|
العَذراء والبرج 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2383 - 2008 / 8 / 24 - 11:40
المحور:
الادب والفن
موقفٌ مُلتبَس ، حقاً . سمّره شعورٌ داهمٌ ، مباغت ، ما كان إلا لقسماته أن تفصح عنه بجلاء ـ كمن أدركَ حقيقة وقوفه ، المُهلك ، فوق لغم ماكر . خدَرٌ من عبق مدينته ، أليف ، كان قد شلّ حواسه ؛ من دروبها العتيقة ، التي راحَ يتوغل خللها ، مُتعقباً سني طفولته وجهالته . هكذا وجَدَ خطاه تقوده ، من طرفٍ إلى آخر ، حتى أوصلته إلى جسر " فيكتوريا " . هنا ، حقّ للحيرة أن تتلبّسه ؛ خصوصاً ، إستغرابه من وحشة المكان : " أيعقلُ أنني ضيّعت ذاكرتي ؟ " ، فكّر بقلق فيما هوَ يتلقف كلّ شاردة وواردة مما يحيطه من معالم وأشياء . المجرى الضيّق للنهر ، ثمة تحت موقفه ، كان قد أجفأ حتى من بقعة مياهٍ لسمكة الشمس . آثرَ إغلاق عينيه على صور غابرة ، بدلاً عن فتحهما على هذا الواقع ، الغامض ، المحبوك لغزاً لغزاً ـ كفخ . وإذ هداه تسكعه ، أخيراً ، إلى أطلال نهره ، الأثير ، فإنه ما عادَ بحاجةٍ إلى عودة مستحيلةٍ للرحّالة ، المسلمين والفرنجة على السواء ؛ أولئك المتوسّدين ترابَ الوهم . تنقله ، الدائب ، على طول الإفريز الحجريّ ، المُسوِّر ذلك المجرى الكئيب ، الحزين ، كان لمجرّد العثور على مبرر ما للبيت الشعريّ ، الشهير ، المنسوب لوزير جدّ سلالتنا ، الأول : " ومن بردى برّدَ قلبي الشوقُ ، فها أنا من حرّه مستجيرُ "
*** مُستمتعاً بمديح نهر ، ما بقيَ منه سوى جثة متفسّخة ، سرتُ على مَهَل وبلا أيّ مبالاة . بيْدَ أنني كنتُ مُجبراً ، أخيراً ، على الإكتراث بهؤلاء الباعة ، على الأقل ؛ الباعة الكثيري العدد ، والمتناثرين في هذه البقعة المتوحّدة ، المُقفرة من أيّ زبون في هكذا ساعة مُبكرة . حتى ماسح الأحذية ، المُستند بظهره إلى السور الوطيء ، رفع رأسه عن عينين حادتين لمُخبر ! عبثا كنتُ أبحث عن أمل حيّ قدّام هذا المجرى ، الميّت . أضحيتُ مُتغرّباً في مدينتي . ما أشبَهني بذاك السحاب الخريفيّ ، القادم من الإقليم الصقيعيّ ، الشماليّ ، الذي سبقَ وقضيتُ في غربته ما يزيد عن العامين . رأيتني من ثمّ أمام الباب الرئيس ، الحديديّ ، للحديقة الكبرى ؛ هنا ، أين الأغراس جميعاً بدَت بدورها جافة ، مُحنطة . ضجراً ، كان عليّ الإياب من حيث أتيت ، فمضيتُ بمحاذاة إفريز المجرى ، منتبهاً لنظافة الممشى القديم ، الذي كان بمثابة " الكورنيش " لأهالي الشام ، في الماضي السعيد : " لا بدّ أنّ الأشجار ، المُتيقظة فجراً ، هي التي تنهمكُ بكنس المكان ؟ " ، قلت بسريّ متشككاً . ولكن بالله ، أين مياهكَ أيّها النهر ؟
*** ـ " هذا ليسَ بنهر ، أيّها الأخرَق ! إنه نفقُ الثورة " قالها بصوت مرتفع ، خشن ، عجوزٌ زريّ الهيئة ، كان يقف غير بعيد عني ، منحن بجذعه على إفريز المجرى . مذهولاً من وقع المفاجأة ، تأملتُ الرجلَ ملياً ، طالما كنتُ متيقناً من أنّ صوته غير غريبٍ عن مسمعي . ناديته عن قرب ، فما إلتفتَ نحوي . طالعني " زين " على كلّ حال بمنظره ، المألوف . إلا أنّ الزمن ، المُنقضي ، لم يدعه دونما إضفاء علامةٍ عليه . فرأسه ، بشكل خاص ، كان خال من الشعر ، اللهمّ إلا خصلةٍ رماديّة ، رثة ، منتبذة حول النقرة . وما إستجلبَ إهتمامي ، أيضاً ، كانت تلك القصبة التي يمسك بها بحرص ، والمتدلي منها خيط طويل ، رفيع ، منته بمسمار على شكل شصّ . مضيتُ إذاً في متابعة هذا الصيّاد ، المزعوم ، مُفترضاً أنه ربما أبصرَ مرة ً قتلى المدينة ، الذين قذف المغولُ بجثثهم إلى لجة النهر ، فشقّ عليه ألا يمدّ لهم يداً . ـ " زكرَوَيْه .. ! " هتفتُ في جموده بنفاد صبر . ولكنه بقيَ على حاله ، محدقاً بإصرار في المجرى الجاف ، المُقفر إلا من صنارته ، الإعتباطية ؛ هذه الما لبثتْ أن إرتجفتْ في يديه ، مما أوحى لي بوقوعها على طيفٍ شهيدٍ . لم أكترث بهمهمته ، المعتادة ، المُفصحَة عن تململه من تطفلي عليه ، ما دمتُ على إصرار ألا أدعه بسلام قبل أن أعرف منه معلومات عن مصير الغريبة . هكذا صرتُ أذكّره بما كان من أمرنا ، في الماضي . ولكنّ أساريره ، المُتجهّمة ، لم تفصح سوى عن الإنكار . ما أن نطقتُ إسمَ " فريدة " ، حتى إلتفتَ نحوي بنظرة عينه الوحيدة ، المُريعة ، ليقول بغضب : ـ " سِرْ في طريقكَ ، يا أخ ، فأنتَ لن تحلّ لي مشكلة ! "
*** أوقفتُ سيارة الأجرة ، حالَما لاحَ لي سراب الغريبة ، عند مدخل " القابون " . هنا ، ما عادَ من معسكر أو حاجز توقيف . الجسور الحديثة ، الشاهقة ، المُرتكزة على العضائد الإسمنتية ، العملاقة ، كانت تهيمن على المكان وتضافر وحشته في نفسي . تائهاً مع هواجسي برهة ً غير قصيرة ، إهتديتُ أخيراً إلى المنزل المطلوب والذي ، بالمقابل ، بدا مدخله عتماً حتى من نور المصباح ، الشحيح . قرعتُ الباب ، فأتى من ثمّ صوتٌ خائرٌ ليتساءلَ مُتذمّراً : ـ " من هناك ؟ " ـ " إفتحي يا حاجّة ، أنا ضيفكِ .. " ـ " بل أنتَ أعمى ، والله ! " ، قالتها بإحتجاج . ثمّ إستطردت على الأثر ، متسائلة : " ألم ترَ المصباحَ المُطفأ ؟ ". ولكنها فتحت الباب ، أخيراً . طالعني شبحها الذاوي ونظرتها الكليلة ، فما عتمتُ أن هتفتُ لها مُداعباً : " يبدو لي ، يا أمّ إبراهيم ، أنكِ أنتِ من أضحتْ عمياء ! " . عرَفتني المرأة ، بعد لأي ٍ هيّن ، فما كان منها إلا أن قادتني بلطف إلى مكانها المألوف ، في المطبخ . مازحتها وأنا أتناول من يدها قدَح العَرَق : ـ " حمداً لله ، أنكِ لم تخرفي بعد " ـ " الخرَف ، بُني ، نعمة يتمناها الفقير " ، أجابتني وهيَ تزفرُ حرقة الشراب ونفسَها على السواء . لا أدري لمَ إستعدتً عندئذٍ مشهدَ " عايدة " ، المرحومة ، في المرة الأخيرة التي رأيتها فيها منهوكة من السَقم والخرَف . بيْدَ أنّ هاجساً مُعذباً ، ملولاً ، سرعان ما عادَ يحتلّ مواقع داخلي جميعاً . أردتُ أن أطمئن ، قبل كلّ شيء ، فسألتُ الحاجّة : ـ " كيف هيَ أمورها ؛ إمرأة الربّ ؟ " ـ " على ما يرام .. " ، قالتها بغموض . على أنّ أعماقي ، المُتوجّسة ، ما كان لها إلا أن تطلق تنهدة إرتياح ، عميقة . شاءت المرأة أن تشاركني المسرّة ، فإسترسلتْ في موّال مطوّل ، شجيّ ، عن قرية بعيدة وبستان مهمل وأولاد بلا أمّ . رجلٌ غريبٌ ، كان عار حتى خصره ، الثخين ، شاءَ حضوره ، المباغت ، أن يبترَ النشيد . " لا بدّ أنه أحد زبائن الليلة " ، فكرتُ دونما إهتمام . وكان الضيفُ ، الطاريء ، بعدم الإكتراث ذاته حينما إتجه نحو الثلاجة ، ودونما حاجةٍ لتحيّة . ـ " قوط أمّك وأمّ الضيعة ! " ، قذف شتيمته المحنقة تجاه الحاجة وهو يهمّ بالخروج . إنقضتْ ساعة ما بعد منتصف الليل ، وحان دوري . تناهضتُ في طريقي للحجرة الاخرى ، فما كان من المرأة ، المهوّمة ، إلا توصيتي بنوع من التشديد : ـ " عُدْ إليّ ، متى شئتَ ، فثمة ما يجب قوله بخصوص البنت " ـ " بل فلتقرّي عيناً ، لأنها لا تخفي عني شيئاً " متيقناً أنها غيرَ نائمة بعد ، رجعتُ إلى الحاجّة إثرَ دقيقةٍ حسب . بسطتُ أمامها راحَتيْ خيبتي ، زافراً أنفاسي الثملة ، المُنبهرة : " هذا هوَ . حدثيني ، إذاً ، بخبر " فريدة " .
*** رأيتني في حرج كثيف ، متخم بالظلال والوحشة . كنتُ أتعقبُ إمرأة غامضة الملامح ، ما كادتْ فتيّة تماماً ، قد أسدلتْ حتى متنة ردفيها خصلاتِ جزّة بهيّة ، تتباين بين الذهب والفضة . عندئذٍ برز لي عجوزٌ ، قرويّ ، ليعترض طريقي . بعنف ما كان له إلا أن يحيّرني ، أمسكَ الرجلُ بياقة معطفي ، فيما بسمة غريبة ، ودودة نوعاً ، لا تفارق فمه المتغضن ، الأهتم . ما لبث أن سألني شراءَ نعجةٍ صغيرة ، قائلاً أنها جدّ عزيزة عليه . أخذ يكرر طلبه ، بينما قبضته تزداد أذىً : ـ " ماذا قلتَ ؟ ألا ترغب بها ؟ " ـ " ولكنني ، يا عمّ ، لا أرى أيّ نعجة .. " ـ " أيهّا اللصّ ! إنها بحوزتكَ منذ أعوام طوال ، وأريد ثمنها حالاً " ، أجابني وقد لاحتْ لي ، ولأول مرة ، عينه الوحيدة ، المُشتعلة مكراً وضراوة . بالنغمة نفسها ، راح يردد كلمته الأخيرة وكأنما تبعث فيه شعوراً رخياً . أظلمت الدنيا في عينيّ ، وبالكاد تسنى لي إطلاق صرخة نجاة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العَذراء والبرج *
-
الطلسَم السابع 6
-
محمود درويش ، الآخر
-
الطلسَم السابع 5
-
الطلسَم السابع 4
-
زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
-
الطلسَم السابع 3
-
الطلسَم السابع 2
-
دمشق ، عاصمة للمقتلة الجماعية
-
الطلسَم السابع *
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة 2 2
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة
-
حَواريّو الحارَة 6
-
النصّ والسينما : بداية ونهاية لصلاح أبو سيف
-
حَواريّو الحارَة 5
-
حَواريّو الحارَة 4
-
حَواريّو الحارَة 3
-
حَواريّو الحارَة 2
-
النصّ والسينما : السمّان والخريف لحسام الدين مصطفى
-
حَواريّو الحارَة *
المزيد.....
-
خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو
...
-
في عيون النهر
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|