|
محمود درويش ، الآخر
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2372 - 2008 / 8 / 13 - 11:11
المحور:
الادب والفن
1 في هَدْء من ليلة الأمس ، حينما كانت وسائلُ الإعلام تترجّع ما أصدى من خبر رحيل محمود درويش ؛ في تلك الساعة الطويلة ، المُمضّة ، جازَ لي إستعادة شريطٍ مديدٍ من ذكريات الصِبا وشِقوَته . إكتشافي شاعرَ فلسطين ، في السنّ الحدَثة تلك ، وإن كان مضاهاة لشواغل الأدب لديّ ، بيْدَ أنه ما كان ليتحققَ لولا إنغماسي ، مُبكراً ، في أعطاف السياسة ومألوفاتها . في علّة السياق هذه ، حقّ للمَخطر الرفاقيّ ، الذي تنسّبتُ إليه وقتئذٍ ، أن يُجرّد درويشاً من صفة " شاعر الأرض المحتلة " ، مُحيلاً إياها إلى تعريفٍ آخر ، من قبيل " الإنهزاميّ " و " المُرتدّ " ؛ وهيَ الإحالة ، الإعتباطية ، المنذورة لخيارَيْن في مسلك شاعرنا : تركه صفوفَ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ ، ومن ثمّ مغادرته أراضي 48 إلى المنفى المصريّ وبعد ذلك إلى لبنان . وعلى الرغم من حقيقة ، أنّ معارفي الأدبية كانت في طريق التشكّل بعد ، إلى أنّ الذائقة ما كان لها إلا أن تشافِه التميّز الألق ، البيّن ، لموهبة محمود درويش وإفتراقها عن نديْها ، من المُشكلين معه ثلاثي الشعراء الفلسطينيين ، " المُقاومين " ؛ وأعني بهما توفيق زيّاد وسميح القاسم ، الذيْن أعطيَ لإسميهما منشوراً بأمان التمجيد ، أحمرَ ، بما أنهما واصلا التمترس بالخانة الإيديولوجية ، وكذا التمسّكَ بالإقامة في الأرضَ المحتلة .
2 مجموعة درويش " حبيبتي تنهض من نومها " ، المُعترضة طريق الفتى ، المُراهق ، الذي كنته ، أصابتني للوهلة الأولى بنوع من خيبة الأمل والإحباط . ولكنّ هذه المجموعة الشعرية ، المُدهشة ، حقّ لها أن تلجَ بمعارفي إلى أسلوبٍ فنيّ ، أكثرَ جدّة ، كان غيرَ مألوفٍ من قبل في تجربة شاعرنا ، على الأقل . وأجزمُ أنه بدءاً من قراءتي ، المُتأنيَة ، للمجموعة الدرويشيّة تلك ، فإنني تدرّجتُ في مطالعاتي ، مرتبة ً مرتبة ، خلل مفازة الشعر الحديث ، الذي كان ما فتأ آنذاك على مرمى شتى التهم ، من لدن محافظي الأدب العربيّ ، العتيدين ؛ هؤلاء الذين سبق لهم أن زندقوا وكفروا تجارب شعراء الحداثة ، من أمثال قباني والسيّاب ، واصمين إياها بـ " التغريب " و " اللا شعرية " . حتى أنّ مبدعاً ـ كمحمد الماغوط ، هجَرَ كتابة القصيدة في مرحلة مبكرة من مسيرته الأدبية ، منكفئاً بها ربما أمامَ تلك الشبهة ، الموصوفة . المُفارقة هنا ، أنّ محمود درويش ، نفسه ، تناسى الفارط من أمره مع أولئك المحافظين ، فراحَ مع تصاعد نجم إسمه ، محلياً ودولياً ، إلى إتباع مسلكهم ذاته ؛ هوَ الذي دأبَ على محض شعر النثر عداوةً شديدة ، صريحة ، مُدعياً بدوره أنه يمتّ إلى التغريب واللا شعرية !
3 كنتُ قد شددت آنفا ، على أنّ نجوميّة درويش ، الحالقة ، مقرونة بإصطفافه مع أصحاب النهج التقليديّ ، في عدائه للقصيدة النثرية . إنه طبعٌ عام ، نوعاً ، أزعمُ أنه متأثلٌ بكلّ أديبٍ ، أو فنان ، وجدَ إسمه ، على حين فجأة ، وقد أضحى ذائعاً على كلّ شفةٍ في شارع الجماهير ، العريض ( لنتذكر ـ كمثال ، ما كان من أمر الموسيقار فاغنر ، الذي وقف مع المحافظين ضد الأساليب التجديدية لمواطنه ، الشاعر الفيلسوف نيتشه ) . إذ وبمجرّد أن يعتاد هذا الجمهور الشعريّ ـ أو سمّه ما شئتَ ـ على نبرة معيّنة لنجمه المحبوب ، الأثير ، حتى يُصبح سلطة ً مُتطلّبة ، غاشمة ، لا ترتضي عن ذائقتها بديلاً أبداً . وبالتالي ، فإنّ نجمنا يكون عليه الإكتراث كثيراً بتلك الذائقة الجماهيرية ، العشوائية ، ومن ثمّ رفدها بما تستهويه من نصوص ، منظومة ، متوافقة مع هواها ومزاجها ، كيلا يفقدَ حظوته لديها . الأدهى ، أنّ صفة " شاعر المقاومة " ، المتواشجة مع مقام محمود درويش ، قد ضافرَتْ من ثقته بوحدانيّة أسلوبه ، الفنيّ ، وأنه الطريق القويم لكلّ ساع لفردوس الأدب . لا غروَ ، إذاً ، أن يُسهمَ الشاعرُ الراحل ، بوعي منه أو بدونه ، في تخريب ذائقة جمهور هائل من مُحبّي القصيدة بين المحيط والخليج ، بإصراره على أنّ الشعر الغنائيّ ، المنظوم ، إنما هوَ الشعر الحقّ وكلّ ما عداه باطلٌ .
4 النجوميّة ، ولاحقاً الصنميّة ، ما كان لها أن تصلَ إلى بغيتها ، المطلوبة ، دونما عون من منظومةٍ ، عتيّة ، لديها إمكانياتٍ هائلة ، إعلامية وسياسية وإقتصادية ( لنتذكرَ ، هنا أيضاً ، مثالاً آخر مع أدونيس والسلطة السورية ، البعثية ! ) . ومن ، مثل منظمة التحرير الفلسطينية ، كان قادراً على منح محمود درويش ما كان يأمله من سندٍ خلال مسيرته الطويلة ، في الطريق إلى سدّة المجد . ما جناه شاعرنا من مكاسب كبيرة ، لا تحدّ ولا تعدّ ، من صلته الشخصية بالزعيم الراحل ، ياسر عرفات ، إنما كانت متوافقة ـ على رأي ٍ شخصيّ دوماً ـ مع ما يمكن لنا وسمه بـ " الجناية " على قضية شعبه ، التي لطالما تغنى بها شعراً ونثرأً ، حتى أنها تماهت حقاً وإسمه . فالإصطفاف مع السلطة ، كما هوَ معروف ، له ثمنٌ ، فادحٌ ، لا بدّ أن يُجزى موقفاً ورؤية . إنّ خضوع درويش للسلطة العرفاتية ، في المنفى والوطن سواءً بسواء ، كان من مقتضاه التغاضي عن المواقف الخاطئة ـ كيلا نستخدم مفردة اخرى ـ لتلك السلطة ، أضرّت للغاية بمصالح الفلسطينيين ؛ مثلما كان أمر التخندق في جبهة المقبور صدام حسين ، أثناء غزو الكويت عام 1990 : ولا عجبَ ، والحالة هكذا ، أن يكون الشاعرُ ضيفَ شرفٍ ، دائم ، على مهرجان " المربد " ، الرسميّ ، وأن يجرّ معه إليه عدداً من القامات الشعرية الاخرى ، العربية !
لم يكن بالغريب ، إذاً ، أن يتزلف درويش للسلطات الحاكمة ، العربية ، وأن تختفي من مجموعة أعماله الكاملة ، في كلّ مرة ، هذه القصيدة أو ذلك المقطع ، كيلا يزعج خاطرها : وكأمثلة ، المقطع الذي يؤكد على شيوعية قريته ، في قصيدته الشهيرة " سجّل أنا عربي " ، أو في قصائده المتضامن فيها مع القضية الكردية في العراق . ناهيك عن أنّ الفساد الهائل ، المُستشري في أوصال منظمة التحرير ، ولاحقاً في السلطة الوطنية ، كان له أن يزجّ بإسم محمود درويش ، ما دام قد إرتضى لنفسه أن يكون قيادياً في اللجنة التنفيذية لسنوات عديدة .
إنّ قضية الفنان ناجي العلي ، هيَ ولا شك ، الناصيَة النكراء في سيرة شاعرنا الكبير ، الراحل . وكان ناجي ، قبيل إستشهاده إغتيالاً ، قد صرّح للصحافة بشكل غير موارب ، بأنّ محمود درويش قد تهدده ، شخصياً ، على إثر سلسلة من رسومات الكاريكاتور ، التي خصصها لإدانة الفساد وأهله في منظمة التحرير . وحتى في أواخر حياته ، لما كان المرض العضال ينهش في قلبه ، فإنّ درويشاً لم يتوانَ عن تهديد شاعر آخر ؛ هوَ الزميل باسم النبريص ، بسبب مقالاته المنددة بالفساد في جسد الثقافة الفلسطينية . من الممكن أن يكون مُحقاً ، ذلك المنوّه بفصل سيرة الشاعر عن نصوصه الإبداعية . إلا أنّ ذلك يجب أن يكون ممكناً حسب ، بفصل شاعر ـ كمحمود درويش ، عن قضيةٍ كبرى ـ كالقضية الفلسطينية ، التي أعتبرَ هوَ دوماً ، وأبداً ربما ، صوتها الداوي ، الصارخ ، في ضمير العالم أجمع .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطلسَم السابع 5
-
الطلسَم السابع 4
-
زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
-
الطلسَم السابع 3
-
الطلسَم السابع 2
-
دمشق ، عاصمة للمقتلة الجماعية
-
الطلسَم السابع *
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة 2 2
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة
-
حَواريّو الحارَة 6
-
النصّ والسينما : بداية ونهاية لصلاح أبو سيف
-
حَواريّو الحارَة 5
-
حَواريّو الحارَة 4
-
حَواريّو الحارَة 3
-
حَواريّو الحارَة 2
-
النصّ والسينما : السمّان والخريف لحسام الدين مصطفى
-
حَواريّو الحارَة *
-
مَسْرىً آخر لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 10
-
أقاليمٌ مُنجّمة 9
المزيد.....
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|