أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سهيل ياسين - بغداد 10 كم شرقا















المزيد.....


بغداد 10 كم شرقا


سهيل ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 2378 - 2008 / 8 / 19 - 06:56
المحور: سيرة ذاتية
    


مولد مدينة
كلما ضقت ذرعا بحاضري المسنن الحافل بالهزائم والمحاصر بالخيبات، عدت الى اوراقي هذه برغم كآبات ظلالها وما فيها من اوجاع باهظة، فانها المخبأ الوحيد الذي يمكنني ان اتخفى فيه من صقيع العزلة وقسوة العالم الآيل الى الخراب..
******
بين الطريق الممتدة من قلب بغداد والواصل اليها، وقفت ذات ظهيرة ساخنة، على الطرف الشمالي من اكواخ العاصمة الطينية، جوار السدة الشرقية، اشار صاحبي يمينا باتجاه الفراغ:
(هناك خلف الافق تقبع هي..)
لحظتها ملأ الاسم خيالي اليافع، اصبح المكان حيزا مثاليا لمنتهى الكون او سرة الارض ومنقطعها الاخير..
ما كنت اعلم اني سأكون يوما ما واحدا من خلائقه المعذبة، فتى شقيا، يخطو على ازقته الرثة، طائرا باجنحة الريح والصبا تحتضنه الشوارع العارية، متأرجحا بعربات الخيل الرائحة، الغادية، لائذا بزمن الطفولة، اركض ملء قوتي خلف سيارات الاطفاء وخراطيم المياه، خلف عربات الدخان ومرشاتها الكثيفة وهي تكافح هوام المدينة الليلي، ندفع بالعجلات المغروسة بالاوحال في الايام المطيرة، نهرع مهرولين ليلا، من دون خوف، باتجاه الصدى المغري والمثير، عبر مكبرات الصوت المخروطية، رجع قريب وبعيد للموسيقى الشعبية والغناء الريفي، يأخذ بنا حيث ليالي الاعراس الضاجة باصوات المغنين وحفلات الغجر الساهرة..
تلك هي بعض من مفاتننا ومتعنا في مدينة ليست اكثر من كتلة افقية ممتدة لصفوف لا تنتهي من الغرف والعلب الحجرية الضيقة.
******
هل ساقتهم خرافة المدن وحجرها الماكر، مجلوبين من اقاصي الجنوب، طمعا في ثروة طائلة موعودة ام خشية مجاعات لاحقة وحصارات دانية، دفعتهم للبحث عن العيش الكفاف والاقامة في الشتات، تتوزعهم الاحلام الصغيرة.
يوما بعد يوم تسللوا الى قلب بغداد، متشبثين بحافات العاصمة وخطوط العيش الهامشية، فراشين، مستخدمين في دوائر الدولة، جنودا، صناع مأجورين، عتالين في الاسواق، كسبة، عمالا يبيعون قواهم على المشترين في ساحة العاطلين، صبية حفاة على مفترقات الطرق ونواصي التقاطعات، باعة لصحف السلطة الوحيدة، لا يعرفون منها سوى اسمائها، يلاحقون المارة بالعناوين والصور المزيفة، المفارقة لاوضاعهم المتردية تماما...
عجائز وشبان يطوفون على البيوت الفخمة، لا يعرفون من لياليها الحمراء غير زجاجات الخمور الفارغة وقوارير العطور الغالية، الخالية، يجمعونها كحاجات ثمينة قابلة للمقايضة مع اصحاب المحلات التجارية.. باعة جوالين تحت نهارات الصيف الحارقة ينادون على بضائع نفيسة ليس لهم سوى التوسط في بيعها، اشياء باذخة، مصنوعة في بلاد الاجانب..
******
بعد مرور عقود من اكتشاف البترول وتعاقب الحكومات والجوع، لم تنل البلدة من نعمة النفط ومشتقاته غير الاسود الرخيص منه فقط، لزجا، زلقا على طرقاتها الترابية الرئيسة بديلا عن الاسفلت، نغترف ما يسيح عنه جانبا وقودا لتنانير خبزنا دون الكفاف، وغبارا قاتما، تثيره عربات الخيول والحمولة الصدئة الهرمة، فوق الطرقات الوعرة، قبل ظهور النيرن الالماني وما تلاه من بقايا عربات العسكر الخارجة عن الخدمة، ومخلفات حرب الخليج كمركبة الجيب او الواز التي ملأت شبكة خطوط البلدة الداخلية، مثل عناكب زاحفة تتلمس طريقها بمشقة، بين دروب متعرجة، يقودها في اغلب الاحيان، سواق غير مرخصين بالقيادة، معظمهم هاربون من الخدمة العسكرية او جندية الطاغية.
******
لم تكن (الجوادر) او مخيمات الجنود في طرفها القصي وحدها في البدء بل بنيت هنا وهناك محلات عديدة واسست احياء كثيرة: الكَيارة، الشركة، الداخل، حي الاكراد وغيرها.
بالرغم من اختفاء خيام العسكر فقد ظل اسم الجوادر ابدياً عالقا يترسخ عاما بعد عام، وخصوصا على ألسن سواق المركبات من اماكن شتى في مناداتهم الى هذا الجانب القصي الشرقي من المدينة التي ما فارقت فضاءاتها جوادر التعزية وخيامها منذ ايام حرب الشمال.
لوقت قريب، كان في تقدير شيوخنا واذهان الكبار المتشددين، لا يعد الرجل رجلا عندما لم يكن بمقدوره ومهارته ان يضرب في العراء خيمة العزاء القديمة، كمظهر دائم الحضور، محايث للحروب والاقتتال.
وبفعل التقنية الحديثة تراجعت تلك المقولة، اذ ظهرت الخيام المقوسة الجديدة، تجارة مريحة، مربحة في عقودنا الاخيرة ولم يعد من الصعب على احد نصبها فهي اسهل من الموت في مواسم الدم والقتل الجماعي، لا تتعذر حتى على الصبية اليافعين من ابناء بلدتنا.
******
ليت المعالم الاولى بقيت على طعمها البكر، شوارع بسعة اللعب، ساحات مشرعة على كل اتجاه، نلتف حول ديارنا الصغيرة غير المكتملة دائما، أنصاف بيوت مبنية بانصاف الحجر المقوى بالطين.. سقوف خفيضة تهدأ ريح الظهيرة تحتها، انساما عذبة تلامسنا، ندية مثل اصواتنا الطرية.
كانت بيوتنا المتباعدة عن بعضها البعض اشبه بهياكل حجرية بلا أسيجة، مفتوحة على جوار شاسع، ننطلق منه الى حيث نشاء، حتى حدود الخلاءات البعيدة، مفتونين ببراءة الاشياء وغابات شجيرات الدغل البرية قبل ان يطالها زحام الحجر ولعنة الاسمنت القاتم الاصم.
اطفالا لا نتحسس عُري البلدة وبؤسها العميم، المشاع كالهواء، عشقناها كيفما كانت، رثة، موحلة، عصية على الاكتمال بفعل العوز والفاقة.
******
لم يفارقنا الطين ابدا، غالبا ما نعود الى هذه المادة الطيعة، المرنة، بديلا استتراتيجيا او في الحقيقة عكازا نقوى به على تجدد التحديات، نستكمل به ما نعجز عن تحقيقه مقابل المال..
فلا يكاد يخلو فضاء في بيوتنا منه، على هيئات كثيرة، غرف طينية صغيرة ومرافق اخرى ملحقة بالدار، تنانير، جرار، فخاريات، اوعية لحفظ الاشياء، اشكال لغايات متعددة، طيور واسود وكلاب وجواميس وخيول ودواب مختلفة كمخلوقات للعب مسلية للاطفال.
الى جانب ذلك كان القصب شبه طاغ، فهذا النبات المائي الجنوبي هو الاخر رفيق حياتنا الدائم وكأنه يلاحقنا اينما حللنا او على العكس، نقيم منه سقوفنا ننسج منه ظلياتنا وسجاجيدنا الارضية في قرية داخل مدينة او مدينة داخل قرية وكذلك نتخد منه، نحن الصغار، خيولا وسيوفا وخناجر للمنازلة والاشتباك.
المشهد للبيت برمته أشبه بأثر حي بالغ الحضور لمقطع مصغر من مدينة سومرية او رافدينية ما قبل وبعد الطوفان.
*******
ولانه من النازحين الاوائل والقلائل ممن حظوا بالكاد على مهنة مناسبة، كبستاني في حديقة منزلية لاحد الوجهاء من اثرياء بغداد، فقد اصبح والدي موضع فخر ومباهاة لاقاربه المتوافدين الى العاصمة واحداً اثر الاخر، ودليلهم الاوحد، الذي لابد ان يمروا به، في دارنا الجديدة بالمدينة، او يمكث بعضهم طويلاً لحين العثور على اية فرصة للعمل، حتى وأن كانت طارئة، موسمية، تحشو المعدة في اقل تقدير، في بيتنا الذي امسى محطة استطلاع للعاطلين، المتطلعين للعمل، ظل ابي طوال اكثر من عامين يستقبل عديدين ويودع كثيرين منهم، حتى توطن بعضهم الى جوارنا وقطن اخرون في زوايا شتى داخل محيط المحلة، متجاوزين على اراضً واسعة متروكة.
ولم يعد يبقى منهم سوى الحاج فندي، آخر ابناء العمومة المقربين جداً واعتى اللاجئين واطولهم مكوثاً في دارنا او مأوى العجزة كما يصفها وهو مازحاً احياناً، كان لا يقوى على العمل الا قليلاً ولا يعرف ان يكون الا فلاحاً فقط، عاش بين مناقع الرز وحافات الاهوار واكمات القصب والبردي، اصطحبه ابي ذات يوم تموزي بعد صلاة الفجر للعمل معه ساعات معدودة، في بيت الوجيه البغدادي داخل الحديقة المنزلية المفتوحة على ضفاف دجلة الشرقي المحاطة بأشجار الفاكهة اليافعة، كانت اشبه بحديقة حيوان مصغرة، ضمت كلاباً بوليسية، اقفاص طيور وعصافير ملونة، احواض اسماك زينة زجاجية او اخرى ارضية للسلاحف، ومخلوقات غريبة اخر.
وفيما كان الشيخ (فندي) منشغلاً في تسوية التربة بمسحاته الرفيقة الوحيدة لهجرته، منهمكاً يتصبب العرق من جبينه، لمح كائناً بلون التراب، بطيئاً، يزحف نحوه، جرفه ثم رماه باتجاه النهر صائحاً: (لعنة الله عليك، ياسلحفاة الهور العجوز، الى هنا ولحقت بي) هرع ابي الى السلحفاة التي سقطت على ظهرها عند حافة الشاطئ، وعاد بها غاضباً:
مالذي صنعته يا عم، كدت تكتسح رزقي وتسبب في طردي.. كيف تلقي بسلحفاة صاحب الدار هذه، كنت سالقى بالشارع عاطلاً، لو سقطت بالنهر فعلاً.
******
ذات صباح فوجئ السكان، اول مرة، بحافلات نقل الركاب ذات الطابقين تهدر على امتداد الطريق المعبد الجديد حتى منتصف المدينة.
كان ذلك المشهد عجيبة من العجائب الغائبة تماما عن المنطقة المنسية، لحظتها كان الصبية يلاحقون العربات الحديثة، يتشبثون بمؤخراتها او يستقبلونها بالتصفيق والنداءات الطفولية المرحة، مع تحايا الكبار وتلويحاتهم التوددية للكائنات الانكليزية الحمراء، المبهجة في عرض الشارع الوحيد.
علق كهل ضاحكا: بعير بين معدان.. لاعجب في ذلك..
بعد اسابيع قليلة وهم يمرون بطاءً على محطات الوقوف المتفرقة، شعر سواق الحافلات ان تغييرا غامضا قد طرأ على خارطة نقاط التوقف المعروفة، وغدت المسافة بينهما مريبة، محطات تقاربت جدا واخرى تباعدت كثيرا، ولم يلبث الامر حتى تكشف اخيرا وظهر ان هناك من يسطو ليلا على لافتات ارقام الخطوط ليضعها قريبة امام داره او على الاعمدة المجاورة.
تلت ذلك احداث اخرى لا تقل مفارقة، اذ احتفت المدينة بمقدم مسؤول حكومي لم يحضر الا دقائق معدودة لرعاية حفل رياضي، القى خلاله خطبة عاجلة، لم يصغ اليها احد بمقدار انشغالهم بالمشروبات الغازية والحلوى التي وزعت اثناء الحفل القصير والاستقبال الذي شهدت فيه الاماكن العامة والساحات والشوارع انتشارا واسعا لمظاهر الزينة والتبجيل، كما وضعت هنا وهناك أوعية القمامة. وحاويات الازبال، وملحقات اخرى.
وما ان مرت ليلة واحدة على ذلك الحدث الكبير حتى اختفت تماما مظاهر الجمال والاستقبال بما فيها الاوعية والحاويات التي اتخذت داخل البيوت خزانات لحفظ المياه والوقود ومواد اخرى لمواجهة تحديات قادمة ومجاعات لابد ان تظهر لاحقا، في مدينة لم تألف الدعة والاستقرار منذ ولادتها.
******
ما اشقى الوصول الى الصف الاول.
ما ابعد بلوغ المدرسة. كم يغدو الطريق اليها طويلا ومقلقا ،اشبه بحكاية خرافية كتلك التي ترويها جدتي.
عن اختفاء الولد (باني) وما جرى له من العجائب والغرائب بعد العثور عليه طوال سبعة شهور، عابرا سبعة جبال بينهما سبعة بحور وسبعة اهوال اثرها سبعة اخر.
فبرغم سعته ومداه المفتوح يصبح السبيل الى المدرسة احيانا اضيق من ثقب ابرة، تنبثق منه التحديات.. فتيان ضخام يلوحون هنا وهناك، ملوحين بالضد، صبية مشاكسين يعرضون الشجار يكمنون عند المنعطفات في الدروب الملتوية يغلقون علينا المنافذ ،يسعون لاستلاب حاجاتنا الفقيرة، نعالج خطانا المتهيبات مجتازين شوارع اثر شوارع وساحات بعد ساحات، مشيا على الاقدام تحت سماء صيف ساخن لا يريد ان ينتهي ابدا.
******
من المفارقات المضحكة المبكية، فقد مر على انتقال جارتنا الارملة من منزلها او في الحقيقة حجرتها الوحيدة مثلها، الى طرف بعيد، اقل من بضع ساعات حتى عادت متعبة، لاهثة من طول المسافة، تتلمس بيديها المتغضنتين احشاء الحجرة الخاوية التي بقيت خالية تماما، تصفر فيها الريح.
- هل نسيت شيئا يا ربيعة؟
- أفقدت ما يستحق العودة؟!
- بلا شك اشياء مهمة وثمينة.
- نعم ثمة شيء هناك، لا استطيع تذكره..
- اظنها ذكرياتك العاطفية في اكثر تقدير..
- كفوا عني.. اصمتوا قليلا، انه على طرف لساني..
- مادمت هكذا فعودي من حيث اتيت وهناك ستتذكرين حتما..
- اوه لقد حضرني اسمه اخيرا
- ماهو؟
- نعم، لقد نسيت حبل الغسيل.
******
مما يحكى عن ربيعة همسا وعلانية، بعد مضي عقد من الزمن، اكتشفت سرا، اعتقدته امرا خطيرا بعد عشر سنوات وثلاثة اشهر من ليلة الزفاف، حدث ذلك، تحديدا وآلت الا تبوح به لاي كان، ظل الامر طي الكتمان والسرية، لم تفض به لاحد، لكنها ذات ليلة رأت من الحماقة ان تبقى هكذا صامتة الى الابد، وما ان قررت الكشف عنه لزوجها بعد طوال قرابة عشرين عاما حتى صمتت اعواما اخر، ثم اخبرته في عشية الفراق الابدي
-قبل اكثر من خمسة وعشرين عاما فاتني ان أعاتبك!
- عن ماذا؟
- لقد خدعتني يا رجل..
- الم اكن زوجا فاضلا طوال عشرتك؟
- اجل ولكن
- ولكن ماذا؟
- فوجئت بعد سنوات لاحقة لدى الحلاج ان جميع الملاحف واغطية العرس عند ندفها من جديد كانت محشوة باقطان بالية رديئة.
******
اذ كان شائعا ومعروفا عن اي رجل من رجال المدينة، هو حالما تتحسن احواله تكثر امواله، بعض الشيء يهرول مسرعا للزواج من امرأة ثانية او يشتري عيارا ناريا.
فان ثمة عقدة ثالثة متأصلة ضاربة في عمقه، الا وهي توسيع داره باكثر عدد ممكن من الغرف والحجرات، في مساحة لا تتجاوز الاربعة والاربعين مترا مربعا في معظم الاحوال، نادرا ما يصادفك فراغ او متسع ممكن لكيانات نباتية صغيرة، تنمو داخل البيت المحشو بالعشرات من الافواه الجائعة.
******
في ربيع حرب الثمانينيات التقيت في حانوت الوحدة العسكرية باثنين من مدينتي وراح كل منا يفضي لصاحبه بما يحلم، اخبرتهم بعد ان اعرضت مع نفسي في البوح عن فكرة او امنية الاسر الملاحقة لي دائما، ان جل ما اتمناه فعلا هو ان اجري اختبارا اجباريا في قاعة موحدة لمشعلي الحرائق وان يجب هؤلاء على سؤالي المحير: متى تنتهي لعنة الحروب؟
ابتسم احدهم قائلا: لا اريد اكثر من امنية صغيرة جدا، سهلة المنال هي ان يكون ابي سائقا لعقيد او آمر في الجيش.
- وثم ماذا؟
- ساعتها يستطيع بواسطته نقلي من جحيم الحجابات الامامية الى دفء المقرات الخلفية.
قال الاخر: ساكون باحسن حال منكم جميعا نعم، سيسحبني اخي قربه، فلا ارى القرد ولا القرد يراني بعد اليوم.
-كيف؟
- سيضمني اخي الهارب من العسكرية الى جواره..
لم يتحقق سوى حلم هذا الاخير، فما ان مضت ايام قليلة على تسلمه دراجة بخارية كمعتمد ومراسل بين اللواء والفرقة، حتى فر بها هاربا الى المدينة، بعد ان مؤهها بطلاء مغاير، متنقلا بها بين المحلات المجاورة، يبتاع اكياس الطحين والسمنت الفارغة وعلب الكارتون المختلفة.
******
اطلقت السلطات المتلاحقة اسماء عديدة على المدينة ومحلاتها ومناطقها المختلفة كعلامات دالة وفارقة، الا انها لم تثبت وتحفظ الا في سجلات الطابو واضابير دوائر الجنسبية وخرائط البلدية، فاغلب الامكنة المسماة رسميا، تيمنا برمز ما وشخصية معينة ودلالة لشعار سياسي واوصاف وعلامات سلطوية، وانتصارات وهمية، لها اسماؤها الراسخة الشعبية المعلنة، لايطالها. التبدل والتغيير عناوين تبتكرها الوقائع والحقائق المنبثقة من التاريخ الباطني للمدينة وسيرتها الفعلية، كم من مرة تساقطت النعوت المزيفة والاسماء المقنعة: حي الرافدين، مدينة صدام مقابل الثورة، الكرامة مقابل الكرابة، واسم مثل القعقاع بكل جبروته وجيوشه وفتوحاته ومجمل ثقله التاريخي لا يمكن ان يصمد قليلا امام صاحب دكان بقالة، السيد مريدي وذيوع صيته وشهرته التي اطبقت على الافاق وتجاوزت حدودها في الذاكرة الجمعية.
******
قيل ذات صيف جاء احد السواح ليزور جانبا من البلدة ويطلع على بعض شوارعها وساحاتها مستعينا بمطوية الدليل السياحي الحكومي، ذاكرا بلكنة اجنبية اسماء المناطق والمحلات المثبتة رسميا على الدليل امام من يرشده اليها، فلم يسع احد ان يدرك ذلك، واختلط الامر على الجميع، ففي الوقت الذي اعتقد فيه الغريب، انه دون شك، في المكان الخطأ او ضل الطريق، فان الاخرين ممن طلب منهم ارشاده فقد ظنوا كل الظن ان ما يعنيه على وجه التحديد هي مدينة اخرى او ما ذكره من امكنة واسماء هي مجرد علامات خيالية لجغرافية الوهم.
******
لئن كان نشوء المدن/ القرى على ضفاف الانهار واحواض السهول او تنمو الى جوار المزارات الدينية المقدسة، وتنبثق على التخوم قلاع حربية منيعة، او مركز تجاري مهم للمناطق المجاورة، وعلى مقربة من بئر نفطية او عين كبريت فان بلدتنا الحدودية للمحيط الشرقي للعاصمة، لم تصنعها كل تلك الدواعي والاسباب ولم تجيء بمحض صدفة، ولم يحضرها الجن والاطياف والملائكة بل اسسها عنوة الجوع الذي كظ اهلها في غمة الجنوب، ابان الخمسينيات، لتتحول العلة فيما بعد الى رغبة في نفس الحاكم العسكري الجمهوري ويعدها اللاحقون له حتى نهاية القرن الماضي، بالفعلة الحمقاء وواحدة من اخطاء التاريخ الجسيمة اذ غدت وبالا لن يبرأ وتحديا لا يؤمن جانبه على الرغم من انها في معتزل ضخم او محجر جماعي، تفصله حدود قناة الجيش او الحاجز المائي، غير المانع من مرورهم وتوغلهم وتسربهم في مسام بغداد الكثيرة.
******
غالبا ما نرى القرى في المدن مطوقة بالحقول اليانعة الخضراء موثقة في صور باطر مختلفة، معلقة على الحيطان، واطيار وانهار ومزارع حد البصر في مناظر جدارية ومظاهر اخرى تشي بحنين ما الى القرية كنباتات ظلية متسلقة، موضوعة في اصص واحواض زهرية عند واجهات البيوت وممراتها الخلفية.
وفي المقابل المدن داخل القرى كثيرة، عملاقة، ابنية وعمارات شاهقة تحيطها ميادين كبيرة، ومركبات فخمة، كلها تلوح في الملصقات الجدارية على الحيطان الطينية والمجصصة لبيوت القرية.
من يسعى لمن؟
المدينة للقرية ام العكس؟
ورغم هذا فلا المدينة تبلغ القرية ولا القرية تبلغ المدينة، كلاهما في سباق او حنين سري متبادل وملتبس ولان مكاننا المقصود لا هو بهذا ولا ذاك، فقد امتزج الطين بالحجر والريف بالمدينة فهي لا تتبادل الادوار لاختلاط بعضها ببعض.
******
ليس من العجيب ان هناك الفة طبيعية لمتضادات عديدة ومتناقضات مثيرة ولافتة للزائر الغريب لا يمكن لها، باي حال من الاحوال، ان تجتمع في اية بقعة ومكان اخر، راع عجوز بمغزله الخشبي، يلف خيوط الصوف او الوبر خلف قطيع من الماشية وسط المدينة، في مشهد يبدو مضحكا او غير متناسب بين نول الرجل الصغير جدا وخامات الغزل الحية الكبيرة التي تتلبسها قطعان الخراف والماعز وهي ترعى في فسحة فارغة او ساحة للرياضة ومتنزه مهجور للالعاب، وعن كثب من ذلك ثمة من يقود عربة فارهة لعله هبط سهوا من مدينة مجاورة يقف مزهوا امام محال كبيرة لبيع الالبسة النسيجية المستعملة الجاهزة، وهناك باص حكومي يتزود الوقود من وسطاء وباعة طارئين من الاهالي، دفعت بهم الازمات المصنوعة والمتكررة من فترة لاخرى، الى الواجهة بين هذا وذاك تخترق المشهد امرأة بملامح قروية تغذ السير بخطى واثقة في طريقها الى ورشة التصليح القريبة بخفة وبسهولة وهي تحمل فوق رأسها تلفازا كبيرا عاطلا كما يبدو، وكأنها تضع كارة من حطب او طست غسيل او دلو ماء خفيف الحمل.
******
قبل ان يخط شاربي اكتشفت ان الافق اوسع من مدينتي، هناك خلف حدود قناة الجيش غربا عالم هائل يضج بالحياة، بين اعطاف العاصمة التي تسللت اليها، خائفاً، وجلا، اعرض ساعدي للمقاولين عاملا في ساحة الطيران، او بائعا لبطاقات اليانصيب والسكائر الاجنبية في المقاهي والكازينوات. القت بي الازقة للازقة والشوارع للساحات، والانفاق الرطبة للجسور العالية، كنت انط من الضيق احيانا، وضاحكا احياناً اخرى وانا ابلغ قممها المبهجة.. خبرت كل تفاصيل بغداد الواسعة. بعدها بسنين شاحبة، اقتدت الى ساحات وميادين اخرى، لاتعرف عن كثب الى مدن بلادي وكل قصباتها وامكنتها المختلفة، متنقلا بين الشمال والجنوب، لا بعدة سائح او زائر يحمل الكاميرا ودليل السفر بل جندي مضطرب بثياب الجيش في حروب ضارية متكررة، مساقا برغبة الطاغية العمياء وحماقات جنرالات العسكر.
******
من زوايا خفية وخبايا شبحية، يأتون فرادى وشبه جماعات، يجتمعون من اللا امكنة في حافلات النيرن منطلقين تحت جنح الظلام وقبل انفلاق الفجر، من مراكز طارئة ومثابات متغيرة، بين اعطاف المدينة عابرين صحارى وبراري شاسعة قرى واريافاً شريطية ومبعثرة، عبر طريق موحشة، شهدت قبل تبليطها متاهات وفقدانات حجيج وزوار، هناك من ضاع في وضح النهار قبل ان يدرك مشارف القباب الذهبية اللاصفة.
انه طقس ابدي من طقوس المدينة يتكرر دائما وخصوصا في الاعياد الكبيرة، مشهد اليف جدا، لكنه مصدر ريبة وقلق للسلطات تخشاه في اغلب الاحوال.
******
- هل بوسعك تزويدنا بلائحة سرية باسمائهم؟
- اية اسماء؟
- الا تعرفهم، الذين يقصدون المزارات الدينية؟
- وهل العملية عسيرة الى هذا الحد الذي يستدعي حضوري شخصيا؟.
- طبعا انت افضل من وجدناه مناسبا.
- لا اظنكم احسنتم الاختيار، لمهمة يسيرة جدا، بمقدور اي منكم القيام بها يا حضرة الضابط؟
- كيف يا شيخ؟
- يذهب احدكم الى ساحة وقوف السيارات وهناك يدون ما يشاء من اسماء الزوار.
******
بعد اكثر من عقد على تأسيس المدينة.
فقدت اصواتنا نعومتها وعلا نقاشنا محتدما بصوت ذكوري اجش على تخوت مقهى البرلمان، حسن عجمي، يمتد برفقه ودفئه الى خمارات ابي نواس متواصلا حتى النهاية، فوق المقاعد المتهرئة للباص القادم من عمق بغداد والعائد الى اطرافها ليلا، حديث لن ينتهي عن ماركس، ماركيز، بورخس وعناوين اخرى لاسماء كثر .. معجلين الحتمية التاريخية تارة، منتظرين ببلاهة نضوج الظروف الذاتية والموضوعية المستحيلة تمهيدا للثورة التي لا تأتي ابدا.
كيف لنا ان نحقق حلما ونحن لم نكن سوى مناضلين في حانة، جبهتنا اباريق الخمور ورأسمالنا وعود معلقة دائما، بعد الفراغ من تشريح خصمنا الفكري وعدونا الطبقي وتحقيق نصر افتراضي عليه، لا يسعنا الا ان نشتبك في اخر الليل احيانا ببعضنا البعض في خصام او مشادة كلامية تنتهي بوعيد وتهديد نتيجة خلاف مضحك تافه نكتشفه عند الصباح، لا يتعدى التصادم والاختلاف حول قصيدة اوقصة ومسألة نحوية اكل الدهر عليها وشرب.
******
قلما نحفل باشياء واهتمامات تعد احداثاً مهمة وخطيرة لدى الاخرين، كالاحتفاء باخر تقليعة للازياء او دفعة جديدة من معاجين الحلاقة والاسنان واي مستجد من تسريحات وقصات الشعر واخر سراويل او بنطال يطرحه شارع النهر والسوق العربي ومحال بغداد التجارية الفخمة، حتى لو تهيِأت فرصة لتلك الاهتمامات فهي لا تتناسب مع تطلعاتنا الفكرية وموقفنا الصارم المتصلب الذي يرى في ذلك احيانا ترفا ومأخذا على الشبان اليساريين الحقيقيين المتحدرين من اصول فلاحية فقيرة ، متطلعين الى افق وطني عمالي بزي جامعي.



#سهيل_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - سهيل ياسين - بغداد 10 كم شرقا