أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - تاج السر عثمان - نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(4)















المزيد.....


نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(4)


تاج السر عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2367 - 2008 / 8 / 8 - 11:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


فترة المهدية ( 1885 _ 1898 )
جاءت فترة المهدية لتمثل حلقة أرقى في هذا التطور من خلال سعيها لتنظيم السوق وادارته وإصدار عملة محلية موحدة وسودنة التجارة ، فمعلوم أن هيمنة التجار الأجانب على التجارة في السودان كانت منذ أواخر سنوات سلطنة الفونج واتسعت بشكل كبير فى فترة الحكم التركي ، فالمهدية كانت أول في تاريخ السودان الحديث لتحرير التجارة من السيطرة الأجنبية ، والظاهرة الإيجابية الثانية كما لاحظ د . محمد سعيد القدال في هذا التطور هو تحول (الأسواق الموسمية إلي أسواق مستديمة ) ( د . القدال : السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ، ص 76 ) . فمعلوم أن أسواق الدامر ، شندى ، وغيرهما في فترة الفونج والحكم كانت أسواقا موسمية ، أي أسواق أسبوعية أو في أيام الأعياد على نمط الأسواق التي كانت سائدة في العصور الوسطى والتي تعكس سمات الإنتاج البضاعى الصغير وضعف نمو الطبقة التجارية .
وكان هذا تعبيرا عن اتساع الطبقة التجارية ، ولكن من جانب آخر فقد أدت الحر وبات والاضطرابات والفوضى التي سادت إلى إحجام التجار الأجانب عن ممارسة نشاطهم ، كما اضطرب تداول العملة وغيرها من النشاطات التي تهتز في حالة الحروبات مما اضعف فعالية النشاط التجاري في المهدية . العامل الآخر الذي قلل من النشاط التجاري هو تقلص الفائض من الإنتاج الزراعي للسوق بسبب اضطراب الأحوال ، ومعلوم أن الزراعة وتطورها هو المفتاح لتطور النشاط الصناعي والتجاري ، فكلما كان هناك فائض كبير في الإنتاج الزراعي ، زاد الميل إلى التخصص في النشاط التجاري والصناعي ، وبالتالي تقل الأيدي العاملة في الزراعة ، وتهاجر إلى المدن ، أي تزداد نسبة التحضر ، لأن مركز النشاط التجاري والصناعي هو في المدن ، ونلحظ أيضا في فترة المهدية هيمنة الدولة نسبيا على التجارة ، ويعتبر ذلك امتدادا بشكل جديد لهيمنة سلطان الفونج والفور على التجارة ( الذهب والرقيق ) ، وامتدادا لاحتكار دولة الحكم التركي على كل السلع عدا الرقيق . كما نلاحظ ظاهرة جديدة في فترة المهدية وهى وجود مصدر جديد من مصادر تراكم رأس المال التجاري للدولة ، يختلف عما كان عليه الحال أيام الفونج والحكم التركي ،وهو ملكية الدولة مثل الدكاكين والوكالات والعصارات والطواحين والبنوك أو الدكاكين الحرفية التجارية والمشاريع ، وبالتالي دخلت الدولة كمستثمر تجارى في تلك المشاريع التي أممتها وصادرتها من التجار الأجانب والمحليين مما زاد من هيمنة الدولة على التجارة ، سواء كان ذلك لأغراض عسكرية أو اقتصادية .
يمكن القول ، أن جذور ملكية الدولة في تاريخ السودان الحديث يجب أن نبحث عنها في ذلك الواقع الذي أحدثته المهدية ..


ثانيا: الأسواق
مع تراكم راس المال التجاري ونمو الرأسمالية التجارية وتدخل الدولة في التجارة عن طريق بيت المال ، استمرت الأسواق في الانتشار مثل سوق أمد رمان ود نقلا والأبيض وبربر وسواكن ، وهى تقريبا المدن التجارية نفسها السابقة ، ولكن الجديد هنا أن امدرمان حلت محل الخرطوم في فترة الحكم التركي ، كما ظهرت أسواق جديدة مثل سوق كورتى ، تنقسى ، ... الخ كما اتخذ الخليفة إجراءات إدارية لتنظيم سوق امدرمان مثل تعيين شيخ السوق ، وجود أماكن خاصة للنساء ، وتخصيص أماكن معينة لكل سلعة ، ومنع محاولات الغش ومحاكم للسوق وتوفير الأمن ومراقبة الأسواق ( د . القدال : المرجع السابق ص 79 _ 82 ) ، والظاهرة الأخرى الجديدة في فترة المهدية والمرتبطة بتطور التجارة والتعامل التجاري مثل شراء بعض التجار بضاعة في سواكن ودفع قيمتها في امدرمان ( بابكر بدري : تاريخ حياتي ، الجزء الثاني ، ص 126 _ 129 ) والتي ساعدت كما لاحظ د . القدال على ارتفاع نسبة الربح ، كما ازداد عدد التجار السودانيين من دنا قلة وجعليين ونوبيين واحترف بعض البقارة التجارة ، أي زاد حجم الرأسمالية التجارية ، ومن أهم البضائع التي كانت تعرض في الأسواق هي : الذرة ، البلح ، والمواشي والصمغ وسن الفيل وريش النعام والرقيق .
ثالثا: التجارة الخارجية:
كانت التجارة الخارجية في المهدية مع أسوان وسواكن ومصوع والحبشة ووداى ، وكان أهم الصادرات : الصمغ ، والريش والسن كما احتكر الخليفة السن لنفسه ، أما الصمغ فقد اخذ التجار ثلثه واعطاهم الثلثين ( شقير : المرجع السابق ) ، ويلاحظ سلاطين باشا ضعف القدرة لغالبية السودانيين من خلال تراكم وتكدس البضائع الغالية الثمن في المحلات التجارية ، أي عدم رواج البضائع الواردة الغالية الثمن بين السودانيين ، ومن جانب آخر كانت هذه البضائع المستوردة مثل الروائح العطرية من جميع الأصناف كزيت حب الصندل والقرنفل والحبوب ذات الرائحة الطيبة والسكر والمربى والأرز تجد رواجا بين الأكثر ثراءا ، أي أن التجارة الخارجية حافظت على سمتها الأساسية منذ أيام الفونج والحكم التركي من زاوية أنها كانت تجارة كمالية ، والواردات فيها تهم الحكام والطبقات الغنية . ومن الظواهر الملفتة للنظر في السنوات الأخيرة للمهدية هي نزوح كثير من التجار الأغنياء ألي مصر ، وكانت التجارة هي الوسيلة وجواز للهروب من ظلم الخليفة ( سلاطين باشا : السيف والنار في السودان ) ، واضح أن التجارة الخارجية وخاصة مع مصر تعرضت لاضطراب نتيجة لسياسة الدولة المهدية التي كان عنها الخليفة والتي كانت مزيجا من التشدد والتسامح ( د . القدال : المرجع السابق ص 111 _ 117 ) ، ورغم محاولات الخليفة لوضع قيود لمنع التهريب وتسرب العملاء والجواسيس ومحاولاته لإيقاف التجارة ، إلا انه فشل في ذلك وكمثال لحجم التجارة الخارجية يقول شقير : بلغت قيمة البضائع الصادرة بطريق أسوان وسواكن في سنة 1892 _ 1898 م نحو 477896 جنيها ، وقيمة البضائع الواردة نحو 397451 جنيها . ( شقير المرجع السابق ) .
رابعا: العملة:
في فبراير 1885 صدرت أول عملة للمهدية ، وصدرت في عهد الأمام المهدى ثلاث عملات (( جنية ذهب ، ريال فضة ، ونصف ريال )) . واجهت عملة الأمام المهدى مشاكل مثل التزوير والتهريب إلى مصر ، هذا إضافة للفوضى التي سادت تداول العملة وتعدد أنواعها وانعدامها أحيانا .. كما اصدر الخليفة عملة محلية أخرى ( فضية ) صدرت عام 1887 وهى فئة 20 قرشا ، 10 قروش ، وخمسة قروش ، وقرش واحد ، وذلك بعد إنشاء دار سك العملة بامدرمان ، وظلت هذه العملة مستعملة حتى 1309 ه (( 1892 م )) ، ولكنها كانت تستبدل كلما دعت الحاجة لذلك ، ثم بعد ذلك صدرت عملات عام 1892 م في عهد النور الجريفاوى عامل بيت المال وبكمية اقل وصدرت أخرى في عام 1893 م (( أبو كبس )) وفى عام 1894 م (( عملة وقيع الله )) ، وفى عام 1897 صدرت عملة شبيهه (( بأبي كبس )) وكانت من نحاس احمر ، وكانت هذه آخر عملة صدرت في عهد الخليفة . ( د . قدال المرجع السابق ص 87 _ 89 ) ، ويعكس لنا هذا العرض المتسلسل اضطراب الحالة الاقتصادية والسياسية والتجارية ، ويبدوا من إصدار أول عملة ذهبية في فترة المهدى أن النشاط التجاري كان منتعشا إضافة لوجود العملات الأجنبية ، ومنذ بداية عهد الخليفة الذي اصدر أول عملة فضية بدأت العملة تنخفض ، وبالتالي ترتفع الأسعار حتى أرغم الناس على قبول العملة النحاسية ، وكذلك انتشرت عمليات التزوير التي تلازم إصدار العملات في كل العالم ، وبالتالي تقلل من قيمتها أو تطرح فائض منها يؤدى إلى ارتفاع الأسعار ، وهذا التدهور كان من مظاهر اضمحلال دولة المهدية حتى زوالها على يد قوات كتشنر .
خامسا : مواقع تركز السلطة والثروة :
يمكن تحديد المواقع التي تركزت في أيديها السلطة والثروة في الآتي :
_ الحكام والأمراء والمشايخ:
وتشمل هذه الفئة الحكام : الخليفة وحكام الأقاليم (( العمال )) وكبار موظفي الدولة من عسكريين ومدنيين وامراء كما تشمل زعماء ومشايخ القبائل ، هذا إضافة للفئات العليا والمميزة من زعماء وكبار قبيلة التعايشة والخلفاء والملازمين والجهادية ، وقد جمع هؤلاء بين السلطة والثروة من مواقعهم ومناصبهم ومن حيازتهم للأراضي التي تمت غنيمتها
وعلى سبيل المثال منحت أطيان ولد الفحل بجزيرة الحلفايا للأمير عبد المولى صابون ، وهناك عدة سواقي ومساحات من أراضى بيت المال أعطيت للأنصار بمنطقة دنقلا ودارشايقية ، ومثال آخر طين احمد باشا بالكاملين التي صادرها المهدى بحكم أنها من أملاك الترك أعطاها إلى الطيب نور الدائم ، ويبدوا أن العطاء بهذا الوجه كان كثيرا ، وقد تضايق إبراهيم عدلان أمين بيت المال من كثرة المستفيدين منه فقيده في حدود من يحملون أوامر مكتوبة بها من المهدى أو الخليفة ، كما نسمع عن عزل واعتقال احمد سليمان (( أول آمين لبيت المال )) بتهمة الثراء ولذلك تم تفتيش منزله ، ووجد به حسب رواية اهر ولدر : خمسة آلاف جرام من الذهب الصافي ، ويمكن أن نلاحظ التفاوت الكبير في المرتبات الشهرية ، فقد كان على سبيل المثال مرتب آمين بيت المال (( 50 ريالا )) ومرتب قاضى الإسلام (( 40 ريالا )) ، بينما كان مرتب الجندي الأنصاري يساوى خمسة قروش (( نصف ريال )) ( د .القدال : المرجع السابق ص 175 )
_ التجار:
اتسعت الرأسمالية السودانية التجارية في فترة المهدية ، وبالتالي زاد أفراد هذه الفئة ، وهذه الفئة التي ازداد ثراؤها لها علاقة وارتباطات بالحكام بينما تقلص نفوذ التجار الأجانب والتجار المعارضين للمهدية ، وقد اصبح كثير من البقارة تجارا أثرياء ومن أصحاب الريالات اللامعة كما تشير وثائق المهدية التي تحدثت عن (أهل الثروة والاقتدار ) ، وظهر ذلك في وجود ثروات طائلة لدى بعض التجار فمثلا بلغت تبرعات تجار بربر في عام واحد خمسة وسبعون ألف ريال وخمسة عشر ألف إردب ذرة ودفع أحد التجار غرامة بلغت ستة آلاف ريال و أخر خمسة آلاف ريال وعندما صادر الخليفة أموال التاجر عمر كشة بلغت قيمتها في المرة الأولى والثانية ثلاثون آلف ريال على التوالي ( د . القدال : المرجع السابق ص 106 ) هذا وقد حقق التجار أرباحا في مجاعة سنة 1306 ه عندما ارتفعت أسعار الذرة وغيرها من الأسعار بشكل جنوني . كما بلغت الأموال التي تمت مصادرتها من الياس أم برير ( 1761 ريالا ) . وتفيد وثائق المهدية بمعلومات كثيرة عن ثراء التجار فمثلا بلغ إيجار مصنع الصابون الذي كان يؤجره بعض التجار في شهر محرم 1315 ه ( 7071 ريال ) ، إذا كان هذا هو الإيجار ، فيمكن تصور الأرباح الكبيرة التي كان يحققها هؤلاء التجار من إدارة هذا المصنع .. كما تفيدنا الوثائق أيضا عن مشاريع الحكومة الأخرى كانت تؤجرها للتجار مثل مشارع امدرمان ( 4 مشارع ) التي كان يبلغ إيجارها السنوي ( 13500 ريال ) كان يدفعها سنويا هؤلاء التجار ( د . القدال : المرجع السابق ، ص 156 ) ورغم عزلة المهدية بشكل جزئي عن السوق العالمي ومحاصرتها تجاريا على النطاق العالمي ، إلا أن الرأسمالية التجارية واصلت نموها وازدهارها واستمرت التجارة مع العالم الخارجي ، وان كان بشكل اقل من فترة الحكم التركي ، وبالتالي تغلبت المصالح التجارية والمادية على الحواجز الأيديولوجية .







أولا : سمات البنية الاجتماعية :
أ _ من أهم سمات البنية الاقتصادية _ الاجتماعية للمهدية أنها كانت مستقلة عن السيطرة الأجنبية ، وهى امتداد للممالك السودانية المستقلة . ويمكن القول ، أن تاريخ سودان وادي النيل عبر تلك الممالك والد ويلات هو تاريخ الاستقلال والسيادة الوطنية ، فمنذ تأسيس أول حضارة سودانية قبل 3000 سنة ق . م ، لم يتعرض السودان لاحتلال مصري إلا بعد فترة حضارة كرمة الذي استمر خمسمائة عام وخلال فترة الحكم التركي المصري الذي استمر 64 عاما . أي أن فترة الاحتلال مقارنة بطول هذه الفترة التاريخية كانت ضئيلة ، وبالتالي يمكن القول ، أن الثورة المهدية جاءت امتدادا وتطورا للتشكيلات الاقتصادية _ الاجتماعية السودانية المستقلة ، وكان الدفاع عن الوطن دائما مرتبطا بالدفاع عن العقيدة الدينية ، وفى هذا الإطار نفهم ارتباط الدفاع عن الوطن واستقلاله في المهدية بالدفاع عن الدين .
وهذه واحدة من خصوصيات وسمات ممالك السودان القديم والوسيط المستقلة والتي جاءت دولة المهدية امتدادا لها .
ب _ في فترة الحكم التركي كان كل الفائض الاقتصادي يذهب إلى الخارج، وفى فترة المهدية توقف هذا الاستنزاف لفترة 13 عاما.. قبل الاحتلال الإنجليزي المصري الذي واصل استنزاف وتدفق الفائض الاقتصادي للخارج، وكان هذا جذرا أساسيا من جذور تخلف السودان الاقتصادي والاجتماعي.
ج _ لأول مرة في تاريخ السودان الحديث ، تطرح المهدية مسألة الأرض أو الإصلاح الزراعي ( إذا جاز استخدام هذا المصطلح ) حيث لاحظنا إن الأمام المهدى في أول منشور له في غرب السودان ألغى الملكية الخاصة للأرضي وطرح شعار الأرض لمن يفلحها من منظور أيديولوجية المهدى وهى أن الأرض لله .. كان هذا في القترة ( 1881 _ 1884 ) وعندما كان غالبية الثوار من الفقراء المعدمين من الرعاة والمزارعين ولكن في الفترة ( 1884 _ 1885 م ) تراجع المهدى واقر الملكية الفردية للأرض (( د . محمد إبراهيم أبو سليم : الأرض في المهدية 1970 )) ، كما قامت ملكية الدولة للأرض بعد مصادرة أراضى الأجانب والتي كانت علاقات التوزيع فيها تتم بين الدولة والمزارعين ، أما بالريع أو الثلث أو النصف ، أما علاقات الإنتاج العبودية فقد بقيت كما هي ، ويمكن القول أن المهدية أحدثت تغييرا جزئيا جديدا في علاقات الإنتاج
د _ أنشأت المهدية نظاما للضرائب استند إلى الشريعة الإسلامية وهو في جملته كان مبررا ، ولكن مع اتجاه الدولة إلى الاستبداد في السنوات الأخيرة ، ومع تضخم جهاز الدولة وحروباتها الكثيرة ، أي تضخم الجيش والصرف عليه ، زادت الأعباء الضريبية على الناس وأرهقت كاهلهم مم أدى لتذمر الناس منها
و _ ألغت المهدية التعليم المدني الذي ادخله الحكم التركي بهدف تخريج كتبة وموظفين ومحاسبين لمد احتياجات جهاز الدولة بهم ، فلأول مرة شهد السودان تدريس علوم مثل الرياضيات والموسيقى واللغة التركية والعلوم (( كيمياء ، فيزياء )) ، كما ألغت مدارس التدريب المهني (( مدرسة التلغراف والنقل النهري )) ، واقتصر التعليم على الخلاوى فقط ، أي حدث تراجع إلى بداية التعليم الذي كان سائدا أيام الفونج بدلا من الانطلاق منه لتطوير التعليم ، وكان هذا جانبا سلبيا ، ولكن نلاحظ أن إدارة الدولة المهدية استفادت من خريجي هذه المدارس فى إدارة مؤسسات الدولة الاقتصادية (( بيت المال )) ومؤسساتها الصناعية ( صناعة البارود والذخيرة )) ، ويبدو أنها استطاعت أدرتها بكفاءة ويتضح ذلك من الحسابات الدقيقة للدخل والمنصرف (( ميزانية بيت المال )) بعد الاستفادة من خبرات الخريجين (( كما أشار د . القدال )) ، أي أن المهدية أدخلت منجزات العلم والتقنية الحديثة في جهاز دولتها ، ولكن التناقض في أنها قفلت منابع خريجي تلك المدارس بعد إغلاق مدارس التعليم المدني والتبشيرى .
ز _ أدخلت المهدية نظاما اقتصاديا جديدا جدير بالدراسة من جانب المتخصصين والاقتصاديين ، وهو أن المهدية أممت ترسانة الخرطوم (( المشارع )) أو مؤسسة النقل النهري ، كما أممت العصاصير والطواحين ومصنع الصابون ومصنع الذخيرة ، أي كل المؤسسات الاقتصادية الهامة والاستراتيجية التي كانت موجودة في فترة الحكم التركي ، هذا جانب ، أما الجانب الآخر الذي يجب أن نلاحظه أن الدولة (( فيما عدا مصنع الذخيرة )) لم تدر هذه المؤسسات الاقتصادية إدارة مباشرة ، بل كانت تؤجرها للتجار الذين كانوا بدورهم يقومون بتشغيلها مقابل أيجار شهري أو سنوى ، وكان عائد الدولة كبيرا من تلك العملية ، كما أن أرباح التجار كانت كبيرة ، وهذا مثال من التجربة التاريخية حول كيفية التعامل مع مؤسسات قطاع الدولة ..
ح _ تطورت التجارة الداخلية واستمرت التجارة الخارجية والارتباط بالسوق الرأسمالي العالمي رغم الحواجز الأيديولوجية، ورغم محاصرة المهدية تجاريا، ولكن بدرجة اقل عما كان عليه الحال أيام الحكم التركي _ المصري.
كما شهد السودان في تلك الفترة تطور النظام التجاري واتساع الطبقة التجارية ، وتزايد الإنتاج من اجل السوق ، وظهرت الأسواق المستديمة ، إضافة للأسواق الموسمية كما تطورت الصناعة الحرفية وجمعت الطبقة التجارية ثروات طائلة ، أي حققت تراكما كبيرا فى راس المال التجاري ، ولولا تخلف الزراعة الذي كان بسبب حروب المهدية وإهمالها للزراعة ، ولولا الحصار العالمي ، كان من الممكن أن تلج الطبقة التجارية ميدان الصناعة ، وخاصة أن بعضها كان ناجحا في إدارة مصنع الصابون ومشاريع الدولة التجارية الأخرى مثل المشارع والطواحين والعصاصير ، ولكن الاستعمار الإنجليزي _ المصري قضى على الصناعات الحرفية التي كانت مزدهرة أيام المهدية (( نسيج ، أحذية ، حدادة ، .. الخ )) كما توضح خريطة سوق أمد رمان أيام المهدية .
وبدخول البضائع الإنجليزية الجيدة الصنع، وبكميات كبيرة وبدون جمارك من أقمشة وأحذية وأدوات منزلية وبأسعار رخيصة، تم القضاء على الصناعات الحرفية..
وعليه ومنذ تلك اللحظة استمر التخلف الاقتصادي والاجتماعي من خلال تخصص السودان في إنتاج محصول نقدي (( القطن )) ، وبالمقابل اصبح السودان مستهلكا للبضائع الأوربية ، وتم تدمير الصناعة الوطنية وتوقف التنوع في زراعة المحاصيل الغذائية الأخرى .
ك _ عرفت التشكيلة الاقتصادية _ الاجتماعية المؤشرات العامة للتخلف مثل انتشار الأوبئة والأمراض والمجاعات التي فتكت بالناس وتخلف المواصلات وضعف القوى المنتجة في الزراعة التي بسببها لم تستطع المهدية تامين فائض كافي من الغذاء تواجه به المجاعات والكوارث الطبيعية ، كما تراجعت البدايات والأسس العلمية التي أدخلتها الحكومة في مكافحة الجراد الذي كان من الآفات التي تهدد الإنتاج والمحاصيل الزراعية ، إضافة للضرائب الباهظة ، وتموين الجيوش غير المنتجة ، كل ذلك قلل من الإنتاج الزراعي ، والذي يعتبر هاما لانطلاق الصناعة والتجارة ولكن المهدية لم تعرف مشكلة أو مؤشر الانفجار السكاني ، وبالعكس ، فان السودان في نهاية دولة المهدية كان يعانى من مشكلة نقص سكاني ، حيث قضت حروب المهدية على ثلاثة أخماس سكان السودان حسب تقدير نعوم شقير ، والذي يقدر عددهم في السنوات الأخيرة لفترة الحكم التركي (( 9 ملايين نسمة )) أي تقلص إلى حوالي سبعة مليون .
كما عرفت فترة المهدية هجرات واسعة من الريف إلى المدن لأغراض اقتصادية وحربية ، أي زادت نسبة التحضر ، ولكن ظلت الغالبية العظمى من السكان تعيش على الزراعة والرعى واكثر من 90 % من السكان كانوا يعيشون في القطاع التقليدي (( المعيشي )) ، أي أن الاقتصاد في ، ورغم دخول اقتصاد السلعة _ النقد وبروز الرأسمالية التجارية والصناعية ، ظل في غالبيته العظمى اقتصادا تقليديا عندما غزت قوات كتشنر السودان عام 1898 م .
ثانيا : الدولة وحالة الفكر والثقافة :
_ رغم أن دولة المهدية كانت دولة دينية ، إلا أنها شكلت حلقة أوسع في مسار تطور الدولة السودانية المستقلة ، من زاوية أنها نشأت نتيجة لثورة شعبية مسلحة ، وضمت قيادات من أصول قبلية واجتماعية متباينة ، ويمكن القول أن تاريخ الدولة السودانية المستقلة الحديثة يبدأ بقيام دولة المهدية ، كما أنها شكلت رقعة جغرافية أوسع من الممالك السودانية السابقة المستقلة ، كما استنبطت المهدية النظم المناسبة لجهاز دولتها والتي استمدت من تجربة وتاريخ الدولة الإسلامية ومن جهاز دولة الحكم التركي السابق
لم تعرف المهدية مفهوم الكتلة الصماء من الانسجام والوحدة ، فقد عرفت المهدية المعارضة من المنطلقات الدينية والقبلية والطبقية كما عرفت الصراع على السلطة ، وكان من نتائج ذلك الصراع أن فقدت المهدية اغلب قياداتها التاريخية ، نظرا لأن الصراع كان يدار بالقمع و الاستبعاد والسجن والإعدام ، مما أدي في النهاية إلى تآكل دولة المهدية من الداخل الأمر الذي كان من أسباب هزيمتها أمام قوات كتشنر .
_ النظام الاقتصادي _ الاجتماعي الذي نشأ بعد الثورة المهدية ، وما نتج عنه من حروبات وفوارق اجتماعية فرض على المرأة الخروج بشكل واسع في المدن بهدف العمل التجاري ، وانتاج المنتجات المنزلية من اجل السوق ، وهذا هو التطور الذي شهدته المرأة في المهدية ، ولكن تشريعات الأمام المهدى لم تأخذ في الاعتبار واقع المرأة في المجتمع السوداني يومئذ ، والتي كان لها دور كبير في النشاط الاقتصادي ، والتقسيم الاجتماعي للعمل بين الرجال والنساء ، ولاسيما في مجتمع تعيش غالبيته العظمى في القطاع المعيشي حيث كانت المرأة تعمل بالزراعة ، وبناء المساكن والتجارة ، أي أن خروج المرأة كانت تفرضه الضرورة الاقتصادية ، وبالتالي واجهت المهدية صعوبة في حجر النساء وحجابهن
واخيرا كان الإمام المهدى ومن بعده الخليفة مرنا حين سمح للنساء في العمل التجاري في أسواق المدن ، ولكن كانت هناك جوانب إيجابية في تشريعات الإمام المهدى مثل : منع الزواج بالإكراه . ولكن من زاوية أخرى كانت هناك تشريعات مجحفة في حق المرأة مثل : جلد المرأة التي تخرج للسوق ، وفى الطرقات أو التي تقف كاشفة الرأس تتحدث بصوت عال ، وغير ذلك من العقوبات التي كانت تجلد فيها المرأة . فجلد المرأة كان لا يتناسب مع دورها في التقسيم الاجتماعي للعمل ولا يتناسب مع دورها البطولى الذي لعبته في الثورة المهدية وفى استنفار المقاتلين للصمود ، وفى إتقان العمل السري ، والاهتمام بالمعلومات ونقلها للقيادة في الوقت المناسب والتي كانت هامة وحاسمة في كثير من معارك المهدية .وكان ذلك من المفارقات والتناقض في سياسة المهدية تجاه المرأة .
_ الثورة المهدية كحركة تحرر وطني لم تكن نشازا ، وانما كانت جزءا من الثورات الوطنية والشعبية والعمالية التي شهدها العالم في القرن التاسع عشر .
_ أما عن حالة الفكر والثقافة في المهدية ، فقد كانت بائسة وفقيرة من جراء حروب المهدية المتواصلة ، وأيديولوجية المهدية نفسها التي لم تكن متسامحة مع الآراء الاجتماعية والدينية الأخرى لكونها الإسلام الصحيح الوحيد .
وعليه كما يشير د . محمد إبراهيم أبو سليم في مؤلفه (( الحركة الفكرية في المهدية )) ، أن اغلب مؤلفات المهدية كانت عبارة عن التعريف بالمهدى والمهدية أو المديح والتطبيل للنظام شعرا ونثرا ، كما عكست الكتابات أيضا واقع المجتمع الحربي الذي عاشته المهدية ، وما يعنى ذلك من فراق الأهل والأوطان والحنين إلى الوطن والأوطان .
ومن المحن التي شهدتها الثقافة في المهدية هي حرق الكتب الذي كان قرارا خاطئا ، وجاء إغلاق مدارس التعليم المدني ليسد كوة كان ينفذ منها شعاع من نور العلوم الحديثة التي كانت تدرس في تلك المدارس .
_ كما إن المهدية اتخذت قرارات تتعلق بالبنية العلوية الثقافية والاجتماعية للقبائل وذات جذور راسخة في حياة وتقاليد الناس مثل منع الغناء والرقص والدلاليك والنحاس وضرب المزامير ومنع الألعاب مثل :لطاولة والطاب ، هذا إضافة لمنع التمباك والتبغ ، ورغم الجلد والقمع ، إلا أن الواضح أن تلك العادات كانت مستمرة ، مما يشير إلى أن القضايا التي تتعلق بالبنية الثقافية من المستحيل إزالتها بقرارات أو قوانين عقوبات ، وانما تحتاج مواجهتها لتنمية وتطوير عادات ثقافية بديلة .
_ شهدت المهدية نشاطا ثقافيا وفكريا معارضا تمثل في كتابات العلماء والفقهاء حول المهدية، كما تمثل في الشعر والنثر والغناء الشعبي الذي كان معارضا للمهدية.
وصفوة القول، إن حالة الفكر والثقافة كانت في قحط وجدب خلال فترة المهدية.












#تاج_السر_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(5)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(6)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(7)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(3)
- تعقيب علي رسالة بروفيسور ساندرا هيل
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(2)
- نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(1)
- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية: 1900- 1956م( الح ...
- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية: 1900- 1956(3)
- الماركسية وطبيعة الحزب في تصريحات الشفيع خضر
- خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية: 1900- 1956م (2)
- حول ظاهرة الاسلام السياسي: اشارة للتجربة السودانية
- ماهو ديالكتيك العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي؟
- ماعلاقة دراسة المفهوم المادي للتاريخ بالواقع السوداني؟
- الماركسية والديمقراطية وحكم القانون وحرية الضمير والمعتقد
- نشأة الدولة في السودان القديم(2)
- تجربة الحزب الشيوعي السوداني في الصراع ضد الاتجاهات اليمينية ...
- الأزمة في دارفور: مفتاح الحل بيد السودانيين
- نشأة الدولة في السودان القديم
- المفهوم المادي للتاريخ: هل هو بديل لدراسة الواقع والتاريخ ال ...


المزيد.....




- لافروف يتحدث عن المقترحات الدولية حول المساعدة في التحقيق به ...
- لتجنب الخرف.. احذر 3 عوامل تؤثر على -نقطة ضعف- الدماغ
- ماذا نعرف عن المشتبه بهم في هجوم موسكو؟
- البابا فرنسيس يغسل ويقبل أقدام 12 سجينة في طقس -خميس العهد- ...
- لجنة التحقيق الروسية: تلقينا أدلة على وجود صلات بين إرهابيي ...
- لجنة التحقيق الروسية.. ثبوت التورط الأوكراني بهجوم كروكوس
- الجزائر تعين قنصلين جديدين في وجدة والدار البيضاء المغربيتين ...
- استمرار غارات الاحتلال والاشتباكات بمحيط مجمع الشفاء لليوم ا ...
- حماس تطالب بآلية تنفيذية دولية لضمان إدخال المساعدات لغزة
- لم يتمالك دموعه.. غزي مصاب يناشد لإخراج والده المحاصر قرب -ا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - تاج السر عثمان - نشأة وتطور الرأسمالية السودانية(4)