادّ التـّجميل. رغم ذلك لم ينقطع عن زيارتها وقد علم أنّ والديها وأخوتها يعملون كامل اليوم في أحد الحقول التي يملكها واحد من أعيان قحطانة. منذ ذلك اليوم صار يتردّد على ذلك البيت فتفتح له أتلاد لينام معها في نفس الفراش ثمّ يغادر.

وذات يوم ذهب إليها كعادته يهزّه الشـّـوق إلى جسدها الرّصاصيّ فوجدها مكتئبة شاحبة مضطربة. ألحّ عليها بأن تخبره بما يحزنها ويعكـّـر مزاجها فأنبأته بأنـّـها حامل. وقع عليه الخبر وقوع الصـّـاعقة حتـّـى أنّ أتلادا أخذت تبكي بكاء شديدا. حاول أن يسكتها لكي يفكـّـر فيما عساه يفعل فحبست دموعها وسألته:
ـ هل تحبـّـني يا لبيب أم لا؟
ـ ليتني أحبّ حتـّـى الموت، يا أتلاد! ولكن هذا غير مهمّ الآن؛ دعيني أفكـّـر!
ـ فيما ستفكـّـر؟ ليس هناك من حلّ إلاّ أن نتزوّج. أم أنـّـك تنوي أن ترميَ بي كما يُرمى بالجيف؟ هذا ما لن أسكت عليه يا لبيب. إنّ والدي وإخوتي سيقتلونني لا محالة لئن افتضح أمري.
تندّم وتحرّق وتوهّج صدره أسفا، ولأوّل مرّة ارتأى أنّ أتلادا شديدة السـّـمرة حتـّـى أنّ مساحيق التـّـجميل لن تفيد شيئا في تجميلها. بالرّغم من ذلك أعلمها بأنّه سيتزوّجها وأنّه قادم قريبا لخطبتها بصحبه أخته ريحانة. وقد قبل لبيب لأنّه مذ صار بيّاعا متجوّلا يحمل عن نفسه صورة سلبيّة؛ ورغم ذلك وضع لزواجه منها شرطا عدّه أساسيّا: أن تتخلـّـى عن استعمال العود والخزامى والسـّـواك والحنـّـاء والبخور وأن تعتنق الحضارة والتـّـمدّن. وقد وقع بموقفه هذا في عدم التـّـسامح العاطفيّ والنـّـرجسيّة إلاّ أنّه اعتبر ذلك من حقـّـه مادامت أتلاد أقلّ مرتبة منه وقد وهبته جسدها أوّل مرّة من تلقاء نفسها.


3


مضت عشرون عاما على زواج لبيب ورُزق بنتا وولدا فبلغ عدد الأفراد المقيمين في البيت عشرة: أخواته السّتّ اللاّتي بقين بدون زواج، وزوجته وولديه وهو. عشرة من الأفواه يقوتها لبيب، ولذلك لم ينتهي صراعه ولم تختفي همومه. ونظرا لمعاناته الصّامتة وقع في عادة سيّئة لمّا ثـقل عليه الحِـمل فقد صار يحتسي الخمرة بانتظام. وقد سمّى ابنته "عاتقا" وابنه "عثكالا" لأنـّـه كان مخمورا عندما وُلدا. ومع مرور السّنين لم يفارقه إيمانه بأنّه تزوّج، غصبا عنه، من فتاة غير متعلـّـمة، بل متخلـّـفة يصفها النّاس بأنّها رعناء. وممّا زاد في عذابه هو أنّ ابنه، عثكالا، قد ولد بشقّ في الحنك ولذلك لا يحسن التـّـكلـّـم، وعندما بلغ السّادسة عشرة بقي قصيرا، رخوا، لا يحبّ الاختلاط بالفتيات، ثمّ بات واضحا أنّه متخنّث. أمّا عاتق فكلـّـما كبرت تزايد فيها الحمق. وفي حياتها كانت تُركـّـز اهتمامها على حذائها العالي الكعب وثيابها الزّاهية الألوان وتقوم كلّ يوم بصباغة شعرها وتقليم أظافرها. وكلّ شيء تنطق به يدلّ على سذاجة وجهل. وذات يوم أغمي عليها ولمّا نقلت إلى المستشفى تبيّن الأطبـّـاء أنـّـها قد أصيبت بالصـّـرع. ومنذ ذلك اليوم صارت تستعمل أدوية عديدة تسبّب لها حالات من الالتباس، وصعوبة في الكلام، وترنّحا في المشي، وتخديرا، وتعبا دائما، ودوخة، وتـقيؤا، وجفافا في الفم والحلق. وبعد سنتين سبّبت لها الأدوية اليرقان وهو اصفرار الجلد والعينين. وكلـّـما تناولت تلك الأدوية تصاب بالهوس أو الدّوار والغثيان. وكانت النـّـتيجة أن صار لبيب، الذي نال الأستاذيّة بتفوّق قبل ثلاث وعشرين سنة، مغرقا في تفسير الأشياء بالخرافة وصار يُرجع كلّ مصائبه إلى سوء حظـّـه. لكنّه بالرّغم من ذلك يعيش بأمل واحد: أن يعود إلى مجده القديم. ولكي يعود إلى مجده عليه أن يهجر زوجته. هذا ما يستنتجه بالمنطق الصّوريّ كلـّـما سكر لكنّ قوّة خفيّة لم يفهم كنهها ظلـّـت تمنعه من ذلك.

أمّا أتلاد فقد ظلـّـت راضخة متمسّكة به لأنـّـها تعتقد أنّها من دونه لا تساوي شيئا: "ظِـلّ رجل خير من العيش بلا رجل"؛ هكذا تقول دائما كلـّـما تخاصمت معه. وبما أنـّـها لم تعد تثير فيه أيّ شعور بالميل إليها فإنّ لبيبا يحلم في سكره بجسد جميل يدفن فيه أحزانه، وعندما يفيق يعتبر ذلك إغراء من الشـّـيطان ويقول مخاطبا نفسه، محاولا تبرير حالته: "أنا في الواقع أحبّ عائلتي". أظطرّت أتلاد إلى الكدح كعاملة في زراعة اللـّـفت السـّـكّريّ، لدى أحد الأعيان اسمه عماد العنيصل. وما دامت أتلاد تعمل فقد صار لبيب يقعد عن العمل من يوم لآخر و يتردّد على المدينة لتقضيّة الوقت في المقهى ثمّ في الحانة. وصار يفضـّـل الهروب من عائلته ومن الاحتياج.

وفي يوم من أيّام الشـّـتاء خرج للعمل، وبينما كان بأحد الأحياء ينادي بأعلى صوته: "صوابين، مراهم، مساحيق... خلطات لتكبير الثــّـدي، زيوت تجعل الوجه ممتلئا... محاليل تجعل الجلد ناعما..."، رأى فتاة ملتفـّـة في ثوب فضفاض يُشبه البرنُس أو الملاءة، قادمة نحوه، ولم يأت غيرها من نساء وفتيات الحيّ. وفجاة لمح كلبا صغيرا يُفلتُ من تحت البرنس، ويجري نحوه، وهو يُطلقُ نُباحا مُحتشما. وسمع صوت الفتاة يُنادي الكلب في نبرة فيها شيء من الحدّة والغضب:
ـ نينيو(2) ، عُـدْ إلى هنا فورا!
أصدر ضحكة فاترة ثمّ انحنى ليداعب الكلبَ الماثل أمامه وهو يُحرّك ذنبه بسرعة تعبيرا عن الفرح والإحتفاء. ولم تكفّ الفتاة القادمة نحوه عن النّداء:
ـ نينيو، أيّها الشّقيّ لأعاقبنّك اليوم على تهوّرك!
وما إن اقتربتْ منه حتّى انتشل الكلبَ من على الأرض ومدّه إليها، فانفتح البرنس، ومدّت يدين صغيرتين لتلقفه فوقع البرنس على الأرض. شاهد لبيب وجها في روعة الحسن والجمال يشعّ إشعاعا وجيدا بارعا وعينين عسليّتين فتـّـانتين فاقشعرّ جلده. تركت الكلب الممدود إليها وانحنت لتلتقط العباءة من دون أن تحوّل عنه طرفها، أمّا هو فلحظ خصرا ضامرا مخروطا في فستان رهيف قصير الكمّين لا يكاد يبلغ الرّكبتين، ورأى شعرا حريرا، منسدلا، متدلّيا على صدرها فأصابه سهوم. التفـّـت بالملاءة ولقفت الكلب من يديه ثم دسّته في حضنها. خطت خطوتين إلى الوراء، وهي تُحدّق في وجهه، وسألتْه:
ـ ما بالك تنظرُ إليّ هكذا؛ قد خوّفتني؟
أجاب ليهدّئ من روعها:
ـ لا تخشيْ شيئا فأنا أعرفُ والدك.
لم يكن يعرفُها ولا يعرفُ أحدًا من عائلتها. ولكنّه تعمّد الكذب ليحادثها لبعض الوقت. سألتْه من جديد وقد تملّكتْ نفسها:
ـ هل تعرفُ حقـّـا عماد العنيصل وابنته الكبرى زمرّدة؟
أيقن من نبرة صوتها أنّها قد اطمأنّت وذهب خوفها فقال لها:
ـ أعرف العنيصل ولا أدري إن كانت له بنت اسمها زمرّدة، ولا تربطني به في الحقيقة أيّة صلة.
ولم يكن يتوقع منها هذا الردّ السّاخرَ:
ـ لقد كذبتَ إذا، حين ادّعيْت أنّك تعرف أبي؛ فأنا زمرّدة بنت العنيصل عينه.
قال لبيب في نفسه: "إيه! لمثل هذه الوجوه النـّـاصعة المشرقة تصلح مساحيق التـّـجميل، أمّا أتلاد فهي سوداء ولن تفيدها شيئا. هذا الجسم الغيسانيّ الرّشيق وهذا البدن الممشوق دون إفراط هما نتاج الحاضر أمّا أتلاد فنتاج الماضي"! وفيما هو شارد الذّهن سألته زمرّدة:
ـ هل عندك دهون لتغذية البشرة ومساحيق لتجميل الوجه؟
ـ عندي طلاء للشـّـفاه لمّاع، ورديّ، وبنفسجيّ، وأخضر، وأزرق، وعندي ماسكرا سائلة، وهي مجمّل للرّموش لا يزيله الماء ولذلك هو ثمين.
ـ اعطني طلاء الشّفاه الأزرق وقارورة من الكحل السّائل؛ هذا الذي لا يزيله الماء. وهل عندك روج للخدّين؟
ـ عندي محمّر للخدود في شكل قشطة.
ـ اعطني إيّاه. وأريد طلاء للأظافر أزرق أيضا كي يكون متماشيا مع فستاني هذا.
وبالرّغم من أنّه قد فات الأربعين فقد وجد فيها الفتاة الجميلة المتعلـّـمة المتحضـّـرة التي بها يحلم وتعلـّـق بها قلبه سرّا.
ـ في الغد جئني بمرهم مقوّ للشـّـفاه وصبغ للشـّـعر وزيوتا وأملاحا أستعملها عند الاستحمام ورغوة وغبرة للوجه ومسحوقا مظلـّـلا للعينين. أريده أرجوانيّا يا بيّاع. جئني كذلك بمستحضرات ومحاليل تغذّي وتروي البشرة وتجعل الجلد ليّنا ومشرقا.
قالت ذلك وتقدّمت من البغلة تداعب وجهها. تذكـّـر لبيب إدمانه على الكحول وقال في نفسه: "كلّ شخص ضحيّة لشيء ما أو لقوّة ما؛ لكن أنـّـى لي أن أطلـّـق أتلادا وأن أتزوّج زمرّدة، هذا الملاك الذي يملأ النـّـفس انشراحا، وأنا في ضعفي هذا؟". لازال يعيش بالأماني، وفي واقع الأمر لم تعد له أيّة رؤية أو فكرة. خطر بباله أنّ زمرّدة بنت واحد من الأعيان ومن ملاّكي الأراضي وبدا له أنّه لم يعد مثقـّـفا مستنيرا كما كان فتشاءم وقال: "هذا الجمود أمات حسّي وأسقم قلبي". طبعت زمرّدة قبلة على جبين البغلة البيضاء ثمّ انصرفت فوقف لبيب أمام البغلة حائرا ثمّ قال لها: "هل حقـّـا خمد فكري وتجمّد ذهني أيّتها البغلة؟ أؤكـّـد لك، يا بغلتي العزيزة، أنّي لأستيقظنّ يوما ولأستردّنّ كلّ ما فقدتُ وإن مشيت على الألغام!".

عاد إلى البيت عندما جنّ اللـّـيل وظلّ واجما ولم يتناول العشاء. وعندما ذهبت أخواته السّتّ كلّ إلى فراشها ونام ولداه جاء بدمجانة من الخمرة وراح يحتسي الكأس تلو الأخرى دون طعام حتـّـى سكر. أحسّت أتلاد بأنّ شيئا ما ماساويّا قد لاح في الأفق فجاءته وقد عقدت العزم على أن تتعرّف على ما يكدّره:
ـ لقد بقيت صامتا طوال السـّـهرة، لأنـّـك محزون، يا لبيب؛ فما سبب حزنك؟
ـ أعياني الحديث يا أتلاد ومهما حدّثتك عمّا يختلج في صدري لن تفهمي.
ـ قل لي بربّك فيما تفكـّـر ولا تعيّرني بالجهل.
ـ لقد قلت لك مرارا إنّ عالمي يا أتلاد مختلف عن عالمك وعن عالم النـّـاس الذين يعيشون في قحطانة. تريدين أن أقول لك فيما أفكـّـر؛ هل ستفهمين؟ شوفي إذن: كان القرن الماضي عقيما وهذا القرن مذ حلّ مأساويّ! هل فهمت شيئا؟ هل تدركين أنّ الإحساس المتجذّر والمزمن بأنّ الفرد لا معنى لوجوده سبّب تعطـّـلا وظيفيّا في النّظم العائليّة وتفكّكا في الأدوار الأسريّة؟ والتـّـعطـّـل الوظيفيّ هو تعطـّـل للإرادة يسبّبه الافتقار الى القدرة على التّحكم وانعدام الحافز والمحفّز والطاقة.
ـ ما هذا الكلام الذي نطقت به؟ أقلع عن الشـّـراب يا لبيب فقد أفقدك العقلَ والله!
ـ أنا منهمك في الخمرة ليس جريا وراء الشـّـهوة، يا أتلاد، بل لأنّ العالم لا يسعني. أوه! لا تمنعي، يا أتلاد، رجلا ذا عقل وروح من أن يفعل ما يشاء. ولا تمدّي له كأسا ذهبيّة فارغة يرفعها تجاه القمر. الله أعطانا ملكة العقل فلما لا نعمل بها؟ هل فهمت ما أقصد؟
ـ لم أفهم شيئا يا لبيب، وما جئت إلاّ لأقول لك إنّ رجليك تفوح منهما رائحة خبيثة؛ عليك بغسلهما قبل النـّـوم وإلاّ لن نتقاسم الفراش منذ اللـّـيلة.
ـ وأنت ألا ترين أنّ روائح العود والخزامى والإكليل والصّنوبر التي تفوح من جسمك كريهة أيضا؟
ـ إنّي أستعمل خلطات تقليديّة لعلمي بأنّ المساحيق والعطور التي تتاجر فيها ثمينة فهل تعيّرني لأنـّـي مترفـّـقة بك؟
لم يجب بشيء لاقتناعة بسخافة التـّـواصل وعقمه. وخلال سكره لم يفارقه وجه زمرّدة الملائكيّ. وكلـّـما تأمـّـل وضعه المزري ترسّخ إعتقاده بأنّه محكوم عليه بالفشل في جميع تطلـّـعاته. وانتهى به التـّـأمـّـل إلى أنّ أتلادا هي المسؤولة عمّا يقاسي فعمد إلى الانتقام منها بطريقته الخاصّة: حدّثها عن زمرّدة وعن حبـّـه لها. بقيت أتلاد فاغرة فاها لدقائق من فرط الدّهشة ثم استفاقت فصاحت فيه:
ـ هل أختبلت يا رجل؟ ألا تعلم أنّ زمرّدة بنت العنيصل الذي أعمل في أرضه تكبر ابنتك بسنتين فقط؟ وهل تدرك أنّها منحلـّـة الأخلاق وليست ملاكا كما تتصوّر؟
لم يردّ على أسئلتها وإنـّّـما راح ينادي زمرّدة ويترجّاها بأن تجيئه في المنام: "أستعطفك فقط أن تجيئيني في الحلم يا زمرّدة! في الظـّـلمة القاتمة وجهك الجميل يضيء طريقي! سأترقـّـبك اللـّـيلة بجانب النبع، يا زمرّدة، أو خلف التـّـلـّـة بين أشجار اللـّـوز! تعاليْ؛ إنـّـي نائم في طيّات الماضي ولست متعجـّـلا! عندما تجيئينني، يا زمرّدة، تختفي روائح العود والخزامى وتفارق خياشيمي إلى الأبد!". وفي لحظة ما خطر لأتلاد أنـّـه سكران ولعلّ ما نطق به سببه السـّـكر ومنـّـت النـّـفس بأن يصدق ظنّها ثمّ أخذت تبكي وتنتحب فأوقضت الأخوات السّتّ وولديها. ولم تتمكـّـن ريحانة من تهدئتها إلاّ عند الفجر.


4


مرّت الأسابيع والأشهر وأتلاد تشعر بالذّنب وتحسّ بأنـّـها المسؤولة عمّا آل إليه زوجها، ويشعر لبيب بالغضب في علاقته بزوجته. استفاق هذا الصـّـباح من النـّـوم من حلم لذيذ. رأى في حلمه الفتيات الجميلات اللاّتي درسن وإيّاه بنفس الجامعة تتـّـقدن حيويّة بوجوههنّ المشرقة وأجسامهنّ الغضّة وثيابهنّ الأنيقة التي تشعّ تحت شمس ذهبيّة. لا شكّ أنهنّ قد كبرن وحصلن على وظائف مهمّة ولهنّ أزواج وأطفال. فتح عينيه وقلبه صخرة باردة تملأ ضلوعه وتطفح مرارة. نظر إلى السّاعة الحائطيّة ولكنّه فكّر في أنّ قياس الزّمن لم يعد مهمّا في حياته. إنّه يقيس حياته بحلمه الذي لم يخبُ. قبل لحظات كان جالسا في حديقة جميلة وها هو الآن في سريره، جسمه ينضح عرقا ولا يسمع سوى أنفاس أتلاد الجالسة جنبه. لم يعد يطيق رائحة الكلونيا التي تتضمّخ بها. من قبل كان جسمها يعبق براوائح الخزامى والإكليل وكانت تهرس الكزبرة وحبوب الصّنوبر وأزهار الأقحوان في المهراس ثمّ تضيفهم إلى الماء الذي به تستحمّ. تلك الرّوائح تجعل رأسه تدور. وكانت تـُشبع شعرها بالعود واليوم باتت تقلـّـد زمرّدة، بنت العنيصل، الذي تعمل في أرضه في كلّ شيء. اليوم أصبحت تسغسغ شعرها بالصّـبائغ وتدهن جسمها بأنواع عديدة من الدّهانات وترقرق على ثيابها العطورَ أسواء كانت رجاليّة أم نسائيّة سيّان إذ هي لا تحسن قراءة الأسماء المكتوبة على القوارير والعلب. تذكـّـر لبيب زمرّدة فنسي أنّ زوجته جالسة جنبه؛ تنهّد وقال بصوت عال: "آه! يا زمرّدة! عشقتك، ولكي لا أسيئ إليك صرت أخرس، ولا زلت كما كنت في الماضي صامت حزين. وأنت أيضا صامتة ولكنّ عينيك المتوهـّـجتين تحدّثاني! نسائم الرّبيع، يا زمرّدة، وهي تداعب الأغصان، في الصّبح، حيث تتألـّـق قطرات النّدى تذكّرني بوجهك. وأرى خصرك الأهيف وأنت تمشين في المدينة ويديك الصّغيرتين تومئان إليّ فتجتاحني رغبة في أن أضمـّـك إلى صدري. آه! يا زمرّدة! فمك الصّغير كانـّـه وردة متفتـّـحة تعبق بإكسير الحياة!".

آلم أتلاد ما سمعت وأحسـّـت بوجع شديد في فؤادها وكأنـّـما طعنت بسكـّـين فأطلقت صرخة انتشلتْ لبيبا من الحلم وردّته إلى الواقع. بقيت أتلاد تقاوم الألم وحين خفت راحت تفكـّـر في أمره فلاح لها أنّها لئن ثارت عليه زادت الوضع تعقيدا. ارتدت ملابسها ثمّ تركته في السّرير ينظر إلى السّقف شاخصا وانحدرت إلى تحت. وعندما نزل لبيب وجدها في قاعة الجلوس تمرس شعرها في صباغ أحمر فقال لها:
ـ المساحيق والصـّـبائغ لن تفيدك يا أتلاد.
ـ قل لي بربّك يا لبيب؛ كيف أصيّر نفسي صهباء مثل الفرنسيّات؟
ـ كم مرّة قلت لك إنّك سوداء ولن تفيدك موادّ التـّـجميل؟ لكي تصبحي صهباء يجب أن تكوني بيضاء مسبقا، وهذا غير متوفـّـر فيك فكفـّـي عن إرهاقي بأسئلتك التـّـافهة.
ـ لقد طيّرت عقلك زمرّدة فصرت ضيّق الصّدر يعسر التـّـحدّث إليك. ما سألتك إلاّ لعلمي بأنّ زمرّدة تستعمل حبوبا لتبييض الجلد. وقد قالت إنّها متوفّرة في العاصمة فلما لا تشتري لي منها؟
قلّب عينيه في ملابسها الضـّـيقة وقال لها:
ـ أراك قد تركت الحشمة يا أتلاد وصرت مستهترة لا تلقين بالا لما يُـقال فيك.
ـ وأنت ألا تخجل من النّظر في صور النّساء العاريات على صفحات تلك المجلاّت؟
ـ جهلك يا أتلاد سبّب لي إحباطا فتـّـاكا. إنّ الجنون الذي في ولديك قد ورثاه عنك.
ـ هل كرهتني يا لبيب لأنّي لا أحسن الحديث مثلك؟ هل كرهت ولديك لأنـّـهما متخلـّـفان ذهنيّا؟

لم يردّ عليها وخرج مسرعا ليحمّل البضاعة على ظهر البغلة ثمّ يهيم على وجهه في القرى والدّشر. وضع في الزّنبيل دمجانة من الخمرة ودورقا من النـّـبيذ ولفافة فيها طعام وسار وراء البغلة. طاف في أحياء قحطانة ثمّ غادرها إلى القرى المجاورة وكان الفصل ربيعا. لقد صارت البغلة تعرف الطـّـريق فلم يعد يوجّهها وإنـّـما يتبعها وهو غارق في التـّـفكير. ولمّا وجد نفسه بين الحقول أوقف البغلة وجلس بجانبها بين أزهار الأقحوان وقبالتهما الجبال الشـّـامخة المحيطة بقحطانة. وضع دمجانة الخمر ودورق النّبيذ ولفافة فيها جبن وخبز وبصل أمامه ثمّ راح يشرب. وحين دارت دماغه صاح بأعلى صوته: "انا أعاني من وحدة قاتلة وأفتقر الى الرّفقة". ثمّ رفع كأسا إلى فيه ونظر إلى الشـّـمس الدّافئة فخاطبها قائلا: "ها قد تحطـّـمتُ ومع ذلك ينبغي أن أواكب الرّبيع أيـّـتها الشّمس". وبعد ردهة من الزّمن أحسّ بالذّنب فقال: "الماضي رمى بنا في قعر التـّـخلـّـف، ولازال إلى اليوم يؤذي قلبي أكثر ممّا آذانا من قبل. لكن هل أتلاد هي المسؤولة فعلا عمّا أنا فيه؟ لا. لا. عليّ أن أتشبـّـث بزوجتي وولديّا. آه! الكارثة هي ألاّ فائدة ترجى من التـّـواصل. آه! أيّها الجبل الشـّـامخ بقمّتك الدّاكنة أنت أخي!". وشاهد فوجا من العمّال والعاملات متوجـّـهين للعمل بأحد الحقول. حدّق فيهم فعرف زوجته وهي تسير مطأطئة خلف زمرّدة. طحن الشـّـجن قلبه فشرب عددا من الكؤوس ثمّ صاح في العمّال: "أيّها العمّال! تعالوا إلى الفكر؛ انظروا درب التـّـبّانة مثل غيركم!". وتناهت إلى سمعه الضّحكات السـّـاخرة لكنّه لم يعبأ بها.

صار يخلط الخمرة بكحول النـّـيودول الذي يُستعمل في موادّ التـّـنظيف وبكحول أخرى خامّة مثل البروبانول الذي يستعمل في تحضير العطور والميثالون وغيرهما. أتلاد أيضا صارت تدخّن... إنّها تعلم أنّ زوجها مغرم بابنة العنيصل فكيف تقاوم الإحساس بالمهانة والصـّـغار؟ صارت تقلـّـد زمرّدة في كلّ شيء. صارت ترفض الطـّـبخ وتنظيف المنزل وتركت تلك المهامّ لأخوات لبيب السّتّ. وتحبّ فستانا واحدا من فساتينها: فستانا يشبه فستان زمرّدة الأزرق الذي يتحدّث عنه لبيب في سكره. وفي البيت تلبس تبّانا ضيّقا وقميصا ضيّقا. وتـنفق الأجرة الزّهيدة التي تحصل عليها من عملها عند الحلاّقة. وصارت تبيع أشياء من البيت من أجل الحصول على شيء من المال تشتري به السـّـجائر. رأى لبيب أنّ سلوكها قد أصبح شاذّا. أمّا هي فلم تعد تأبه بزوجها وهو يتصفـّـح المجلات الإباحيّة ويتفرّج على صور النّساء العاريات. وفي ظلّ هذا التـّـفكّك انقلبت الأدوار فصارت عاتق وعثكال يقومان بدور الأمّ والأب وانقلب لبيب وأتلاد طفلين صغيرين.


5


تساقطت بعض أسنانه. ومع ذلك مازال يعتبر نفسه مثقـّـقا ذكيّا. لكنّه يشعر بالخجل من أفراد عائلته ويتظاهر بأنّه لا يعرفهم في كثير من الأحيان. ابنه عثكال، وإن كان شبه أخرس، يفكـّـر في قتله. أمّا ابنته عاتق فقد حاولت الانتحار: احتست لترا كاملا من الميثانول الخامّ الذي يضيفه لبيب إلى الخمرة لزيادة الكحول فيها، وقد مزجته بعدد من أقراص الصّرع: الكاربامازبين والتـّـياغابين(3). وعندما كانت عاتق في المستشفى فكـّـر لبيب كثيرا فاستخلص أنّ الفرار من أتلاد برفقة ابنته التي انتشلها الأطبّاء من الموت بصعوبة أصبح أمرا ضروريّا. استعدّ للرّحيل. باع البغلة البيضاء في السّوق واحتفظ بالمال. بكى على فقدان رفيق مطيع لا يعرف رذائل الآدميّين بكاء مرّا. كتب رسالة قصيرة موجّهة لأتلاد وتركها لأخته ريحانة لتقرأها عليها:

"إلى أتلاد: لقد أحببتك لأنّي رأيت فيك مجدي السّابق وقرأت في عينيك عظمة الماضي؛ لكنّي أكتشفت لاحقا أنّ أمجاد الماضي تكبـّـلني وتحبسني وتمنعني من الإنطلاق. لهذا السّبب قرّرت الرّحيل لكي أحيا في الحاضر ولكي أنقذ ولديّا من مصير مظلم يتربّص بهما. لم أكن قادرا على أن أنظـّـم حياتي فأنّى لي أن أغيّر حياة الآخرين؟ أرجو أن تفهمي هذه المرّة ما عنيت. وأودّ ان أقول لك في النّهاية : وداعا ، أنت عاجزة، وأنا عاجز. لم نعد نحلم ولو بمجرّد الصّعود ولذلك انفصمت عرانا.".

وحين غادرت عاتق المستشفى كانت أتلاد تعمل في حقل عماد العنيصل فتوجّه بها لبيب إلى محطـّـة القطار. وقد رفض عثكال أن يتبع أباه لأنّه يُبغضه وفضـّـل البقاء مع أمـّـه. وفي العاصمة أجّر لبيب غرفة في حيّ شعبيّ واستأنف العمل في بيع المساحيق والدّهون بأحد الأسواق. وكان يشعر بلذّة عارمة وهو يرى الفتيات الجميلات بأجسامهنّ اليافعة في ملابس شفّاقة أو ضيّقة تزدحمن من حوله لشراء مساحيق الوجه وطلاء الشـّـفاه اللّمّاع ومختلف المراهم والمتسحضرات والعطور. وأمّا أتلاد فقد انفصلت عن أخوات لبيب السّتّ وأجّرت غرفة ضيّقة تقيم فيها هي وابنها وصارت تعمل في مصنع الآجر.

إنّ الخلل الوظيفيّ يسبّبه الإدمان على موادّ أو أنشطة معيّنة أو أيّ شيء آخر يصبح المحور الرّئيسيّ الذي تدور حوله حياة الفرد إلى حدّ التـّـخلّي عن الأنشطة الطـّـبيعيّة الأخرى. وعندما يحصل هذا؛ الخاسرون هم الأطفال إذ يغرقون في معاناة نفسيّة وعقليّة واجتماعيّة. وفي قحطانة كلّ الظـّـروف تمثـّـل أرضيّة خصبة لكي يصبح النّاس مدمنين أو معتمدين بشكل إلزاميّ على وهم أو هاجس أو على أيّ شيء آخر مثل القمار والكحول. إنّ الفقر والتـّـهميش يؤدّيان إلى اضطرابات الشـّـخصيّة المزمنة: السّلبيّة والعدوانيّة والفوضى.
لندن 2006

هوامش:
هذه القصّة لا تعنى فقط بالتعطـّـل الوظيفيّ وإنّما تعرض إلى الخلط والحيرة الثـّـقافيّين؛ فلبيب وأتلاد رمزان للماضي والحاضر.

1. من بيت من الشـّـعر لعمرو ين أبي ربيعة.
2.
في الاسبانيّة: طفل صغير و طفلة صغيرة: un niño, una niña
3.
Carbamazepine , Tiagabine



#عزالدّين_بن_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنا القاتلة
- علاقات السّلطة في المجتمع: فصل من كتاب في علم الإجتماع
- معنى استقلاليّة القضاء وشروط المحاكمة العادلة
- حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود ...
- حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ود ...
- حقوق الإنسان ومضمون نظريّات حقوق الإنسان:


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزالدّين بن عثمان - تعطّل وظيفيّ: قصّة