أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدّين بن عثمان - حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ودور المثقّفين والعلماء. الجزء الثّاني:















المزيد.....


حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ودور المثقّفين والعلماء. الجزء الثّاني:


عزالدّين بن عثمان

الحوار المتمدن-العدد: 2367 - 2008 / 8 / 8 - 11:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قلت في الجزء الأوّل من هذا المقال إنّ الحكومات العربيّة تطبـّـق ديمقراطيّة مزيّفة. ويعلـّـل الحكـّـام عدم إسراعهم إلى تطبيق ديمقراطيّة حقيقيّة يتمتـّـع فيها المواطن بالحرّية الكاملة ويعمل فيها المعارضون بكلّ حرّية بحجج عديدة. بعض الحكـّـام يقولون إنّ الانتخابات الحرّة قد تؤدّي إلى فوز الإسلاميّين وهم معادون لإسرائيل والغرب. وهذا تبرير مضحك لأنّ كلّ حاكم يقول هذا إنـّـما يسخر من شعبه ويوحي بأنّ مواطنيه متخلـّـفون ولا يحسنون الإختيار. ولو كان الشـّـعب مثقـّـفا ولو كانت أفكار المجتمع المدنيّ مترسّخة فإنـّـه لن يختار سوى الشـّـرفاء الذين يخدمون مصالحه ومصالح بلده. وأمـّـا التـّـبرير الثـّـاني فيتلخـّـص في القول بإمكانيّة المضيّ التـّـدريجيّ نحو الدّيمقراطيّة وذلك باتـّـباع مراحل أنتقال محدّدة. وهذا التـّـبرير فيه تلاعب أيضا لأنّ الحاكم العربيّ سجن شعبه في أدنى تلك المراحل الانتقاليّة كما أنّ هذا القول لا يعبـّـر عن "حتميّة الانتقال" إلى الدّيمقراطيّة الكاملة، وإنـّـما يؤكـّـد على أنـّـه لا بدّ من مرحلة أوّليّة يسمـّـونها "مرحلة التـّـحديث" التي تهدف إلى أيجاد البنى التـّـحتيّة للمجتمع المدنيّ ويستند هذا الرّأي إلى "نظريّة التـّـحديث" التي تقول بضرورة إيجاد الموسّسات الدّيمقراطيّة أوّلا. فهل تلك المؤسّسات منعدمة في بلداننا أو أنـّـها غير صالحة؟

إنّ نظريّة التـّـحديث هذه تركـّـز على ضرورة تواجد الأطر السـّـياسيّة أوّلا لأنـّـها هي التي تضمن إجراء الانتخابات لكنّها في الواقع تسعى إلى ضرب استراتيجيّات قوى المعارضة بكلام خاو. ومن المعلوم أنّ الأطر التـّـنظيميّة والمؤسّساتيّة وتنظيم القوى الحزبيّة ومختلف الجمعيّات المدنيّة تقوم عليها الدّيمقراطيّة. ولكنّ الدّراسات العربيّة لا تولي اهتماما لمسألة الانتخابات والعوائق التي تقف حجر عثرة في طريقها وتلك رغبة الحكــّـام. هل ثمـّـة باحث عربيّ يكتب اليوم عن مسائل الإنتخابات دون إطراء الحاكم سالكا في ذلك مسلك أبي يعلى الفرّاء وعلماء البلاطات التـّـاريخيّين؟ إنّ الكتب التي تؤلـّـف في العالم الغربيّ حول الدّيمقراطيّة والانتخابات والحرّية تعدّ بالآلاف سنويّا ولكنّ الكتب التي تترجم منها إلى العربيّة لا يتجاوز عددها العشرة سنويّا. ولقد حدّدت جمعيّة بحثيّة بريطانيّة ندرة التـّـرجمة للعربيّة كسبب مباشر للجهل يؤدّي حتما إلى بروز التـّـطرّف. ولم تكن الجمعيّة تتحدّث عن الكتب المتعلـّـقة بعلم السّياسة وإنـّـما عن الكتب العلميّة بصفة عامـّـة.

وعلى العموم، تدخل الدّعوات المشدّدة على ضرورة ارساء الدّيمقراطيّة في الوطن العربيّ في إطار ما يسمـّـى "دمقرطة" البلدان الاسلاميّة ويحتوي هذا الاتـّـجاه على قدر كبير من الأدبيّات والنـّـماذج المؤسّسيّة التي يتمّ اقتراحها على أنـّـها الأفضل في توطيد الدّيمقراطيّة. ويؤكـّـد باحثون كثر على الدّور الذي يمكن أن يلعبه التـّـغيير المؤسّسي في تهيئة الظـّـروف الملائمة للدّيمقراطيّة ويقولون إنّ التقدّم المرحليّ يؤدّي في النـّـهاية إلى تقويض الحكم الاستبداديّ. لكن ليس لحركات المعارضة الدّاخليّة أيّ تأثير في شكل السّياسة الانتخابيّة وليس لها رؤى بشأن الهياكل الانتخابيّة التي ظلـّـت في بلداننا فريدة من نوعها. وليست المؤسّسات الحاليّة بمؤسّسات مكتملة ولن تكون المؤسّسات المقترحة عاملا أساسيّا في ضمان الدّيمقراطيّة إذا لم يتم الفصل بين السـّـلطات الثـّـلاث وتمكين المواطن من الحرّية وذلك بواسطة القانون والسـّـلط التـّـشريعيّة. وهذا الموضوع يكتسي أهمـّـية لأنّ القانون هو الذي يضمن الدّيناميكيّة الدّاخليّة والمنظـّـمات الحزبيّة في تفاعلها هي التي تصوغ الاستراتيجيـّـات التي يعتمدها البلد. وهذا لن يتحقـّـق إلاّ بالقانون إلاّ أنّ الحكومات العربيّة تعتمد فقط على القوى الموالية لها وأظهرت دهاء في التـّـلاعب بالقوانين ممّا مكـّـنها بالتـّـلاعب بنتائج الانتخابات والتـّـحكم بالسّياسة الحزبيّة. معنى هذا أنّ الاجراءات الانتخابيّة والحزبيّة تضمن بقاء الحزب الواحد في السّلطة لأنّ القوانين تقيّد بقيّة الأحزاب.

ولكي لا أطيل في معالجة هذه النـّـقطة أقول إنّ وضع استراتيجيّات واضحة المعالم صادرة عن رغبة في تقاسم السـّـلطة والتـّـناوب عليها يقطع الطـّـريق على المحاولات العنيفة التي تهدف إلى افتكاك السـّـلطة وينهي حالة العنف التي قد تندلع بين قوات المعارضة نفسها. ولن يتمّ هذا إلاّ بالإعتراف بالأحزاب المعتدلة المحظورة. وهذا يدخل في إطار إدارة المجموعات الحزبيّة وتمكينها من العمل في السـّـاحة الانتخابيّة ممّا يقلـّـل من هيمنة الدّولة. الانتخابات المحلـّـية وتنظيم ومراقبة الانتخابات البرلمانيّة عن طريق هياكل تتمتـّـع بصلاحيـّـات كاملة ولا تقيـّـدها قيود يؤدّي إلى إنجاح العمليّة الدّيمقراطيّة. ومن الشـّـروط الأخرى أن تتجنـّـب قوى المعارضة الصّراع الإيديولوجيّ لأنّ تلك الصّراعات تساهم في تهميش المواطن العربيّ. إنّ سياسات الحكـّـام العرب وقوى المعارضة على حدّ سواء تمتاز بأنـّـها سياسات قصيرة الأجل محدودة الأهداف والتـّـوقـّـعات وتلك معضلة.

وبصراحة لم نرى مشاركة واسعة في الحياة السـّـياسيّة لنشطاء المعارضة وبالرّغم من ذلك لن يؤدّي عزل المعارضة إلاّ إلى تآكل النـّـظم السـّـلطويـّـة الاستبداديّة إن عاجلا أو آجلا. وأمـّـا البرلمانات القائمة حاليـّـا فإن كان يدخلها البعض من رموز المعارضة ومن المستقلـّـين فإنّهم يظلـّـون بلا وزن ولا تأثير. وهذه البرلمانات التي يحتلـّـها تابعو الحزب الحاكم ليس لها من مهمـّـة تشريعيّة سوى التـّـصديق على المبادرات التـّـشريعيّة الصـّـادرة عن الدّولة التـّـي يتزعّمها الحزب الواحد. وتلك المجالس التـّـشريعيّة (البرلمانات) تعطي الانطباع بأنّ الحزب الحاكم يتمتـّـع بولاء شعبيّ وتجعل عمليـّـة محاكمة المسؤلين التـّـنفيذيـّـين عسيرة عندما يرتكبون جرائم.

وهناك تقارير تفيد بأنّ بعض الحكـّـام العرب يتشاورون مع الخبراء الدّوليّين بشأن العمليـّـات الانتخابيّة قبل وقوعها. وعند حصول الانتخابات يتمّ الإكراه والتـّـزوير. وفي ظلّ ذلك نجد أنّ قوى المعارضة غير قادرة على ملء الفراغ الثـّـقافي والسّياسيّ عن طريق مراجعة الاستراتيجيات السّياسيّة أوّلا والتـّـعاون فيما بينها ثانيا. ولا يتمّ التـّـعاون لأنّ درجة التـّـماسك بالمعنى الاجتماعيّ والسّياسيّ للكلمة غير متوفـّـرة ممّا يؤدّي ببعض الأحزاب إلى مقاطعة الإنتخابات. وأمـّـا القوى المعارضة التي تقرّر المشاركة فينظر إليها على أنـّـها انتهازيّة. ولا تخلو أحزاب المعارضة من النـّـفاق إذ تنتقد الانتخابات بالرّغم من مشاركتها فيها وهذا يزيد من عزلتها داخل القواعد الشـّـعبيّة. ولا تكون المقاطعة فعـّـالة ولا يكون لها أثر إذا لم تكن مرتبطة بمطالب محدّدة سياسيّة وتشريعيّة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ المأزق العربيّ المتمثـّـل في الاستبداد يمكن الخروج منه إذا ما بذلت قوى المعارضة جهدا تعاونيّا فيما بينها. لكنّ التـّـنسيق غير ممكن في كثير من الأحيان نتيجة الصّراعات الإيديولوجيّة كما قلت ومن الصّعب إرساء التـّـعاون لأنّ الإختلافات قد تمسّ مسائل جوهريّة وعقائديّة أحيانا. وفي كثير من الأحيان لا تولي أحزاب المعارضة أهمـّـية لكسب الولاء الشـّـعبيّ عبر التـّـوعية وإنـّـما يكون هدفها نيل الاعتراف من خلال الخطب التي تـُـقدّم من أعلى المنابر. كما أنّ بعض المنظـّـمات أكثر تضحيّة من غيرها إذ تعمـَـد إلى المقاطعة والمقاطعة تمثـّـل ما يـُـعرَف في الفلسفة بمأزق السّجين الكلاسيكيّة لأنـّـها تمنع الأطراف الضـّـعيفة من التـّـحالف مع غيرها بهدف الحصول على منافع مشتركة. وتؤدّي المقاطعة إلى الإخلال بالانضباط الحزبيّ وتسبّب الانشقاق داخل الحزب. ولذلك فإنّ الأحزاب في العالم الغربيّ لا تعمـَـد أبدا إلى المقاطعة لأنّ المشاركة تمكـّـنها من إثبات الممارسات الغير قانونيّة التي قد تحصل ضدّها.

الاختلافات بين الاحزاب قد تكون استراتيجيّة وقد تكون نابعة من الانتهازيّة الهادفة إلى نيل اهتمام الإعلام الغربيّ. ولكنّ الخلافات بين الأحزاب تتلخـّـص في الاتـّـهامات بالتـّـبعيّة لجهة معيّنة أو العمالة لبلد معيّن. ويكون التـّـطاحن بين قوى المعارضة ممكنا وذلك لانعدام ما يسمّى معايير العلاقات العامـّـة بين الأحزاب وهو عبارة عن نصوص قانونيّة تنظـّـم علاقة الأحزاب ببعضها وهو أمر هامّ لأنّ وجوده يعزّز قدرة المعارضة ويوضـّـح ما يمكن أن تقوم به وما لا يمكنها القيام به.

معنى الدّيمقراطيّة:

ظهرت الدّيمقراطيّة في بلاد الإغريق القديمة ولكنّ رؤى الإغريق كانت تفتقر إلى مفهوم واضح للمساواة. وقد لعبت المسيحيّة ثمّ الإسلام دورا في إرساء الوعي بضرورة المساواة بين كلّ النـّـاس وفي هذا الصّدد تكفي الإشارة إلى قولة عمر بن الخطـّـاب رضي الله عنه "متى تعـبـّـدتم النـّـاس وقد ولدتهم أمـّـهاتهم أحرارا؟". ولئن ظلّ مفهوم الحرّية ومبدأ الإرادة الحرّة لدى المسلمين متعارضين مع مبدإ القضاء والقدر وهي قضيّة لم يتمّ الحسم فيها إلى يومنا هذا فإنّ فلاسفة المسلمين والفلاسفة الغربيّين من بعدهم ينطلقون في معالجة القضايا السّياسيّة من الافتراض بأنّ كلّ إنسان يتمتـّـع بصفة العقل الذي وهبه إيّاه الله. وذلك العقل يقود إرادته الحرّة ويمكّنه من التـّـحكـّـم بحياته. وقد منحت بعض الفلسفات الغربيّة أسبقيّة للعقل على مبدإ الإرادة الحرّة. ولقد رسّخت مرحلة عصر التـّـنوير عقيدة العقلانيّة والفرديّة في نفس الوقت ولكنّ الثـّـورة الفرنسيّة ، في واقع الأمر، جعلت إرادة الفرد الحرّة خاضعة لإرادة الأغلبيّة بالرّغم من كونها مصدر السّلطة المدنيّة في المجتمع. وثمـّـة من يقول بأنّ الإرادة الحرّة لها الأسبقيّة على العقلانيّة. وفي أصلها تعني كلمة ديمقراطيّة "حكم الشـّـعب من طرف الشـّـعب ولمصلحة الشـّـعب" ولكنّ مفاهيم الدّيمقراطيّة وأساليب ممارساتها تطوّرت عبر الزّمن.

وتفيد كلّ النـّـظريّات بأنّ المجموعات البشريّة تطوّرت من حكم الغاب نحو الحضارة ومن الفوضى نحو النـّـظام وبذلك تميّز الإنسان عن الحيوان لأنـّـه قادر على التـّـعلـّـم وعلى استعمال العقل ولكن باقي الكائنات ذوات الحسّ غير قادرة على ذلك. النـّـاس ينظـّـمون أنفسهم في مجتمعات من أجل العمل مع بعض ولأنّ كلّ واحد منهم يحتاج إلى باقي أعضاء الجماعة أو المجتمع. ولن تتوفـّـر السـّـعادة والأمن للجميع إلاّ عندما ينسّق الأفراد مجهوداتهم ويعملون معا على بلوغ أهدافهم. ولذلك فإنّ اقتسام السـّـلطة وممارسة الحقوق يسهـّـلان عمليّة التـّـعايش مع بعض. غير أنّ النـّـظريّات المتعلـّـقة بالمجتمع المدنيّ تبقى مثاليّة وتبقى الفلسفة السّياسيّة في مجملها أخلاقيّة أو قائمة على الأخلاق.

تحقيق السـّـعادة للجميع، وإن كانت السـّـعادة لا تدرك، مرتبط بالفضائل وبنوايا الأشخاص والغرض منه تحقيق تقدّم الإنسان وبناء طاقاته وتطويرها كذكائه مثلا. وتعدّ الإرادة الحرّة من الأشياء التي يجب تطويرها في الإنسان أيضا وذلك من خلال توفير العدالة والحماية والتـّـعليم للجميع. وحسب أرسطو فإنّ المجتمع بأكمله يضطلع بمهمـّـة أساسيّة هي تنظيم تطوّر الإنسان. وفي هذا السـّـياق ميـّـز المفكـّـرون في عصور مختلفة الفروق بين الحكم المطلق والحكم اللـّـيبراليّ. اللـّـيبراليّة طرحتها البرجوازيّة كبديل عن الاستبداد ولكنّ اللـّـيبراليّة أدّت إلى ظهور أشكال متعدّدة من "الفرديّة" و"الأنانيّة" الذين لا يعيران اهتماما للخير العامّ ولسعادة الآخرين. وهذا يعني أنّ نوعا جديدا من الاستبداد تقمـّـصته اللـّـيبراليّة قد ظهر مع صعود البرجوازيّة وتدعـّـم الرّأسماليّة. البلدان الغربيّة مثلا تقول اليوم إنّ القوّة الحقيقيّة بأيدي الشـّـعب ولكنّ الشـّـعوب لا قوّة لها في واقع الأمر.

وبعيدا عن مناقشات الفلاسفة أقول ببساطة إنّ الدّيمقراطيّة تـُـفهـَـم على أنـّـها طريقة حياة لمجتمع ما يقبل فيه الجميع بهذين المبدأين:
أوّلا: المساواة لكلّ أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات وضمان الحرّيات لكلّ فرد.
ثانيا: جعل الوظائف والأدوار التي يضطلع بها أعضاء المجتمع هادفة إلى تحقيق الخير للجميع.
ومن الصّعب جدّا تحديد شكل نهائيّ للحكم أو للسّلطات المدنيّة ولكنّ كلّ نظام يضمن للفرد أن يتمتـّـع بحقوقه وحرّيته يعتبر نظاما مقبولا أو متماشيا مع الطـّـبيعة الإنسانيّة.

معنى حرّية التـّـعبير:

وبما أنـّـنا نتحدّث عن الديمقراطيّة فلابدّ من استكشاف معاني حرّية التـّـعبير ومتى تـُـمنع. أو تقيّد. حرّية التـّـعبير من حيث المبدإ لا يجب أن تـُـحدّ إلاّ في حالات معيّنة أوّلها "مبدأ الضّرر" فإذا نطق شخص بكلام معيّن أو نشره أو كتبه وكلامه يضرّ بشخص ما فإنّ عمله لا يمكن اعتباره متماشيا مع حرّية التـّـعبير. إذا كان لحرّية التـّـعبير قيمة كبرى فإنّ تقييدها يعدّ تقليصا لقيمة أو قيم لصالح قيمة أو قيم أخرى. معنى هذا عندما نحاكم شخصا تهجّم على شخص كتطبيق لحرّيته الشـّـخصيّة فإنّ القضاة يحدّون من حرّيته، وهي قيمة، لصالح قيمة أخرى هي الحفاظ على كرامة شخص آخر. وكلّ مجتمع يضع قيودا على ممارسة الكلام لأنّ تبادل الكلام يدور في نطاق قيم مشتركة أي يؤمن بها الجميع وقد تكون متعارضة. ويحدث الصّراع بخصوص الكلام بين مطالب متضاربة وأشخاص يحملون قيما متضاربة. وتقول الحكومات إنـّـها لا تمنع الكلام ولكنـّـها تمنع بعض أنواع السّلوك اللاّإجتماعيّ.

نحن بحاجة إذا لأن نؤمن ونمارس تلك القيمة وهي حرّية التـّـعبير، ولكن علينا أن ننظر كيف ومتى نقيّدها. ولن تمارس تلك الحرّية إلاّ إذا احترمت الرّأي المخالف لك و"شخص" الفرد الذي يردّ عليك. و"الشـّـخص" هنا أوردها بمعناها الحقوقيّ: إنسانيّتك وشعورك بأنـّـك إنسان جدير بالإحترام. وكلّ شخص يشعر بأنـّـه إنسان ويمتلك إحساسا داخليّا بالنـّـخوة والإعتزاز. ولذلك عندما تتكلم عن شخص ما يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مشاعره تلك. على هذا الأساس يقول بعض الفلاسفة بأنّ الحدّ من حرّية الكلمة لا بدّ منه. وهذا منزلق خطير لأنّ بعض السّاسة يقولون بأنّ الدّولة يجب أن تراقب ما يقوله النـّـاس وما يكتبون. وهو حجّة مهداة للمستبـدّين لأنّ الدّول المتخلـّـفة تعمـَـد إلى منع حريّة التـّـعبير من دون تقييم الكلام الذي قيل أو كتب والتـّـقييم لا يتمّ إلاّ أمام القضاة.

ويقول المدافعون عن ضرورة تقييد حرّية التـّـعبير بأنّ الدّولة تتدخـّـل في حياة النـّـاس فتمنع من لا يملك رخصة سياقة مثلا من قيادة سيّارة وذلك للحفاظ على باقي النـّـاس. ويقولون إنّ حرّية التـّـعبير قد تؤدّي إلى إثارة الشـّـغب. إلاّ أنّ المؤمنين بالحرّية المطلقة للفرد يقولون إنّ الحظر على التـّـعبير لا يجب أن تفرضه الدّولة بل تتكفـّـل المحاكم بالنـّـظر في الأضرار التي لحقت شخصا ما من الكلام. وفي هذه الحالة نكون أحرارا في التـّـحدّث والكتابة والنـّـشر وتوجيه النـّـقد من دون أن نكون عبيدا للدّولة. ولا يجب أن تتدخـّـل الدّولة في ما نقول إلى أن يحدث الضّرر وعندها يتولـّـى القضاء تقييم ما عبّرنا عنه والضّرر الذي أنتجه وتطبيق القانون الجنائي علينا إذا ثبت الضّرر. والضّرر قد يكون تهديدا أو تشويها أو سبّا غير لائق وغير ذلك.

وضع القيود ومنع الكلام هو منع للحرّية وتكريس لما يسمـّـى المراقبة الاجتماعيّة الفاشلة أصلا لأنّ النـّـاس لئن خافوا القوانين والشـّـرطة سوف يعبـّـرون عن آرائهم سرّا. ومن أكبر المدافعين عن حرّية التـّـعبير جون ستيوارت ميل الذي يرى أنّ الحرّية أمر ضروريّ ولكنـّـه يدعو إلى تنظيم السّلوك عن طريق بعض القواعد للحفاظ على كرامة الأشخاص ويدعو إلى تثقيف النـّـاس لكي يكون المجتمع متحضـّـرا. ويقول ميل إنّ ذلك يتماشى مع مبدإ المنفعة للجميع. المهمّ أن يدرك الفرد أنّ له حقوق ولغيره حقوق أيضا وألاّ يردّ على شخص غاضب من الغوغاء.

ومن الأشياء التي تسبّب ضررا فادحا للنـّـساء والعائلات البرنوغرافيا مثلا أو الأفلام الإباحيّة. وبالرّغم من أنّ تلك الصّناعة تديرها المافيا وزمر المجرمين فإنّ الحكومات الغربيّة لم تمنعها. وتقول الحكومات إنـّـها بذيثة وغير أخلاقيّة ولكن عندما نمنعها علينا بمنع كلّ أنواع المجون كدور القمار مثلا وذلك غير ممكن لأنّ طلب المتعة يدخل في حرّية الفرد أيضا. وممّا يسبّب ضررا أيضا خطابات الكراهية والعنصريّة والطـّـائفيّة لأنـّـها تضعف المجتمع وتسبّب الإقتتال والعدوان. التـّـعصّب والتـّـحجّر ليسا من سمات المجتمع المدنيّ الذي قوامه المساواة بين كلّ النـّـاس والاحترام لـ"شخص" الآخر وحقوقه. وخطاب الكراهيّة هو الخطاب الذي يحرّض على العداء بين مجموعات الشـّـعب وطوائفه وهو خطاب يستند مسبقا إلى استراتيجيا هدفها الإضرار بالغير أو مجرّد استنقاص أصحاب الرّأي المخالف أو العرق المخالف.

ومن الأشياء الأخرى التي تدلّ على التـّـخلـّـف معاداة المرأة أو اتـّـباع سلوكات تنقص من شأنها وهذه النـّـزعة تسمّى
Misogyny
فالمرأة جديرة بالإحترام والتـّـقدير لأنّ دورها عظيم. ولا يمكن معالجة السّلوكات اللاّإجتماعيّة والمعادية للآخر بمجرّد الفلسفات المثاليّة ولا عن طريق رقابة الدّولة بل عن طريق إرساء السّلوك المتحضّر. معنى هذا أنّ حدود حرّية التـّـعبير لا يمكن أن توضّحها الفلسفة ولا يمكن أن يطبّق السّاسة مراقبة مجدية على الأفراد. وإنـّـما يتحقـّـق المجتمع المدني عن طريق التـّـوعية وتقديم المبادئ التـّـوجيهيّة في المدارس وفي وسائل الإعلام. وفي حال ترسّخ الوعي الشـّـامل فمن المشروع للدّولة أن تنظـّـم الحياة عن طريق القوانين. ويبقى الهدف الرّئيسيّ لتدخـّـل الدّولة الإرتقاء بالكائن البشريّ ومنع الشـّـرّ.

شرح لمتاهة أو مأزق السّجين:

يقول مأزق السّجين إنّ رجلا حكم عليه بالإعدام وقال له القاضي سينفـّـذ الإعدام خلال الأسبوع القادم على السّاعة 12. لكن لن تعلم بيوم التـّـنفيذ وسيكون التـّـنفيذ مفاجئا. راح السّجين يفكـّـر في زنزاته مستعملا المنطق ليجد طريقة للإفلات من الإعدام فقال: لئن تمّ التـّـنفيد يوم الجمعة سأعلم به يوم الخميس وبذلك لن يكون مفاجئا كما قال القاضي. ومضى في تحليله إلى أن استبعد كلّ الأيام. لكن لسوء حظـّـه جاءه الجلاّد يوم الأربعاء ليقوده إلى المشنقة. الفكرة التي يؤكـّـد عليها مأزق السّجين هي أنّنا في عمليّة اللـّـعب لا نستطيع التـّـكهـّـن بالنّتائج و بالتـّـالي لن نعلم. كما أنـّـه يقول إنّ العمل الذي يدور حول المصلحة الشـّـخصيّة يؤدّي إلى نتائج غير إيجابيّة اجتماعيّا. وقد حاول الفلاسفة إيجاد حلّ لمأزق السّجين دون جدوى.




#عزالدّين_بن_عثمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حقوق الإنسان ومضمون نظريّات حقوق الإنسان:


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدّين بن عثمان - حكم الحزب الواحد والتّعدّدية المزيّفة في البلدان العربيّة ودور المثقّفين والعلماء. الجزء الثّاني: