أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - تاج السر عثمان - ملاحظات نقدية علي مشروع التقرير السياسي















المزيد.....



ملاحظات نقدية علي مشروع التقرير السياسي


تاج السر عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2372 - 2008 / 8 / 13 - 11:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


هذه سلسلة مقالات ودراسات كتبت حول مشروع التقرير السياسي، بهدف تحسينه وتجويده، وباعتبار أن:-
وجود الحزب وبقائه ليست مسألة شكلية، بل لابد من بقائه فعّالا ومؤثرا في الحياة السياسية والفكرية السودانية، انطلاقا مما توصل اليه المؤتمر الرابع بالتطبيق الخلاق والمستقل للماركسية، ودراسة الواقع والمتغيرات فيه بهدف استيعابه وتغييره للافضل، اى ان المطلوب هو تطوير منهج الماركسية وقضايا الثورة السودانية وليس التراجع عنه، وفي هذا الاتجاه جاءت هذه الملاحظات النقدية علي مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس بهدف تجويده وتحسينه، وحتي تستمر جذوة الحزب متقدة وفعالة، ومؤثرة في الحياة السياسية والفكرية.

أولا:الستالينية وتجربة الحزب الشيوعي السوداني
أشار مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني الي جذور الستالينية في الفكر والممارسة، وانعكاسها السلبي علي تجربة الحزب الشيوعي دون اعتبار لخصوصية الواقع في أى بلد ، كما أشارت بعض بنود لائحة الحركة السودانية للتحرر الوطني في النصف الثاني من اربعينيات القرن الماضي(1948) الي: أن الاسس النظرية للحزب هي الماركسية اللينينية ، والاهداف العامة هي توحيد الطبقة العاملة السودانية والشعب السوداني ضد الاستعمار واقامة ديمقراطية شعبية تتدرج الي الاشتراكية فالشيوعية ، وأن قيادة الحزب، وهي المركز الذي يقود الحزب ارتبط تاريخها وامتزج دمها بحب الحزب والاخلاص لقضيته وتخلصت الي ابعد الحدود من الرواسب الطبقية واصبحت ذات ايديولوجية بروليتارية ، وان الايديولوجية في الحزب تتمثل في هذه القيادة)(الفصل الرابع، بناء الحزب، ص5 ، صحيفة الميدان).
أود في هذه الدراسة تسليط الضوء علي موقع الستالينية في تجربة الشيوعي السوداني، وتحديد اين تأثر الحزب بالستالينية، واستقلال تجربة الحزب عنها .بذهن مفتوح واستخلاص نتائج من الواقع ، لا من تصورات ذهنية مسبقة تجافي الواقع.
الستالينية : المفهوم والمصطلح:
ارتبطت الستالينية كمفهوم ومصطلح بالجمود في الماركسية وتخطي القوانين الموضوعية في التطور ، كما حدث في النموذج الاشتراكي الستاليني كنظام تسلطي بيروقراطي ، كما تشكلت النماذج الستالينية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا في ظروف تاريخية معينة وبسمات معينة ، ويرى الاقتصادي المجرى سنتش : أن هناك ثلاثة عوامل وشروط أساسية ذات اهمية متساوية حددت النموذج الستاليني وهي:-
1 - الخصوصية التاريخية المحلية، أى التخلف النسبي لهذه البلدان ، مع تقاليد تاريخية معينة ، واضطلاعها بالمهمة التاريخية للتحديث.
2- الاوضاع الدولية : اى عزلها في الحرب الباردة والمواجهة مع القوى الغربية وتحالفها العسكري مع الاتحاد السوفيتي واعتمادها عليه والخطر الحقيقي لاندلاع حرب عالمية ثالثة ، وبيئة معادية سياسيا وايديولوجيا مع ما يقترن بها من مساع ومؤثرات تعمل علي تقويض الاستقرار ، وكلها تمخضت عن سياسة التكتل والتشديد على الجوانب العسكرية ، والاعتبارات الأمنية.
3- خصائص النظام، اى المهمات والقوانين الحقيقية المفترضة فرضا للتحول الاشتراكي المرتبط في الغالب بمفهوم الاشتراكية في بلدان منفردة).
أما السمات الأساسية للنموذج الستاليني فقد حددها سنتش في الآتي:-
1- سياسة العزلة أو المواجهة ازاء العالم الخارجي منحته عسكرة الاقتصاد والتنظيم شبه العسكري للحركات الاجتماعية.
2- الارادية والتعجيل المفروض فرضا في عملية التحول الاجتماعي لبناء الاشتراكية من الفوق عن طريق سلطة الدولة ، وعملية التحديث الاقتصادي بمحاولات ترمى الي اللحاق بالركب(بالدول الصناعية الرأسمالية) ، أساليب قسرية لتحقيق التراكم وانجاز التصنيع واستخدام الموارد استخداما افقيا .
3- سلطة ذات بناء هرمي احتكاري مع اندماج الدولة بالحزب الحاكم ، واخضاع المنظمات الاجتماعية الي هذا الأخير، قاصرا نشاطها على القيام بدور الحزام الناقل بين السلطة المركزية ورعاياها ، ومن ثم قهر المجتمع المدني بسلطة دولة متزايدة الاغتراب والتركيز).
هذه هى العوامل أو الشروط والسمات التي حددت النموذج الستاليني كنظام تسلطي بيروقراطي ، حيث يمكن القول ان ما انهار هو النموذج الستاليني للاشتراكية.
ومن سمات الستالينية الجمود النظري والتبسيط المخل للماركسية كما جاء في مؤلف ستالين : المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية(1938)، والذي اختزل فيه تاريخ البشرية الغنى والخصب في خمس تشكيلات اجتماعية هي: الشيوعية البدائية ، الرق ، الاقطاع ، الرأسمالية، الاشتراكية .ونتيجة لهذا لاختزال فقدت الماركسية طابعها العلمي لتصبح فلسفة للتاريخ أو مخططا مسبقا يمكن علي أساسه مطابقة العصور التاريخية، في حين أن ماركس كان يعارض ذلك طيلة حياته ويصارع ضد ان يصبح تحليله لتطور الرأسمالية في اوربا تعميما على بلدان العالم ، وشدد علي الدراسة المستقلة لكل مجتمع، كما أشار الي نمط انتاج سادس اطلق عليه نمط الانتاج الآسيوي ، أشار ماركس في مقدمة مؤلفه: ( نقد الاقتصاد السياسي) الي أن( نمط الانتاج الآسيوي والقديم والاقطاعي والبورجوازي الحديث يمكن وصفها في خطوطها بأنها عصور متقدمة في التكوين الاقتصادي والاجتماعي).واشار ماركس الي خطأ تعميم اللوحة الخماسية للبلدان الاوربية علي البلدان غير الاوربية . وصيغة نمط الانتاج الآسيوي حسب ما أشار اليها ماركس في مؤلفه( مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي )، تعني : ظهور مجتمع طبقي في اطار اشكال ملكية الارض الجماعية ، علي أساس من مستوى للقوى المنتجة ما يزال بالغ التدنى ولكنه يسمح باقتطاع فائض انتاج ، أما السمات الأخرى( الاشغال الكبري، الرى ، الاستبداد، فهى ليست أساسية في هذا التعريف فتخص لانمط الانتاج نفسه، وانما بعض المجتمعات الآسيوية ( مصر القديمة، الهند،..). اذن نمط الانتاج الآسيوي شأنه شأن سائر انماط الانتاج لايشكل مرحلة الزامية في تطور المجتمعات كافة، وان التعميمات النظرية ليس لها من معنى أو قيمة ، الا اذا انبثقت عن دراسة الوقائع التي لايجوز لها بحال من الاحوال أن تلوى عنقها ، فجوهر الماركسية هو البحث الحر وبذهن مفتوح والدراسة الموضوعية لمعرفة خصائص وسمات كل بلد ، دونما مخطط مسبق للمجتمعات الاوربية أو غير الاوربية ، انطلاقا من روح الديالكتيك: التحليل الملموس للواقع الملموس.
أما المؤرخ الفرنسي : جان اللينشتين في مؤلفه تاريخ الظاهرة الستالينية( دار ابن رشد 1975 )، فقد أشار الي تعريف الظاهرة الستالينية بأنها: لاترتبط بشخص ستالين ولم تختف معه وهى لاتقتصر على الاتحاد السوفيتي وان كان يمثل مركزها. كما نعنى كل الدول الاشتراكية التي كانت قائمة. وتمس المجال النظري والممارسة ، وكذلك المجالات السياسية والاقتصادية والايديولوجية. ولدت الظاهرة الستالينية في العشرينيات من القرن الماضي بعد موت لينين ، وبدأت تذوى بموت ستالين (1953) والمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي (1956). أشار اللينشتين الي أن هناك عوامل ساعدت في تكوين الظاهرة الستالينية منها: تخلف الوضع الاقتصادي ، كانت نسبة الأمية عند قيام الثورة الروسية في العام 1917، 70%، اضافة الي الحروب والمجاعات والاوبئة.. الخ، اضافة لنفوذ الكهنة وعبادة الايقونات( الصور المقدسة للعذراء والقديسين)، وعبادة القيصر وكأنه اله ، انعدام الحريات الشخصية. يقول اللينشتين: ( ذلك كان ميراث الماضي ، ويمكن الغاؤه بواسطة مجموعة من القوانين، ولكن من الصعب انتزاعه من الروح الانسانية والممارسة اليومية)(ص16، المرجع السابق). كما تحول الالحاد الي سياسة رسمية للدولة وتحولت الماركسية الي فلسفة رسمية ، كانت تدرس بطريقة دوغمائية للسوفيت منذ نعومة اظافرهم، هذا اضافة لعبادة الفرد وتحول الماركسية من جوهرها النقدي الي نظرية جامدة.
علي أن تفسير أسباب نفوذ الستالينية في الأحزاب الشيوعية فكان يرجع الي: الدفاع عن الدولة الاشتراكية الوحيدة، المجابهة مع الراسمالية، دور الاممية الثالثة( الكومنترن)، محاولة تعميم النمط السوفيتي علي البلدان الأخري دون مراعاة خصائصها المحلية.
تلك هي خصائص وسمات الستالينية.
اين موقع الستالينية في تجربة الحزب الشيوعي السوداني؟
ونود هنا أن نفحص تجربة الحزب الشيوعي السوداني ، حتي نقف علي الأرض، وبطريقة ملموسة علي مدى تأثر هذه التجربة بالستالينية، وذلك انطلاقا من ضرورة الدراسة النقدية العميقة والتحليلية لتجربة الحزب الشيوعي السوداني واستنادا علي منهج الماركسية الديالكتيكي الذي ينظر للظواهر في نشؤؤها وتطورها وتجاوزها، وانطلاقا مما هو ايجابي ومستقل في تجربتنا السودانية لتجاوز الجمود الستاليني.
أولا: الفترة: (1946- 1956م).
1- معروف أنه عندما تأسست الحركة الوطنية للتحرر الوطني ( الحزب الشيوعي فيما بعد) في اغسطس 1946م، كان الشعاران المطروحين: وحدة وادي النيل تحت التاج المصري ، والسودان للسودانيين تحت التاج البريطاني . باستخدام المنهج الماركسي تمت دراسة الواقع ، وتوصلت الحركة السودانية الي الشعار البديل المناسب وهو: الجلاء وحق تقرير المصير ، والكفاح المشترك بين الشعبين المصري والسوداني ضد الاستعمار ، وكان هذا هو الشعار الذي التفت حوله الحركة الوطنية فيما بعد وكان استقلال السودان بعيدا عن الاحلاف العسكرية، كما لاينسي شعب السودان تضامن الاتحاد السوفيتي معه عام 1947 م عندما وقف في الجمعية العامة للامم المتحدة مطالبا باستقلال السودان.كما ناخذ في الاعتبار أن المنهج الذي ارساه الشهيد عبد الخالق محجوب كان ناقدا، وعلي سبيل المثال : انتقد الحزب الشيوعي صيغة النقل الاعمي لتجربة الكفاح المسلح علي نمط التجربة الصينية ، والتي طرحت عام 1952م، وقدر ايجابيا خصوصية نضال شعب السودان الديمقراطي الجماهيري الذي افضي الي الاستقلال عام 1956م بدون الكفاح المسلح .
كما انتقد الحزب الشيوعي موقفه الخاطئ من اتفاقية 1953م، وقدر دورها الايجابي من زاوية أنها كانت نتاج لنضال الشعب السوداني .
ولكن من اين جاء مدخل الستالينية للحزب الشيوعي السوداني؟.يقول الشهيد عبد الخالق محجوب في دفاعه أمام احدى محاكم نظام عبود (كم كنت سعيدا حينما عثرت على كتاب عند صديق ، كتاب بسيط في طباعته متواضعه اسمه( المشكلة الوطنية ومشكلة المستعمرات)، بقلم جوزيف ستالين، هنا لمحت الحل ووصلت الي رد حاسم لتساؤلي ، فعرفت كنه الاستعمار ، وانه لايعني فقط احتلال الجنود لبلادنا ، بل يعني سيطرة رأس المال الاجنبي على مقدرات وطننا ، وان هذا الاخطبوط من شأنه أن يحيط نفسه بطبقات من داخل البلاد بوساطة بنوكه وشركاته ، طبقات تشمل الاقطاعيين وكبار الرأسماليين ، وأن هذه المصالح هى التي تحرك تلك الطبقات وتقتلع جذورها من أرض الوطن(ثورة شعب، دار الفكر الاشتراكي، 1965م، ص 322).
يواصل عبد الخالق ويقول: ( كانت تلك الافكار النيرة فاتحة لنافذة كبرى نطل بها علي العالم ونتبصر بها طريق حركتنا الوطنية ، وقد تداول هذا الكتاب وقتها عشرات من الطلبة ، كان يتطلع لايجاد حل لمشاكل الحركة الوطنية السودانية ويتلمس انجع الطرق لحرب المستعمرين وتحقيق الحرية والاستقلال).
يواصل الاستاذ عبد الخالق ويقول) :ومنذ ذلك التاريخ وأنا اتطلع كل صباح لمعرفة المزيد من النظرية الماركسية اللينينية التي اتخذتها منهجا لحياتي محاولا تطبيقها على ظروف بلادنا وفق تقاليدنا السودانية ، وما تتطبه مصالح شعبنا الحقيقية)( ص، 322).
اذن المدخل كان كتاب ستالين لايجاد حل لمشاكل الحركة الوطنية ، ولكن مؤلفات ستالين لم تكن نهاية المطاف ، وكما أشار عبد الخالق أنه كان يتطلع كل صباح لمعرفة المزيد من النظرية الماركسية ومحاولة تطبيقها على ظروف بلادنا وفق تقاليدنا السودانية، وكانت تلك خطوة هامة في تجاوز الجمود الستاليني. وفي تلك السنوات الباكرة من تأسيس الحركة الوطنية كان حسن الطاهر زروق يقول: ان شعب السودان سوف يشق طريقه الخاص للاشتراكية وان التجربة السوفيتية ليست ملزمة له، وأن نظام الحزب الواحد ليس هو الطريق الامثل اضافة الي حرية العقيدة والضمير.
ومن مدخل الاهتمام بالمسألة الوطنية والتنوع اللغوي في السودان نلاحظ ترجمة الاستاذ عبد الخالق محجوب لمقالة ستالين : الماركسية وعلم اللغات(1954)، ويواصل الشهيد عبد الخالق محجوب اهتمامه بهذا الموضوع حيث ورد في وثيقة (حول البرنامج) اخر كتابات عبد الخالق (1971)ما يلي بشأن المسألة القومية/ القبلية واللغات( بالنسبة للتجمعات القومية والقبلية الاكثر تخلفا وفيما يختص بالثورة الثقافية الديمقراطية . لابد من التشجيع الفعلي للنمو الحر لثقافات هذه المجموعات. أ- بعث لغات ولهجات هذه المجموعات وعمدت الدولة الوطية الديمقراطية بجدية الي تشذيب تلك الأدوات، والتوسل بها في التعليم ( ووفقا للتجارب التربوية في هذا المضمار) وفي النهضة الثقافية الشاملة.ب - ان تصبح هذه الثقافات جزءا من المكونات العضوية للثقافة السودانية).
كما نلاحظ ترجمة عبد الخالق لمؤلف الماركسي الممتاز بليخانوف ( تطور النظرة الواحدية للتاريخ)، من مدخل الدراسة العميقة لتطور المجتمع في المفهوم المادي للتاريخ، بعيدا عن الفهم الستاليني الجامد، مما يشير الي اتساع الافق لتجاوز الستالينية.
في اوائل الخمسينيات ، كون الحزب الشيوعي لجنة لدراسة مشكلة الجنوب ، ونتيجة لدراسة واقع المشكلة ، وبعيدا عن المنقول من الكتب الماركسية، توصل الحزب الي شعار الحكم الذاتي الاقليمي ، والاعتراف بالفوارق الثقافية بين الشمال والجنوب ، وحق الجنوبيين في استخدام لغاتهم المحلية في التعليم ، وقد طور الحزب ذلك لاحقا في عام 1994م، بطرح حق تقرير المصير كحق ديمقراطي انساني ، وان نبذل اقصى الجهد لكيما يكون ذلك في اطار الوحدة الطوعية للسودان.
أما علي مستوي تنظيم الحزب فقد بدأ الصراع ضد اسلوب عمل أول لجنة مركزية للحركة السودانية للتحرر الوطني كما جاء في كتاب عبد الخالق محجوب (لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني)، تلك القيادة التي لم تبرز وجه الحزب المستقل ، واختزلت التعليم الماركسي في بعض النصوص الجامدة – ولم تدرس أوضاع البلاد أو تحاول دراسة واقع البلاد من زاوية الماركسية ، ولم تتجه لبناء الحزب وسط الطبقة العاملة ، بل الأخطر من ذلك كله أن الحزب لم تتوطد فيه لائحة ، بل ظلت العلاقات بين أعضائه وهيئاته تسودها الاتجاهات الشخصية اكثر من الروابط التنظيمية، وهذا الصراع كان خطوة هامة في مواجهة الجمود الستاليني. أشار عبد الخالق الي أن الصراع والنقد بدأ يبرز ضد هذا الاتجاه، وتوصل الصراع والنقد عام 1947م الي حل المسائل التالية: بناء فروع وسط الطبقة العاملة وترقية كادر عمالي وسط القيادة، وضع لائحة للحزب، اصدار مجلة الكادر(الشيوعي فيما بعد)، اصدار منشورات مستقلة باسم الحزب، تصعيد النشاط السياسي الجماهيري المستقل ضد الاستعمار عام 1948م، حل مشكلة التحالف مع الرأسمالية الوطنية علي أساس التحالف والصراع، الدخول في جبهة الكفاح ضد الجمعية التشريعية وتصعيد النضال ضدها.
وبعد معارك الجمعية التشريعية (1948) ، تواصل الصراع ضد اسلوب ومنهج عمل اللجنة المركزية بقيادة عوض عبد الرازق ، واستمر الصراع ضد هذه القيادة التي (امتزج دمها بحب الوطن)، والتي قيدت نشاط الحزب المستقل ، هذا اضافة لضيق العمل القيادي وغياب الديمقراطية في الحزب ككل، وكانت العلاقات بين اللجنة المركزية والمستويات التنظيمية الأولي تنحصر في اصدار القرارات وتنفيذها ، ولم يكن في الحسبان مناقشة قرارات ل.م ناهيك عن انتقادها( التجاني الطيب، مجلة الشيوعي، العدد 150). وكان من نتائج هذا الصراع أن انبثقت فكرة المؤتمر التداولي الذي انعقد عام 1949م، وجاء كشكل أرقي لتوسيع الديمقراطية ومشاركة الحزب ومحاسبة اللجنة المركزية عن أدائها. انجز المؤتمر التداولي تعديلات في لائحة الحزب لتتلائم مع تطور الحزب وجرى كفاح ضد الانحلال التنظيمي والعلاقات الفردية ليحل محلها الضبط التنظيمي والعلاقات المبدئية. كما عملت اللجنة المركزية لدعم الديمقراطية في الحزب فاجرت انتخابات القادة (بعد المؤتمر التداولي)، وعقد أول مؤتمر للحزب عام 1950م، كما تم نشر قرارات المؤتمر التداولي لأعضاء الحزب في مجلة الكادرلابداء الرأى حولها.
المؤتمر الأول اكتوبر 1950: طرحت اللجنة المركزية في ذلك المؤتمر قضايا سياسية وفكرية وتنظيمية أمام المؤتمر لاتخاذ قرارات بشأنها ، كانت تلك أول مرة يحدث فيها ذلك في تاريخ الحزب ، كما أجاز المؤتمر لائحة ساهمت في الاستقرار التنظيمي ، وكان من نتائج المؤتمر ايضا انتخاب اللجنة المركزية والتي قبل ذلك كانت عضويتها تكتسب بالتصعيد ( أى بقرار منها بضم اعضاء لها)، وتلك كانت ايضا خطوة حاسمة في الصراع ضد الستالينية والتي جوهرها مصادرة الديمقراطية في الحزب. كما أشار المؤتمر الي ضرورة ربط العمل الفكري بالعمل الجماهيري واستقلال الحزب في نشاطه بين الجماهير واعلان موقفه المستقل في كل المسائل من منابره المختلفة، أى رفض المؤتمر اتجاه عوض عبد الرازق الذي كان يقول بدراسة النظرية أولا ، ثم العمل الجماهيري ، علي أن يتواصل نشاط الحزب الشيوعي من داخل الأحزاب الاتحادية.
بعد المؤتمر الأول وقع الصراع الداخلي ، وكان الرد بفتح المناقشة العامة علي صفحات مجلة الكادر(الشيوعي فيما بعد).طارحا على الأعضاء القضايا مدار الصراع. وكان اتجاه عوض عبد الرازق يرى أن وجود الطبقة العاملة الصناعية ضعيف في السودان ، وبالتالي لاداعي للتسرع بتكوين حزب شيوعي مستقل، وأن يتواصل نشاط الحزب من داخل الاحزاب الاتحادية، كما كان يرى ضرورة دراسة النظرية أولا قبل التوجه لبناء الحزب وسط العمال والمزارعين، ولاداعي لاغراق قيادة الحزب بكوادر عمالية مستواها النظري ضعيف.
وانعقد المؤتمر الثاني في اكتوبر 1951م، وحسم المؤتمر الصراع الداخلي لمصلحة وجود الحزب المستقل ، وان النظرية ترشد الممارسة والممارسة تغني وتطور النظرية، واقر المؤتمر أول لائحة لتنظيم الحزب الداخلية وتحديد هويته كحزب لينيني ، وبعد المؤتمر وقع انقسام مجموعة عوض عبد الرازق ، وقررت اللجنة المركزية طرد المنشقين.
واضح أن اتجاه مجموعة عوض عبد الرازق كان اتجاه عزلة وجمود( دراسة النظرية بمعزل عن الواقع ، اخفاء هوية الحزب ، العمل فقط من داخل الأحزاب الاتحادية..).
هكذا من خلال صراع الأفكار، بدأت تكون هناك حيوية داخل الحزب ، ومن خلال الصراع ضد الجمود بدأت تتسع الديمقراطية داخل الحزب ( المجلة الداخلية، المؤتمرات ، الاجتماعات الموسعة، انتخاب اللجنة المركزية، فتح المناقشة العامة..حسم الصراع ديمقراطيا بالتصويت ، ولكن مجموعة عوض عبد الرازق لم تقبل رأى الأغلبية بروح ديمقراطية، ومواصلة الأقلية ابداء وجهة نظرها من داخل الحزب ، ولجأت الي التآمر والانقسام).
وفي عملية بناء الحزب ، كانت ابرز الخطوات هى التي جاءت في اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1953م، الذي أشار الي ضرورة بناء الحزب كعملية ثابتة وفي كل الظروف مدها وجزرها ، كما طرح ضرورة بناء الحزب علي النطاق الوطني ليصبح حزبا شعبيا وتحويل الحزب الي قوى اجتماعية . وكذلك طرحت وثيقة خطتنا في الظروف، الصادرة في يناير 1954م، السؤال: كيف يتم تحويل الحزب الي قوة اجتماعية كبري؟.كما أشارت الي ضرورة تقوية الحزب سياسيا وفكريا وتنظيميا، كما أشارت الي أن عملية بناء الحزب تتم في كل الظروف جزرها ومدها.وتعميق جذور الحزب وسط الطبقة العاملة.
كما أشارت وثائق تلك الفترة الي الاهتمام بالمرشحين وفترة الترشيح، والارتباط بالجماهير وفهم مشاكلها وقيادتها قيادة يومية، اضافة الي تأمين الحزب ومحاربة روح الغفلة ، وضرورة الاهتمام بالعمل الاصلاحي: الجمعيات التعاونية، محو الأمية، الأندية الرياضية والثقافية .. الخ. ولكن البدائية في عملية بناء الحزب حالت دون تنفيذ تلك الموجهات ، وكان من أهم أسباب ذلك الضعف النظري للقيادة ، وعدم وجود مفهوم نظري متكامل حول عملية بناء الحزب ، وكان تنظيم الحزب هشا رغم نجاح الحزب في استنهاض حركة جماهيرية واسعة ( بناء الحركة النقابية وحركة المزارعين، والحركة الطلابية، حركة الشباب والنساء،..الخ)، رغم الامكانيات الواسعة التي اتاحتها تجربة الجبهة المعادية للاستعمار ، التي لخص عبد الخالق تجربتها في كتاب لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي.
ثانيا: الفترة:1956- 1969م
شهدت بداية هذه الفترة انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي ،والذي تم فيه نقد الجمود الستاليني وعبادة الفرد، كما أشار المؤتمر الي ضرورة تجاوز الستالينية. وبعد المؤتمر اصدر الشهيد عبد الخالق محجوب كتابه: آفاق جديدة، 1957م، انتقد عبد الخالق محجوب في هذا الكتاب أفكار ستالين القائلة بأن الثورة لن تنتصر في حركة التحرر الوطني ( الا اذا تم تسليط النيران على البورجوازية الوطنية المهادنة بكشف خيانتها للجماهير الكادحة من نفوذها). أشار عبد الخالق الي خطأ ستالين في تقسيم البورجوازية الوطنية الي كبيرة وصغيرة ، كما لم يشر الي البورجوازية المتوسطة التي تلعب دورا مهما في تاريخ الحركة الوطنية ، كما اشار عبد الخالق الي أن الشعب السوداني سيصل الي المجتمع الاشتراكي حتما بطريقه الخاص ووفق تقاليده لأن هذا هو منطق التاريخ )(ص، 86). كما أشار عبد الخالق الي أن( الاحساس الجديد هو مناقشة القيم السياسية في اسلوب خاص ، واعادة النظر فيها والاحتفاظ بكل ما هو حي وتقدمي ، ونبذ كلما ما هو ميت ومتأخر).
كما أشار عبد الخالق الي أهمية القيادة الجماعية.
يواصل عبد الخالق في اتجاه التحرر من الستالينية ويقول: ( ان التطورات الاشتراكية في بلادنا يمكن أن تحدث باتساع نطاق القوى الديمقراطية في حركة واسعة ومستمرة وطويلة الأمد، تحتل مركزها الجماهير العاملة السائرة نحو اليسار ، وبوجود هذه الحركة الواسعة يمكن أن تحرز أغلبية برلمانية من الكتلة اليسارية المؤلفة من الشيوعيين وذوى الميول اليسارية من الاشتراكيين والديمقراطيين). يواصل عبد الخالق ويقول: ( ولكن السير في هذا الطريق لايعتمد عليهم وحدهم ، ولكنه يعتمد علي مدى احترام الدستور المناسب لتطور بلادنا نحو الاشتراكية وتفتح السبيل أمام الجماهير التقدمية والعمالية والاشتراكية ليحرزوا نتيجة لنشاط متنوع ومتسع وطويل الأمد أغلبية برلمانية ، وبهذا يضع اليساريون والشيوعيون اهمية كبرى للنظام البرلماني في بلادنا( ص، 84-85).
ولاشك أن المقالات التي نشرها عبد الخالق في كتابه آفاق جديدة وضعت المنهج للتحرر من الجمود الستاليني والاحكام التبسيطية للماركسية ، والاتجاه لدراسة الواقع واستنباط الحلول منه ، لا من المنقول من الكتب.
صحيح أن الحلقات الأولي التي أسست الحزب الشيوعي السوداني، كانت مؤلفات ستالين والتي تعبر عن الجمود النظري متداولة فيما بينها، وحتي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956م، كانت وثائق الحزب الشيوعي السوداني مثل دورات اللجنة المركزية مليئة بالنصوص من ستالين ، ماوتسي تونغ ، .. الخ، وكانت ترد في تلك الوثائق : النظرية الماركسية – اللينينية – الستالينية ، اضافة الي كثرة النصوص من مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي وكثرة الحديث عن علم الثورة الماركسي – اللينينيني – الستاليني.. وتعاليم الرفيق يوسف ستالين.
وفي مجلة الشيوعي العدد(8) الصادر عام 1956م، أشار عبد الخالق الي ما يلي( ان الجمود تسرب الي حزبنا في الظروف التي اكتنفت دخول الماركسية الي بلادنا، فعقب الحرب العالمية الثانية تزايدت القوة الجاذبة في المعسكر الاشتراكي ، واصبحت شعوب المستعمرات والبلدان التابعة تؤيد تأييدا تاما وفعالا الاتحاد السوفيتي وتعطف عليه ، وبدخول الماركسية في بلادنا ، وفي وقت ليست فيه تيارات فكرية اصيلة مناوئة ، كان هناك اقبال على هذه الافكار وتقبل لها..).
ويواصل عبد الخالق ويقول: ( ان الانتصارات الأولية جعلتنا نستند دائما الي النتائج العامة للنظرية الماركسية ، ونهمل جانب دراسة خصائص شعبنا وظروفه وأن نضع في الاعتبار التجربة السودانية الخاصة ، وبهذا ظهر وسطنا اتجاه لاهمال الدراسة الواقعية ، والاعتماد على النتائج الماركسية العامة ومحاولة تطبيقها بشكل اعمى ودون دراسة موضوعية علمية لما يجرى حولنا)( ص ، 46).
اذن عبد الخالق وضع اللبنات الاولي لتجاوز الجمود الستاليني بالانطلاق من احتياجات الواقع لحل قضايا عملية ونظرية، وبعيدا عن النقل الاعمى لتجارب الآخرين، ونجد هذا المنهج واضحا في وثائق مثل (الماركسية وقضايا الثورة السودانية )، واصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير)، ... الخ.
ويذكر التيجاني الطيب في قضايا سودانية العدد الرابع، ابريل 1994م (وفي النشاط العملي أذكر أنه بيننا في السنوات الاولى ( من تأسيس الحزب) من يصر علي ضرورة صياغة تحليل طبقي للمجتمع السوداني ، فكان عبد الخالق يصر على أن هذا التحليل لن يتوفر الا بالمعرفة العميقة المباشرة للمجتمع ، والا تحولنا الي ناقلين للآخرين . وفي هذا الصدد كانت هناك محاولات لتصنيف المزارعين الي فقراء ومتوسطين وأغنياء وفق معطيات روسية أو مصرية ، ولكنه عارض وظل يطالب لأن نعرف (علي الأرض ) من هو المزارع الفقير حقيقة في مجال مشروع الجزيرة ، وبنفس الطريقة رفض تنزيل المراحل الخمس لتطور البشرية على المجتمع السوداني)( ص، 35).
أى أن منهج عبد الخالق كان ينطلق من دراسة الواقع بذهن مفتوح، لا من المنقول من الكتب، مما يعني عمليا تجاوز الجمود الستاليني.
خلال ديكتاتورية الفريق عبود(1958-1964م)، تمسك الحزب الشيوعي السوداني بموقفه المستقل والمستند علي دراسة الواقع حول طبيعة النظام، ورفض الحزب الشيوعي السوداني تقدير السوفيت لنظام عبود، باعتباره نظام وطني ، كما رفض الحزب الشيوعي السوداني اتجاه الحزب الشيوعي الصيني لفرض نموذجه في السودان، اى رفض النقل الاعمى لتجربة الصين باعتماد الكفاح المسلح الذي كانت تنادي به العناصر اليسارية التي انشقت من الحزب(مجموعة احمد شامى ويوسف عبد المجيد...). ونتيجة لدراسة الواقع توصل الحزب الشيوعي السوداني الي شعار الاضراب السياسي العام في اغسطس 1961م، وثابر الحزب علي هذا الشعار بتنشيط العمل الجماهيري ، حتى تمت الاطاحة بديكتاتورية عبود في ثورة اكتوبر 1964م.
وفي الصراع ضد الجمود اليساري ، اسهم عبد الخالق محجوب في ترسيخ الديمقراطية وتنقية الحياة الداخلية للحزب، جاء في وثيقة اصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ( الحياة الداخلية في بعض منظمات الحزب لاتسير على أسس سليمة وخاصة في موضوع المركزية الديمقراطية ، اذ أن بعض الرفاق يدوسون علي هذا المبدأ الذي لن يستقيم الحزب الشيوعي بدون تطبيقه ، انهم يضعون السلطة التنظيمية محل الصراع الفكري والاقناع انهم لايحترمون رأي الأقلية ، انهم لايناقشون سياسة الحزب بقدر ما يصدرون الأوامر العسكرية ، ساعد على نمو هذا الاتجاه الضغط والاضطهاد التي يعيش فيها الحزب الشيوعي ، كان هذا الاتجاه خطير جدا وهو صادر عن عقلية فوضوية ، عقلية مغامرة لاعلاقة لها بالعقل الماركسي ، بالفعل في مديرية الخرطوم نتيجة لمسلك سكرتيرها التنظيمي الزميل جبارة ، ولقد انعزل الحزب في دوائر هامة بهذه المديرية، تساقطت عضويته وانفض الروح الثوري عند بعض من بقوا في صفوفه ، ان اساليب الزميل جبارة في القيادة وازاء الاعضاء خير مثال للاساليب الضارة ، فالرقابة على القرارات تعنى التحقيقات المستمرة ، وتعبئة الاعضاء حول خط بعينه تعنى التطبيقات العسكرية ، والاختلاف في الرأى يعنى العداوة والاحقاد والطرد من العضوية ، فاذا كان هذا هو المسلك من الاعضاء ، فما املنا في خلق صلات بالجماهير؟(ص، 38، طبعة دار عزة 2001).
كما لخصت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية تجربة الحياة الداخلية في فترة ديكتاتورية عبود على النحو التالى:- ( وبينما حياة حزبنا تتأثر بالاتجاهات اليسارية وتخلف الأداء والتنفيذ ، تعقم الحياة الداخلية وتعصف بالمركزية الديمقراطية ، خاصة وأن الديمقراطية بأسرها مصادرة من الحياة السياسية ، وقد ادى ضعف المركزية الديمقراطية في الحزب الشيوعي وعدم اشراك عضوية الحزب اشراكا نشطا في حياته الداخلية وفي حياة فروعه الي انكماش كبير في عضوية الحزب لدرجة عاقت قدرات الحزب الذاتية وهو يواجه مهام ثورة اكتوبر( طبعة دار الوسيلة، 1987).
كما رفض الحزب الشيوعي السوداني الانحراف اليميني عام 1966م، بحل الحزب الشيوعي ودمجه مع قوى اشتراكية سودانية اخرى، اى رفض النقل الاعمي لتجربة الحزب الشيوعي المصري، والذي حل نفسه عام 1966م، وذاب في تنظيم السلطة(الاتحاد الاشتراكي).
وعلي خلاف رأى السوفيت والاحزاب الشيوعية العربية رفض الحزب الشيوعي السوداني قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي باركه السوفيت ، وتمسك بصيغة( قيام الدولة العربية الديمقراطية فوق أرض فلسطين يصحح الوضع الشاذ الذي نشأ منذ عام 1948م. داخل هذه الدولة الفلسطينية العربية سيجد المواطنون الاصليون عربا وأقلية يهودية حقوقهم الكاملة، وبكامل حقوقها المشروعة في السيادة تصفى آثار الاضطهاد الصهيوني الاستعماري وفي مقدمتها مشكلة الاجئين العرب والهجرة اليهودية(الماركسية وقضايا الثورة السودانية، دار عزة، 2008، ص، 44).
كانت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية، الصادرة عن المؤتمر الرابع، اكتوبر 1967م نقطة تحول هامة في تجاوز الجمود الستاليني، أشارت الوثيقة الي أن الحزب الشيوعي يتحول الي قوة اجتماعية كبرى من خلال الآتي:-
- التطبيق الخلاق والمستقل للماركسية واكتشاف الاشكال الملائمة للتنظيم ، وأن الحزب الشيوعي لكى يصبح حزبا فعلا حزبا جماهيريا ، لابد له أن يحتك بكل الآفاق وان يحس الشعب بوجوده في كافة المستويات .
- لاينمو الحزب بشكل تنظيمي واحد ، فأشكال المدن تختلف عن اشكال القطاع التقليدي .
- الدراسة التفصيلية والملموسة لكل الأقاليم السودانية ، تركيبها الاجتماعي والطبقي واقتصادياتها .. الخ، حتى يعمل الحزب وفق مرشد يحميه من تبديد الجهود ، واستغلال الكفاءات والكادر باقصي مستوى من الكفاءة والانجاز.
- بناء التنظيمات الحديثة المختلفة للجماهير ، التي تلبي المستويات والاهتمامات المتباينة للجماهير.
- كما أشارت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية الي ضرورة حل التناقض الذي لازم حياة حزبنا : تطور عمله السياسي ونفوذه الادبي بين الجماهير ، وجمود وتأخر حركة بنائه اداة متصلة بكل آفاق الحياة في بلادنا.
- كما حدد المؤتمر الرابع معالم الخط التنظيمي في المدن والمراكز الرئيسية في قطاع الزراعة الحديثة والقطاع التقليدي في الجنوب وفي الغرب ، وبناءا علي ذلك انجزت كل منطقة دراسة واقعها ووضعت دليلها وصاغت خطها التنظيمي مما جعلها بعد أن كشفت الحقائق الأساسية لواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أن تتوصل للأساليب الملائمة لعملها – اى تقدم الاجابة السليمة للاسئلة التي وضعها المؤتمر الرابع – وبعد الوضوح حول الخط السياسي بمن ننفذ هذا الخط؟ووسط من ؟وكيف ننفذه باسلم الطرق واكبرها عائدا وفائدة؟.
- كان المؤتمر الرابع خطوة هامة في تجاوز الجمود والستالينية ، فقد رسمت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية منهجا علميا سليما في عملية بناء الحزب ، كما وضعت منهاجا للعمل النظري استرشادا بالماركسية كمنهج وليست عقيدة جامدة ، وخلافا للمؤتمر الثالث الذي عالج قضايا التكتيك ، عالج المؤتمر الرابع قضايا الاستراتيجية والتكتيك ، وتوصل الي أنه من المستحيل أن نرسم استراتيجيتنا اعتمادا على المنقول من الكتب أو النقل الاعمي لتجارب البلدان الاخرى ، كما وضعت الوثيقة منهاجا لدراسة الطبقات من الباطن ، ودراسة استراتيجية الثورة بناءا علي دراسة الطبقات في البلاد ، كما عالجت قضايا الخط التنظيمي وقضايا بناء الحزب على أساس العلم والتخطيط.
كانت أزمة القيادة احد المشاكل الأساسية التي واجهت الحزب بعد المؤتمر الرابع والتي جاءت ضعيفة ومخيبة للامال ، ولم تكن في مستوى المهام السياسية والفكرية والتنظيمية التي طرحها المؤتمر الرابع. وصدرت دورة اللجنة المركزية في يونيو 1968، بعنوان( قضايا ما بعد المؤتمر)، والتي عالجت القضايا النظرية والتنظيمية والسياسية والقيادية. أشارت الوثيقة الي فرع الحزب ( وأن يعتبر عمليا لانظريا وحده وليس سواه هو القائد لكل نشاط يجرى حوله والمسئول عنه ، لقد عانينا من هذا كثيرا ، عانينا من الوصاية التي تفرض على فرع الحزب فتطبع الحزب بطابع واحد عقيم وتسلب عضوية الحزب من ارادتهم وتجعلهم متفرجين في كل ما يختص به من افكار جيدة ، وتجعلهم يحجمون عن اثراء الحزب بافكارهم وتجاربهم ، وهذا الاتجاه الذي يصادر الديمقراطية المركزية يخلق السلبية ويحد من طاقات الفرع).
ومشكلة القيادة هي التي دفعت عبد الخالق الي تقديم وثيقة ( في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع، مارس 1969). والتي جاء فيها ( أن اعضاء الحزب لم يعودوا يقنعون بالحلول السطحية والشعارات الانتهازية لحل مشاكل العمل الثوري وعلى رأسها تغيير مستوى قيادة الحزب)، كما أشارت الوثيقة الي ضرورة تطوير العمل النظري في الحزب تقول الوثيقة( ولهذا فان الحزب الشيوعي يفتح ميدانا جديدا لتطور النشاط القيادي في صفوفه وهو يتطلب نوعا جديدا من الكادر المثقف الذي يهئ ذاته وقدراته لخدمة الحزب الشيوعي في ميدان النعرفة ، انه ليس كادر العمل السياسي بالمفهوم الذي دخل به المثقفون في الماضي صفوف الحركة الشيوعية السودانية).
كما أشارت الوثيقة الي خطورة التكتيك الانقلابي ( والعقلية الانقلابية)، التي كانت سائدة وسط بعض الكادر القيادي ، بقولها( التكتيك الانقلابي بديلا عن العمل الجماهيري يمثل في نهاية المطاف وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية مصالح البورجوازية والبورجوازية الصغيرة..).
ثالثا: الفترة: 1969- 1991م.
كان من اهم معالم تلك الفترة انقلاب 25 مايو1969م، والصراع الفكري الذي دار داخل الحزب الشيوعي حول طبيعة الانقلاب، وهل يبقي الحزب مستقلا ام يذوب داخل مؤسسات النظام، وقد تحدث كاتب هذه السطور عن ذلك بتفصيل في خمس حلقات نشرتها صحيفة الايام في الفترة:3/4- 14/4/2008م. وكان من اهم معالم تلك الفترة انعقاد المؤتمر التداولي في اغسطس 1970 والذي حسمت اغلبيته الصراع لمصلحة استقلال الحزب. كما طور الحزب افكاره حول الديمقراطيين الثوريين ورفض نظام الحزب الواحد والدولة البوليسية التي تصادر حقوق وحريات الجماهير باسم الاشتراكية والتقدمية. واختلفت وجهة نظر الحزب مع السوفيت الذي كانوا يرون في انقلاب 25/مايو/1969، نظام ديمقراطي ثوري، وبالتالي يجب دعمه.
وبعد انقلاب 19/يوليو/1971، طور الحزب الشيوعي السوداني اطروحاته حول انظمة الديمقراطيين الثوريين حيث اشارت دورة اللجنة المركزية في يوليو 1977م الي أن الحزب الواحد المفروض بالقانون والانفراد بالسلطة يقودان الي مصادرة الحقوق الديمقراطية للجماهير ، غير أن لايمكن الوصول الي الاشتراكية الا عبر الديمقراطية . كما اشارت الدورة الي أن التكتيكات الانقلابية غير مقبولة ولابديل أمام الحزب الشيوعي غير النشاط الجماهيري. كما أشارت الدورة الي خلاف الحزب الشيوعي السوداني مع الحزب الشيوعي السوفيتي حول دور الديمقراطيين الثوريين في منطقة التحرر الوطني وتكتيكات الحزب الشيوعي السوداني منذ انقلاب 25/مايو/1969م، وقيادة الطبقة العاملة لمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية.
وعندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في اثيوبيا عام 1974م ، ونتج عنها الانقلاب العسكري الذي اوصل نظام منقستو الماركسي للحكم، تمسك الحزب الشيوعي السوداني بالديمقراطية والتعددية في اثيويبا بديلا لنظام الحزب الواحد، والكف عن القمع والارهاب ، وتقرير المصير للشعب الاريتري بما في ذلك حق الشعب الاريتري في تكوين دولته المستقلة، وبدلا من صيغة السوفيت التي كانت ترى حق تقرير المصير في اطار اثيوبيا الموحدة( دورة ل.م، يوليو 1977م).
وقبل ذلك كان عبد الخالق محجوب قد اصدر وثيقة حول البرنامج 1971م، والتي اثارت قضايا مازالت حية مثل: الموقف من رأس المال الاجنبي ، التنمية الاقتصادية ، الديمقراطية والاصلاح الزراعي ، البعث الثقافي الديمقراطي ، قضية المرأة ، مسألة التجمعات القبلية القومية في السودان، الدين والدولة وحرية العقيدة والضمير، جهاز الدولة والتطهير ، الديمقراطية ومسألة الادب والفن والبحث العلمي... الخ. وهي تعبير عن اجتهاد اصيل لمواجهة فضايا الثورة الديمقراطية التي برزت في تلك الفترة.
رغم أن بعض جوانب الوثيقة شاخت وعفى عليها الزمن مثل : الاعتماد على العلاقات الاقتصادية مع المعسكر الاشتراكي ، والاستناد الي تجربة الاتحاد السوفيتي في بناء المجتمع الصناعي الزراعي.. الخ، الا أن القضايا النظرية التي اثارتها الوثيقة تحتاج فعلا الي دراسات نظرية وتعميق.
علي أن القفزة الكبرى التي تمت في مضمار تجاوز الستالينية، كانت دورة اللجنة المركزية في اغسطس 1977م(الديمقراطية مفتاح الحل للازمة السياسية .. جبهة للديمقراطية وانقاذ الوطن)، والتي طرحت الوصول للنظام الوطني الديمقراطي بطريق جماهيري ديمقراطي تعددي. وواصلت دورة ديسمبر 1978م القضايا الفكرية والعملية التي اثيرت حول الديمقراطية وتولتها بالشرح والتوضيح.
كما واصل الحزب الشيوعي النضال الجماهيري مع قوى المعارضة ، وطرح في دورة يناير 1974م، الاضراب السياسي العام كاداة للاطاحة بالنظام واصل توحيد قوى المعارضة حتى توحدت في 6/ابريل/1985م، في الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بحكم الفرد واستعادة الديمقراطية.
وفي 1986م ، اصدر الحزب الشيوعي برنامجه الانتخابي الذي اكد علي الحقوق والحريات الاساسية وتوفير احتياجات الناس الآساسية وتعزيز الديمقراطية وانقاذ الوطن.
وبعد فشل التجارب الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا في اوائل التسعينيات من القرن الماضي فتح الحزب الشيوعي السوداني المناقشة العامة والتي اكدت حصيلتها السير في الطريق الديمقراطي التعددي للوصول للنظام الوطني الديمقراطي، ومواصلة الانعتاق النهائي من اسار الجمود والستالينية.
خاتمة:
نخلص من العرض السابق، أن تجربة الحزب الشيوعي السوداني كان لها استقلالها النسبي عن الجمود الستاليني، رغم التأثر بالجمود النظري والستالينية، ورغم سنوات الديكتاتورية والعمل السري الطويلة التي تركت بصماتها السالبة علي تجربة الحزب ، الا أن الحزب الشيوعي توصل الي المنهج السليم في التطبيق الخلاق والمستقل للماركسية حسب ظروف وخصائص السودان، وهذا مايجب تعميقه وتطويره لا التراجع عنه وتكرار الحديث عن الستالينية، لأن الاستمرار في هذا الطريق هو الذي يربطنا بشعب السودان ومعالجة المستجدات والمتغيرات في الواقع السوداني، باستخدام الماركسية كمرشد ومنهج وليست عقيدة جامدة.كما أنه من المهم التقويم الناقد للتجربة السابقة وحصر وانتقاد المواقف الخاطئة السابقة مثل: تأييد الحزب الشيوعي السوداني لغزو السوفيت لبلدان المجر وتشيكوسلوفاكيا وافغانستان، اضافة لتعطيل الديمقراطية في الحزب بعدم عقد المؤتمر لمدة 40 عاما، وقد جاء في التقرير السياسي نقدا واضحا وبعيدا عن التبرير من اللجنة المركزية لعدم عقد المؤتمر. المهم في الأمر تحديد اين وقعنا في الجمود الستاليني، وتحديد النقاط المظلمة في تاريخ الحزب ونقدها جماهيريا، واعلاء مبدأ النقد والنقد الذاتي كما جاء في مشروع التقرير السياسي. هذا المنهج هو الذي يحصن الحزب الشيوعي من التصفية تحت ستار الستالينية، وباعتبار أن جرثومة الاصولية الستالينية ذلك الداء العضال لاأمل في علاجه، والبديل هو تصفية الحزب الشيوعي وحله، كما عبر د.فاروق محمد ابراهيم والمرحوم الخاتم عدلان. كما أنه من المهم أن نشير الي خطورة أن يتحول دمغ الآخرين بالستالينية وفبركة التهم بالستالينية الي عامل سلبي ، يؤدي الي احجام البعض عن طرح ارائهم بحرية ومناقشتها ، وأن تتحول تهمة الستالينية الي مكارثية جديدة تسمم حياة الحزب الداخلية ، كما كان يحدث في فترة ستالين مثل الاتهام بالتروتسكية والتي ادت الي تصفية خيرة القيادات الشيوعية، عن طريق الفبركة والتشكيك والاستهداف الشخصي للرأى الآخر المعارض واختلاق التهم .. الخ. وبالتالي يؤدى ذلك الي تدمير الحزب بحجة محاربة الستالينية.كما أنه من الخطأ والتجنى اتهام كل من يدافع عن مبدأ المركزية الديمقراطية بالستالينية، علما أنه مهما اختلفت التسمية(ديمقراطية مركزية، ديمقراطية، ادارة ديمقراطية،...الخ)، فان المركزية الديمقراطية لاتعني سوى: البرنامج الواحد والنظام الداخلي الواحد والمركز الواحد ، وأن الهيئات القائدة تنشر تقارير دورية عن اعمالها ، وأن حرية ابداء الرأي والانتقاد والاقتراع في كل المسائل الحزبية مكفولة مع تشجيع الاعضاء عليها دون اكراه، وأن الهيئات من القمة للقاعدة تأتي بالانتخاب والتزام الاقلية برأى الاغلبية مع حقها في الاحتفاظ برأيها والدفاع عنه، وأن يكون الصراع مكشوفا وبعيدا عن التآمر والتكتلات ، وان القرارات لاتصدر من افراد بل تصدر عن هيئات... الخ.
وبالتالى كما أشرنا سابقا ، أن المنهج السليم في تناول الستالينية بمعنى الجمود العقائدي والنظرة الاحادية الجانب ومصادرة الرأى الآخر هو التحليل الناقد للظروف والشروط التي نشأت فيها الستالينية والاسباب التي ادت الي تأثر الاحزاب الشيوعية بها حتى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي واستمرار ذيولها حتي انهيار التجربة الاشتراكية في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
كما أنه من الخطورة أن تتحول الستالينية الي أداة لتبرير الأخطاء بدلا من تحديد المسئولين عنها ونقدها، والنظر في العوامل الخارجية مثل التأثر بالستالينية دون تناول العوامل الداخلية الذاتية التي قادت لتلك الاخطاء ، وهذا هو العذر الاقبح من الذنب. أى الا تتحول الستالينية الي وصفة جاهزة لمواجهة كل مشكلة بدلا من اعمال الذهن والفكر والدراسة الواقعية العميقة لها، وبالتالي تتحول الستالينية الي تفسير مريح، على طريقة( الله يلعن ابليس )، ( والله يجازى الكان السبب)، او الي (شماعة) نعلق عليها عليها كل اخطاءنا بدلا عن نقدها وتحليل الظروف والشروط التاريخية التي حدثت فيها.
اهم المصادر والمراجع:
أولا: وثائق الحزب الشيوعي السوداني
1- وثيقة سبيل السودان لتعزيز الديمقراطية والسلم، المؤتمر الثالث ، 1956.
2- الماركسية وقضايا الثورة السودانية، المؤتمر الرابع، اكتوبر 1967م
3- قرارات المؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي السوداني ، اغسطس 1970.
4- ثورة شعب، دار الفكر الاشتراكي، 1965م.
5- اليسار السوداني في عشرة اعوام (وثائق 1954/1963م)، اعداد محمد سليمان.
6- مجلة الشيوعي العدد 150.
7- اصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير، دورة ل.م 1963م
8- قضايا ما بعد المؤتمر، دورة ل.م 1968
9- في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع، دورة ل.م مارس 1969
10- مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس.
11- دورات اللجنة المركزية(يوليو 1977، اغسطس 1977م، ديسمبر 1978).
ثانيا: كتب:
1- جان اللينشتين: تاريخ الظاهرة الستالينية، دار ابن رشد 1975م.
2- عبد الخالق محجوب:
- لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، دار الوسيلة 1987م.
- آفاق جديدة، 1957.
- حول البرنامج، طبعة دار عزة 2002م
3- تاج السر عثمان: تقويم نقدي لتجربة الحزب الشيوعي السوداني، دار عزة 2008م.



ثانيا: كيف تناول التقرير السياسي المنهج الماركسي؟

أثار موضوع المنهج الماركسي الذي ورد في مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني لبسا لدي الكثير من القراء كما وضح من التعليقات التي برزت في الصحف السيارة ، علي سبيل المثال كما جاء في تعليق د. الطيب زين العابدين في صحيفة الصحافة بتاريخ 20/ابريل/2008م، وتهدف هذه المساهمة الي تسليط الضوء علي هذا الموضوع بما يسهم في توضيحه علي المستوى النظري والممارسة.
فكيف تناول مشروع التقرير السياسي المنهج الماركسي؟
جاء في مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني حول المنهج الماركسي ما يلي( ومن المعروف أن الماركسية ليست علما تطبيقيا، وانما هي منهج يتم الاسترشاد به لدراسة الواقع).
كما يرد في فقرة اخرى من المشروع (جوهر الماركسية هو منهجها الجدلي لدراسة الواقع).
كما يرد ايضا في فقرة أخرى من مشروع التقرير( والمنهج الماركسي لدراسة الواقع ، وصولا للقوانين العامة التي تتحكم في مسار هذا الواقع ، قادر علي تجديد نفسه علي الدوام، انه منهج قابل للتعديل حذفا واضافة وفق ما تمليه ضرورة تجدد الواقع وحصاد التجارب النضالية والتطورات في العلوم الطبيعية والانسانية).
وفي فقرة اخرى من مشروع التقرير يرد( والواقع أن المفاهيم الأساسية للماركسية غدت اليوم جزءا لايتجزأ من نسيج العلوم الاجتماعية المعاصرة ، فالمفهوم المادي للتاريخ مثلا قد اصبح أساسا للمدرسة الموضوعية في التاريخ بتيارها الكاسح الذي غمر كثيرا من الجامعات ومراكز البحث المتخصصة في جميع انحاء العالم، ويتزايد الاعتراف بأثر اسلوب الانتاج المادي علي البناء الفوقي ، وفي العلوم السياسية يتأكد أن العوامل الداخلية لها قصب السبق والصدارة في استقرار وتطور انظمة الحكم قبل العوامل الخارجية).
تثير هذه الفقرات التي تم اقتطافها من مشروع التقرير السياسي الارتباك للقراء ويتساءل الملمون بابجديات الماركسية، ما معنى أن المنهج الماركسي يتم الاشترساد به لدراسة الواقع؟ وماذا بعد دراسة الواقع؟ هناك مدارس بورجوازية تستخدم المنهج الماركسي وغيره لدراسة الواقع، فما الفرق بينها وبين دراسة الاحزاب الشيوعية للواقع؟. وما معنى أن المفهوم المادي للتاريخ مثلا قد اصبح أساسا للمدرسة الموضوعية في التاريخ بتيارها الكاسح الذي غمر كثيرا من الجامعات ومراكز البحث المتخصصة في جميع انحاء العالم، وماذا بعد؟ وماذا بعد دراسة الواقع والوصول الي القوانين العامة التي تتحكم في مسار هذا الواقع؟. وغير ذلك من الاسئلة الحائرة التي أثارتها صياغة المنهج الماركسي في مشروع التقرير السياسي.
معلوم أن ما يميز المنهج الماركسي(الديالكتيك المادي) عن بقية الفلسفات والمناهج السابقة لها أن المنهج الماركسي لا يسعى لفهم ودراسة الواقع فقط ، بل من اجل تغييره . يقول ماركس ( كل ما قام به الفلاسفة في السابق هو تفسير العالم بطرق مختلفة، بيد أن المطلوب تغييره)( ماركس : موضوعات عن فورباخ، رقم(6)). وبالتالى، فان الماركسية ومنهجها الديالتيكي المادي لاغنى عنها للمناضلين الثوريين الذين يستهدفون تغيير الواقع وتجديد مجتمعهم الي الافضل، بعد دراسة وفهم واقعهم.
وبالتالى، فان المنهج الماركسي يتوسل للتغيير بدراسة الواقع ، تلك الدراسة المنبثقة من الخبرة والممارسة والتنظيم والنشاط العملي ، فالنظرية ترشد الممارسة والممارسة تغني وتطور وتخصب النظرية.
والمنهج الديالكتيكي كما أشار ماركس في مقدمة الطبعة الثانية لمؤلفه (رأس المال)،الديالكتيك( يتضمن في شموله وحسمه ادراك الحالة القائمة للاشياء ، وفي الوقت نفسه ايضا ادراك معنى تغير هذه الحالة وزوالها الحتمي ، لأنه يعتبر كل شكل اجتماعي متطور تاريخيا في حركة دافقة ، وبذلك يضع في حسبانه طبيعته الانتقالية وبنفس الدرجة وجوده المؤقت ،لأنه لايترك شيئا يفرض عليه ، ولأنه في جوهره ثورى ونقدي).
هذا ويكمن كل الهجوم علي الماركسية في هذه النقطة حيث أشارت الماركسية الي أن التشكيلة الرأسمالية مرحلة عابرة في التاريخ، وأنه من احشاء المجتمع الرأسمالي سوف تبرز قوى التغيير والتي تتمثل في قوى الكدح العضلي والذهني والتي تتعرض للاستغلال الرأسمالي بامتصاص فائض القيمة منها، وأن التناقض الرئيسي في المجتمع الرأسمالي بين الطابع الاجتماعي للانتاج والتملك الفردى لوسائل الانتاج سوف يحل في المجتمع الاشتراكي الذي ينفي ديالكتيكيا الرأسمالية.
كما يشير انجلز في مؤلفه: (انتي دوهرينغ)( الديالكتيك يدرك الاشياء وصورها الذهنية ، الافكار، أساسا في علاقاتها المتبادلة ، في تتابعها ، في حركتها ، في ميلادها وفنائها).
كما يتعارض المنهج الماركسي مع الرأى القائل أن الانسان نتاج سلبي للبيئة، بل يؤثر فيها ويعمل علي تغييرها، يقول ماركس( ان المذهب المادي الذي يقول أن الناس نتاج ظروفهم وتربيتهم ، وبالتالى ، ان الظروف المتغيرة والتربية المتغيرة ستخلف اناسا متغيرين ، ان هذا المذهب ينسى أن الناس بالتحديد هو الذين يغيرون الظروف ، وان الذي يعلم يجب عليه أن يتعلم هو ايضا(ماركس: موضوعات عن فورباخ(3)).
كما يعطى المنهج الماركسي اهمية فائقة للعلاقة المتبادلة بين المادة والوعي( الواقع والفكر)، المادة تحدد الوعى ولكن للوعى استقلاله النسبي، ويعمل علي التأثير في الواقع ويعمل علي تغييره، ومن هنا جاء قول ماركس ( ان الافكار تصبح قوة مادية عندما تتملكها الجماهير). وبالتالي لم أفهم ما جاء في فقرة اخرى من مشروع التقرير السياسي حول اثر المنهج الماركسي( ولعل مأثرة الحزب الشيوعي السوداني تكمن في استطاعته عبر اجتهاداته المتواصلة ، ترجمة الماركسية الي لغة مفهومة لجماهير شعبنا رغم واقع التخلف وضعف الطبقة العاملة الصناعية…). لااعتقد أن الأمر كذلك( ترجمة الماركسية الي لغة مفهومة لجماهير شعبنا..)، ولكن الحزب تناول المنهج الماركسي باستقلال وفق خصائص وظروف البلاد وتصدى للقضايا التي واجهها شعبنا ، واسهم في ادخال الوعي في صفوف الجماهير بمصالحها ومطالبها ، حتى تملكتها الجماهير وانشأت تنظيماتها التي توسلت بها للدفاع عن مصالحها، وقد لخص عبد الخالق محجوب ذلك في سؤال نميري له اثناء محاكمته بعد احداث يوليو1971م: ماذا قدمت للشعب السوداني؟ وكان رد عبد الخالق: الوعي ما استطعت الي ذلك سبيلا.
كما توصل الحزب الشيوعي في مؤتمره الرابع في اكتوبر 1967م، الي صيغة التطبيق الخلاق والمستقل للماركسية علي واقع السودان من اجل دراسته وفهمه وتغييره ، باعتبار ذلك هو الذي يؤدى الي تحويل الحزب الشيوعي الي قوة جماهيرية ، وفي تنمية خطوطه السياسية والجماهيرية وفي اكتشاف الاشكال الملائمة للتنظيم.
والواقع أن المنهج الماركسي ينظر للظواهر بذهن مفتوح وبدون تصورات مسبقة ، وهو يعنى دراسة الاشياء كما هى عليه حقا، في علاقاتها المتداخلة وحركتها الحقيقية، أو كما يقول لينين: التحليل الملموس للواقع الملموس. وأن المنهج الديالكتيكي ما هو الا المنهج العلمي في أوسع معانية.
كون استخدام الحزب الشيوعي السوداني للمنهج الماركسي أو المنهج العلمي ، فان ذلك لايعصمه من الاخطاء، ولكن في حالة حدوث الاخطاء يتم تحليل الظروف والشروط التي ادت اليها ونقدها، وبالتالي فان منهج الديالكتيك نقدي وثوري ولايعرف الحقيقية النهائية. يقول د. الطيب زين العابدين في تعليقه علي مشروع التقرير السياسي( الصحافة: 20/4/2008م، العدد 5326) : ( الواقع التاريخي يشهد بأن المنهج الماركسي لم يعصم الحزب الشيوعي من ارتكاب اخطاء سياسية فادحة مثل معارضة اتفاقية الحكم الذاتي في 1953، وخوض انتخابات المجلس المركزي في عهد الجنرال عبود ، وتأييد انقلاب نميري في مايو 1969، ومحاولة الاستيلاء علي السلطة في انقلاب 19/يوليو/1971، لقد برهنت تلك الاخطاء أن المنهج الماركسي لايجعل الحزب الشيوعي فوق الاحزاب الاخرى سدادا في التحليل والاستنتاج السياسي ، بل لعله يقل عنها لأنه يدعى علمية خارقة لايأتيها الباطل بين يديها ، ويدل انهيار الاتحاد السوفيتي وكل دول الكتلة الشيوعية في شرق اوربا أن اخطاء قراءة الواقع السياسي الاجتماعي ليس وقفا علي الحزب الشيوعي وحده).
كما اشرت سابقا، في حالة الخطأ ، فان المنهج الماركسي يؤكد علي ضرورة الاعتراف بالخطأ وتحليل الاخطاء واستخلاص دروسها والتعلم منها بدلا من التستر عليها، وهذا هو الفرق بين المنهج الماركسي ومنهج الحركة الاسلامية التي لاتعترف بالاخطاء الجسام ناهيك عن نقدها، التي وقعت فيها مثل: مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني عام 1965، وجرائم انقلاب يونيو 1989،..الخ، صحيح أن الحزب الشيوعي السوداني ارتكب اخطاء، ولكن انتقدها جماهيريا مثل: الموقف الخاطئ من اتفاقية 1953، وتقدير جانبها الايجابي من زاوية انها جاءت كنتاج لنضال الشعب السوداني، كما اصدر الحزب الشيوعي السوداني تقييمة لانقلاب 19/يوليو/1971م والذي يحتاج الي استكمال كما أشار التقرير السياسي. وفي مشروع التقرير السياسي الحالي نقد واضح لتأخير عقد المؤتمر الخامس 40 عاما.. الخ. وكون فشل النماذج الاشتراكية الستالينية في بلدان لاتحاد السوفيتي وشرق اوربا، فلا يعني ذلك فشل الماركسية، ولكن يتم استخدام المنهج الماركسي نفسه في تحليل وتوضيح اسباب الفشل واستخلاص الدروس اللازمة من ذلك، وهذا ما أشار اليه مشروع التقرير السياسي، وتعكف الاحزاب الشيوعية والاشتراكية في العالم علي دراسة تلك التجربة واستخلاص دروسها، لبناء نماذج اشتراكية انسانية تتوفر فيها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
هذا اضافة الي أن المنهج الماركسي لايدعي أنه يمتلك الحقيقة النهائية والمطلقة، ولايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما أشار د. الطيب زين العابدين. فالمنهج الديالكتيكي أو الماركسي يتعارض مع فكرة الحقيقة النهائية أو المطلقة.فشأنه شأن المنهج العلمي تكون الاجتهادات دائمة التجدد والانفتاح لقبول التحديات والاستعداد للتخلي عن كل ماهو عتيق عند ظهور ما هو افضل منه.
والواقع أن اختزال( المادية الديالكتيكية) في الفترة الستالينية في نصوص ذات طابع علمي افرغت الواقع المادي من محتواه، بحيث حعلته في وحدة ثابتة نهائية، اضرت بالمنهج الماركسي وجردته من محتواه العلمي والنقدي، واصبح اداة لتبرير الواقع بدلا من نقده وتغييره الي الافضل.
علي أن جوهر المنهج الماركسي هو دراسة الواقع بهدف معرفته للتأثير فيه وتغييره. والواقع أن ماركس وانجلز لم يقدما بيانا منهجيا كاملا عن منهج الديالكتيك المادي أو المنهج الماركسي ، بل استخدما هذا المنهج خيطا هاديا ومرشدا في ابحاثهما ودراساتهما، وتوصل ماركس وانجلز في مؤلفهما( الايديولوجية الالمانية) الي اكتشاف المفهوم المادي للتاريخ، والذي وصفه انجلز على قبر ماركس: أنه مثلما اكتشف دارون قانون تطور الانواع بالانتخاب الطبيعي، اكتشف ماركس قانون تطور المجتمع البشري.
كما استخدم ماركس المنهج الديالكتيكي والمفهوم المادي للتاريخ في مؤلفه (رأس المال):وبعد دراسة باطنية شاقة وملموسة لتطور الرأسمالية في انجلترا والتي وصلت القمة في المجتمعات الرأسمالية يومئذ، اكتشف ماركس قانون فائض القيمة الذي وضح جوهر الاستغلال الرأسمالي. بهذين الاكتشافين تحولت الماركسية الي علم ، والعلم لايعرف الحقيقة النهائية. وبعد ماركس جاء اسهام لينين الذي فسر الظواهر الجديدة التي افرزتها الرأسمالية في المرحلة الاحتكارية، كما أسهم غرامشي في تطوير الماركسية من خلال التركيز علي دور البنية الفوقية واستقلالها النسبي، ودور العامل الثقافي في التغيير ..الخ.
واللبس ايضا جاء من حديث التقرير السياسي الكثير وغير الدقيق عن المنهج الماركسي وبطريقة دعائية دون استخدام هذا المنهج في تحليل التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والطبقية التي نشأت في الفترة(1967- 2007)، وتوضيح المتغيرات التي نشأت في الواقع السوداني في هذه الفترة، رغم الدراسات الكثيرة التي انجزتها اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي السوداني في هذه الفترة مثل: البنوك الاسلامية، النظام المصرفي، الزراعة الآلية واثرها علي الجفاف والتصحر، بروز الرأسمالية الطفيلية المايوية والاسلامية، البترول، قضايا الاصلاح الزراعي، اضافة للنقد السنوي للميزانية..الخ، اضافة لدراسات كثيرة انجزت حول المتغيرات في هذه الفترة مثل دراسة انجزها تاج السر عثمان خول المتغيرات منذ المؤتمر الرابع( الفترة:1967- 2005)، ونشرت في صحيفة الايام (الفترة:21/10/2007- 24/10/2007م)، واسهامات باحثين اقتصاديين مثل د.فاطمة بابكر ود. صدقي كبلو حول الرأسمالية الطفيلية علي سبيل المثال ، اضافة الي عشرات الدراسات الاخرى، اضافة الي ما جاء في التقرير السياسي لدورة أغسطس 2001 حول المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية، ومارصدته التقارير السياسية للجنة المركزية بعد انقلاب 22/يوليو/1971..الخ. ولازال هذا الواجب قائما: واجب استكمال الدراسة الباطنية للمجتمع السوداني في هذه الفترة، في عملية واسعة تشترك فيها تنظيمات الحزب في المناطق لمعرفة المتغيرات في التركيب الاجتماعي والطبقي في البلاد، وذلك هو جوهر وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية( التقرير السياسي للمؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني، اكتوبر 1967)، والذي يوضح : النتائج العملية والملموسة لطريق التنمية الرأسمالية التي سارت عليه البلاد في هذه الفترة(1967- 2007)، ويوضح حقيقة الاوضاع الاقتصادية والتي تحدد ميادين الصراع وأشكاله الطبقية المختلفة، والمستجدات في اشكال الصراع الطبقي والذي يأخذ اشكال سياسية واقتصادية وثقافية ونظرية.وتوضيح البديل الذي يطرحه الحزب الشيوعي السوداني استنادا الي تلك الدراسة الباطنية، وهذا الواجب يظل قائما. وهذا هو جوهر المنهج الماركسي.
وكان من المتوقع أن يكثف التقرير الدراسة والنقد للفترة(1967-2007)، بدلا من الفترة(1956- 2007)، علما بأن الفترة(1956- 1967) غطاها التقرير السياسي للمؤتمر الرابع، وهذا خلل منهجي في التقرير، فالمطلوب متابعة المتغيرات منذ المؤتمر الرابع.
وبالتالي ، فان مشروع التقرير السياسي الحالي جاء فاقدا لعظم الظهر الذي يتمثل في نقد الاقتصاد السياسي للتنمية الرأسمالية التي سارت عليها البلاد في الفترة بين المؤتمرين الرابع والخامس، ومعرفة المتغيرات في التركيب الاقتصادي والاجتماعي والطبقي والثقافي والاثني والنوعي..الخ، التي حدثت في البلاد، ورسم خارطة الطريق للتغيير استنادا لتلك الدراسة الباطنية الملموسة.والواقع أنه ما كان التقرير السياسي في حاجة للحديث الكثير عن المنهج الماركسي لو تمت تلك الدراسة الباطنية، وتوضيح ذلك عن طريق البيان بالعمل.
قامت الماركسية علي نقد الرأسمالية، وطالما ظلت الرأسمالية قائمة بكل ركائزها، فان مشروعية النقد تظل قائمة، وبالتالي لايمكن تجاوز الماركسية لأن الظروف التي ولدتها مازالت قائمة ، كما كان يقول الفيلسوف الفرنسي سارتر، وبالتالي مهم تكثيف نقد الواقع الرأسمالي المشوه الذي نشأ في السودان، باحصاءات دقيقة، وتوضيح التفاوت في توزيع الثروة والتفاوت في التطور بين الاقاليم المختلفة والتفاوت في النوع ..الخ، كل ذلك ضروري من اجل التنمية المتوازنة بين اقاليم السودان المختلفة، والتوزيع العادل للسلطة والثروة، وتوفير احتياجات الناس الاساسية(تعليم، صحة، خدمات( مياه، كهرباء.. الخ)، وتحقيق المساواة الفعلية بين المرأة والرجل،.. الخ. فكلما كثفنا النقد للواقع الرأسمالي المؤلم في البلاد باحصاءات دقيقة ، كلما اقتربنا من جوهر المنهج الماركسي.
وخلاصة ما نود أن نقوله أن المنهج الماركسي أو منهج الديالكتيك المادي، يدرس الواقع من اجل فهمه واستيعابه وتغييره، وأنه يعتمد علي الدراسة الباطنية الملموسة، على الارض، للواقع، واستخلاص نتائج من الواقع لا من تصورات ذهنية مسبقة، ويتعامل مع الظواهر والمستجدات في الطبيعة والمجتمع بذهن مفتوح، ويتخصب بالحوار، دون الاستعلاء، مع التيارات السياسية والفكرية الاخري، وأنه في جوهره نقدي وثوري، كما أنه لايدعى الحقيقة المطلقة والنهائية، وهو ينظر للظواهر في شمولها وحركتها وتغيرها الدائم، وهو طريقة في البحث ، ويصل للحقائق من الواقع وبذهن مفتوح ، ولايخضع الواقع للنظرية، بل تخضع النظرية للواقع، النظرية ترشد الممارسة والممارسة تغنى وتخصب النظرية، كما يأخذ في الاعتبار الخصائص والظروف التاريخية لكل بلد في الاعتبار، وأن هذا المنهج يتم تطبيقه تطبيقا خلاقا ومستقلا حسب واقع وظروف كل بلد، بالتالي هو في جوهره المنهج العلمي في اوسع معانيه


ثالثا: حول تجربة الاسلام السياسي في السودان
الفترة:( 1967- 2007م)
راكمت الحركة السياسية والفكرية السودانية تجارب كبيرة في الصراع ضد الاسلام السياسي أو استغلال الدين في السياسة لم تجد حظها في التلخيص المكثف والمركز في مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني، رغم أن التقرير السياسي أشار الي عموميات صحيحة مثل (أن الاحتماء بالدين كان مجرد غطاء ايديولوجي للطريق الرأسمالي الشائه الذي اتبعته تلك القوى)، وأن القوى اليمينية ضاقت بالحقوق الديمقراطية للجماهير وسعت لمصادرتها باسم الاسلام، وأن الدولة الدينية تصادر الحقوق والحريات الديمقراطية وتؤدي الي التكفير والصراعات الدموية، وأن (الطريق الرأسمالي لايفرق في ضحاياه بين مسلم وغير مسلم، فالمحصلة النهائية لحصيلة مجتمع الرأسمالية الطفيلية منذ 30/يونيو/1989 لم تميز بين السودانيين علي أساس ديني، وانما علي أساس اجتماعي وسياسي، واكثر من 90% من السودانيين ، جلهم الآن تحت خط الفقر).
ولكن كما جاء في تقرير المؤتمر الرابع 1967(الماركسية وقضايا الثورة السودانية)، أنه ماعاد يفيد الاكتفاء بالعموميات وحدها، بل (اصبح لزاما علي حزبنا أن ينمى خطه الدعائي حول الدين الاسلامي وعلاقته بحركة التقدم الاجتماعي. لقد جرت محاولات متقطعة من قبل اعضاء حزبنا في هذا المضمار وتنقصها التوفر علي الدراسة العميقة والالمام بعلم الفلسفة من جوانبه المختلفة ولاتشكل خطا دعائيا ثابتا لحزبنا)(ص، 169، طبعة دار عزة، 2008م)، وكان الهدف الاساسي من ذلك هو (جعل الدين الاسلامي عاملا يخدم المصالح الأساسية لجماهير الشعب ، لااداة في يد المستغلين والقوى الرجعية التي لاترتبط بثرى هذا الوطن في مصالحها وتطلعاتها)(ص، 169).
كان من المفترض أن ينطلق مشروع التقرير السياسي من هذه النقطة ويتابع اين وصلت الحركة السياسية والفكرية في صراعها ضد استغلال الدين في السياسة؟.وما هي اهم معالم الصراع في هذا الجانب في الفترة(1967- 2007)؟.
ومعلوم أنه كان من اهم معالم بداية هذه الفترة ضيق القوى اليمينية بالحقوق والحريات الديمقراطية والتي رفعت شعار الدستور الاسلامي والجمهورية الرئاسية، وكان الهدف الاساسي ليس تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير الامن من الجوع والخوف، كما أشار عبد الخالق محجوب في سلسلة مقالات كتبها في صحيفة اخبار الاسبوع في العام 1968 حول الدستور الاسلامي، ولكن كان الهدف مصادرة الحقوق والحريات الأساسية باسم الاسلام، ومصادرة حرية الفكر والضمير والمعتقد، ومصادرة نشاط الحزب الشيوعي السوداني القانوني وفرض طريق التنمية الرأسمالي و نظام شمولي ديكتاتوري يحكم بالقهر وباسم الاسلام. كما وقف الحزب الشيوعي السوداني وكل القوى الديمقراطية والمستنيرة ضد محكمة الردة للاستاذ محمود محمد طه عام 1968م، بعد أن ضاقت القوي السلفية الظلامية بافكاره التي كانت تدعو الي العدالة الاجتماعية وتجديد التشريع الاسلامي بما يناسب العصر، واستخلاص المساواة بين المرأة والرجل والعدالة الاجتماعية والديمقراطية من اصول الاسلام.
أى كانت هناك محاولات من قبل الاحزاب التقليدية(أمة، أخوان مسلمين، اتحادي)لاقامة دولة دينية تحكم بالشريعة الاسلامية ولتكريس طريق التطور الرأسمالي ومصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية باسم الاسلام، مما زاد من حدة الصراع والانقسام في المجتمع وتعميق حرب الجنوب، وكان من نتائج ذلك انقلاب 25/مايو/1969.
وجاء نظام النميري الذي استمر مدنيا(دكتاتورية عسكرية) حتى سبتمبر 1983، عندما اعلن النميري قوانين سبتمبر لتقوم علي أساسها دولة دينية تستمد شرعيتها من قدسية السماء وبيعة الامام.
وجاءت مقترحات بتعديل الدستور في 10/6/1984 بعد تطبيق قوانين 1983 التي تنص علي الآتي:
• دورة الرئاسة تبدأ من تاريخ البيعة ولاتكون محددة بمدة زمنية(مدى الحياة).
• لاتجوز مساءلة أو محاكمة رئيس الجمهورية.
• رئيس الجمهورية مع الهيئة القضائية مسئول أمام الله.
أى تعديلات تعطى سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية. وجاءت قوانين سبتمبر بعد أن ضاق نظام النميري ذرعا بنمو الحركة الجماهيرية والمطلبية المطالبة بتحسين الاوضاع المعيشية وضد غلاء الاسعار والغاء القوانين المقيدة للحريات، وكانت هناك اضرابات المعلمين والفنيين والاطباء والقضاء وانتفاضات الطلاب.
وكانت تلك الفترة حالكة السواد في تاريخ البلاد تضاعف فيها القهر والفساد والجوع والامراض وغلاء الاسعار ، وضرب البلاد الجفاف والتصحر، وبلغت ديون السودان الخارجية 9 مليار دولار، وفاق عدد الايادي المقطوعة في نصف عام عدد الايدي المقطوعة في كل عهد الملك عبد العزيز آل سعود في ربع قرن!!. وتم اعدام الاستاذ محمود محمد طه بعد نفض الغبار عن احكام محكمة الردة 1968 ، وكان الاستاذ محمود محمد طه قد عارض قوانين سبتمبر ووصفها بأنها اذلت الشعب السوداني، وانفجرت حرب الجنوب بشكل اعنف من الماضي ، وكانت انتفاضة مارس – ابريل 1985 التي اطاحت بنظام نميري.
وبعد انتفاضة مارس – ابريل 1985 استمر الصراع:هل تبقي الدولة مدنية ديمقراطية أم دولة دينية؟ ودافعت قوى الانتفاضة عن مدنية وعقلانية الحياة السياسية والدولة ضد اتجاه الجبهة القومية الاسلامية لفرض قانون الترابي الذي يفضي للدولة الدينية، وتمت هزيمة مشروع قانون الترابي.
وبعد أن ضاقت الجبهة الاسلامية بالديمقراطية والحقوق والحريات الاساسية، نفذت انقلاب 30/يونيو/1989 الذي الغي الدولة المدنية والمجتمع المدني والغي الحقوق والحريات الاساسية، واقام دولة دينية كانت وبالا ودمارا علي البلاد ، وازدادات وتوسعت حرب الجنوب التي اتخذت طابعا دينيا ، وبلغت خسائرها 2 مليون نسمة، وشردت 4 ملايين الي خارج وداخل السودان، وتعمقت الفوارق الطبقية واصبحت الثروة مركزة في يد 5% من السكان و95% من السكان يعيشون تحت خط الفقر ، ورغم استخراج وانتاج وتصدير البترول الا أن عائده لم يدعم الانتاج الزراعي والحيواني والصناعي والتعليم والصحة والخدمات، وتوقفت عجلة الانتاج والتنمية وانهارت المشاريع الصناعية والزراعية وانتشر الفساد بشكل لامثيل له في السابق، وتعمقت التبعية للعالم الرأسمالي حيث بلغت ديون السودان الخارجية 28 مليار دولار، وتم تنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي(الخصخصة، سحب الدعم عن السلع الاساسية، رفع الدولة يدها عن خدمات التعليم والصحة، بل ما تم كان اسوأ مما يحدث في العالم الرأسمالي نفسه). ونتيجة للضغوط الداخلية والخارجية تم توقيع اتفاقية نيفاشا والتي فتحت الطريق للصراع السياسي والجماهيري من اجل تنفيذ استحقاقات نيفاشا واهمها التحول الديمقراطي والتنمية وتحسين احوال الناس المعيشية، والحل الشامل لقضية دارفور وتنفيذ اتفاقية القاهرة ورد المظالم ورفع الضرر واهمها اصدار قرار سياسي بارجاع المفصولين من المدنيين والعسكريين.
ولابديل لدولة المواطنة – الدولة المدنية الديمقراطية- التي تحقق المساواة بين الناس بغض النظر عن اديانهم واعراقهم. كما توصلت الحركة السياسية السودانية في ميثاق اسمرا 1995م، الي صيغة فصل الدين عن السياسة بعد التجربة المريرة لاستغلال الدين في السياسة.
نمت حركة الاسلام السياسي في السودان تحت شعارات العداء للشيوعية والحداثة(الديمقراطية، مساواة المراة بالرجل، دولة المواطنة وحرية الضمير والمعتقد)، واستفادت منها امريكا والغرب الرأسمالي في محاربة الشيوعية، كما دعمت امريكا مثلما دعمت حركة الاسلام السياسي في السودان المجاهدين في افغانستان حتى تم سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وبعد احداث 11/سبتمبر/2001 وجهت امريكا حربها ضد هذه الحركات باعتبارها مصدر الارهاب. وتستفيد امريكا من اخطاء حركات الاسلام السياسي في الحكم(كما في السودان وافغانستان وايران)، من اجل التدخل في شئون هذه البلدان واخضاعها لارادتها ومن اجل مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية واحتلال منابع النفط في بحر قزوين والعراق اضافة للاستعداد لضرب ايران. وعندما تتجاوز هذه الحركات الخطوط الحمراء كما في حالة حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين يتم ضربها بالطائرات والدبابات الاسرائيلية وبمباركة امريكا هذا فضلا عن أن حركات الاسلام السياسي لم تهتم بالمحتوى الاجتماعي للدين الذي يتمثل في تحرير الانسان من الجوع والخوف والفقر والامية ولم تهتم بتحقيق التنمية التي توفر احتياجات الناس الأساسية، كما فعلت حركات لاهوت التحرير في امريكا اللاتينية، بل وقفت ضد اجتهادات الاستاذ محمود محمد طه الذي اهتم بتطوير التشريع الاسلامي بما يناسب العصر ودعا الاستاذ محمود الي مساواة المرأة بالرجل والديمقراطية والاشتراكية باعتبار ذلك من اصول الدين، ولكن هذه الحركات ناصبت الاستاذ محمود محمد طه العداء واكدت ممارساتها النظرية والعملية انها تستغل الاسلام لخدمة التنمية الرأسمالية، وتختزل الاسلام في العقوبات والحدود، وترفع شعارات العداء للغرب الرأسمالي وتنفذ مشيئته بالضغط كما حدث بتوقيع اتفاقية نيفاشا والقبول بقوات الهجين في دارفور، اضافة لتنفيذ سياساته الاقتصادية والاجتماعية.
كما اكدت تجارب ايران وافغانستان والسودان ..الخ، أن هذه الحركات لم تحل المسألة الاجتماعية لمصلحة الفقراء والمستضعفين في الارض ، بل خلقت طبقات وفئات رأسمالية طغت في البلاد واكثرت فيها الفساد، وتلك من اهم دروس تجارب حركات الاسلام السياسي في السودان والعالم الاسلامي.
واخيرا، يبقي واجب الدراسة العميقة المستندة الي تلك التجارب حول ضرورة أن يكون الدين الاسلامي كما نشأ عاملا لخدمة التقدم الاجتماعي والاستنارة ويقف الي جانب المستضعفين في الارض ، ويخدم الاستنارة والديمقراطية والعقلانية واحترام حقوق الانسان ، لا أن يكون اداة في يد القوى الظلامية والتي تستغله لخدمة مصالح طبقية ودنيوية زائلة، مما يهدد بمصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية وتكريس التفاوت الصارخ في الثروة واشاعة التعصب والاستعلاء الديني والعرقي، مما يهدد بتمزيق وحدة البلاد.



رابعا: المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية
الفترة: 1967- 2007م
أشار مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني الي أن (سياسة التحرير الاقتصادي ونهج التبعية قاد لتدهور أوضاع الرأسمالية الوطنية المنتجة، وحلت محلها فئات جديدة من الرأسمالية الطفيلية الاسلامية والكمبرادورية(الرأسمالية التابعة)، ولكن الرأسمالية الوطنية المنتجة لم تختف من مسرح الاحداث كقوى اجتماعية لها دعاماتها القاعدية بين اثرياء ومتوسطي المزارعين وفي الصناعة والتجارة والخدمات. ومن ناحية اخري، فان الاصلاح الاقتصادي وترميم وعلاج التدهور في الاقتصاد سيساعد في استعادة مواقعها وتحفيزها لاستثمار اموالها في التنمية).
يواصل مشروع التقرير ويقول( صحيح ايضا ان مواقع الرأسمالية المرتبطة بالاستعمار قد تنامت باثر الدفع الرأسمالي في البلاد، ولكن تشابك المصالح الاقتصادية تحت مظلة العولمة لايعبر في اطلاقه عن ارتباطات عمالة وتبعية. كما أن للرأسمالية الوطنية في ضوء البرنامج الوطني الديمقراطي اسهاما في الانتاج حسب خطة التنمية مع مراعاة الضوابط الاقتصادية والقانونية).
ولما كانت قضية الرأسمالية السودانية من القضايا المهمة في الثورة الوطنية الديمقراطية ، فقد كان من المتوقع أن يتوقف عندها مشروع التقرير السياسي لمعالجة المتغيرات فيها انطلاقا مما توصلت اليه وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية. ولذلك لابد من استكمال ما ورد في مشروع التقرير السياسي بتسليط الضوء علي المتغيرات فيها وحصاد التنمية الرأسمالية التي سارت عليها البلاد والمتغيرات في مصادر التراكم، وذلك انطلاقا من الدراسة الباطنية لتطورها في هذه الفترة ، اضافة الي تسليط الضوء علي الجانب الفكري، انطلاقا من الواقع، علي امكانات وقدرات الرأسمالية الوطنية المنتجة وحدود نشاطها في خطة التنمية للبرنامج الوطني الديمقراطي.
وكانت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية(التقرير السياسي المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني ، اكتوبر 1967) قد عرّفت الرأسمالية الوطنية بانها تلك التي لاتعمل وكيلة لرأس المال الاجنبي، وأشارت الوثيقة الي أن(الرأسمالية الوطنية ضعيفة التكوين في بلادنا وحتي اليوم لاتجد التعبير السياسي في حزب واحد ، فبحكم أن الاحزاب التقليدية القائمة في بلادنا ترتبط بعلاقات طائفية وقبلية ، فان هذه الطبقة موجودة باقدار متفاوتة بين هذه الاحزاب وتحاول أن تعمل لصالحها في اطار تلك التنظيمات).
تواصل وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية وتقول(لقد كان لتزايد حدة الصراع الاجتماعي اثره بالنسبة لاقسام من الرأسمالية وخاصة بعد اكتوبر اذ انها جنحت اكثر نحو التهادن مع الاستعمار ومع القوى والعناصر الرجعية في البلاد).
ورغم ذلك اشارت الوثيقة(ان هذا لايعني أن مصالح الرأسمالية الوطنية موضوعيا اصبحت خارج نطاق الثورة الوطنية الديمقراطية، بل أن هذه الطبقة واقسامها ذات الارتباطات الشعبية والاكثر صلابة في وجه التغول الاستعماري ستكشف قياداتها الحقيقية ، وستكشف ان مصالحها تكمن حقا في الاستكمال الناجز للثورة الوطنية الديمقراطية)( الماركسية وقضايا الثورة السودانية، طبعة دار عزة 2008، ص، 99).
وكانت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية قد اشارت للتحولات التي جرت بين قوى الرأسمالية في السودان، فقد كانت حتى عام 1956 تقتصر في اشكالها الرئيسية على رأس المال التجاري العامل في التجارة المحلية ولكن بالدفع الرأسمالي تداخلت هذه الفئة مع اقسام اخرى من القطاع الزراعي من بيروقراطية الدولة، ومن عناصر شبه اقطاعية الخ. كما أشارت الوثيقة الي أن الرأسمالية المحلية تختلط بينها قوى طبقية ومصالح اخرى ايضا، وهذا الاختلاط بين القطاع الذي لايرتبط مباشرة مع رأس المال الاجنبي يجعله ميالا للمصالحة السياسية مع قوى التخلف في البلاد( ص، 98- 99).
كما أشارت الوثيقة الي نتائج التطور الرأسمالي الذي سارت عليه البلاد في الفترة(1956- 1967)، كما أشارت الي مصادر التراكم الرأسمالي المحلي الذي شكل الاساس الثابت لهذه الدفعات الرأسمالية في الاقتصاد الوطني السوداني في تلك الفترة.
ولخصت الوثيقة مصادر التراكم الرأسمالي في : الزراعة الآلية، المشاريع الخاصة للقطن ، المشاريع الخاصة في المديرية الشمالية.
وخلصت الوثيقة الي أن طريق النمو الرأسمالي طريق مسدود: اذ أنه فتح الطريق لتوغل الاستعمار الحديث ، كما ادى الي تزايد للاستغلال وانسياب أجزاء من الدخل القومي لمراكز الاستغلال في الخارج والي هبوط الدخل القومي للفرد، كما ابقي البلاد سوقا للسلع الصناعية ومنتجة للسلع الاولية، اضافة الي الهبوط المستمر في التنمية وانخفاض مداخيل الجماهير الكادحة. كما برز ضعف الرأسمالية المحلية وفشلها في الاسهام في التنمية رغم التسهيلات التي قدمت لها، كما يوضح الدور الكبير الذي لعبه القطاع العام مقارنة بالرأسمالية المحلية.وطرحت الوثيقة البديل الذي يتمثل في برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية.
وبالتالي من المهم متابعة المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية ونتائج طريق التطور الرأسمالي ومصادر التراكم الرأسمالي في الفترة(1967- 2007) بهدف امتلاك الوضوح النظري الذي يغتني بالممارسة والذي يساعد الحزب الشيوعي السوداني في دفع الثورة الوطنية الديمقراطية بخطوات ثابتة الي الامام..
أولا: حصاد التنمية الرأسمالية الفترة(1967- 2007).
شهدت هذه الفترة: فترة مايو(1969- 1985)، وفترة الديمقراطية الثالثة(1985- 1989)، وفترة الانقاذ( 1989- 2007).
في هذه الفترات سارت البلاد علي طريق التطور الرأسمالي والذي كان حصاده يتلخص في الآتي:-
1- انهيار البنيات الأساسية والمشاريع التي خلفها الاستعمار مثل مشروع الجزيرة والسكك الحديدية والنقل النهري والخطوط الجوية السودانية والخدمة المدنية التي كانت تتميز بدرجة عالية من الكفاءة والانضباط..الخ.
2- انهيار القطاع الزراعي وعجز غذائي ومجاعات ونزوح لامثيل له منذ فترة المهدية من الارياف الي المدن بسبب انهيار الخدمات والحروب الاهلية والضرائب الباهظة علي المزارعين والرعاة وخاصة في فترة الانقاذ.
3- توسع وتعمق الحرب الاهلية بسبب التنمية غير المتوازنة وانتقلت الحرب من الجنوب لتشمل دارفور ومناطق الشرق وجنوب النيل الازرق وجبال النوبا حتى تم توقيع اتفاقية نيفاشا وبقية الاتفاقات والتي يجب تنفيذ استحقاقاتها التي تتمثل في التحول الديمقراطي والتنمية وتحسين احوال الناس المعيشية، ومازالت الحرب مستمرة في دارفور وتنتظر الحل الشامل.
4- ازدياد التبعية للعالم الخارجي حيث بلغت ديون السودان الخارجية 28 مليار دولار.
5- انهيار خدمات التعليم والصحة(بعد رفع الدولة يدها ) والانتاج الصناعي والزراعي.
6- عدم تحقيق الاهداف المباشرة المنشودة من التنمية الرأسمالية التي قادتها الانظمة العسكرية والمدنية في هذه الفترة، اضافة للاثار السلبية لتضخيم دور الاستثمار في التنمية، اضافة لعدم الثقة بالنفس وتزايد الاعتماد على الغير والهبات والمعونات.
7- علي أن الوضع تدهور بشكل مريع منذ انقلاب 25/مايو/1969 عندما تم تحجيم الرأسمالية الوطنية المنتجة التي بدأت تلج ميدان الانتاج الصناعي والزراعي بالتاميمات والمصادرة العشوائية ، ومنذ العام 1978 وبعد التخفيضات المتوالية للجنية السوداني انهار الانتاج الصناعي والزراعي وتزايد النشاط الطفيلي(تجارة عملة، تخزين، عمولات،.الخ) الذي دمر الاقتصاد السوداني بتهريب الفائض الاقتصادي للخارج.
8- وبعد انقلاب 30/يونيو/1989 ، تفاقم التدهور الاقتصادي بعد سياسات الخصخصة التي اعتمدتها الحكومة ورفع الدعم عن السلع الاساسية والتعليم وارهاق كاهل المواطنين بالضرائب الباهظة، وتم افقار المواطنين حتى اصبحت نسبة الفقر 94% حسب الاحصاءات الرسمية. اصبحت الرأسمالية الطفيلية الاسلامية هي السائدة والتي تراكمت ثرواتها من نهب القطاع العام والمال العام(الفساد)، وتم تجميد اموال ضخمة في بناء العقارات وتعطل فائض اقتصادي كبير كان يمكن توجيهه في التنمية الزراعية والصناعية. وحتى بعد استخراج البترول والذهب ، كان من الممكن أن ينعكس ذلك ايجابيا علي حياة المواطنين اليومية وعلي تطور الانتاج الزراعي والصناعي ولكن ذلك لم يتم، واصبحت عائدات البترول مصدرا اضافيا لتراكم ثروات الرأسمالية الطفيلية الاسلامية.
الشاهد أن التنمية الرأسمالية التي قادتها الفئة الرأسمالية الطفيلية المايوية والاسلامية، وكرأسمالية تابعة لرأس المال الاجنبي، تمت بالقهر والعنف والتفريط في السيادة الوطنية، فنظام مايو بني اجهزة امن وقهر وترسانة من القوانين المقيدة للحريات (الاوامر الجمهورية ، قانون امن الدولة، قانون ممارسة الحقوق السياسية 1974 ، تعديلات الدستور 1975، قوانين سبتمبر 1983، بناء اضخم جهاز امن علي احدث الاسس في وسط وشرق افريقيا ..الخ).
اما نظام الانقاذ فقد سار علي المنوال نفسه، وبطريقة اعنف، حيث تمت مصادرة الحقوق والحريات الاساسية (مصادرة حرية الصحافة والتعبير ، اعتقالات وتعذيب وتشريد الالاف من المعارضين السياسيين، اضافة لترسانة القوانين المقيدة للحريات مثل: قانون الصحافة والمطبوعات وقانون الامن الوطني، قانون الاحزاب والتوالي، قانون النقابات ، قانون العقوبات ، قانون الاثبات ، قانون الجمعيات الاهلية..الخ، وحتي بعد توقيع اتفاقية نيفاشا كان من المفترض تغيير هذه القوانين بما يتمشي مع الدستور الانتقالي لعام 2005، ولكن ذلك لم يتم حتي الآن ، رغم مرور اكثر من ثلاث سنوات علي اتفاقية نيفاشا).
كما أشرنا سابقا، أن من سمات هذه الفئات الطفيلية قهر الحركة النقابية والديمقراطية والجماهيرية في الداخل والانحناء امام ضغوط وشروط الدول الرأسمالية ومؤسساتها السياسية والمالية والعسكرية والاقتصادية، لدرجة التبعية وفقدان السيادة الوطنية.

ثانيا: ما هي اهم المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية ومصادر التراكم الرأسمالي؟
1- الرأسمالية الطفيلية المايوية:(1969- 1985):
في هذه الفترة تراجعت الرأسمالية السودانية التقليدية التي نشأت بفضل مشاريع الادارة البريطانية في النصف الاول من القرن العشرين باقسامها المختلفة وبدرجات متفاوتة والتي تتلخص في الشركات الاجنبية والرأسمالية المحلية من اصل اجنبي ، والرأسمالية السودانية (آل ابو العلا، البربري، آل عبد المنعم،..الخ)، وخاصة بعد قرارات التاميم والمصادرة في عام 1970. ومن الجانب الآخر صعدت فئات جديدة من الرأسماليين من المدنيين والعسكريين المتعلمين واتسع حجم هذه الفئة في تلك الفترة، وكان من اهم مصادر تراكم هذه الفئة هي:
- الدخول العالية والعمولات التي كانت تستحوذ عليها من خلال ادارتها للدولة.
- دخول اعداد كبيرة من قيادات الخدمة المدنية والعسكرية، وخاصة الذين تم تسريحهم من الخدمة، الي ميدان الزراعة الآلية، وبالتالي حققوا ارباحا هائلة من هذه العملية.
- التسهيلات التي كانت تتلقاها من البنوك التجارية لتمويل عملياتها التجارية ولتجارة السوق السوداء والعملات وبناء العقارات ودعم تجارة الصادر والوارد.
- العائد السريع من النشاط الطفيلي(تخزين، سوق سوداء، تجارة العملة،السمسرة... الخ).
ونلاحظ أن هذا النشاط اصبح هو الغالب في هذه الفترة ، وفي الوقت نفسه تراجعت الرأسمالية الوطنية المنتجة التي كانت تعمل في ميدان الانتاج الزراعي والصناعي نتيجة ارتفاع تكاليف مدخلات الانتاج ، وازمة الوقود والطاقة وانخفاض قيمة الجنية السوداني..الخ.
وبالتالي سيطر النشاط الطفيلي الذي ارتبط بالثراء السريع علي مختلف اوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وظهرت فئة السماسرة التي تعيش علي العمولات ووكلاء البنوك الاجنبية والاسلامية والشركات الاجنبية وروؤس الاموال البترولية وشركات النهب والفساد مثل شركة تراياد التي تحالفت مع مجموعة القصر.
وفي المشاريع الزراعية المروية زاد تركز الثروة والغني والحواشات والتراكتورات وغير ذلك في ايدي اغنياء المزارعين وخاصة بعد ادخال نظام الحساب الفردي عام 1981 في مشروع الجزيرة( انظر: الحزب الشيوعي : ازمة مشروع الجزيرة ، دار الوسيلة، 1988).
وفي الريف ازداد تركز الثروة في ايدي زعماء القبائل وكبار ملاك الاراضي نتيجة لارتباطاتهم بمؤسسات السلطة: اتحاد اشتراكي ، لجان تطوير القرى، مجالس الشعب الاقليمية..الخ. وسيطر هؤلاء علي رخص الاراضي الزراعية والمحلات التجارية وحققوا ثروات واموال صخمة من ذلك عن طريق العمولات والرشوة والفساد ..الخ، هذا اضافة لتزايد ثراء اغنياء المزارعين والرعاة أو ملاك الثروة الحيوانية نتيجة للتوسع في عملية تصدير الماشية خلال تلك الفترة.
وفي هذه الفترة اتسعت فئة اصحاب العمل التي بلغ عددها عام 1981 م، (4847) ( دليل قسم احصاءات العمل بادارة القوى العاملة والاستخدام لعام 1981).
وفي عام 1971 كان نصيب 1% من السكان 8% من الدخل القومي، و10% من السكان 23% من الدخل القومي. وفي عام 1985 ارتفعت تلك النسبة حيث قدرت ان 1% كان نصيبهم من الدخل القومي 16%، 10% من السكان كان نصيبهم 44% من الدخل القومي.
اى أنه زاد تركز الثروة والغني وتعمقت الفوارق الطبقية، كما ارتفع معدل الاستهلاك الخاص حيث بلغت هذه النسبة للاستهلاك من الناتج القومي حوالي 82% خلال الفترة(1975/76- 1985).
كما ظهرت انماط استهلاك وصرف بذخي استفزازى، كان حديث الناس في تلك الفترة: في الافراح والاتراح وبناء غابات الاسمنت.. الخ.
وفي احصاء 1983 ، كان 3,% من سكان السودان يعيشون في فيلات وعمارات، بينما كان 36,6% يعيشون في منازل عادية متفاوتة، 61,4% يعيشون في قطاطى من القش والطين والشعر(احصاء 1983، ص 46).
هكذا كانت الطبقة الرأسمالية الطفيلية تبدد الفائض الاقتصادي في صرف واستهلاك بذخي أو تهربه للخارج، علي سبيل المثال تم تقدير متوسط رأس المال الهارب في الفترة:78/1979 – 84/1985 ، ب 15 مليار دولار، وحسب د.علي عبد القادر: (ان القطاع المصرفي السوداني يقف متهما بتمويل عملية تهريب رأس المال من خلال تمويله لعمليات السوق السوداء للنقد الاجنبي ، ونلاحظ سريعا ، أن القطاع المصرفي مملوك للدولة بنسبة 60%!!)( د.علي عبد القادر علي: حول سياسات التصحيح وهروب رأس المال ، الكويت فبراير 1988).

2- الرأسمالية الطفيلية الاسلامية
الفترة: 1989- 2007
في هذه الفترة هيمنت الفئات الغنية من طفيلية الجبهة الاسلامية علي مفاتيح الاقتصاد الوطني ، وتجمعت لدى هذه الفئة ثروات ضخمة ، ومن المهم ونحن نحلل هذه الفئة أن نتناولها في تطورها التاريخي باعتبارها احد روافد الرأسمالية السودانية التي نشأت وتطورت خلال سنوات نظام مايو ، ويشير د.حيدر طه في كتابه: الاخوان والعسكر (القاهرة 1993)، ص 55 ، الي: (أن الاخوان المسلمين يملكون حوالي 500 شركة، من كبيرة وصغيرة، في عام 1980 ، وتصل حجم روؤس اموالهم لاكثر من 500 مليون دولار متداولة بين هذه الشركات في الداخل).
وترجع اصول اغلب قادة هذه الفئة أو اصحاب الثروات منها الي خريجي الجامعات والمدارس الثانوية ، والذين اسسوا تنظيم الاخوان المسلمين في اوائل الخمسينيات من القرن الماضي في جامعة الخرطوم والمدارس الثانوية وبقية المعاهد التعليمية ، وبعد التخرج عملوا في جهاز الدولة والخدمة المدنية . وبعد انقلاب 25/مايو/1969 ، تم تشريد بعض افرادها ، وهاجر بعضهم الي دول الخليج وولجوا ميدان العمل الاستثماري في التجارة، وتجارة العملات ، كما كدسوا الاموال التي كانت تصلهم وهم في المعارضة في الخارج ، كما اشتركوا في محاولات انقلابية مثل محاولة: انقلاب سبتمبر 1975، واحداث 2/يوليو/1976 ، كما هاجر بعضهم الي امريكا ودول الغرب الرأسمالي وتأهل بعضهم علميا في تلك البلدان(ماجستير، دكتوراة، ..الخ)، وعمل بعضهم في النشاط التجاري في يوغندا وبعض بلدان شرق افريقيا ، واكتسبوا خبرات وتجارب في المهجر والعمل المعارض في الخارج.
وبعد المصالحة الوطنية 1977 عادوا للسودان وشاركوا في مؤسسات وحكومات نظام النميري (مجلس الوزراء ، الاتحاد الاشتراكي ، مجلس الشعب..الخ)، وتوسعوا في ميدان العمل التجاري والاستثماري واسهموا في ادارة البنوك الاسلامية وشركات التامين الاسلامية ومؤسسات الاستثمار الاسلامية ، كما تغير اسم التنظيم تبعا لتطور الحياة السياسية ، واتخذ اسم الاخوان المسلمين في الخمسينيات من القرن الماضي ، وجبهة الميثاق الاسلامي بعد ثورة اكتوبر 1964 ، والجبهة القومية الاسلامية منذ اواخر النظام المايوي ، ثم المؤتمر الوطني الذي انشطر في عام 1999 الي وطني وشعبي.
لقد كانت مؤسسات وبنوك وشركات التنظيم هي التي مولت كل نشاطاته وصرفه الكبير خلال فترة الديمقراطية الثالثة (الانتخابات، شراء الاصوات ، ..الخ)، وكانت تلك المؤسسات وراء تخزين قوت الناس في مجاعة: 1983/1984 ، كما تغلغلوا وسط الجيش باسم دعم القوات المسلحة ومحاربة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق والطابور الخامس، خلال فترة الديمقراطية الثالثة حتى نفذوا انقلاب يونيو 1989 بالتحالف مع مليشيات الجبهة الاسلامية بعد تكوين الحكومة الموسعة والاقتراب من الحل السلمي لمشكلة الجنوب بعد اتفاق الميرغني – قرنق عام 1989.
وبعد انقلاب يونيو 1989 ، تضاعفت ثروات هذه الفئة ، ويمكن تلخيص اهم مصادر التراكم الرأسمالي لهذه الفئة في الآتي:
أ‌- نهب اصول القطاع العام عن طريق البيع أو الايجار أو المنح باسعار بخسة لاغنياء الجبهة أو لمنظماتها أو الاقمار التابعة لها ، والتي كونت اكثر من 600 شركة تجارية تابعة لها ولمؤسساتها.
ب‌- اصدار قانون النظام المصرفي في العام 1991 م والذي مكن لتجار الجبهة ولمؤسساتها من الهيمنة علي قمم الاقتصاد الوطني وامتصاص الفائض مما ادي الي فقدان الثقة في النظام المصرفي ، اضافة لاجراءات تبديل العملة وتحميل المودعين التكلفة بخصم 2% من ارصدتهم وحجز 20% من كل رصيد يزيد عن 100 ألف جنية امتدت اكثر من عام وانتهاك قانون واعراف سرية النظام المصرفي وكشف القدرات المالية لكبار رجال الاعمال امام تجار الجبهة الاسلامية( دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، أغسطس 2001).
ت‌- التسهيلات والرخص التجارية من وزارة التجارة والبنوك التجارية والاعفاء من الضرائب .
ث‌- الاستيلاء علي شركات التوزيع الاساسية وتمليكها لتجار وشركات الجبهة الاسلامية.
ج‌- المضاربة في العقارات والاراضي والاستثمار في مشاريع الزراعة الآلية والثروة الحيوانية واستيلاء شركات ومؤسسات الجبهة الاسلامية علي مؤسسات تسويق الماشية.
ح‌- من مصادر التراكم الرأسمالي لهذه الفئة ايضا عائدات البترول والذهب.
خ‌- من الامثلة للنهب : طريق الانقاذ الغربي الذي وصل قمة النهب . وافقار المزارعين عن طريق نظام السلم والضرائب والجبايات التي لم يعرفها الشعب السوداني الا في العهد التركي.
د‌- من مصادر التراكم والدعم لهذه الفئة رأس المال الاسلامي العالمي الذي دخل البلاد في التسعينيات من القرن الماضي والذي قدرته بعض المصادر ب 6 مليار دولار واسهم في دعم النظام ومؤسساته الاقتصادية والمالية.
ذ‌- وتضيف د.فاطمة بابكر: (الخدمات الصحية والتعلمية التي اصبحت احد مصادر التراكم الرأسمالي في السودان بعد نظام الانقاذ 1989) (د.فاطمة بابكر: الرأسمالية السودانية: أطليعة للتنمية؟ ، الطبعة العربية 2006، ص 23).
والشاهد أن هذه المصادر جاءت نتيجة للنهب الاقتصادي والقمع السياسي ، وعاشت تلك الفئة في ترف وبددت الفائض الاقتصادي في صرف بذخي أو في تحويله للخارج.
ومن الجانب الآخر تدهورت اوضاع الفئات الشعبية نتيجة للفقر والبؤس والضنك، وانتشرت الرشوة والفساد في المجتمع وغير ذلك من التحلل الخلقي الذي فرضه نظام الجبهة الاقتصادي والاجتماعي.
وخلاصة القول أنه رغم المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية في هذه الفترة ورغم زيادة وزن العناصر المتعلمة وسطها، الا أنها فشلت في قيادة النهضة الصناعية والزراعية والاجتماعية والثقافية ، بل حتى في ادني مستوياتها البورجوازية مثل: قيام دولة المؤسسات وحكم القانون واحترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية، ورفع مستويات المعيشية وترقية خدمات التعليم والصحة ودعمها، ودعم خدمات الكهرباء والمياه، وتوفير البنيات الاساسية اللازمة للنهضة والتطور حتي اصبح السودان في ذيل قائمة الدول الاكثر تخلفا في العالم ، رغم امكانياته وموارده الاقتصادية والزراعية والحيوانية والبترولية والمعدنية. مما يتطلب قيادة طبقية جديدة تعبر عن الطبقة العاملة والكادحين، تنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.

ثالثا: الرأسمالية الوطنية: المفهوم والمصطلح:
لم تعالج كلاسيكيات الماركسية العلاقة بين الاستقلال الوطني في المستعمرات والانتقال الي الاشتراكية بوضوح، ولكن كانت هناك اشارة غامضة لانجلز ترى : (ان الاستقلال الوطني يمكن أن يكون ثمرة نضال الطبقات العاملة في بلدان المستعمرات). كما أشار كاوتسكي انه: (يجب علي الطبقة العاملة أن تقود بلدان المستعمرات(الهند، الجزائر، المستعمرات الهولندية والبرتغالية..الخ) في اسرع وقت ممكن نحو الاستقلال).
أما لينين فقد لاحظ الدور الذي يمكن أن تلعبه البورجوازية الوطنية في المستعمرات الاسيوية، مثل الدور الذي لعبه صن يات صن كديمقراطي ثوري في الصين. وفي مؤتمر الاممية الشيوعية 1920 أشار لينين الي ضرورة تقديم مساعدات لحركات التحرر الوطني التي تقودها البورجوازية الوطنية. وفي المؤتمر نفسه رفض الماركسي الهندي (رو) تقديم مساعدات الطبقة العاملة للبورجوازية الوطنية لعجزها عن قيادة الثورة الديمقراطية للنهاية.
أما تروتسكي فقد كان يسخر من مصطلح (البورجوازية الوطنية) الذي أشار اليه ماوتسي تونغ في مقاله حول (الديمقراطية الجديدة) ، باعتبار أن الاستعمار هو الذي خلق هذه البورجوازية أو ساهم في تكوينها. كما انتقد بوخارين سياسة الاممية الشيوعية وماوتسي تونغ الذي ابدل البورجوازية بعبارة (البورجوازية الوطنية)، وظلت مواقف الماركسيين تترواح بين مرونة تجاه (البورجوازية الوطنية) ودورها في تحقيق المهام الديمقراطية التي تطرحها مرحلة مابعد الاستقلال، واخرى متشددة تتخوف من احتكار البورجوازية الوطنية للسلطة وخضوعها لضغوط الامبريالية ورأس المال الاجنبي.( للمزيد من التفاصيل:راجع جورج لابيكا وج.سوسان: معجم الماركسية النقدي، دار الفارابي، 2003 ، ص 124 ).
كما يرى بعض الماركسيين المحدثين مثل: اندرية فرانك وسمير امين، انه لاتوجد مايسمي براسمالية وطنية، باعتبار أن بورجوازية الدول الهامشية(الاطراف) بطبيعتها تابعة أو (كمبرادورية).
هكذا كانت مواقف الماركسيين متباينة تجاه ما يسمي (بالبورجوازية الوطنية)، وهذا يؤكد رحابة الفكر الماركسي في تناوله لهذه القضية من زواياها المختلفة.
أشارت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية الي اهمية الوضوح النظري حول الرأسمالية الوطنية أو المحلية باعتبارها من القضايا الهامة في الثورة الوطنية الديمقراطية ، كما أشارت الي أن البعث الوطني للشعوب التي نالت استقلالها حديثا مستحيل في عالم اليوم بطريق التطور الرأسمالي كما حدث في اوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما اشارت الي أن هذا الطريق مسدود من الناحية التاريخية ، ولكن مشكلة الرأسمالية المحلية تظل قائمة خلال المرحلة الوطنية الديمقراطية ( فهي تتعلق بقيادة الثورة الديمقراطية وبالبعث الوطني وبامكانية تجميع كل القوى المناهضة للاستعمار ومن اجل دعم الاستقلال ، وبمهمة البناء الوطني الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وجلب تأييد وفعالية الطبقات ذات الامكانيات والقدرة لهذا الغرض.الخ)(ص، 97).
كما أشارت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية الي أن قضية الرأسمالية الوطنية قضية معقدة، ولايمكن حلها بمجرد الشعارات او النقل الاعمي من تجارب الحركة الثورية العالمية. من المهم أن نبني موقفنا علي التالي:-
أ‌- كشف العناصر من الرأسمالية الوطنية أو التي ظلت تمثل اقساما منها تقليديا، والتي تجنح للمصالحة مع الاستعمار والقوي الرجعية وتحاول وقف البعث الوطني في البلاد.
ب‌- الاعتبار الكافى لمصالح الرأسمالية الوطنية التي تسير تحت سيطرة رأس المال الاجنبي، أو تبدي الرغبة في الخلاص منه حيث وجد ، والاستفادة من امكانياتها في النضال لانجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية من ناحية قدراتها السياسية والاقتصادية ، وهذا يتطلب وضوحا ساطعا في برنامج حزبنا ومسلكا في النضال العملي يتمشي مع البرنامج.
ت‌- اكتشاف المواقع الحقيقية للرأسمالية الوطنية التي تقف مصالحها الي صف الثورة الوطنية الديمقراطية وجلبها الي مواقع العمل المشترك والنضال اليومي ، ومن بين هذه المواقع تشكل البورجوازية الزراعية بين القطاع الحديث موقعا هاما ، وهى عمليا تعبر عن تبرمها بالقيادات التقليدية التي كانت تسير وراءها والجانحة الي التهادن مع الاستعمار وقوى اليمين في البلاد( ص، 100).
الايجابي في ماجاء في وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية انها تجاوزت المنقول من الكتب الماركسية وتركت الباب مفتوحا للدراسة الميدانية أو الباطنية الملموسة حول هذه النقطة، حتى يمكن الوصول لنتائج من الواقع وبذهن مفتوح حول هذه النقطة بدلا من الاخذ في الاعتبار ما ورد في كلاسيكيات الماركسية واجتماعات الاحزاب الشيوعية العمالية حول الرأسمالية الوطنية والتي تفترض ضرورة مشاركتها في الثورة الديمقراطية وان هناك اقسام منها تعادي الاستعمار ، مع الاخذ في الاعتبار في الوقت نفسه تردد البورجوازية الوطنية وعدم قدرتها علي قيادة الثورة الديمقراطية بحزم الي نتائجها المنطقية.
ان الدراسة الباطنية والمستقلة مهمة لنشأة وطبيعة وخصائص الراسمالية في السودان.
هذا وترجع جذور دخول نمط الانتاج الرأسمالي في السودان الي فترة الحكم التركي عندما ارتبط السودان بالتجارة العالمية عن طريق تصدير سلعتي الصمغ والعاج ، ودخول المحاصيل النقدية(الصمغ، النيلة، القطن،.)، واتساع التعامل بالنقد، واقتلاع الاف المزارعين من اراضيهم وسواقيهم والذين تحولوا الي قوة عمل في مؤسسات دولة الحكم التركي ومصانعها( الذخيرة، الصابون،...الخ)(تاج السرعثمان: التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي، مركز محمد عمر بشير 2006). واتسعت هذه العملية( دخول نمط الانتاج الرأسمالي في السودان) بعد الاحتلال الانجليزي للسودان عام 1898م، وبعد تحرير الرقيق واحلال العمل الماجور محله، حيث ارتبط السودان بالتجارة العالمية عن طريق التبادل غير المتكافئ تصدير موارد اولية واستيراد سلع رأسمالية ، بعد أن عطل الاستعمار نمو الصناعة الوطنية، وقامت مشاريع القطن والسكة الحديد والتعليم المدني الحديث ، ونشأت الرأسمالية السودانية بدفع من قيام مشاريع الادارة البريطانية، وبدأ نشاطها في التجارة ثم تحول الي القطاع الزراعي والصناعي( بعد الاستقلال) وظل هذا النشاط متداخلا ومتشابكا. كما اشرنا سابقا الي أن وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية حددت مصادر تراكم الرأسمالية السودانية: الزراعة الآلية، مشاريع القطن الخاصة، المشاريع الخاصة في المديرية الشمالية.
ثم بعد ذلك حدثت متغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية وفي مصادر التراكم علي التحو الذي وضحناه في بداية هذه الدراسة.
1- مساهمة د. فاطمة باباكر
من الدراسات الميدانية أو الباطنية الهامة: دراسة د.فاطمة بابكر: الرأسمالية السودانية: اطليعة للتنمية؟ ، 1984م( بالانجليزي) ، وصدرت الطبعة العربية منها 2006 ، وهو جهد عظيم ويستحق التقدير، فلا يكفى الحديث العام عن الرأسمالية ، فلابد من بذل الجهد والدراسة العميقة لمواقعها ومصادر تراكمها وسماتها بدلا من الشعارات والنقل الاعمي لتجارب الآخرين كما أشارت وثيقة الماركسية وقضايا الثورة، واكتشاف مواقع الرأسمالية السودانية فعلا لاقولا، وخلصت د. فاطمة بابكر الي أن: نمط الانتاج الرأسمالي هو النمط السائد في المرحلة الراهنة من السودان، وهو النمط الذي يحدد عملية الانتاج ككل والاستهلاك وتوزيع الموارد.
كما أشارت الي اهم مميزات العينة الميدانية التي درستها والتي تتلخص في الآتي:
ورغم أن التجارة كانت الاساس لهم جميعا الا أن التعقيد والتداخل يتضحان في انماط استثمارهم ، اذ انهم كانوا يستثمرون في اكثر من مجال واحد من مجالات الاقتصاد(زراعة، صناعة- بعد الاستقلال- ).
كما اشارت الي اصول العينة التي درستها والتي ترجع الي الآتي: أبناء تجار الرقيق، أبناء العاملين في الادارة الاهلية، التجار وتجار الشيل في المديرية الشمالية، الحرفيين الذين حظوا بعقود من الحكومة البريطانية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ابناء الشخصيات المرموقة( الوزراء السابقين)، العاملون بالسياسة مؤيدي الاحزاب، بيروقراطية الدولة بما فيهم رجال الجيش.
كما اكدت الدراسة الملموسة وجود الطبقات في السودان ، كما اشارت أن الطبقة الرأسمالية استغلت الروابط الاسرية والانتماءات الاقليمية لخلق المزيد من التراكم الرأسمالي. كما أشارت الي ارتباط الشريحة العليا من الطبقة الراأسمالية بالاستعمار واستمرار التعاون معه حتى بعد الاستقلال، اضافة لدعم نمط الانتاج الرأسمالي بعد وصول الاحزاب التقليدية للحكم بعد الاستقلال.
كما اشارت الدراسة الي خطأ ماجاء في دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، يوليو 1977م وهو اعتبار(أن كل الرأسمالية السودانية طبقة بورجوازية وطنية. فالحزب الشيوعي ينسي أنه لاتوجد أى تناقضات بين مصالح الرأسمالية الوطنية التي شملتها الدراسة ومصالح رأس المال الاجنبي)( المصدر السابق، ص، 283).
كما خلصت الكاتبة الي أن ( الرأسمالية السودانية ما هى في الحقيقة الا تابع ذليل (كمبرادورية) أى انها بورجوازية تابعة. بالنظر الي الدور القمعي الذي لعبته احزابهم في تاريخ السودان السياسي الحديث، والدور الشخصي الذي لعبه بعضهم في معارضة التغيرات الجذرية لدرجة سحقهم لحكومات قائمة بالتنسيق مع رأس المال الاجنبي ، فان هذه الرأسمالية لايمكن بأى حال من الاحوال أن تصنف بأنها (رأسمالية وطنية)).
وتتفق د. فاطمة بابكر مع اندريه جندر فرانك الذي يرى أن: رأسمالية الاطراف (الاقطار الهامشية) تابعة ولها مصالح بالغة الاهمية في استمرار تلك التبعية) وفي قوله( بان الرأسمالية بكل اشكالها غير قادرة على لعب اى دور في الثورة الديمقراطية ، هذا اذا كان هناك احتمال لاحداث مثل هذه الثورة).
كما ترى د. فاطمة بابكر ( تؤكد نشاة وتطور الرأسمالية السودانية في السودان طبيعتها التابعة في كل القطاعات التي امتد اليها نشاطها ، وتؤكد لنا ايضا نشاطاتها السياسية بصورة اكبر ، مدى مصلحتها في الاستمرار في النمط الرأسمالي التابع الذي ميز وما زال يميز اقتصاد السودان)( 275).
علي أن د. فاطمه بابكر تستدرك استدراكا هاما حين تشير الي( ضرورة عمل دراسة اعمق واكثر شمولا لشرائح الطبقة الرأسمالية المختلفة للتمكن من الوصول لنتائج مؤكدة).
وهذا يترك الباب مفتوحا لمزيد من الدراسة الميدانية والباطنية للمتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية ودراسة الموضوع في شموله وحركته، بدلا من الحكم النهائي، وخاصة بعد فترة الانقاذ الذي همشت قطاعات واسعة من الرأسمالية الوطنية المنتجة في القطاعين الزراعي والصناعي، والتي تقاوم سياسة الانقاذ التي ارهقتها بالضرائب وحجمت دورها.
وفي اعتقادي أن الخلل الذي جاء في دورة اللجنة المركزية يوليو 1977م، انها لم تطرح مواصلة نهج الماركسية وقضايا الثورة السودانية في مواصلة الدراسة الباطنية لمواصلة اكتشاف مواقع الرأسمالية الوطنية التي تنزع للاستقلال عن رأس المال الاجنبي ، رغم ان ماجاء في الدورة صحيح من زاوية( علي الطبقة العاملة وحزبها ان تصارعا ضد مساعى البورجوازية الوطنية لقيادة الحركة الشعبية ، فحتى القادة الوطنيين المنحدرين منها يبقون اسري برنامجها الاجتماعي الذي يقود بالضرورة الي الارتداد علي التطور الوطني الديمقراطي)( الدورة، ص، 17- 18 ).
هذا اضافة للدراسات التي انجزها الحزب الشيوعي في تلك الفترة مثل : ازمة طريق التطور الرأسمالي، 1973، دراسة حول الاصلاح الزراعي في مشروع الجزيرة ونشرت في مجلة الشيوعي العدد 145، القطاع التقليدي والثورة الوطنية الديمقراطية 1976، المتغيرات في القطاع الزراعي 1986، البنوك الاسلامية 1978، البترول، أزمة النظام المصرفي وبعد انقلاب يونيو 1989 صدرت دراسة عن الرأسمالية الطفيلية في نشرة دراسات اقتصادية 1996-1997، كما تابعت دورة اللجنة المركزية في اغسطس 2001 المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية بعد انقلاب الجبهة القومية، اضافات لدراسات مثل الخصخصة وغيرها.
فالقضية الاساسية في اعتقادي أنه ليس الغاء دور الرأسمالية الوطنية المنتجة في البرنامج الوطني الديمقراطي ، ولكن في عجز الرأسمالية الوطنية عن قيادة الثورة الديمقراطية كما اكدت تجارب حركات التحرر الوطني ، وبالتالي لايمكن أن تسند اليها الدور القيادي.
وهذه نقطة هامة دار حولها صراع فكري منذ تأسيس الحزب الشيوعي السوداني وحول التحالف مع البورجوازية الوطنية، هل يظل الحزب الشيوعي مستقلا ام جناحا يساريا في الحزب الوطني الاتحادي( الذي كان يعتقد بصورة غير دقيقة انه حزب البورجوازية الوطنية)، وحسم الحزب الشيوعي السوداني هذا الصراع بتاكيد الاستقلال والصراع ضد احتكار البورجوازية الوطنية في احزابها التقليدية لقيادة الحركة الجماهيرية، واكد علي ضرورة الاستقلال والصراع في التحالف مع احزاب البورجوازية الوطنية، كما صارع الحزب الشيوعي ضد احتكار البورجوازية الصغيرة للقيادة بعد انقلاب 25/مايو/1969 ، وطرح البديل : سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية والدور القيادي فيها للطبقة العاملة والكادحين، وبعد انقلاب 22/يوليو/1971 ، تأكد تحالف سلطة الانقلاب مع رأس المال العالمي والتبعية للمؤسسات المالية الدولية وفقدان السيادة الوطنية.
2- مساهمة د.صدقي كبلو:
المساهمة الثانية، والتي تستحق التقدير، والتي تؤكد ضرورة دراسة المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية بذهن مفتوح وضرورة اكتشاف مكوناتها، موضوعيا، علي الارض، هي مساهمة د. صدقي كبلو في سلسلة مقالات نشرت في صحيفة الميدان في فترة الديمقراطية الثالثة، وتم نشرها في كتيب بعنوان: (من يقود الرأسمالية السودانية؟، وصدر عن دار عزة 2008م) ، وحسب ما اشار الكاتب أن الهدف هو حوار ثر حول الرأسمالية السودانية قبيل انعقاد المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني.
تناولت المقالات: هجوم الرأسمالية الطفيلية، تركيب الرأسمالية السودانية، انتفاضة مارس ابريل 1985 تطرح من جديد قضية القيادة: من يقود الرأسمالية السودانية؟ الطفيلية ام التجارية ام الصناعية؟، كما ختم الكاتب بمقال عن : انقلاب 30 يونيو 1989 انتصار للرأسمالية الطفيلية.
عرّف الكاتب في مقالاته الرأسمالية الطفيلية: بانها تلك التي تسعي الي استثمار سريع العائد من قطاعات ( المصارف، التامينات، التجارة الداخلية والخارجية) ، وان الفئات الطفيلية لاتساهم في الانتاج وتسعي لتحقيق اقصى معدلات للربح من خلال التداول: خلق الندرة في السوق ، والسوق الاسود ، التهريب، المتاجرة في العملات والوساطات( السمسرة).. الخ.
كما اشار الي ضرورة لجم النشاط الطفيلي بتوجيه روؤس الاموال نحو نشاطات انتاجية ( صناعية وزراعية)، والي هجوم الرأسمالية الطفيلية علي قانون الضرائب لعام 1986 والذي من فوائده لجم النشاط الطفيلي بجعله اقل ربحية، كما اشار الي ضرورة حماية الرأسمالية الصناعية التي يبلغ حجم استثماراتها اكثر من 2 بليون دولار امريكي ( مصانع النسيج) ، كما اشار الي أن جملة الاستثمارات في صناعة الغزل والنسيج 1,1 بليون دولار في القطاعين العام والخاص وتستوعب 32 الف عامل وموظف وفني ، وتستطيع أن تنتج 31 الف طن غزل و239 مليون متر قماش ، ولهذا السبب فقد منع استيراد الاقمشة من الخارج( ص ، 10- 11)، كما اشار الكاتب الي الاثر السلبي للتهريب علي الرأسمالية الصناعية والرأسمالية التجارية العاملة في الاستيراد القانوني.
كما حلل الكاتب تركيب الرأسمالية السودانية في مكوناتها : التجارية ، الصناعية ، الزراعية ، العقارية، المالية والمصرفية، مع الاشارة لتداخل هذه الفئات.
كما اشار الكاتب الي ظاهرة البنوك الخاصة التي برزت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي حيث تم فتح فروع للبنوك الاجنبية : 6 بنوك اجنبية ، 9 يساهم فيها السودانيون والاجانب ، 5 بنوك تحمل اسماء اسلامية . كما اشار الي انه منذ عقد السبعينيات والتسعينيات توسع وتطور النظام المصرفي بشكل سريع ، ففي العام 1996 بلغ مجموع عدد البنوك وفروعها 696.( ص، 25).كما اشار الي التشابك بين رأس المال التجاري وروؤس الاموال في البنوك المشتركة وشركات التامين، والي ان الهدف تحقيق اقصي عائد من الارباح ، وبالتالى لايهمهم توفير ضروريات المواطنين، وبالتالي يقفون وراء عمليات التهريب والسوق الاسود وتجارة العملة..الخ.
اشار الكاتب الي قضية تحرير الاقتصاد والي أن الطبقة العاملة وكل قوى الثورة الوطنية الديمقراطية في نضالها لاستكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية تواجه مباشرة قضية تحرير الاقتصاد الوطني والاستقلال الاقتصادي ، لذا لابد ان تضمن في برنامجها تحرير الرأسمالية السودانية من النفوذ الاحنبي والتبعية للاستعمار الحديث خاصة فيما يتعلق ب: -
أولا: رأس المال الاجنبي وتمويل الاستثمارات .
ثانيا:التكنولوجيا فيما يتعلق باستيراد الالات والمعدات وقطع الغيار ونظم الانتاج.
ثالثا:الاعتماد علي المواد الخام والوسيطة المستوردة. وهنا لابد من اعادة تشكيل وترتيب البنية الاقتصادية السودانية بشكل جوهري بحيث تقوم علي اساس قطاعات ومناطق اقليمية متشابكة ومتبادلة المصالح ومدخلات بعضها تاتي من منتجات البعض الآخر ومنتجاتها تصب اما لتلبية احتياجات السوق المحلي الاستهلاكية أو الاحتياجات الانتاجية بحيث يمكن قيام علاقات البلاد الاقتصادية الدولية علي اساس تبادل المنافع لا علي اساس التبعية والاندماج في السوق الرأسمالي العالمي.( 31- 32).
كما أشار الكاتب الي أن تطور الرأسمالية السودانية وتعدد فئاتها حقيقة موضوعية ينبغي علينا ادراكها تما ما ووضع برنامجنا وتكتيكاتنا علي اساسها( ص، 32).
ولكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار ان طبيعة التراكم الرأسمالي تتفاوت ولاتتغير طالما كان الهدف من اسلوب الانتاج الرأسمالي تحقيق اقصي قدر من الربح، وفي مؤلفه(الرأسمال)، المجلد الاول، يشير ماركس الي مصادر التراكم البدائي لرأس المال بقوله(ان اكتشاف الذهب والفضة في امريكا ، وافناء السكان الاصليين واسترقاقهم ودفنهم في المناجم وبداية غزو ونهب جزر الهند الغربية ، وتحول افريقيا الي منطقة لصيد ذوى البشرة السوداء علي نطاق تجاري، كل ذلك اعلن الفجر الوردي لعصر الانتاج الرأسمالي)(ماركس : رأس المال، المجلد الاول، موسكو 1974، ص 703). فالتراكم البدائي لراس المال، اذن تم عن طريق النهب، ثم انتقل بعد ذلك الي الاستثمار في الزراعة والصناعة وبقية الخدمات، وحتي في المجالات الانتاجية(الزراعة، الصناعة،..)، فان التراكم الرأسمالي يقوم علي نهب فائض القيمة من العاملين بايديهم وادمغتهم.
فالرأسمالية الطفيلية في السودان التي حققت ارباحا سريعة عن طريق الفساد ونهب اصول قطاع الدولة والتداول السريع لرأس المال وغير ذلك من الاساليب البشعة للتراكم البدائي لرأس المال، اصبحت جزءا من الرأسمالية السودانية، ومن المؤكد أن هناك اقسام منها سوف تنتقل الي انشطة انتاجية، وسوف تحقق اقصي قدر من الارباح طالما كانت الدولة التي تعبر عن مصالحها تصادر حرية العمل النقابي، وبالتالي ليس هناك فرق جوهري بين النشاط الرأسمالي الطفيلي والنشاط الرأسمالي الانتاجي، باعتبارهما من مكونات الرأسمالية السودانية، ولكن خطورة الدور القيادي للنشاط الرأسمالي الطفيلي يترك البلاد لقمة سائغة للمؤسسات الرأسمالية الدولية ويعجل بتبعيتها لها، وبفقدان البلاد لسيادتها الوطنية، كما اكدت فترة مايو والانقاذ.
رابعا: ما هو دور الرأسمالية الوطنية في التنمية المستقلة؟.
تؤكد تطورات الاحداث وفي ظل الرأسمالية المعاصرة (المعولمة) أنه لابديل للتنمية المستقلة أو التطور الوطني الديمقراطي والتي تتطلب:
1 – تاهيل القطاع الزراعي باعتباره المصدر الاساسي للفائض الاقتصادي وتأمين الغذاء ( باعتبار أن من لايملك قوته لايملك قراره)، خاصة بعد أن اتضح في مرحلة العولمة الحالية أن الغذاء سوف يكون سلاحا فعالا لاخضاع شعوب العالم الثالث لسياسات الدول الرأسمالية ومؤسساتها المالية والاقتصادية والعسكرية، وهنا لابد ان يلعب قطاع الدولة الدور القيادي في حشد الطاقات والقدرات في سبيل ذلك اضافة للقطاع التعاوني والرأسمالية الوطنية المنتجه، وأن تلعب الدولة ومؤسساتها المالية دورها في توفير مدخلات الانتاج والتسهيلات اللازمة لعملية الانتاج الزراعي والحيواني.
2- اعادة تاهيل القطاع الصناعي:
وهذا يتطلب حماية الصناعة الوطنية بتوفير الطاقة باسعار زهيدة وحل مشاكل التمويل والسلفيات بفوائد زهيدة وتوفير قطع الغيار حتي تعمل المصانع بطاقتها الكاملة وتدب الحياة في المصانع التي توقفت ، هذا اضافة للتوسع في الرقعة الزراعية للحبوب الزيتية (السمسم، الفول ، القطن، عباد الشمس .. الخ) حتي تنتعش مصانع الزيوت والصابون والتوسع في زراعة القطن لمواجهة احتياجات صناعة النسيج..الخ.
وهذا يتطلب لجم النشاط الرأسمالي الطفيلي ودعم الرأسمالية الوطنية المنتجة في القطاعين الزراعي والصناعي.
2- سيطرة الدولة علي ثرواتها ومواردها الطبيعية.
3- السيطرة المحلية علي التكنولوجيا أو اعادة انتاجها سريعا حتي لو كانت مستوردة من دون الاضطرار الي استيراد قطع الغيار والمعدات والخبرات.
( للمزيد من التفاصيل حول التنمية المستقلة أو المتمحور حول الذات راجع د. سمير أمين: ما بعد الرأسمالية المتهالكة، دار الفارابي 2003).
في كل هذه العمليات تلعب الرأسمالية الوطنية المنتجة دورا هاما في اطار السياسة العامة للدولة الوطنية الديمقراطية.
وخلاصة ما نود أن نقوله: من المهم مواصلة نهج وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية في الدراسة المستقلة علي الارض لاكتشاف مواقع الرأسمالية الوطنية في النشاط الانتاجي(الزراعي ، الصناعي، الخدمات،..الخ) ومتابعة المتغيرات في تركيب الرأسمالية السودانية، وتناول تركيب الرأسمالية السودانية في حركته وتطوره وتغيره، وتجديد الدراسة بتجدد المتغيرات.

أهم المصادر والمراجع:
1- الماركسية وقضايا الثورة السودانية، دار عزة، 2008.
2- عبد الخالق محجوب : قضايا ما بعد المؤتمر ، دار عزة 2005.
3- فاطمة بابكر: الرأسمالية السودانية: أطليعة للتنمية؟، الطبعة العربية ، معهد البديل، لندن، 2006م.
4- صدقي كبلو: من يقود الرأسمالية السودانية؟، دار عزة ، 2008.
5- تاج السر عثمان: الرأسمالية السودانية: النشأة والتطور( كتاب قيد النشر، حلقات نشرت في صحيفة الرأي الآخر 1999م).
6- تاج السر عثمان: المتغيرات بعد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني، 1967 ( حلقات نشرت في صحيفة الايام بتاريخ: 21، 22، 23، 24/ 10/ 2007).
7- سمير امين: ما بعد الرأسمالية المتهالكة، دار الفارابي، 2003.
8- معجم الماركسية النقدي، دار الفارابي، 2003م.
9- الرأسمالية الطفيلية الاسلامية، (نشرة دراسات اقتصادية، اصدار الحزب الشيوعي السوداني، 1969- 1997).



خامسا:الماركسية وقضايا المناطق المهمشة في السودان
اشار مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني الي مفردات المشروع الوطني الديمقراطي التي تتلخص في (دولة المواطنة المدنية والحقوق المتساوية، التحول الديمقراطي، انهاء التهميش، التنمية المتوازنة، ديمقراطية التعليم، الاصلاح الزراعي، وضع حد لخصخصة العشوائية، الحل الديمقراطي للمسألة القومية والجهوية في السودان..الخ)(ص 81).
كما أشار مشروع التقرير الي سياسات الرأسمالية الطفيلية التي قادت الي( تفاقم المسألة القومية والجهوية والهبت نيرانها، فاطلت برأسها كافرازات طبيعية والتوجه الحضاري الأحادي ، ومن ثم تعذر الحياة المشتركة لمكونات شعب السودان الحضارية ، دعاوي الانفصال التي يغذيها اهل الانقاذ من جهة وغلاة القوميين في حركة الاقليات القومية والجهوية المهمشة من جهة اخري. ان هذا الوضع يهدد وحدة السودان ويضعف من قدرات شعب السودان علي مواجهة التحديات الماثلة من قبل حركة العولمة والنظام العالمي الجديد في سعيهما لفرض نهج التبعية وتكريسه وتمزيق وحدة البلاد ، وهذا واقع يتطلب المشاركة النشطة في المنبر العالمي المناهض لسياسات العولمة وتوجهاتها).
كما لخص المشروع رؤية الحزب الشيوعي للخروج من الازمة في الآتي:
- الحل العادل للمسألة القومية والجهوية.
- قومية ثروات اهل السودان (تجزئة الثروات يمس وحدة الوطن).
- ردم الفجوات التنموية القائمة بين الاقاليم، في قطاعات الاقتصاد المختلفة : صناعية وزراعية وثقافية وخدمية، عن طريق المعاملة التفضيلية للاقاليم والمناطق المهمشة عبر آلية الميزانية السنوية العامة وميزانية التنمية، ولابد من الانتباه هنا لما يواجه هذا المبدأ في التنفيذ بعد اتفاقية نيفاشا والشرق والغرب، كما ان وحدة الوطن تتطلب آنيا دعم التنمية القومية في الاقليم الجنوبي واعادة البناء في دارفور وشرق السودان وجنوب النيل الازرق وجبال النوبا).
ما ورد في مشروع التقرير أعلاه جيد في عمومياته، ولكن من المهم معالجة المتغيرات التي حدثت في المناطق المهمشة منذ العام 1983م، بعمق اكثر، والاقتراب اكثر من واقع المناطق المهمشة، وتسليط الضوء علي دور نظام الانقاذ في انفجار هذه الحركات نتيجة للتهميش الديني والثقافي واللغوي، ومتابعة وتطوير منهج الحزب في معالجة قضايا ومشاكل القطاع التقليدي، أو المناطق الاقل تخلفا أو المناطق المهمشة، أو تكوينات ماقبل الرأسمالية في السودان، استنادا علي جهدنا السابق، كما ورد في وثيقة: الماركسية وقضايا الثورة السودانية، ووثيقة قضايا مابعد المؤتمر، يونيو 1968، ودورة اللجنة المركزية يونيو 1975، ووثيقة القطاع التقليدي والثورة الوطنية الديمقراطية 1976، ووثيقة الحزب الشيوعي وقضية الجنوب 1977، والوثيقة التي قدمها الحزب الشيوعي للمؤتمر الدستوري الذي لم يعقد بعنوان(ديمقراطية راسخة وتنمية متوازنة وسلم وطيد 1989).
ومن المهم متابعة هذا الموضوع الذي يتعلق بمعالجة الماركسية لتكوينات ماقبل الرأسمالية في السودان ومعالجة المستجدات فيه في اطار برنامج المرحلة الوطنية الديمقراطية.
نتناول في اتجاه توسيع المناقشة في هذا الموضوع الآتي: طبيعة وحدود الحركات في المناطق المهمشة، وملاحظات نقدية علي برامج الحركات في المناطق المهمشة.
أولا: ماهي طبيعة وحدود الحركات في المناطق المهمشة ؟
اصبح ملحا الوضوح النظري والفكري حول طبيعة وحدود الحركات في المناطق المهمشة أو الاقليمية والجهوية،
والتي تعتبر من الظواهر الجديدة في الحياة السياسية السودانية والتي اتخذ بعضها طابع النضال المسلح في جنوب البلاد ودارفور والشرق وجبال النوبا وجنوب النيل الازرق.
ونبعت هذه الحركات من الاحساس بالتهميش والغبن وبظلامات قبائلها، نتيجة للتفاوت في التنمية والتهميش الاثني والثقافي واللغوي الذي عمقة الاستعمار، وبعد ذلك الانظمة(المدنية والعسكرية) التي حكمت بعد الاستقلال وسارت في طريق التنمية الرأسمالية التي عمقت التفاوت في الثروة والتفاوت بين اقاليم السودان المختلفة، والاستعلاء الثقافي والعرقي والديني مثل نظام الجبهة القومية الاسلامية بعد انقلاب يونيو 1989.
طرحت هذه الحركات تنمية مناطقها بتوفير خدمات التعليم والصحة وخدمات المياه والكهرباء وتوفير الخدمات البيطرية، وازالة التفاوت التنموي والاضطهاد الثقافي اللغوي والعرقي والديني.وكانت تلك خطوة متقدمة في الصراع السياسي. رحب الحزب الشيوعي السوداني بعد ثورة اكتوبر1964م بهذه الحركات، واشار الي مشروعية مطالبها في وجه دعاوي الاحزاب التقليدية(امة، اتحادي)، بانها حركات عنصرية.
وبعد مؤتمر البجا الذي تأسس عام 1958، برزت بقية الحركات بشكل واضح، كما اشرنا سابقا، بعد ثورة اكتوبر 1964 مثل: جبهة نهضة دارفور، واتحاد ابناء جبال النوبا، واتحاد جنوب وشمال الفونج،..الخ ، هذا فضلا أنه كان قبلها حركات الانيانيا في جنوب السودان تقود كفاحا مسلحا تحت شعارات متفاوتة(الحكم الفدرالي، الانفصال).
ولكن النقلة النوعية في تلك الحركات كانت عندما اندلع التمرد الثاني في الجنوب في يونيو 1983م، بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي شكلت الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق الذي اعلن أن هدف حركته هو تأسيس سودان موحد قائم علي المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية ، وعليه، فان هذه الحركة تختلف عن حركة انانيا التي كانت تنادي بانفصال جنوب السودان عن شماله. وكان ذلك نقطة تحول في تطور الحركة القومية والوطنية في جنوب السودان ، وتعبيرا عن تحول نوعي جديد في اقسام من الحركة السياسية الجنوبية، وفي المطالبة بوطن واحد يقوم علي العدالة والمساواة، صحيح أنه قبل جون قرنق ، كان هناك قادة وسياسيون جنوبيون تمسكوا ودافعوا عن وحدة السودان مثل: وليم دينق، وجوزيف قرنق ..الخ. ولكن ما يميز جون قرنق أنه حاول أن يؤصل للوحدة واستنبط مفهومي: الواقع التاريخي أو التنوع التاريخي والتنوع المعاصر والذي يؤكد استمرار وتنوع التاريخ المشترك في السودان مما يشكل الاساس المتين للوحدة(انظر:جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد ، تحرير وتقديم الواثق كمير، دار رؤية 2005).وخلص جون قرنق في طرحه: (ان الواجب هو خلق سودان ننتسب له كلنا ، رابطة اجتماعية سياسية ننتمي اليها جميعا وندين لها بالولاء الكامل بغض النظر عن العرق أو الدين أو القبيلة أو الجنس حتي تستطيع المرأة ان تساهم بفعالية).
كما برز في اول بيان للحركة(المانفستو) الصادر بتاريخ:31/7/1983، مصطلح المناطق المهمشة ، والذي اصبح متداولا في السياسة السودانية ، حيث حدد (المانفستو) المناطق المهمشة بانها كل السودان ماعدا وسطه(الخرطوم ومديرية النيل الازرق) حيث توجد العاصمة ومشروع الجزيرة، كما حمّل البيان الاستعمار البريطاني مسئولية تهميش تلك المناطق ، ثم حمّل المسئولية من بعد الاستعمار لما اطلق عليه(انظمة شلل الاقلية) في الوسط من العام 1956م.
وقد ناقشنا في كتاب انجزه كاتب هذه السطور مفهوم التهميش والمناطق المهمشة(انظر: تاج السر عثمان: الجذور التاريخية للتهميش، مكتبة الشريف الاكاديمية 2005م).
وبعد الحركة الشعبية ظهرت حركات اخري مثل : في دارفور:حركة تحرير السودان، حركة العدل والمساواة، اضافة لمؤتمر البجا الذي ترجع جذوره الي عام 1958م، وغيرها من التنظيمات التي تطالب بتنمية مناطقها وتدافع عن هويتها الثقافية مثل تنظيمات ابناء النوبا في الشمال، وتجمعات ابناء شمال وجنوب كردفان ، وجنوب النيل الازرق.
واضح أن هذه الحركات اصبحت تلعب دورا مؤثرا في السياسة السودانية، مثل توقيع اتفاقية نيفاشا، بين الحركة الشعبية في جنوب السودان والمؤتمر الوطني، التي اوقفت حربا امتدت لمدة 22 عاما، وشاركت بموجبها في السلطة التشريعية والتنفيذية، وما زال واجب تنفيذ استحقاقات هذه الاتفاقية قائما الذي يتمثل في تحقيق التحول الديمقراطي والتنمية وتحسين احوال الناس المعيشية والحل الشامل لقضية دارفور وبقية الاقاليم، اضافة للاتفاقات الاخري التي وقعتها بقية الحركات.
ونود هنا مناقشة الاساس الفكري لهذه الحركات وما هو مستقبلها ومدى نجاحها واستمرارها والذي هو رهين بتحقيق التنمية في مناطقها ورفع المستويات المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمناطقها.
نبدأ بالاجابة علي الاسئلة الآتية: ماهي العوامل التي ادت الي نشأتها وتطورها؟ وماهي حدود ومهام التنظيم الذي يقوم علي الرابطة الاقليمية؟ وكيف يقاس نجاح هذا التنظيم؟، وما هي سلبياته وايجابياته؟.
معلوم ان من مسار تطور التنظيم في السودان هو الطرق الصوفية التي انتقلت من الشكل القبلي الي الشكل الاوسع الذي يضم افراد من قبائل مختلفة علي اساس الانتماء للطريقة المعينة. اما النقلة الثانية في تطور التنظيم في السودان هو ظهور التنظيم السياسي الحديث الذي بدأ بجمعية اللواء الابيض التي ضمت سودانيين من قبائل زنجية ونوبية وعربية وبجاوية علي اساس سياسي، وتلك كانت نقلة اخرى متقدمة في تطور التنظيم في السودان، اضافة الي ظهور منظمات المجتمع المدني الاخري مثل الاندية الرياضية والثقافية والاجتماعية والجمعيات التعاونية والخيرية، ومؤتمر الخريجين والنقابات والاتحادات(طلاب، شباب، نساء..الخ)، والتي وحدت السودانيين علي اساس اهداف معينة تسعي لتحقيقها هذه التنظيمات، اضافة لظهور المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والخدمية التي انشأها المستعمر مثل السكة الحديد، مشروع الجزيرة التعليم الحديث، القوات المسلحة، الخدمة المدنية، والميناء، وتطور المدينة السودانية..الخ، التي وحدت وضمت السودانيين من سحن وقبائل مختلفة، بغض النظر عن العرق او اللون.
كما تمت محاربة المستعمر الذي كان يمارس سياسة فرق تسد علي الاساس القبلي، وسياساته التي كرست التطور غير المتوازن بين اقاليم السودان المختلفة، وسياسة المناطق المقفولة التي عزلت مناطق مثل الجنوب، وشرق السودان ودارفور وجنوب النيل الازرق من المجرى العام للتطور وابقي علي تلك المناطق في تخلفها، وكان ذلك من الجذور التاريخية للتهميش، وبعد الاستقلال لم يحدث تغيير حقيقي ، وسارت البلاد علي طريق التطور الرأسمالي الذي كرس التفاوت في الثروة وبين الاقاليم وفي النوع، وكان ذلك جذرا اساسيا من جذور انفجار حركات المناطق المهمشة الحالية.
علي أن النقلة الكبيرة في انفجار حركات المناطق المهمشة، كانت بعد انقلاب 30/يونيو/1989، او انقلاب الجبهة القومية الاسلامية، الذي حل الاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وقفل الطريق امام اى عمل سلمي ، اضافة لسياسات القهر والتشريد وتدمير الخدمة المدنية. وتحولت الحرب من الجنوب لتشمل الشرق ودارفور، بسبب سياسات الانقاذ التي كرست التفاوت القبلي وفي الثروة وعمقت الاستعلاء الديني والاثني والثقافي، واتخذت حرب الجنوب طابعا دينيا، وكان ذلك من الاسباب الاساسية لتعميق الجهوية والانقسام في المجتمع ، وتم التراجع عن المسار الطبيعي للمجتمع السوداني الذي كان سائرا نحو القومية والاندماج منذ فترة السلطنة الزرقاء.
من ايجابيات التنظيمات الاقليمية ان ابناءها يلتفتون الي واقع اقليمهم وينظرون الي واقع تخلفه وينظرون في الاسباب الموضوعية والذاتية التي ادت الي تخلفه، ثم بعد ذلك يقترحون الحل لمشاكله، وهي تنظيمات تسعي الي ترقية مناطقها وتوفر لها خدمات: التعليم، الصحة المياه، الكهرباء، وتفجير الفائض الاقتصادي الكامن فيها لنقلها من حالة البؤس والشقاء الي حالة معيشية واقتصادية واجتماعية ارقي. التنظيم الاقليمي أو الجهوي يضم كل ابناء الاقليم بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية بهدف تطوير المنطقة المعينة، والحكم الذاتي الذي يوفر للمواطنين احتياجاتهم الاساسية.
علي أن تطور الاقليم المعين لاننظر اليه بمعزل عن مشاكل السودان ككل، والتي تتطلب الرؤية الشاملة، الذي تقدمها التنظيمات السياسية التي تضم السودانيين، غض النظر عن قبائلهم واديانهم. وحتي علي مستوى الاقليم المعين مهم الاخذ في الاعتبار مصالح كل القبائل والمجموعات السكانية التي تقطن هذا الاقليم، لااستعلاء مجموعة قبلية معينة تعيد انتاج الازمة علي مستوى الاقليم المعين.
كما أنه من ايجابيات هذه الحركات اثارتها لقضايا الكادحين والمستضعفين في الارض، ولكن نجاحها يعتمد علي الوضوح الفكري حول اسباب البؤس والفقر وفي قدرتها علي رفع الوعي الطبقي لا تغبيشه، و عدم احلال الصراع الجهوي والاقليمي محل الصراع الطبقي الذي يتجلي في اشكال اقتصادية وسياسية وثقافية. اضافة الي الربط العميق بين ما هو محلي والشأن العام في البلاد ككل، فقضايا الكادحين واحدة غض النظر عن اعراقهم واقاليمهم.
ولكن الجانب السلبي في الحركات الجهوية هو خطورة تحولها الي حركات عنصرية استعلائية تكرس التمايز الاثني والعرقي ، مما يقود لتمزيق وحدة البلاد ويتم اعادة انتاج احداث رواندا.وعندما تتحول الحركات الي هذا الجانب الخطير، فان تغبش الوعي الطبقي للكادحين وتزج بهم في آتون معارك اثنية خاسرة تقودهم في النهاية الي جرائم الحرب كما حدث في دارفور، عندما تم استهداف قبائل محددة علي اساس اثني.
كيف نحدد طبيعة السلطة الحاكمة في المركز؟.
طبيعة السلطة الحاكمة لايتم تحديدها علي اساس اثني، ولكن تتحدد علي اساس المصالح الطبقية التي تعبر عنها، فالمركز الحاكم الحالي وعلي المستوى الطبقي والسلطوى يضم فئات متباينة اثنيا، ولكن توحدها المصالح الطبقية والتي افقرت الكادحين في كل السودان. فالاستغلال الطبقي والرأسمالي لاتتغير طبيعته سواء كان افراد المركز من اثنية شمالية أو جنوبية أو من دارفور.قد تشكل الاثنية عاملا ايديولوجيا لاخفاء المصالح الطبقية وتصوير الصراع وكانه اثنيا، ويتحول الصراع المادي الاقتصادي الي صراع حول الهوية، كمثل نظام الجبهة الاسلامية الذي ادخل الاستعلاء الديني كغطاء للثراء والنهب والاستغلال باسم الدين، حتي اصبح 95% من الشعب السوداني يعيش تحت خط الفقر. وكون فرد معين من هذا المركز من الشمال(شايقي، جعلي، نوبي..)، فهذا لايعني، أن هناك ملايين من الكادحين من ابناء الشمال يطحنهم الفقر والبؤس، وكذلك من الاقاليم الاخري. ومعلوم ان الفئات الرأسمالية التي حكمت السودان بعد الاستقلال سارت علي طريق التنمية الرأسمالي الذي كرس الفقر والاستعلاء العنصري والديني والعرقي، باسم العروبة والاسلام وتعميق التهميش التنموي والثقافي، وبالتالي ، فان الصراع ليس اثنيا أو دينيا ولكنه صراع حول اى الطريق نسلك؟: طريق التطور الرأسمالي الذي يعمق التفاوت الطبقي والاثني والديني والثقافي والتهميش ام طريق الثورة الوطنية الديمقراطية الذي يفضي الي ازالة التفاوت الطبقي والتهميش الديني والثقافي، ويرسخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية؟.
علي أن المعيار الحقيقي لنجاح الحركات الاقليمية هو نجاحها في تنمية وخدمة وتطوير مناطقها، وفي حل مشاكل السودان ككل، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
علي انه من الممكن أن يتم اعادة انتاج الازمة عندما تصل مجموعة من قادة الحركات الاقليمية أو الجهوية نتيجة لاتفاقات مع المركز الحاكم، وتنسي هذه المجموعة الشعارات التي رفعتها لتطور اقليمها والسودان وتنغمس في فساد ومنافع طبقية، ويظل الاقليم علي حاله من تخلف ، وبالتالي تصبح هذه الحركات اداة للصعود الطبقي والانضمام للمركز الحاكم والذي يقوم علي المصالح الطبقية وليس الاثنية(لايعرف القشة المرة).ويتم اعادة انتاج الازمة من جديد ويندلع الصراع المسلح بشكل اعنف من السابق.
وخلاصة مانود ان نقوله، ان من ايجابيات هذه الحركات الاقليمية انها طرحت قضايا التنمية في مناطقها والحكم الذاتي والتقسيم العادل للثروة والسلطة وازالة التهميش الثقافي واللغوي ودولة المواطنة التي تعبر عن الجميع غض النظر عن الدين والعرق وتحقيق التنمية المتوازنة في كل البلاد ، واحترام حقوق الانسان وحكم القانون ، ومحاربة الفقر ، وسياسة خارجية متوازنة، واحترام الجوار وانهاء التمييز العنصري، وحق الجميع في الوظائف العليا في الدولة غض النظر عن الدين والعرق..الخ، وان هذه الحركات اضافت زخما جديدا للحركة السياسية السودانية، ولعبت دورا كبيرا في طرح قضايا البلاد محليا وعالميا.
ولكن التحديات التي تواجه هذه الحركات هو النجاح في تحقيق التنمية في اقاليمها، وربط حل مشاكل اقاليمها بقضية البلاد ككل. ولاتصبح الشعارات التي ترفعها اداة لصعود بعض قادتها الي المركز الطبقي الحاكم ، وبالتالي يتم اعادة انتاج الازمة والصراع من جديد.

ثانيا: ملاحظات نقدية علي برامج الحركات في المناطق المهمشة
عرّفنا سابقا الحركات الاقليمية والجهوية التي برزت في السودان ، بأنها تلك التي عبرت عن ظلامات مناطقها وطالبت بالتنمية في تلك المناطق وطرحت ضرورة ازالة كل اشكال التهميش التنموي والثقافي واللغوي وكل اشكال التمييز العنصري، واشرنا الي ان هذه الحركات اضافت زخما جديدا وحيوية للحركة السياسية، وهي ظاهرة صحية وتعبر عن مطالب ديمقراطية مشروعة، ولكن نجاح هذه الحركات يكمن في احداث التنمية في مناطقها، وان يحس الناس ولو في لمحة انها اسهمت في توفير الخدمات الاساسية في مناطقها مثل:التعليم، الصحة، خدمات المياه والكهرباء، الطرق والبنيات التحتية..الخ، اضافة الي الحفاظ علي وحدة البلاد من خلال تنوعها.
وتفشل هذه الحركات ويذهب ريحها عندما تكون اداة للصعود الطبقي لبعض قادتها والانضمام للمركز الطبقي الحاكم، الذي لاتهمه الاثنية أو العرق، بل المصالح الطبقية، وتحقيق اقصي قدر من الثراء علي حساب الكادحين، فالصراع الدائر في السودان ليس اثنيا او عرقيا، ولكن الصراع الاثني ربما يعبر عن نفسه في شكل صراع طبقي حول اي الطريقين تسلك البلاد؟ :طريق التطور الرأسمالي الذي جربته البلاد لاكثر من خمسين عاما بعد الاستقلال، ولم نجني منه غير التفاوت الصارخ في توزيع الثروة، والتنمية غير المتوازنة والاستعلاء الديني والعنصري ومصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية، والتهميش التنموي والثقافي واللغوي، ام طريق التنمية في الطريق الوطني الديمقراطي الذي يكرس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويحقق التنمية المتوازنة ويزيل التهميش التنموي والثقافي واللغوي؟.
كما اشرنا سابقا، أن طريق التنمية الرأسمالية بطبيعته يفرز التهميش بمختلف اشكاله الاقتصاية والثقافية والتفاوت بين المرأة والرجل وفي توزيع الثروة وتعميق النظرات العنصرية والشوفينية لتغبيش الوعي الطبقي للعاملين والكادحين حتي لايستطيعون ان يحددوا اين مصدر الظلم والوعي به وبالتالي العمل علي ازالته، وان الايديولوجية التي تقوم علي الاستعلاء العرقي والديني واللغوي تشكل الغطاء للنهب والاستغلال وسجن الجماهير في حدود مصالح وتطلعات ورؤى المركز الطبقي الحاكم، وان الايديولوجية التي تقوم علي العنصرية والاستعلاء العرقي تغرق الكادحين في حروب اثنية لن يجني منها الكادحون غير ان يكونوا وقود لتلك الحروب الدينية والعنصرية كما فعل هتلر وموسوليني في الحرب العالمية الثانية، وكما فعل نظام الجبهة القومية الاسلامية بعد انقلاب 30/يونيو/1989 ، بتحويل حرب الجنوب الي حرب دينية وعمّق الاستعلاء والتهميش التنموي والثقافي واللغوي، حتي نهضت الحركات المسلحة في دارفور وشرق السودان وغير المسلحة في الشمال تطالب بحقوقها ومطالبها المشروعة في ازالة التهميش التنموي والثقافي واللغوي. كانت تلك الايديولوجية الاستعلائية هي الغطاء للنهب والثراء باسم الدين وتعميق الفوارق الطبقية في البلاد حتي وصلت نسبة الفقر 95% ، واتخذت الدولة سياسات معادية للكادحين بسحب دعم الدولة للتعليم والخدمات الصحية والخصخصة التي شردت مئات الالاف من الكادحين واسرهم وزادتهم رهقا علي رهق، حتي اتسع مفهوم التهميش نفسه والذي اصبح يشمل الكادحين من المناطق المهمشة والكادحين في المدن الذي لاتغطي اجورهم تكاليف الحياة، اضافة للتهميش الثقافي والاثني واللغوي والجنسي والديني.
استنادا علي هذه الخلفية النظرية، ننظر في برامج بعض الحركات الاقليمية، ونقدم بعض الملاحظات الناقدة عليها.
1: الحركة الشعبية لتحرير السودان(جنوب السودان).
حدثت تطورات ومتغيرات في اهداف وشعارات الحركة الشعبية لتحرير السودان، فبيان الحركة(المانفيستو) الصادر عام 1983 ، أشار الي ضرورة (النضال من اجل سودان موحد اشتراكي يبدأ النضال له من جنوب السودان)، والجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي السوداني، كان قد انتقد في ذلك العام ذلك الشعار: باعتبار أن الهدف المباشر في ذلك الوقت هو ازالة حكم الفرد(النميري)، واستعادة الديمقراطية التي تمهد الطريق للنظام الوطني الديمقراطي الذي يفضي الي الاشتراكية ، اى أن الاشتراكية ليست هدفا مباشرا، اضافة الي ابتذال شعار الاشتراكية نفسه بعد انقلاب 25/مايو/1969 ، والجرائم والنهب والفساد ومصادرة الحقوق الديمقراطية باسم الاشتراكية، اضافة لملاحظات الحزب الشيوعي الناقدة التي طرحها حول نظام منقستو في اثيوبيا الذي كان يشكل الركيزة للحركة الشعبية في كفاحها المسلح ضد نظام النميري، وكان من رأى الحزب الشيوعي السوداني أنه لابد من اشاعة الديمقراطية كمنهج في الحكم والحل الديمقراطي السلمي للمسألة القومية في اثيوبيا، واعطاء تقرير المصير للشعب الاريتري. وقبل ذلك كان الحزب الشيوعي السوداني قد طرح في دورة اللجنة المركزية في اغسطس 1977م، ضرورة الديمقراطية والتعددية السياسية للوصول للنظام الوطني الديمقراطي ونبذ اسلوب الانقلابات العسكرية والحزب الواحد.
ويبدو ان الحركة الشعبية، ربما لم تكن جادة في شعار الاشتراكية نفسه، بل رفعته بهدف التأقلم مع الاوضاع التي كانت سائدة يومئذ، حيث أن شعارات الاشتراكية كانت قريبة من افئدة ملايين الكادحين في افريقيا، أو اقتنعت بالطريق الديمقراطي كاداة للعدالة الاجتماعية، اضافة للمتغيرات العالمية التي حدثت بعد سقوط نظام منقستو والمعسكر الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق اوربا، كل ذلك اسهم في تخلي الحركة الشعبية عن شعار سودان موحد اشتراكي، اذ نلاحظ أن المؤتمر الاول للحركة الشعبية والذي انعقد في 1994م، طرح التخلي عن شعار سودان اشتراكي موحد ، ورفع شعار السودان الجديد( علي وزن الصين الجديدة، بعد انتصار الثورة الصينية) ، كما طرح المؤتمر شعار حق تقرير المصير لجنوب السودان والمناطق المهمشة.هذا اضافة للصراع الذي دار في الحركة الشعبية بعد انقلاب الناصر عام 1993، واتجاهات بعض قادتها للانكفاء علي جنوب السودان والاكتفاء بشعار الانفصال.
هذا وقد شخّصت الحركة الشعبية امراض السودان القديم في : عجز انظمة الحكم المتعاقبة في الخرطوم عن تطوير اطار قومي للحكم قابل للتطبيق، وانتهاج عملية ديمقراطية سليمة للبناء الوطني مؤسسة علي الاشكال المتعددة للتنوع ، وانجاز تنمية غير متكافئة، والفشل في صياغة برنامج للتنمية. كما أشارت الحركة الشعبية الي أن سودان الجبهة الاسلامية والقديم يقومان علي الشوفينية والعرقية.
كما جاء في بيان(مانفستو) الحركة الشعبية مايو 2008م: ان السودان القديم ( انتهج سياسة خارجية غير متزنة تخضع لتوجهات ايديولوجية للمجموعات الحاكمة والنشطةسياسيا(القوميون العرب، الشيوعيون، واخيرا الاسلاميون) مما يوحي وكأن السودان قد اضحي علي وجه الحصر دولة عربية أو اسلامية، او في احسن الفروض ذات توجهات منحازة، وعليه اصبحت المصالح للسودان مرهونة لاجندة خارجية عريضة بدون اعتبار لمستحقات المصلحة الوطنية).
ويبدو أن الشيوعيين قد تم حشرهم حشرا اعلاه، وبطريقة خاطئة، فالشيوعيون حتي في ايام انقلاب مايو 1969 الاولي: رفضوا السلم التعلميي الذي تم نقله بالمسطرة من التجربة المصرية، وطالبوا بأن تراعي المناهج خصائص السودان الثقافية الزنجية والعربية، ورفضوا النقل الاعمي لتجارب الآخرين، وطالبوا ببعث ثقافات المجموعات القبلية الاقل تخلفا، والاهتمام بلغاتها المحلية والتوسل بها في التعليم(راجع: عبد الخالق محجوب: حول البرنامج، دار عزة،2002)، كما رفض الحزب الشيوعي ميثاق طرابلس 1970، والوحدة الفورية بين مصر والسودان وليبيا، ومراعاة خصائص شعب السودان الافريقية والعربية، وأن تكون الوحدة طوعية وليست قسرية، وأن الشرط لنجاح الوحدة هو اشاعة الديمقراطية في هذه البلدان حتي تقوم علي الطوعية وحرية الارادة لهذه الشعوب(راجع بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني، نوفمبر 1970 ، حول ميثاق طرابلس). وبالتالي، ان الحزب الشيوعي ، كان من اكثر الاحزاب حرصا علي السيادة الوطنية ومراعاة خصائص ظروف وواقع السودان في تطبيق الاشتراكية علي واقع بلادنا، وعدم رهن بلادنا للاجنبي وعدم الخضوع لضغوطه واملاءاته. هذا فضلا عن أن الحزب الشيوعي السوداني، كان اول حزب سوداني طرح قضية الحكم الذاتي الاقليمي لمشكلة الجنوب والاعتراف بالفوارق الثقافية بين الشمال والجنوب، والمطالبة بالاجر المتساوي للعمل المتساوى بين العامل الشمالي والجنوبي، وحق القبائل الجنوبية في استخدام لغاتها المحلية في التعليم، وغير ذلك مما جاء في اتفاقية نيفاشا، كما طرح ضرورة التنمية المتوازنة بين الشمال والجنوب، وعدم فرض الثقافة العربية والدين الاسلامي علي الجنوبيين بالقسر، وعندما قامت احداث التمرد 1955م، وارتفعت الاصوات الشوفينية المطالبة بالانتقام من الجنوبيين، رفع الحزب الشيوعي شعار اعلاء صوت العقل ووقف الاعمال الانتقامية المنفلتة ومعالجة جذور المشكلة والتي عمقها الاستعمار وجعلها قنبلة موقوتة لتنفجر بعد خروجه من البلاد، تلك كلها مواقف تاريخية مشهودة للحزب الشيوعي، وبالتالي، فان هجوم الحركة الشعبية علي الحزب الشيوعي وتشويه التاريخ لايفيد شيئا، ولاأساس موضوعي له.
كما أشار بيان الحركة الشعبية، مايو 2008م الي أن رؤية السودان الجديد والتي تقوم علي: الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، المساواة والتوزيع العادل للسلطة وفرص التنمية، حكم القانون واحترام حقوق الانسان، وذلك هو الخيار الافضل لصيانة وحدة السودان وسيادة اراضيه ، والا التمزق.
وهي كلها شعارات عزيزة علينا، ولكن تجربة الثلاث سنوات من شراكة الحركة الشعبية مع المؤتمر ، اكدت سير البلاد في انتهاكات حقوق الانسان وضرب عرض الحائط بوثيقة الحقوق في دستور السودان الانتقالي للعام 2005م، من خلال الرقابة علي الصحف ، ولم يحصر جهاز الامن نفسه في جمع المعلومات كما اشار الدستور ، اضافة الي قمع المواكب والمسيرات السلمية واطلاق النار عليها كما حدث في بورتسودان وكجبار، اضافة الي عدم انجاز شئ في التحول الديمقراطي والغاء القوانين المقيدة للحريات والتي تتعارض مع الدستور، اضافة الي تدهور احوال الناس المعيشية وارتفاع ضروريات الحياة حتي اصبحت الحياة لاتطاق، وحتي في الجنوب نفسه لم يتم شئ يذكر في التنمية(التعليم ، الصحة، الخدمات(مياه، كهرباء..الخ)، اضافة الي ضعف البنيات الاساسية. قامت اتفاقية نيفاشا علي ركيزتين هما: التحول الديمقراطي وتحسين احوال الناس المعيشية والتنمية، وفي الاثنين لم يتم شئ يذكر حتي الآن مما يهدد بنسف الاتفاقية، اضافة لمعضلة ابيي، ومشاكل ترسيم الحدود، رغم الدور الكبير الذي لعبته الاتفاقية في وقف الحرب التي استمرت لمدة 22 عاما ورحب بها شعب السودان، ولكن ضمان استمرار ذلك هو تنفيذ الاتفاقية، وتحقيق التحول الديمقراطي والتنمية ، حتي لاتعود البلاد مرة اخري لمربع الحرب.
كما خلص (مانفستو) الحركة الشعبية: الي أن التهميش بكل اشكاله والظلم والتفرقة والتبعية يشكل جذور المشكلة، وان المشكلة ليست مشكلة الجنوب ، ولكنها مشكلة بقية السودان(دارفور، الشرق، ....الخ).
كما أشار المانفستو الي رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي تستند علي: واقع التنوع التاريخي والمعاصر، ومفهوم تحقيق السودان الجديد والذي هو الطريق الوحيد لتطوير رؤية سودانية، وكيان سوداني قابل للحياة، اضافة الي أن الوحدة الطوعية في السودان الجديد مرهونة بخلق رابطة سياسية واقتصادية ينتسب لها كل السودانيين مواطنين في الحقوق والواجبات.
كما أشار المانفستو الي أن هناك خيارات: اما أن تنقسم البلاد الي عدة دول مستقلة ام نتفق علي اقامة السودان ككيان اجتماعي سياسي جديد ننتمي اليه جميعا وندين له بالولاء الكامل بغض النظر عن العرق أو الدين أو القبيلة أو الجنس.
وهذا طرح متقدم، ويحتاج لصراع ثقافي وفكري طويل حتي نصله، لأن ذلك يتعلق بالبنية الفوقية للمجتمع والموروثة من علاقات الانتاج العبودية والاقطاعية التي كانت سائدة في سودان القرون الوسطي وحتي بداية القرن العشرين، فالبنية الفوقية تظل موجودة رغم زوال اساسها المادي، ونحتاج لشن صراع فكري وثقافي لاهوادة فيه ضد العقلية الاستعلائية والعنصرية والتي تكرس دونية الثقافات والاجناس واللغات الافريقية والجنسية، والاستعلاء الكاذب بافضلية الثقافة العربية الاسلامية.
كما نتفق مع الشعار الذي طرحه (المانفستو) وهو بناء سودان موحد ديمقراطي علماني يقوم علي فصل الدين عن الدولة.
ولكن المانفستو يثير مشكلة فكرية عندما يحدد طبيعة الازمة الوطنية في السودانية، عندما يحددها بأنها (أزمة هوّية اساسها عجز السودانيين عن التصالح مع واقعهم الثقافي والاثني والذي يجعل منهم أمة).
وفي نظري أن ازمة الهوية منتوج تاريخي لطريق تنمية اقتصادي- اجتماعي- ثقافي سارت عليه البلاد منذ احتلال الانجليز للسودان عام 1898م، والذي كرّس التطور غير المتوازن، وكرس الفوارق الطبقية والاستعلاء الثقافي الذي شكل قناعا ايديولوجيا زائفا لنهب واستغلال كادحي المناطق المهمشة، وتحقيق اكبر قدر من الثراء بابقاء هذه القوميات الاقل تخلفا في اسر التخلف وعدم السير في طريق التطور الوطني الديمقراطي الذي يفجر الفائض الاقتصادي الكامن في الريف السوداني بتحقيق الاصلاح الزراعي الديمقراطي وتحرير جماهير الريف من الفقر والامية والتخلف، ونشر التعليم والخدمات الصحية وتوفير خدمات المياه والكهرباء وتوفير العناية البيطرية للثروة الحيوانية، وانجاز تحولات ثقافية تقوم علي تراثنا الزنجي والعربي، والاعتراف بالفوارق الثقافية وبعث لغات القبائل الافريقية والتوسل بها في التعليم، فالازمة كانت ولازالت ازمة طريق تطور رأسمالي سارت عليه الطبقات والفئات التي حكمت بعد الاستقلال(مدنية وعسكرية)، وكان من نتاجه عدم الاعتراف بالفوارق الثقافية والاثنية وعدم التصالح معها.
ان طرح الازمة، بانها أزمة هوّية فقط تغبش الوعي الطبقي للكادحين في الجنوب وعدم تحديد اسباب الازمة الحقيقية وهي تطلع اقسام من البورجوازية(في الشمال والجنوب) للثراء علي حساب الكادحين، وعدم تحقيق التنمية الاقتصادية التي يتم فيها توزيع الفائض الاقتصادي بعدالة والتي يتم فيها اشباع حاجات الجماهير الاساسية في معيشة تليق بالحياة، وتعليم وصحة ، وخدمات(مياه، كهرباء، عناية بيطرية..)، توفير البنيات الاساسية من طرق وكبارى ..الخ، واشاعة روح الانسانية واعلاء قيمة الانسان بغض النظر عن دينه وجنسه.
كما أن خطورة طرح الازمة بأنها ازمة هوّية فقط تؤدي الي الحرب العنصرية والاثنية، وتعمق الاتجاهات العرقية والانفصالية في الشمال، والتي ايضا لها مصلحة في تغبيش الوعي الطبقي للكادحين.
عموما الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب لعبت دورا كبيرا في الحياة السياسية السودانية، واسهمت في اسقاط نظام الطاغية نميري، كما لعبت دورا كبيرا في مقاومة نظام الانقاذ في اوائل التسعينيات من القرن الماضي، وساهمت مع قوي المعارضة الشمالية في كشفه وفضحه وساهمت الحركة في التجمع الوطني الديمقراطي بعد انقلاب الانقاذ، واسهمت في توقيع ميثاق اسمرا في يونيو 1995، والذي اكد علي حق تقرير المصير كحق ديمقراطي انساني، وفصل الدين عن السياسة، وكان ذلك انجازا كبيرا في الحياة السياسية السودانية، كما وقعت الحركة الشعبية علي اتفاقية نيفاشا مع نظام الانقاذ في يناير 2005م، والتي اوقفت حربا ضروسا استمرت 22 عاما وقضت علي الاخضر واليابس في الجنوب اضافة الي ضحاياها من الذين فقدوا ارواحهم والنازحين. وما زال الطريق شاقا لانجاز التحول الديمقراطي والذي لن يأتي منحة من احد كما اكدت تجارب الشعب السوداني في معارك الاستقلال 1956، واكتوبر 1964، ومارس- ابريل 1985م، بل يتم انتزاعه انتزاعا، باعتبار هو الشرط لتحسين احوال الناس المعيشية والتنمية وازالة كل اشكال التمييز الطبقي والاثني والديني والجنسي والثقافي.
اضافة الي أن الحركة الشعبية طرحت وعيا ديمقراطيا وانسانيا جديدا في السودان، وستبقي افكار الشهيد جون قرنق تنير الطريق من اجل سودان موحد ديمقراطي يقوم علي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأن للوحدة الطوعية اساسها المتين والذي يقوم علي التنوع التاريخي والمعاصر.
واخيرا نؤكد أن هذه الملاحظات الناقدة علي برنامج الحركة هي بهدف الحوار المثمر والذي لاغني عنه للتطور الوطني الديمقراطي في السودان.

2- : حركات دارفور:
أ- حركة العدل والمساواة
اشار بيان القيادة الثورية لحركة العدل والمساواة الصادر في نوفمبر 2001م الي أ ن السودان(يتكون سياسيا وثقافيا وتاريخيا من سبعة أقاليم معلومة وهي: الاقليم الاوسط، الاقليم الجنوبي، منطقة الخرطوم، اقليم دارفور، الاقليم الشرقي، الاقليم الشمالي، اقليم كردفان حسب الترتيب الابجدي. بالرغم من ذلك ظل السودان تحكمه وتسيطر عليه فئة قليلة من مثقفي اقليم واحد من جملة هذه الاقاليم وهو الاقليم الشمالي الذي عاني ايضا من تسلط هذه العصابة واهمالها وعقوقها له، والامثلة علي ذلك كثيرة. لقد استغلت هذه المجموعة ميزة الوعي النسبي التي كانت في صالحها عند استقلال البلاد ، فاستمرت متسلطة علي مقاليد الامور منذ ذلك الحين وظلت تحتكرها وتتوارثها جيلا بعد جيل الي يومنا هذا).
يواصل البيان ويقول( لقد مر علي حكم السودان اثنا عشر رئيسا للدولة منذ استقلاله في عام 1956م، جميعهم من الاقليم الشمالي الذي لايزيد عدد سكانه عن 5% من سكان السودان. جاءت حكومات هؤلاء الرؤساء علي نمط الحكومة الحالية التي تحتل فيها ابناء الاقليم الشمالي منصب رئيس الجمهورية ونائبه الاول والامين العام للحزب الحاكم ومناصب مستشاري رئاسة الجمهورية ومناصب جميع الوزارات السيادية : الخارجية، الداخلية، المالية، البترول ، الدفاع، العدل ، اضافة الي وزارات اخري متعددة بصورة لم يشهدها السودان من قبل ، كما انهم ينفردون بحكومة العاصمة القومية، وكذلك ، فانهم يسيطرون سيطرة كاملة علي قطاع المال من بنوك وشركات وطنية وهيئات ومؤسسات مختلفة بتدبير سري دقيق ادي الي حرمان ابناء الاقاليم الاخري من حقهم في هذا القطاع).
ويرى البيان أن هذه الاقلية (مارست تمييزا عنصريا في حكمها للبلاد بطريقة ماكرة ساعدت علي بقائها في السلطة لفترة طريلة واحتكارها للحكم والثروة في البلاد).
فالبيان، اذن يحدد القضية أو الازمة بانها ازمة عنصرية تتجلي في هيمنة الاقلية المتسلطة من ابناء الشمال واحتكارها للحكم والثروة. ولكن تبرز هناك عدة اسئلة منها: اذا افترضنا أن التركيبة الاثنية الحاكمة تغيرت سواء جاءت من ابناء دارفور أو الجنوب أو الشرق..الخ، أو بالتساوي من كل الاثنيات ، واستمر ت السياسات نفسها والتي قادتها الاقلية المتسلطة من ابناء الشمال والتي افقرت الشعب السوداني حتي اصبح 95% منه يعيش تحت خط الفقر، هل تكون الازمة قد تم حلها؟.
اذن ازمة البلاد ليست عنصرية ، وان كانت العنصرية تشكل احد الاقنعة الايديولوجية التي تغبش بها الطبقات الحاكمة وعي الجماهير الكادحة غض النظر عن اثنياتها ، والتي يهمها ويوحدها ازالة الفقر وتوفير احتياجاتها الاساسية والتنمية المتوازنة بين جميع اقاليم السودان. صحيح ان طريق التنمية غير المتوازن الذي سارت عليه البلاد وكّرس التنمية والتعليم في وسط وشمال السودان هو الذي ادي لهذا الواقع، ولكن هذه الفئة الحاكمة كما اشار البيان تنكرت حتي لجماهيرها في الشمالية، واصبحت الشمالية نفسها تعاني من الفقر والتهميش، والامراض مثل: السرطانات والملاريا، والهدام، ومشاكل السدود، والزحف الصحراوى، وهجرة شبابها وتوقف خدمات التعليم والصحة..الخ.
التمييز العنصري والديني والثقافي واللغوي هو ايديولوجية زائفة للطبقات الرأسمالية التي تهدف الي تزييف الصراع الدائر في البلاد والذي يتمثل في اى طريق التطور نسير؟: هل نواصل السير في طريق التنمية الرأسمالية الذي يعيد انتاج عدم المساواة والتوزيع غير العادل للثروة والسلطة، والقهر الاثني والعنصري والثقافي واللغوي، ام طريق الثورة الوطنية الديمقراطية التي تفضي الي تحرير الانسان السوداني من القهر الطبقي والقومي والاثني والثقافي؟.
وطرح بيان حركة العدل والمساواة اهداف عامة تتلخص في: انهاء التمييز العنصري في منهج الحكم في السودان، ورفع الظلم الاجتماعي والاقتصادي والاستبداد السياسي عن كاهل الجماهير رجالا ونساءا واشاعة الحرية والعدل والمساواة بين الناس كافة، وقف جميع الحروب وبسط الامن للمواطنين وتأمين وحدة البلاد، التنمية المتوازنة ومحاربة الفقر، النظام الفدرالي الذي يستجيب لخصائص اهل السودان، اصلاح دستوري جذري يضمن حقوق الانسان الاساسية التي اقرتها الاديان والقوانين والمجتمع الدولي وحق جميع الاقاليم في حكم البلاد، اضافة لانتهاج سياسة خارجية قائمة علي الاعتدال واحترام حقوق الانسان ومراعاة حسن الجوار والانفتاح السياسي مع كافة دول العالم وعدم التدخل في الشئون الداخلية لدول الأخري.
كما أشار البيان الي ضرورة تحقيق الاصلاحات الدستورية: باعتماد النظام الفدرالي، تاكيد سيادة حكم القانون والتوزيع العادل للمناصب بين الاقاليم المختلفة، اعتماد المواطنة اساسا للحقوق والواجبات دون تمييز علي اساس الدين أوالجنس أو العرق أو اللون أو الجهة وحماية حقوق الانسان، اضافة الي سياسات عادلة في الاستيعاب في الجيش والامن، واختيار رئيس الجمهورية وولاة الولايات بالانتخاب الحر المباشر ..الخ.
عموما برنامج حركة العدل والمساواة اكد علي وحدة السودان والتوزيع العادل للثروة والسلطة بين الاقاليم المختلفة، وهي شعارات عامة تعبر عن ظلامات حقيقية عمقها نظام الانقاذ، وان الحركة رغم انها تنطلق من دارفور الا انها تطرح قضايا تهم كل السودان، وتربط حل قضية دارفور بحل مشاكل البلاد كلها، رغم الملاحظات الناقدة التي قدمناها لرؤية الحركة بتصوير الازمة في البلاد باعتبارها ازمة عنصرية، في حين ان العنصرية منتوج لازمة التطور الرأسمالي الذي سارت عليه البلاد وامتداد للبنية الفوقية التي ورثتها البلاد من انظمة الرق والاقطاع المذلة للانسان السابقة.


ب- حركة تحرير السودان وجيش تحرير السودان(: (SLM/SLA
أكد البيان الصادر من حركة تحرير السودان، بتاريخ 13/مارس/2003م،(باللغة الانجليزية) بتوقيع منى اركوى مناوى السكرتير العام للحركة، قبل انشقاقها، علي الجذور التاريخية لاقليم دارفور والذي كان موحدا منذ عهد سلطنة دارفور ، وحتي ضم الانجليز لدارفور للسودان في العقد الثاني من القرن الماضي، وان الاقليم شهد التعايش السلمي بين شعوبه وقبائله الزراعية والرعوية.
وبعد الاستقلال لم يحدث تغيير تحت ظل الحكومات المدنية والعسكرية، وظل الاقليم يعاني التخلف والتهميش ، ومصدرا للايدي العاملة الرخيصة في المشاريع الزراعية والصناعية في وسط السودان، وشكل ابنائه وقودا كجنود في الحروب التي خاضتها الحكومات في الخرطوم: في الجنوب، الشرق ، جنوب النيل الازرق،جبال النوبا..الخ، واستغلال الاحزاب التقليدية لاصوات الناخبين في دارفور للوصول للسلطة واهمال الاقليم بعد ذلك، كما استنزفت الفئات الرأسمالية خيرات الاقليم الزراعية وفي الثروة الحيوانية دون الاهتمام بتنمية الاقليم، اضافة للتهميش الاثني وابعاد ابناء دارفور عن مراكز السلطة في المركز، وسيطرة (اولاد البحر) علي اغلب المناصب في الدولة واجهزة الحكم.
وحددت الحركة اهدافها في : ازالة التفرقة والابادة العرقية في دارفور ، وبالرغم من ان الحركة انطلقت من دارفور الا انها حركة لكل السودانيين وهدفها: قيام سودان ديمقراطي موحد يقوم علي اسس جديدة من العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة بين اقاليمه المختلفة، والاعتراف بالتعددية السياسية والثقافية ، ومن اجل الرفاهية لكل السودانيين.
كما شدد البيان علي ضرورة وحدة السودان ، ولكن هذه الوحدة يجب أن تقوم علي العدالة والمساواة بين كل السودانيين، والاعتراف بالتعددية السياسية والثقافية والاثنية، وان تقوم الوحدة من خلال التنوع، علي اساس حرية الارادة والطوعية وحق تقرير المصير كحق ديمقراطي انساني، لشعوب وقوميات السودان، وقيام نظام سياسي – اقتصادي يزيل التنمية غير المتوازنة والتهميش الذي عانت منه البلاد منذ الاستغلال، وأن الحركة سوف تضع يدها مع كل القوي السياسية من هذه الاهداف.
كما اكد بيان الحركة علي احترام حقوق الانسان والديمقراطية التعددية والقضاء علي كل اشكال التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي.
كما اشار بيان الحركة الي النضال من اجل الحكم الذاتي اللامركزي، والذي يقوم علي اساس الفدرالية أو الكونفدرالية بين اقاليم السودان المختلفة، وان يكون هناك تمثيل عادل لكل مكونات اقاليم السودان المختلفة في الحكم المركزي.
كما اشار البيان الي نضال الحركة من اجل الدفاع عن التعددية الثقافية والتوزيع العادل للسلطة والثروة، وان تقوم هوّية السودانيين علي (السودانوية)، والتي تؤكد دولة المواطنة التي تقوم علي المساواة بين كل السودانيين غض النظر عن لونهم أو عرقهم أو دينهم أو لغاتهم.
وحول الدين اشار البيان الي دور الدين وقيمة الروحية والاخلاقية والتي تسهم في التعايش السلمي بين السودانيين، وان الدولة يجب ان تعبر عن كل السودانيين غض النظر عن اديانهم، اى الدولة للجميع، وضرورة فصل الدين عن الدولة، والا يكون الدين مصدرا للشقاق بين السودانيين.
كما اشار البيان الي انتهاج الحركة الكفاح المسلح لتحقيق تلك الاهداف، كما اشار البيان الي دور حكومة الخرطوم بتعميق الصراع العرقي في دارفور وتسليح افراد من القبائل العربية وانشاء تحالفات مثل( قريش) ضد القبائل الافريقية، كما اكد البيان علي ضرورة التعايش السلمي بين القبائل العربية والافريقية وتفويت الفرصة علي نظام الانقاذ في الخرطوم لخلق فتنة عرقية بين مكونات قبائل وشعوب دارفور.
كما اشار البيان الي ضرورة التنسيق مع المعارضة في التجمع الوطني الديمقراطي من اجل تحقيق تلك الاهداف.كما اشار البيان الي ضرورة حسن الجوار ودعا ابناء دارفور لمناصرة ومؤازرة الحركة من اجل تحقيق اهدافها، كما دعا المنظمات العاملة في الاغاثة والشئون الانسانية لتقديم المساعدات اللازمة لضحايا الحرب والنزوح في دارفور.
عموما بيان حركة تحرير السودان حلل جذور الازمة في دارفور ، وطرح الشعارات والمطالب الديمقراطية العامة، وضرورة سودان موحد يقوم علي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، ودولة المواطنة التي تستوعب الجميع غض النظر عن اديانهم واعراقهم.
ووضع البيان الاساس للقضاء علي التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي والثقافي.
وهي مطالب ديمقراطية عامة لاخلاف حولها، مما يؤكد التطور الذي وصلته الحركة في معالجة قضية دارفور وضرورة ربطها بحل مشاكل البلاد، ذلك ان حل دارفور يكمن في حل مشكلة السودان ككل.
نلاحظ أنه بعد هذا البرنامج بعامين تم التوقيع علي اتفاق ابوجا مع مجموعة مناوي وشارك مناوي بموجب ذلك الاتفاق في السلطة، ولكن حتي الآن لم يتم شئ في تنفيذ اتفاق ابوجا، وكما يرى الكثيرون، ان الاتفاق مات موتا سريريا، مما يتطلب تفاوضا جديدا تشترك فيه كل مكونات اقليم دارفور، كما تظل المحاذير قائمة والتي اشرنا لها في مقال سابق، وهو تطلع اقسام من الصفوة في دارفور الي السلطة والثراء السريع والانضمام للمركز الحاكم ومشاركته في السلطة والثروة، بين يظل الفقر والتهميش مستمرا في الاقليم ، ويتم اعادة انتاج الازمة، كما حدث من مؤشرات الفساد في السلطة الانتقالية في دارفور، وبالتالي من المهم الوضوح حول طريق التطور الاقتصادي: الطريق الرأسمالي الذي يعيد انتاج عدم التوزيع العادل للسلطة والثروة والتمهميش، ام الطريق الوطني الديمقراطي الذي يوفر للسودانيين عموما واهل دارفور بصفة خاصة احتياجاتهم الاساسية في التنمية والتعليم والصحة الخدمات البيطرية والبنيات الاساسية.
3- الحركات النوبية في الشمال:
اشارت الحركات النوبية مثل: التجمع النوبي، مجموعة النداء النوبي، حركة تحرير كوش السودانية الي التهميش والظلم الذي لحق بالمنطقة والتي رغم انها عريقة التاريخ واللغة والثقافة وكانت المنفذ للسودان من الشمال، الا انها تعرضت لكوارث ادت الي اغراق تلك المنطقة أربع مرات : في 1902، 1913، 1932، 1963م، كما أن المنطقة مهددة باغراق خامس بقرار مشروع خزان كجبار ، والذي سيؤدي الي اندثار الموروث الاجتماعي والثقافي والتاريخي(التجمع النوبي).
كما عانت المنطقة من الزحف الصحراوي وتدهور الانتاج الزراعي بسبب سياسات التمويل الباهظة التكاليف والرسوم ونقص الجازولين وغلاء البذور والسماد. كما تدهورت أوضاع النوبة وغيرهم في مشروع خشم القربة ، وكان لذلك انعكاسه السالب علي احوال المزارعين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكتبت دراسات كثيرة في الصحف عن اسباب تدهور المشروع ، وقدمت مقترحات لاصلاح الوضع فيه، ولكن لم يتم شيئا.
كما أشارت الحركات النوبية في مذكراتها ومطالبها الي تهميش المنطقة وتدهور الخدمات الصحية والتعليم حتي اصبحت المنطقة نهبا للاوبئة وخاصة الملاريا والبلهارسيا التي كانت المنطقة خالية منها. كما انهار التعليم وتصدعت المدارس اضافة للنقص في المعلمين المؤهلين وشح الكتب والأدوات والاثاثات.. الخ. كما تعاني المنطقة من التهميش الثقافي واللغوي وعدم الاعتراف بثقافاتهم ولغاتهم.
ويشير برنامج حركة تحرير كوش الي أنه(لابد من التأكيد والتسليم بأن النوبة جزء اصيل من شعوب السودان المهمشة والمقهورة منذ تخريب سوبا وحتي تخريب مشروع الجزيرة وتخريب الجنوب وجبال النوبا وبلاد دارفور)(برنامج حركة تحرير كوش السودانية، عبد الوهاب المحسي، الحوار المتمدن، العدد 1251، بتاريخ: 7/7/ 2005م).
كما أشار برنامج كوش الي فقدان السيادة الوطنية بضياع الاراضي السودانية(بدءا بمناطق حلفا، فحلايب، وشلاتين، وسرة ثم العوينات بتفريط من حكومة الخرطوم التي لم ترع حرمة لارض الجدود). كما أشار البرنامج الي( في حالة فشل دولة السودان الجديد في تحقيق اشتراك النوبيين وعموم مواطني السودان في موارد الثروة والسلطة وضمان المساواة التامة بين جميع السودانيين وفقا للمواثيق السودانية الدولية لحقوق الانسان السياسية – الاقتصادية- الاجتماعية والثقافية ستطالب حركة تحرير كوش بمنح حق تقرير المصير للنوبيين ، كحق ديمقراطي انساني تقره المواثيق الدولية حول حقوق الشعوب).
عموما مطالب الحركات النوبية في الشمال مطالب مشروعة وديمقراطية وترتبط بتنمية المنطقة في اطار التنمية العامة في البلاد، كما ترتبط باهمية الدفاع عن الثقافة والهوّية النوبية ، وهذا يتطلب الاعتراف بالثقافة النوبية ، تلك الثقافة ذات التاريخ العريق والتوسل باللغة النوبية في التدريس في تلك المنطقة، تمشيا مع اتفاق السلام الموقع في نيفاشا في يناير 2005، الداعي بالاعتراف بالتعدد الثقافي والاثني والديني واللغوي.
4- مؤتمر البجا:
أشرنا سابقا الي أن مؤتمر البجا تأسس عام 1958 كتعبير عن الاحساس العميق بالمظالم التي تعرضت لها منطقة الشرق والتي عانت من التخلف وثالوث الجهل والفقر والمرض، كما اكد مؤتمر البجا أن( حل معضلات الاقليم الشرقي لايمكن أن تحل بمعزل عن حل كل قضايا السودان)( مشروع برنامج مؤتمر البجا، ص 1).
كما أكد مشروع برنامج مؤتمر البجا ص(6) علي:
- سودان واحد فيدرالي ديمقراطي تعددي.
- كفالة كل حقوق الانسان كما جسدت في المواثيق الدولية.
- الاعتراف بالتنوع.
- دولة مدنية تقوم علي فصل الدين عن السياسة.
- التقسيم العادل للثروة.
- الاعتراف بهوّية وثقافة البجا علي اساس الندية والمساواة مع ثقافات الهوّية العربية الاسلامية.
كما أشار مشروع البرنامج الي الحق في تقرير المصير اذا فشل التعايش المشترك.
عموما مشروع البرنامج طرح المطالب المشروعة والديمقراطية العامة لتنمية اقليم الشرق بكل قبائله ومكوناته وتوفير الاحتياجات الاساسية للاقليم في التعليم والصحة والصناعة والنصيب في السلطة والثروة، وتنمية امكانيات الاقليم السياحية والمعدنية والثروات السمكية، والاعتراف بثقافة البجا علي قدم المساواة مع الثقافات الاخري كما طرح حق تقرير المصير كحق ديقراطي انساني.
ورغم توقيع اتفاقية الشرق الأخيرة الا أنه حتي الآن لم يتم تنفيذ استحقاقاتها، واهمها تحسين احوال الكادحين في الشرق وتوفير احتياجاتهم الاساسية
خاتمة:
اشرنا في كتاب انجزه كاتب هذه السطور بعنوان: الجذور التاريخية للتهميش في السودان، (تاج السر عثمان: الجذور التاريخية للتهميش في السودان، 2005م)، الي الجذور التاريخية للتطور غير المتوازن أو التهميش، في دارفور وشرق السودان ومنطقة جنوب النيل الازرق وجبال النوبا وجنوب السودان والنوبة في الشمال.
ومواصلة لهذا الجهد حاولنا في هذا العرض تناول قضايا المناطق المهمشة من خلال وثائقها بهدف الاقتراب اكثر من واقع وهموم تلك المناطق، وفي وجهة تناول الماركسية لتكوينات ماقبل الرأسمالية في السودان.
أشارت الماركسية الي عموميات مثل: القضاء علي الاضطهاد القومي، وان شعبا يضطهد شعبا لايمكن أن يكون حرا، ازيلوا استغلال الانسان للانسان تزيلوا استغلال امة لأمة، حق تقرير المصير كحق ديمقراطي انساني في ظروف الديمقراطية وحرية الارادة بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة اذا استحال العيش المشترك، الاعتراف بالفوارق الثقافية، وحق كل قومية في استخدام لغاتها الخاصة في التعليم، الديمقراطية الحقيقية كحقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، رفض استغلال الدين في السياسة أو فصل الدين عن السياسة، وغير ذلك من الشعارات العامة التي طرحتها الماركسية.
ولكن الشعارات العامة وحدها لاتكفي، بل لابد من دراسة الواقع والتحليل الملموس للواقع الملموس، والاقتراب اكثر من واقع المناطق المهمشة في السودان، وضرورة الاعتراف بالتنوع وضرورة الوحدة من خلال التنوع والذي هو مصدر ثراء واخصاب، فرفع الشعارات الماركسية العامة ليست بديلا للدراسة الملموسة التي تاخذ في الاعتبار الاسباب الاقتصادية في تشابكها مع عوامل اثنية وثقافية وسياسية ودينية. وهذا مايؤكد حيوية وخصوبة المنهج الماركسي ومدي سعته في تناولة لقضايا المناطق المهمشة في السودان أو تكوينات ما قبل الرأسمالية في السودان.
كما تناول د. محمد سليمان في مؤلفه السودان: حروب الموارد والهوّية 2000، في تحليل ماركسي منهجي متماسك وبنظرة شاملة وثاقبة، جذور الصراع في دارفور والجنوب وشرق السودان وجبال النوبا..الخ، اخذ في الاعتبار الاسباب الاقتصادية للصراع في تشابك مع عوامل اثنية وثقافية ودينية وايكولوجية(بيئية)، وكيف ان صراع الهوية كان منتوجا للصراع علي الموارد، ويعتبر كتاب د.محمد سليمان مرجعا هاما لاغني عنه لتناول جذور الصراع في المناطق المهمشة، ويفتح الطريق لدراسات عميقة لجذور الصراع في كل منطقة.
كما تابع محمد ابراهيم نقد سمات نظام الرق في السودان من خلال وثائق الرق التي نشرها في مؤلفه: علاقات الرق في المجتمع السوداني، 1995م، وهو مرجع وثائقي هام.
اما مؤلف د.جعفر كرار:الحزب الشيوعي السوداني والمسألة الجنوبية، 2005، فقد سلط الضوء علي دور الحزب الشيوعي السوداني في معالجة مشكلة الجنوب منذ أن طالب بالحكم الذاتي لللاقليم في اوائل الخمسينيات من القرن الماضي، والاعتراف بالفوارق الثقافية والاثنية بين الشمال والجنوب والتنمية المتوازنة، حتي تم تحقيق كل ذلك في اتفاقية نيفاشا 2005، التي اكدت الاعتراف بالتنوع الثقافي والاعتراف باستخدام اللغات المحلية في التعليم وغير ذلك من الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي السوداني منذ اوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وهو ايضا مرجع هام لاغني عنه.
اما مؤلف د. عطا البطحاني:جبال النوبا: الاثنية السياسية والحركة الفلاحية(1924- 1969)، 2000م، فقد حلل الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي ادت الي ظهور الشعور القومي لدي ابناء جبال النوبا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كما تقصي الكاتب التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمنطقة منذ القرن التاسع عشر وحتي ستينيات القرن العشرين وتابع الجذور التاريخية للتخلف.
كما تابع تاج السر عثمان تكوينات ماقبل الرأسمالية في السودان في العصر الوسيط من تاريخ السودان في مؤلفاته: تاريخ النوبة الاقتصادي- الاجتماعي 2003، لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي 2004، تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي 2005م، وحلل بذهن مفتوح التركيبة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للتشكيلات الاجتماعية للسودان الوسيط.
من العينات السابقة لبرامج بعض الحركات في المناطق المهمشة حسب الوثائق التي تحصلنا عليها لحظة اعداد هذه الدراسة يمكن أن نصل الي الآتي:
- ان الانفجار النوعي الحالي الذي تمثله الحركات في المناطق المهمشة أو اطراف البلاد هو نتاج تراكم كمي من المظالم والقهر واهمال تنمية تلك المناطق والاحساس بضرورة الحكم الذاتي وتقرير المصير ، واحداث التنمية في ظروف تحول ديمقراطي تشارك فيه جماهير تلك المناطق، واقتسام السلطة والثروة. وان التهميش أو تخلف تلك المناطق هو نتاج تطور تاريخي ، ولكن تم تعميقه في فترة الحكم البريطاني الذي خلق تنمية غير متوازنة وعزل المناطق المهمشة بادخالها في قانون المناطق المقفولة، وبعد الاستقلال لم تهتم الحكومات المدنية والعسكرية بالتنمية المتوازنة، ولم تحل قضايا التخلف والتهميش.
- علي أن مفهوم التهميش اتسع بعد سياسة الانقاذ التي شردت الآلاف من اعمالهم وانهارت المشاريع الزراعية والصناعية التي ادت الي الهجرة داخل وخارج البلاد ، وتركزت السلطة والثرة في يد قلة، وتعمق الفقر والاملاق في البلاد حتي اصبح يشمل 95% من سكان البلاد، كما عمقت سياسة الانقاذ الاحادية التهميش الثقافي واللغوي والديني والاثني، مما ادي الي انفجار الحركات المسلحة بشكل اكثر عنفا في الجنوب ، وفي دارفور والشرق حتي تم توقيع اتفاق السلام في نيفاشا في يناير 2005، والذي اكد علي ضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي والديني واللغوي والاثني، واتفاق الشرق وابوجا، ونجح اتفاق نيفاشا في وقف الحرب في الجنوب وكذلك انفاق الشرق ، اما اتفاق ابوجا فلم ينجح في وقف الحرب لعدم اشتراك بقية الحركات، ولكن السلام المستدام رهين بالتحول الديمقراطي والتنمية وتحسين احوال الناس المعيشية، والحكم الذاتي لبقية اقليم السودان الاخري عدا الجنوب(الشرق، الشمالية، الوسط، كردفان، دارفور، الوسط)، والتمثيل العادل في السلطة لهذه الاقاليم، اضافة الي التوزيع العادل للثروة والتنمية.
- اصبح مفهوم التهميش يشمل الاضطهاد الطبقي والقومي والاثني والديني واضطهاد المرأة كجنس..الخ.
- اتسع مفهوم التهميش والذي اصبح يعني القضاء علي كل اشكال الاستغلال والاضطهاد والاستبداد والتمييز الجنسي والاثني والديني واقامة ديمقراطية حقيقية بابعادها الشاملة: الاقتصادية والسياسية والثقافية واحترام الانسان ، بوصفه اكرم الكائنات.

اهم المصادر والمراجع:
أولا: وثائق الحزب الشيوعي السوداني
1- الماركسية وقضايا الثورة السودانية، اكتوبر 1967.
2- قضايا ما بعد المؤتمر، دورة اللجنة المركزية ، يونيو 1968.
3- دورة يونيو 1975.
4- القطاع التقليدي والثورة الوطنية الديمقراطية، 1976.
5- الحزب الشيوعي وقضية الجنوب، 1977
6- وثيقة للمؤتمر الدستوري:ديمقراطية راسخة وتنمية متوازنة وسلم وطيد 1989.

ثانيا: وثائق الحركات
1- برنامج الحركة الشعبية لتحرير السودان( المانفستو)، مايو 2008.
2- بيان حركة العدل والمساواة(دارفور)، نوفمبر 2001م.
3- بيان حركة تحرير السودان وجيش السودان(دارفور)، مارس 2003م.
4- برنامج حركة تحرير كوش السودانية، الحوار المتمدن، العدد 1251، بتاريخ 7/7/2005م.
5- مشروع برنامج مؤتمر البجا(بدون تاريخ).
ثالثا: كتب:
1- عبد الخالق محجوب: حول البرنامج، دارعزة 2002م.
2 - تاج السر عثمان: الجذور التاريخية للتهميش في السودان، مكتبة الشريف الاكاديمية، 2005م.
3- تاج السر عثمان: تاريخ النوبة الاقتصادي – الاجتماعي، دار عزة 2003م.
4- تاج السر عثمان: لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004م.
5- تاج السر عثمان: تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي، مكتبة الشريف الاكاديمية 2005م.
6- جون قرنق: رؤيته للسودان الجديد، تحرير وتقديم: الواثق كمير، دار رؤية، 2005م.
7- محمد سليمان محمد: السودان حروب الموارد والهوّية، لندن، 2000م.
8- محمد ابراهيم نقد: علاقات الرق في المجتمع السوداني، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1995م.
9- جعفر كرار: الحزب الشيوعي السوداني والمسألة الجنوبية، دار جامعة الخرطوم، 2005م.
10- عطا البطحاني:جبال النوبا: الاثنية السياسية والحركة الفلاحية( 1924- 1969)، مركز الدراسات السودانية، القاهرة 2000م.

سادسا:كيف تناول مشروع التقرير السياسي العلاقة بين الكادر القديم والجديد؟
أشار مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس للحزب الشيوعي السوداني، في معرض تناوله للعلاقة بين الكادر القديم والجديد، الي التغيرات الهيكلية التي طرأت في التركيب العضوي للحزب بصفة خاصة خلال سنوات الانقاذ والتي فاقمت من هذه القضية، والي أن: (الاعتقالات والفصل للصالح العام والهجرة واسعة النطاق الي خارج البلاد والتي شملت عددا كبيرا من أعضاء الحزب وكوادره واندثارعدد كبير من فروع الحزب في مجالات العمل والسكن وتعثر عملية البناء الحزبي في ظروف العمل السري ، قد لعبت الدور الأكبر والأساسي في حدوث هذه التغيرات الهيكلية).
كما أشار الي: ضعف فروع الحزب في الجامعات وذوبانها داخل الجبهة الديمقراطية واثر ذلك علي الزملاء الخريجين الذين تم توصيلهم لمجالات العمل والسكن. وكذلك اشار الي أن: هناك عدد كبير من اعضاء وعضوات وكوادر الحزب ارتبط بعمل المنظمات الطوعية المختلفة، وسجل غيابا عن فروع الحزب. لقد اجبرتهم ظروف كثيرة معلومة لممارسة النشاط واشباع التطلعات الثورية من خارج تنظيم الحزب.
ورغم أن التقرير أشار الي صمود الكادر الجديد ومقاومته لنظام الانقاذ وسلبيات ما يسمي بثورة التعليم العالي، الا أن التقرير خلص الي أن:
(الكادر الجديد تشكل وتخلق وتكون في ظروف ضعف العمل الحزبي بتقاليده وركائزه المعروفة، اما تحت ظل ذوبان الفرع في الجبهة الديمقراطية في الجامعات داخل السودان وخارجه أو بين العمل في المنظمات الطوعية أو بسبب الانقطاع فترة طويلة عن العمل الحزبي المنظم بأثر ضعف العمل في جبهة التوصيلات ، واستنادا الي ذلك فان التغيرات الهيكلية التي طرأت في التركيب العضوي للحزب ، وبالتالي في تركيب الكادر ، قد قادت بالفعل الي بعض مظاهر الاهتزاز في أساسيات ومبادئ وتقاليد العمل الحزبي، والي ضعف الترابط والتواصل بين الكادر القديم والجديد).
قضية العلاقة بين الكادر القديم والجديد ليست جديدة، جاء في وثيقة: الماركسية وقضايا الثورة السودانية(تقرير المؤتمر الرابع ، اكتوبر 1967) حولها ما يلي:
(والقاعدة أن كادرنا متمم لبعضه ويعمل في اتحاد اختياري رفاقي تجمعه الايديولوجية الواحدة والمصهر الواحد في النضال الثوري . حقا لكادرنا القديم سلبياته وكذلك للكادر الجديد. ولايمكن لحزبنا أن يتطور ، ولايمكن للكادر الجديد أن ينمو ، الا بهضم التجارب الثورية لحزبنا واستمرار تقاليده الثورية. وهذا يتطلب النضال علي اساس الماركسية اللينينية ضد السلبيات في كادرنا ككل وتمتين الوحدة بينه . يتطلب كما ذكرنا من قبل تنقية الحياة الداخلية لحزبنا وقيامها علي اسس ماركسية حقا في صراع الافكار المبدئي وبالمسئولية التامة ازاء قضية الحزب والثورة كما تشير الي ذلك لائحة حزبنا)( الماركسية وقضايا الثورة السودانية، ص 182، طبعة دار عزة، 2008).
• الخلل الأساسي الذي جاء في صيغة مشروع التقرير السياسي المقدم للمؤتمر الخامس هو التعميم علي كل الكادر الجديد ، في حين أن للكادر الجديد شأنه شأن الكادر القديم له ايجابياته وسلبياته، كما أن التقرير السياسي انطلق من تقييم ذاتي لا علاقة له بدراسة عميقة انجزت حول الكادر الجديد. نلاحظ علي سبيل المثال في مديرية الخرطوم ان 39% من الكادر انضم للحزب في فترة الانقاذ ، وهذا له دلالاته من حيث تصدي كادر شبابي للعمل القيادي والذي صارع بصلابة ضد نظام الانقاذ، رغم التعتيم الذي فرضه النظام علي هذا الجيل ، ويعكس تصدى كادر شاب للعمل القيادي بعد الهجرة الكبيرة التي شملت الكادر بعد الانقاذ ، وهذا يستوجب رفع قدرات هذا الكادر الفكرية والسياسية والتنظيمية حتي يواصل نشاطه القيادي باقتدار فهو مستقبل الحزب.
• اما الخلل الثاني في صيغة مشروع التقرير السياسي انه لم يعالج بعمق قضية الخلل في العمل القيادي، والتي كان من نتائجها التوتر بين الكادر القديم والجديد.
ونحاول في هذه المساهمة استكمال هذا النقص، في اتجاه توسيع وتعميق المناقشة.
وسوف نتناول في هذه المساهمة: مظاهر الخلل في العمل القيادي، جذور وأسباب الخلل، والمدخل الي الاصلاح.
اولا:تقديم:
تم تناول قضية العمل القيادي في وثائق الحزب في مناسبات مختلفة خلال الفترات التاريخية التى مر بها الحزب ، فمنذ تأسيس الحزب أشارت الوثائق الى اهمية تلك القضية باعتبار أن تقوية وتحسين العمل القيادي من الشروط الهامة لاستقرار الحزب وبنائه ، وضرورة الارتقاء بقدرات الكادر الفكرية والعملية وتنمية الكادر الجديد ، وارتباط الكادر بالواقع والتفكير المستقل وضرورة اشراك الكادر في رسم سياسة الحزب ومحاسبة اللجنة المركزية وتوسيع دائرة العمل القيادي وتوسيع الديمقراطية داخل الحزب ( دورة ل.م 1952 ). كما أشارت الوثيقة الى أنه في بلد كالسودان شاسع مترامى الأطراف وبظروفه الاجتماعية المتخلفة يتطلب وجود كادر بمستوى متقدم يمكنه من قيادة المناطق وتوسيعها وتطويرها دون التدخل المباشر من مركز الحزب ، وهذا أمر يعتمد عليه مستقبل حزبنا.
كما أشارت وثيقة المؤتمر الرابع ( الماركسية وقضايا الثورة السودانية ) الى ضرورة وجود جهاز حديث للحزب يتكون من مجموعة من المختصين في شئون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاعلام والنشر .. الخ ، كما أشارت الى ضرورة تأهيل وتدريب الكادر في فروع العمل الثوري التي يباشرها ، كما أشارت الى أن مستوى الكادر وقدرته على المشاركة الحقيقية في رسم سياسة الحزب الشيوعي هما الذان يحددان مستوى القيادة الجماعية ، كما أشارت الوثيقة الى ضرورة اختيار الكادر على أساس موضوعي يضع في الاعتبار صلابته في النضال وتاريخ نضاله العملي وكفاءاته لمواجهة الظروف المقبلة.
أما وثيقة قضايا ما بعد المؤتمر ( دورة ل.م يونيو 1968 ) فقد أشارت الى أن القضية:
( هى انه اليوم بدخول بلادنا مرحلة جديدة من مرحلة التطور الديمقراطي ، اصبح الاصلاح في عمل الحزب يتطلب الشمول ، وينبعث من حاجة جوهرية : وهى أنه اذا لم يستطع الحزب الشيوعي ان يغير من حياته الداخلية ، وأن يطور هذه الحياة فسوف يصبح الحزب الشيوعي تنظيما بدائيا ومتخلفا ، ولايكون في مقدمة الاحداث ، بل يكون خلفها).
كما أشارت الوثيقة الى بناء مواقف الحزب على أساس العلم وامتحانها بالتجارب ، واستخلاص نتائج نظرية من هذه التجارب.كما أشارت الوثيقة الى ضرورة تطوير عملنا القيادي فيما يختص بالتحالف مع البورجوازية الوطنية والصراع ضدها حول مسألة قيادة الحركة الجماهيرية ، تطوير عملنا في القطاع التقليدي والجنوب ، منهج عملنا مع المثقفين ، الدين ، التنظيمات الديمقراطية : وكيف تكون جاذبة لجماهيرها ومتعددة في صورها واشكال عملها حتى تسهم في تغيير تركيب المجتمع.اضافة الى ضرورة تطوير عملنا القيادي والنظري فيما يتعلق بالارتباط الوثيق بين الحقوق الديمقراطية البورجوازية والديمقراطية الجديدة ، اضافة الى تحسين وتطوير العمل القيادي وتدريب وتاهيل الكادر العمالي والخط التنظيمي.هذا فضلا عن استقلال فرع الحزب حتى يكون القائد الحقيقي لجماهيره في الحى والعمل والمؤسسات الدراسية بدون الوصاية عليها.كما أشارت الوثيقة الى أن العمل القيادي اليوم يتطلب مستويات عليا من المعرفة الماركسية ويتطلب مستويات توجب اعمال الفكر وتوجب الانتاج وتوجب الاسهام المثمر في قضايا الحزب وقضايا الحركة الثورية . كما اشارت الوثيقة الى اهمية فرع الحزب والذي يعتبر عمليا لانظريا وحده وليس سواه هو القائد لكل نشاط يجري حوله والمسئول عنه ، لقد عانينا من هذا كثيرا ، عانينا من الوصاية التى تفرض على فرع الحزب ، فتطبع الحزب بطابع واحد عقيم وتسلب عضوية الحزب من ارادتهم وتجعلهم متفرجين في كل ما يختص به من افكار جديدة ، وتجعلهم يحجمون عن اثراء الحزب بافكارهم وتجاربهم ، وهذا الاتجاه الذي يصادر الديمقراطية المركزية يخلق السلبية ويحد من طاقة الفرع.
أما وثيقة في (سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع) ، دورة ل.م مارس 1969 م ، فقد أشارت الى أن : العمل النظري اصبح يشكل واجبا مقدما للنشاط القيادي ، وفي النشاط العملي واليومي لدى أعضاء الحزب الشيوعي. كما أشارت الى ضرورة العمل الجماهيري الصبور أداة للتغيير بديلا للتكتيك الانقلابي ، كما أشارت الى انه رغم انجازات المؤتمر الرابع في ميدان العمل النظري وفي تجميع الافكار حول قضية بناء الحزب الشيوعي ، وتطبيق الماركسية باستقلال على ظروف السودان ، ولكن المؤتمر لم يحل قضية القيادة الجديدة التى تجئ لسيادة تلك الافكار والانجازات ومعبرة حقا عنها.كما أشارت الى ( التناقض بين الوعي المنتشر بين أعضاء الحزب وبين القدرات الراهنة للنشاط القيادي في الحزب).
كما أشارت الوثائق الى ضرورة تطوير العمل القيادي بعيدا عن الصراعات غير المبدئية أو الصراعات الذاتية المدمرة للعمل القيادي.
بعد يوليو 1971 ، كان من أهم الدورات التى عالجت قضايا العمل القيادي في ظروف الردة وفي ضوء تكتيكات الحزب في تلك الفترة ، دورة يونيو 1975، أشارت الدورة الى دورفرع الحزب وتاهيله ووحدة الفكر والارادة والعمل وتحسين العمل القيادي في حياة الحزب الداخلية من الفرع وحتى اللجنة المركزية ، والارتقاء بالصلة بين القيادة والقاعدة وتحسين العمل القيادي في النشاط الجماهيري ، وتبسيط العمل القيادي واشكال الصلة مع الفروع بحيث تنساب في يسر وسلاسة وبدون حلقات وسيطة كثيرة تباعد بين القيادة والفروع، واستخلاص فروع الحزب لبرامج وخطط عمل من دورات ل.م ، ودراسة الوثائق التى تسهم في تطوير خط اللجنة المركزية.اضافة لتطوير وتحسين عملنا القيادي في الجنوب والقطاع التقليدي وممارسة المركزية الديمقراطية باعادة انتخاب الفروع لمكاتبها.
أما دورة ل.م ، ديسمبر 1978 م فقد طرحت قضية الكادر باعتبارها الحلقة الرئيسية في العمل القيادي وفي مهام بناء الحزب ، كما حددت الشروط لانتقاء الكادر المتفرغ وتأهيله سياسيا وفكريا وتخصصه في فرع من فروع المعرفة ، وتوفير احتياجاته الاساسية حتى يكون من المنتجين والمبدعين في فنون النشاط الحزبي المتنوع.
وجاءت دورة سبتمبر 1984 م بعد 14 عاما من الردة لتحدد اسبقيات العمل القيادي والتى تتلخص في : تحسين ودعم التركيب القيادي ، ترسيخ قواعد العمل السري وانتقاد الخلل في التامين الذي ادى الى ضرب وثائق كثيرة مع الكادر في المركز والمناطق ، الحد الادني والمستقر والدائم من الطباعة ، تحسين التكوين الشيوعي للكادر ، مقرر الزامي للمرشحين ، توسيع حلقة الكادر المتفرغ ، التوجه لبناء الحزب وسط الطبقة العاملة.
اشارت الدورة الى أن التمسك بالاسبقيات قضية فكرية في المقام الاول ، فان هذا التمسك يتحقق عبر الصراع الفكري ضد روح التشتت وردود الفعل ، وتقليب ماهو عابر وثانوي على ماهو ثابت وجوهري .( ص 7 ).
كما قدمت سكرتارية اللجنة المركزية نقدا ذاتيا في الدورة على تأخير طرح الاسبقيات لأنها قضية مستقلة عن نهوض وانحسار الحركة الجماهيرية ، ولكونها بهذا المعنى جوهر العمل القيادي ومعيار تقدمه أو تخلفه ، وفعاليته أو ضعفه ، وكان الواجب متابعته منذ طرحه في دورة يونيو 1975 ليس فقط في سكرتارية اللجنة المركزية والهيئات المركزية ، بل في كل هيئات وفروع الحزب.
كما عالجت الدورة ايضا مهام بناء الحزب مثل قضايا الخط التنظيمي ، التركيز على بناء الحزب في المدارس الثانوية والمعلمين ، كما عالجت حالة المكاتب المركزية وحددت الاسبقيات المطلوبة للمكاتب المركزية ومهامها مثل : المكتب التنظيمي ، المكتب المالي ، اللجنة الاقتصادية ، مكتب التعليم الحزبي ، .. الخ.
كما تناولت الدورة حالة الحزب في المناطق وفروع الخارج ومهام بناء الحزب فيها ، وتناولت ايضا تحليل فحص كادر 1978 ، ومهام البناء المستخلصة من ذلك الفحص .
والدورة ماثلة للطباعة ، اى لم تنزل لعضوية الحزب) وقعت انتفاضة مارس – ابريل 1985 ، وبعد الانتفاضة نشأت ظروف مد جماهيري جديدة ، تركت بصماتها على الاسبقيات التى طرحتها دورة سبتمبر 1984 ، وعالجت دورة ابريل 1985 قضايا الانتفاضة ومهام بناء بناء الحزب في الظروف الجديدة استنادا الى الاسبقبات التى طرحتها دورة سبتمبر 1984 مع مراعاة الامكانات الواسعة التى فجرتها الانتفاضة.
واخيرا ، جاءت دورة فبراير 1995 التى عالجت الخلل في العمل القيادي الذي حدث بعد انقلاب 30 يونيو 1989م ، وتم تصحيح مسار العمل القيادي وانتقاد تصعيد الزميلين الخاتم ووراق لسكرتارية اللجنة المركزية من خارج اعضاء ل.م وتصعيد زملاء أعضاء ل.م لسكرتاريتها بدون علم ل.م ، اضافة لتهميش اللجنة المركزية التى لم يعقد لها اجتماع لفترة ست سنوات ، وتصحيح مسار المناقشة العامة حسب ضوابط لائحة الحزب بتحديد اطار عام لها ، وتحديد فترة زمنية لها وآلية لحسمها ، وتحسين العمل في التجمع الوطني الديمقراطي، وضرورة نشاط الحزب المستقل وتوسيع نشاطنا الجماهيري وضرورة اسهام الاعضاء والكادر في المناقشة العامة لتجديد الحزب والتمسك بضوابط العمل السري، كما عالجت الخلل في اختفاء عدد ضخم من الكادر الجماهيري مع تقدير تضحيات ذلك الكادر في الايام الاولى للانقلاب.
هذا عرض موجز لوثائق الحزب التى تناولت قضية العمل القيادي في الفترات المختلفة التى مربها الحزب صعودا وهبوطا في الحركة الجماهيرية وفي ظروف نشاط سري مطلق ونشاط قانوني علني ، مما يشير الى أن القضية ليست جديدة ، الا أنه لم تتم المعالجة الجذرية لها ، مما تركت اثارها وبصماتها السلبية على تطور الحزب ونموه.
استنادا على هذه الخلفية نناقش قضية العمل القيادي ومعالجة الخلل الذي لازمها ، وفي سبيل التطوير والتحسين والنفاذ الى جذور الخلل وأسبابه ومعالجته ، باعتبار ذلك هو العامل الحاسم في تطور ونمو الحزب وتحويله الى قوة جماهيرية تسهم في تغيير تركيب المجتمع.
سوف نركز في هذه المساهمة على الاتي :
– مظاهر الخلل في العمل القيادي.
– أسباب وجذور الخلل.
– المدخل لاصلاح العمل القيادي.
ثانيا: مظاهر الخلل في العمل القيادي:
يمكن تلخيص مظاهر الخلل في العمل القيادي والتى لاتخطئها العين في النقاط التالية:
1. ضيق حلقة العمل القيادي في مركز الحزب وعدم التخطيط المنظم لدعم القيادة بكادر جديد في عملية تشترك فيها هيئات وفروع الحزب بدلا من طريقة (علوق الشدة) التى تتم بها حاليا ، وبالتالي تجديد دماء العمل القيادي، هذا اضافة لحالة التشتت وزحمة الكادر القيادي في سكرتارية اللجنة المركزية .
2 -غياب الخطة السنوية للجنة المركزية التى يتم فيها تحديد اهداف عامة يتوخى العمل القيادي تحقيقها في العام المحدد ، وبالتالي رصد ما انجز وما لم ينجز والمحاسبة ومتابعة الانجاز في الخطة القادمة.
3 - عدم التقويم الدوري لأداء الكادر القيادي : انجازاته ، اخفاقاته، في مواقع المسئولية التى يتسنمها.
4 - الخلل المزمن في العمل القيادي والذي اشارت له المناقشة العامة وانتقده مشروع التقرير السياسي، وهو عدم عقد المؤتمر الخامس لمدة اربعين عاما ، وبالتالى تم حرمان مجموع الحزب من عقله الجماعي في تلخيص التجربة وتجديد العمل القيادي، وتطوير الحزب مما ترك القيادة لحلقة ضيقة والحق الضرر الجسيم بالعمل القيادي.
5 - الصراعات غير المبدئية بين الكادر القيادي ، والتى ارهقت قيادة الحزب في تحقيقات كثيرة ، مما اضر بالعمل القيادي ، وحرف وجهته الى اشياء غير مفيدة.
6- عدم وجود السياسات الثابتة مثل :
- لا سياسة عامة لتطوير مالية الحزب ومصادره المالية، حتى اصبح الحزب في اسوأ حالاته في جبهة الأداء المالي، وتلبية احتياجات جبهات العمل المتنوعة.
- لاتوجد سياسة عامة لتطوير الكادر باعتباره عصب الحزب.
- لا سياسة عامة حول التفرغ ، حتى تقلصت حلقة المتفرغين الى اقصى حد منذ تأسيس الحزب.
- لاسياسة عامة لتطوير الأداء في جبهة العمل النظري.
7- اصبحت سكرتارية اللجنة المركزية بديلا للجنة المركزية ، في حين أن السليم حسب دستور الحزب المجاز في المؤتمر الرابع ، اكتوبر 1967م، أن المكتب السياسي هو الهيئة المركزية المسئولة عن الحزب في الفترة بين اجتماعي اللجنة المركزية ، وهو الذي ينفذ قرارات اللجنة المركزية ويحضر لاجتماعاتها ويمثلها في صلاتها مع القوى السياسية الاخري ويقدم حصيلة نشاطه للجنة المركزية، كما يتابع صحافة الحزب واداء المتفرغين واستلام التقارير من المناطق والمكاتب ويرفع الحصيلة للجنة المركزية، ولايقرر بالنيابة عنها، وأن المكتب السياسي تنتخبه اللجنة المركزية . وقد انسحب هذا المنهج الخاطئ على بعض المناطق على سبيل المثال في مديرية الخرطوم حلت السكرتارية محل لجنة المديرية في الفترة: 1989 – 2006، مما ادخل العمل القيادي في عنق الزجاجة حتى تم تصحيح هذا الوضع الشاذ في اجتماع الكادر الموسع الذي عقد في 19/5/2006، ومؤتمر المديرية الأخير .
8 -السلحفائية والبطء في العمل القيادي ، وتأخير الردود على التقارير والرسائل التى تصل من المناطق والمكاتب مما يضعف ويربك العمل القيادي ويفاقم المشاكل التى تحتاج لمعالجات سريعة.
9 -غياب التقرير السنوى الذي يضع امام اللجنة المركزية صورة الوضع في المناطق والمكاتب ، على سبيل المثال آخر تقرير ناقشته اللجنة المركزية عن الوضع في المناطق في دورة يونيو 2000م ، بل حتى تقارير المكاتب المركزية والمناطق لاتمر على اعضاء اللجنة المركزية ، بل اصبحت محصورة في سكرتارية اللجنة المركزية.
وهذا يتطلب رفع القدرات الادارية لتصل تقارير المناطق والمكاتب قبل بداية العام الجديد ، حتى يتم منها اعداد التقرير السنوى وكذلك ولاية الخرطوم ، وهذا يختصر الطريق في تقديم المساعدات الدورية والسنوية للمناطق والمكاتب في تطوير عملها، بدلا من ترك ذلك لرؤية احادية ضيقة لسكرتارية اللجنة المركزية.
10 – غياب المجلة الداخلية ( المنظم) التى تلخص تجارب المناطق والفروع في النشاط الداخلي والجماهيري لأكثر من 17 عاما ، مما اضعف المسك بقضايا ومناهج بناء الحزب ، وتطوير الصراع الداخلي حول ذلك.
11 – تفجر الصراع بين الكادر القديم والجديد ، وعدم وجود المنهج القيادي السليم لاستيعاب الكادر الجديد القادم من الجامعات في فروع السكن والعمل ، وهذا ناتج وتحصيل حاصل من الخلل في العمل القيادي الراهن.
12 – عجز الكادر القيادي في سكرتارية اللجنة المركزية الناتج من تقدم العمر والمرض ، ورغم ذلك يتشبث بالعمل القيادي اللاهث يوميا ، بدلا من وجود المنهج السليم لتجديد دماء العمل القيادي ومساهمة الكادر الذي تقدم في العمر بعمق في تلخيص التجارب والكتابة في جبهة الفكر، بدلا من الجرى والتشبث ، حتى اصبح كالمنبت لاأرضا قطع ولاظهرا ابقي.
13 – العجز والقصور الواضح في جبهة الفكري حول قضية المرأة التى اتسع دورها في الحياة العامة ، مما يعكس الخلل في العمل القيادي والنظري وضرورة تطوير عملنا في هذا الجبهة الهامة. هذا اضافة لضعف وجود الزميلات في الهيئات القيادية من اللجنة المركزية والمكاتب المركزية ولجان المناطق مما يتطلب رفع هذه النسبة.
14 – الاضطراب والارتباك في التصريحات الصحفية وفي اجهزة الاعلام والذي اشارت له اللجنة المركزية ، هذا اضافة للخلط بين الرأى الشخصي ورأى الحزب حول القضية المحددة ، حتى اصبحت هذه التصريحات والمقابلات الصحفية الكثيرة تثير امتعاض أعضاء الحزب.
15 – ضعف منابر الحزب الاعلامية، كما أشارت العديد من ملاحظات الاعضاء والاصدقاء ، مما يتطلب تحسين عملنا في هذا الجانب.
16 – ضعف دورات اللجنة المركزية وخاصة في الجانب السياسي ولاسيما في الفترة :2001 – 2007 م من حيث المحتوى والتحرير أو الاعداد للنشر اضافة لتأخير نزولها ، كما عبر الكثير في ملاحظاتهم ومناقشاتهم لهذه الدورات.
17 – استمرار التناقض الذي ظل ملازما للحزب منذ المؤتمر الرابع ( بل قبله) ، مثل البدائية وحول نفوذ الحزب الجماهيري وارتفاع مستوى وعي أعضائه وعجز العمل القيادي عن تلبية تلك التطلعات، هذا اضافة لضعف القبض باسبقيات العمل القيادي كما أشارت دورة ل.م في سبتمبر 1984 م.
18 – ضعف جبهة الطباعة المركزية كما يتضح من العجز عن اصدار مجلة الشيوعي العدد 170 لاكثر من عامين ، وتراكم الكتيبات والمساهمات دون نشر.
19 – اتخاذ قرارات كانت تحتاج لتشاور واسع مع الكادر والمناطق مثل:قرار المشاركة في المجلس الوطني وتحديد المشاركين، وقرار الاجتماع مع المؤتمر الوطني دون التحديد المسبق لشروط المصالحة والحوار، والتشاور مع القوى السياسية الاخري لتوحيد الموقف التفاوضي.
ثالثا: أسباب وجذور الخلل:
مظاهر أزمة العمل القيادي التى عددنا بعضها اعلاه ترجع الى جذور قديمة في تاريخ الحزب ، كما أشرنا في مقدمة هذه المساهمة الى دورات اللجنة المركزية السابقة التى تناولت هذا الموضوع ، اضافة للمقترحات لتحسين العمل القيادي ، ولكن الظروف الموضوعية مثل ظروف السرية المطلقة والظروف الذاتية لم تساعد في متابعة الاصلاح في هذه الجبهة.
في بحثنا عن أسباب وجذور الخلل يمكن الاشارة الى النقاط التالية:
1- عدم عقد المؤتمر الخامس لمدة اربعين عاما من الاسباب الاساسية لذلك الخلل ، نلاحظ أنه في الفترة يوليو:1971 – 1985 م ، لم يطرح في دورات اللجنة المركزية مهمة عقد المؤتمر الخامس ، ولكن طرح في الفترة: 1985 – 1989 ، ورغم الظروف المواتية الا أنه لم يتم عقده وهذا يرجع لمناهج وأساليب العمل القيادي التى كانت سائدة يومئذ ، اضافة لعدم انجاز بعض اللجان مثل لجنة البرنامج مشروع البرنامج حتى قيام انقلاب 30 يونيو1989 م ، نلاحظ استمرار هذا الخلل ، فقد قررت ل.م تكوين لجنة لاعداد مشروع البرنامج في دورتها في ديسمبر 1997 ، وحتى نهاية ديسمبر 2007 م ، أى لاكثر من عشر سنوات ولم ينجز المشروع مما يعكس البدائية والخلل في العمل القيادي. هذا اضافة لخرق لائحة الحزب بتعطيل اعلى سلطة في الحزب لأكثر من اربعين عاما.
2- الخلل الثاني هو الغاء المكتب السياسي واستبداله بسكرتارية للجنة المركزية، في حين أن السكرتارية أو الامانة العامة مهمتها التحضير لاجتماعات المكتب السياسي، التى ادخلت العمل القيادي في عنق الزجاجة واصبحت بديلا للجنة المركزية ، ومعلوم أن تجربة سكرتارية اللجنة المركزية تم انتقادها خلال فترة ديكتاتورية عبود وبعد اكتوبر 1964 م وفي وثيقة: في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع ( دورة مارس 1969 )، باعتبارها تلغي او تهمش اللجنة المركزية ، وكانت الصيغة التى تم اجازتها في المؤتمر الرابع 1967 هى أن الهيئات القيادية هى: المؤتمر ، اللجنة المركزية ، المكتب السياسي، اضافة للاداء النظري والفكري للمكاتب المركزية ودورها في تطوير وتوسيع دائرة العمل القيادي ، وهذا ايضا خرق واضح لدستور الحزب . النتائج التى ترتبت علي صيغة سكرتارية للجنة المركزية هى ضيق العمل القيادي ، وزحمة زملاء لايتعدون اصابع اليد باعباء فوق طاقة البشر ، مما خلق حالة من التشتت وعدم المسك باسبقيات العمل القيادي ، وعدم المعالجة الجذرية لمسألة العمل القيادي رغم طرحها في دورات مختلفة بعد يوليو 1971 م مثل دورة يونيو 1975 ودورة سبتمبر 1984 ودورة فبراير 1995 م .
3- النقطتان: (1) ، (2)، تشكلان المفتاح لفهم اسباب وجذور الخلل في العمل القيادي وما ترتب على ذلك في الحالة التى وصلها الحزب التى تتمثل في الخلل في العمل القيادي التى حددنا مظاهرها اعلاه. اضافة الى اثر ذلك في خط الحزب السياسي الجماهيري المستقل، في الاسهام في تنمية خط سياسي جماهيري يفتح الطريق امام انتزاع التحول الديمقراطي ، وعدم تقويم تجربة التجمع الوطني الديمقراطي حتى الآن بهدف اتخاذ موقف لتنمية اعمال مشتركة اوسع تسهم في مواجهة مخاطر الفترة الحالية واهمها ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد وانتزاع التحول الديمقراطي وتحسين احوال الناس المعيشية، وانتزاع قانون ديمقراطي للانتخابات يفتح الطريق امام انتخابات حرة نزيهة يتم فيها انهاء الشمولية واحتكار السلطة والثروة.
رابعا: المدخل للاصلاح :
المدخل للاصلاح لاينفصل عن مجمل ما طرح من أفكار في المناقشة العامة لتحسين العمل القيادي وذلك :
• بانتظام عقد مؤتمرات الحزب ، باعتبار أن المؤتمر هو اعلى سلطة في الحزب وهو الذي يجيز سياسته واهدافه العامة وبرنامجه ودستور او التعديلات عليهما ، وينتخب اللجنة المركزية الجديدة .
• أن تصبح اللجنة المركزية القيادة فعلا لا قولا في الفترة ما بين المؤتمرين ، لقد عانت اللجنة المركزية في الفترة الماضية من التهميش ، على سبيل المثال تم في الفترة اكتوبر 1967 – نهاية ديسمبر 2007 م عقد 54 دورة للجنة المركزية ، تم عقد 17 منها في الفترة:1967 – يوليو 1971 ، اى بمعدل 3 دورات في العام ،بما يتمشى مع لائحة الحزب ، اضافة لوجود مكتب سياسي في تلك الفترة بما يتمشى ايضا مع لائحة الحزب، أما في الفترة : يوليو 1971 – نهاية ديسمبر 2007 م ، فقد تم عقد 37 دورة ، اى بمعدل دورة في العام، اضافة لتكوين سكرتارية للجنة المركزية الغت الدور القيادي للجنة المركزية، كما اشرنا سابقا، وهذا ايضا يتعارض مع اللائحة.على أن اسوأ ما افرزته تجربة السكرتارية هى تكوين سكرتارية مؤقتة في الفترة 1989 – 1995 ، والتى تم فيها تهميش اللجنة المركزية بعدم عقد اجتماعاتها لفترة ست سنوات ، اضافة للخل في العمل القيادي الذي نشأ في هذه الفترة والذي اشرنا له في المقدمة، والذي عالجته دورة ل.م فبراير 1995 م، ومازال هذا الخلل يلقى بظلاله السلبية على العمل القيادي حتى اليوم.
• أن يصبح المكتب السياسي هو القيادة المركزية في الفترة بين انعقاد اجتماعات اللجنة المركزية ويقود العمل اليومي ويشرف على صحافة الحزب ومطبوعاته المركزية وعلى المتفرغين وتوزيعهم على فروع العمل المختلفة ، كما يشرف على المكاتب المركزية ولجان المناطق ويتلقى التقارير الدورية المنظمة عن نشاطها ومخططاتها ، كما يدعو لاجتماعات اللجنة المركزية الدورية واذا طلب ثلثا اعضائها ويحضر لها ويقدم تقارير دورية بنشاطه وانجازاته لها وينفذ كل قرارتها، ويعقد اجتماعات دورية ثابتة لقيادة العمل السياسي ومراقبته وتطويره، كما يمثل الحزب في صلاته بالاحزاب والهيئات الاخرى في حالة غياب اللجنة المركزية ، على أن يقدم أعماله في هذا الصدد الى اللجنة المركزية، كما أن اللجنة المركزية هى التى تنتخب المكتب السياسي ويخضع لمحاسبتها، اى أن المكتب السياسي يخضع لمراقبة اللجنة المركزية وليس قيادة لها وحتى لا يتحول الى هيئة أو شلة متكتلة بشكل دائم داخل اللجنة المركزية، وهذا يصحح الوضع الشاذ الذي نشأ باستبدال المكتب السياسي بسكرتارية للجنة مركزية لاوجود لها في دستور الحزب المجاز في مؤتمره الرابع اكتوبر 1967، والتى تحولت بوضع اليد الى قيادة للجنة المركزية لأكثر من 36 عاما ، هذا اضافة لتصعيد زملاء لها في غياب اللجنة المركزية ودون علمها مثل حالة الخاتم ووراق ،اضافة للاثار الضارة التى الحقتها هذه الصيغة بالعمل القيادي والتى اشرنا لها سابقا.
• التخلص من حالة التشتت بتحديد اسبقيات العمل القيادي وتوزيع المسئوليات وترسيخ المؤسسية وضوابط دستور الحزب ، واشراك الهيئات والفروع في الاختيار للمكاتب والهيئات المركزية وعرض حصيلة الفحص على اللجنة المركزية ، وأن يكون التصعيد على أساس الكفاءة وليس الاستلطاف والمزاج الشخصي، لقد اكدت التجارب أن القيادات التى تم اختيارها بعيدا عن الأسس والمناهج السليمة ، وبدون اشتراك الهيئات وفروع الحزب في تقييمها كانت فاشلة ووبالا على العمل القيادي ، هذا فضلا أن التصعيد الخاطئ لا يؤثر سلبا فقط على العمل القيادي ، بل يؤثر على الزملاء المصعدين انفسهم، هذا اضافة لتحسين مناهج العمل القيادي والاهتمام بالتاهيل والتدريب والتنوع في اشكال الصلة بالمناطق والفروع ، وتحسين المناهج في اختيار المتفرغين وتوفير احتياجاتهم الاساسية والتقييم الدورى لادائهم ولعب دورهم في تطوير نشاط الهيئات الحزبية التى يعملون بها ، والتخصص في فرع من فروع المعرفة، وتطوير عملنا القيادي الفكري والنظري حول قضية المرأة ، ووضع سياسات ثابتة لتطوير الاداء المالي والمتفرغين .
• يتطور العمل القيادي من خلال الانتاج في مختلف المجالات السياسية والتنظيمية والفكرية وتطوير العمل النظري، والنقد والمحاسبة والتخطيط ودراسة الواقع ورفع قدرات الكادر القيادي الفكرية والسياسية والتنظيمية، اضافة الى بناء ادوات العمل وتحسين الطباعة ووسائل الاعلام الاخرى ، اضافة الى التامين وتحسين مناهج العمل الاداري ورفع كفاءة الاجتماعات وعائدها والتحضير الجيد لها ، باعتبار أن الاجتماع الناجح هو الذي يحقق اكبر عائد في أقل قدر من الزمن، وتطوير موارد الحزب المالية، وتجديد العمل القيادي وتطويره باستمرار، والحفاظ على التوازن بين حماس الكادر الجديد وحكمة وتجربة الكادر القديم، هذا فضلا أن القيادة والادارة اصبحت علما لابد من اتقان مناهجه وفنونه ، وتسليح الكادر القائد بمبادئ علم الادارة والكمبيوتر والتحليل الاحصائي والآساليب والمناهج العلمية في اجراء الاستبيانات والاستطلاعات وقياس الراى العام وسط التنظيم ، وعدم التعجل في اتخاذ قرارات دون دراسة.
• تحسين تركيب اللجنة المركزية ، وتلك مهمة المؤتمر الخامس ، فتركيب اللجنة المركزية الحالية مختل وعلى سبيل المثال: لايوجد بها عامل ، يوجد بها زميلتان ، يوجد بها زميل واحد من الأقاليم ، من حيث التركيبة العمرية كل الاعضاء اعمارهم تتجاوز ال55 عاما ، لايوجد بها مزارع .. الخ. وبالتالى من المهم تحسين هذا التركيب بحيث يوجد في اللجنة المركزية كوادر مقتدرة من العمال والمزارعين والنساء ، اضافة لتحسين التركيبة العمرية بتمثيل الشباب والدمج فيها بين حماس الشباب وحكمة وتجربة الكادر القديم، اضافة لضرورة وجود المسئولين السياسيين للمناطق في اللجنة المركزية وفي وجهة تحسين وتطوير بناء الحزب في الاقاليم ، اضافة لضرورة وجود كوادر مقتدرة من ابناء المناطق المهمشة( دارفور،الشرق ، جبال النوبا، جنوب النيل الأزرق، النوبة في اقصى الشمال.. الخ).اضافة للكوادر المتخصصة في العمل الداخلي والفكري والثقافي والسياسي الجماهيري. وحول طريقة الاختيار مهم أن نتجاوز تقديم اللجنة المركزية لقائمة ، تلك الصيغة التى كانت من اسباب فشل الاختيار السليم للقيادة ، فالمؤتمر الرابع قد نجح في اجازة وثائق جيدة ( الماركسية وقضايا الثورة السودانية ، برنامج ولائحة الحزب)، ولكنه فشل في اختيار القيادة التى تترجم تلك الوثائق والخطوط الى واقع ، مما اضطر اللجنة المركزية الى تقديم وثيقة : في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر الرابع ( دورة مارس 1969 ). وبالتالى من المهم توسيع دائرة الترشيحات للجنة المركزية بما يحسن التركيب القيادي ، ولابد من بذل جهد مسبق قبل المؤتمر في مناقشة الكادر المؤهل والمتخصص المطلوب واخذ موافقته ، حتى لايفاجأ المؤتمرون بالاعتذار ، وحتى لاتكثر الاعتذارات ، وبالتالى يفشل المؤتمر في انتخاب لجنة مركزية متوازنة تعيد الأزمة وانتاج الازمة ، وبالتالى من المهم تكوين لجنة انتخابات تتجمع عندها الترشيحات من المناطق والهيئات المركزية واللجنة المركزية مع حيثيات كافية توضح السيرة الذاتية للمرشح وموافقته واسم المرشح والمزكى ، يتم عرض هذه الترشيحات على المؤتمر مع تأكيد حق المؤتمر في الاضافة للمرشحين ،وحق المناديب في ابداء رأيهم في المرشحين ، ويتم الانتخاب بالاقتراع السري . اعتقد أن هذا يوسع من دائرة المشاركة في عملية الترشيح وتحسين التركيب القيادي ويساعد في اختصار زمن المؤتمرين ، ويتيح للجميع تقديم القدرات المتنوعة المطلوبة للجنة المركزية.
• تحسين التركيب القيادي لاينفصل عن نضال الحزب السياسي الجماهيري في هذه المرحلة الحرجة التى تقرر مصير البلاد هل تظل موحدة ام تتقسم الى دويلات؟ ، وبالتالى من المهم جدا الوضوح في خط الحزب السياسي من حيث وثائقه ودورات اللجنة المركزية وضبط التصريحات والمقابلات الصحفية المنفلتة التى تلحق الضرر الجسيم بنشاطنا السياسي الجماهيري وتربك عضوية الحزب، في اتجاه استنهاض حركة جماهيرية واسعه من اجل انتزاع التحول الديمقراطي وتحسين احوال الناس المعيشية والحل الشامل لقضايا البلاد والصراع بحزم من اجل وحدة البلاد ، وتصفية الشمولية.وهذا يتطلب العمل المثابر في الشارع ووسط الجماهير والابتعاد عن العمل والتحالفات الفوقية التى اثبتت التجربة عدم جدواها ،وتحسين عملنا الدعائي والاعلامي والارتقاء بصحيفة الميدان مهنيا وسياسيا وفكريا وتشجيع نشر الرأى والرأى الآخر الذي يضفى حيوية على الصحيفة بدلا من مصادرته، مما يؤدى الى انصراف القراء والكتاب عن الصحيفة، والاستفادة من ملاحظات القراء لتطوير الصحيفة، وتأهيل فرع الحزب ليلعب دوره القيادي والمستقل في النشاط السياسي الجماهيري ، وتحسين مناهج واساليب العمل القيادى من فرع الحزب وحتى اللجنة المركزية.وأن تلعب اللجنة المركزية دورها في تقديم معالجات عميقة سياسية وفكرية لتعقيدات الوضع الراهن بما يساعد فروع الحزب والحركة الجماهيرية ، في نضالها من اجل التحول الديمقراطي وتحسين احوالها المعيشية وتوحيد البلاد ، وأن يلعب الحزب دوره المستقل في النشاط السياسي الجماهيري. وأن المعالجات السياسية والفكرية التنظيمية التى سوف تتناولها وثائق المؤتمر الخامس رهينة بانتخاب لجنة مركزية مقتدرة سياسيا وتنظيميا وفكريا.



#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(8)
- اتفاقية نيفاشا والصراع السياسي في السودان
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(4)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(5)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(6)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(7)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(3)
- تعقيب علي رسالة بروفيسور ساندرا هيل
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(2)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(1)
- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية: 1900- 1956م( الح ...
- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية: 1900- 1956(3)
- الماركسية وطبيعة الحزب في تصريحات الشفيع خضر
- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية: 1900- 1956م (2)
- حول ظاهرة الاسلام السياسي: اشارة للتجربة السودانية
- ماهو ديالكتيك العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي؟
- ماعلاقة دراسة المفهوم المادي للتاريخ بالواقع السوداني؟
- الماركسية والديمقراطية وحكم القانون وحرية الضمير والمعتقد
- نشأة الدولة في السودان القديم(2)
- تجربة الحزب الشيوعي السوداني في الصراع ضد الاتجاهات اليمينية ...


المزيد.....




- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - تاج السر عثمان - ملاحظات نقدية علي مشروع التقرير السياسي