أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تحسين كرمياني - لغة الثقافة ولغة السلطة..تاريخ شائك بالتحديات















المزيد.....



لغة الثقافة ولغة السلطة..تاريخ شائك بالتحديات


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 2360 - 2008 / 8 / 1 - 11:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


[ما أفلحنا في تحقيقه كعرب هو الوحدة الثقافية،لقد وحدنا الكتاب والفيلم والأغنية،وهي أمور ليست في حاجة إلى جامعة عربية أو أنظمة سياسية..] (أسامة أنور عكاشة)
***
ربما غير مجدٍ الاستعانة بمسوغات لبرهنة ماهية الثقافة والعلاقة الجدلية المتأزمة بماهية السلطة،يبقى السؤال مطروحاً من غير الوصول إلى إجابة محددة ومقنعة حول هالتها ومكانتها في راهن وضعنا المتذبذب،يدفعنا الشك لمراجعة تراكمات التاريخ السياسي للحكومات التي تناوبت على ديمومة السلطة رغم أوجه الاختلاف بين توجهاتها ومسالك إداراتها لدفة الأمور،لبيان التصادمات الفكرية والاتهامات غير المنتهية بين الطرفين المتضادين،كون التاريخ حاضنة الوعي الكامل للوجود،فيه تخمد أوار الصراعات بشكل محايد ومستسلم إلى حدٍ ما،ما لم تتلصص أقلام ولغاية ما تحفر في الصخور للبحث عن شذرات ضوء تفيد أو تسند فكرة موضوعة،فالتاريخ كما يقول/د.قاسم عبده قاسم/أكاديمي مصري(أنه أشبه بنهر يتدفق من المنابع إلى المصب حاملاً كل التفاصيل والدقائق والمواقف والأحداث والشخصيات والظواهر)،لابد من قراءة غير تقليدية وعدم التباهي خطابياً بما تم الإعداد من وعود تعرقلت تحت تبريرات جاهزة ومقنعة بطريقة أو بأخرى،أعدت سلفاً طالما الوعي الثقافي غائب أو مهمّش ويكون العقل عائماً في فراغ يبحث عن طوق نجاة،نريد من التاريخ قراءة بيولوجية غير هاملة لأية فكرة حتى لو تقاطعت مع التوجهات الآنية لمرحلتنا الحرجة،كي يتم استنباط دروس الفلاح وإقصاء مسالك المهاوي قبل الشروع بمشروع نهضوي يوائم ويحادد باحتراس كل ما هو مطروح عبر الغزو الفكري والمعلوماتية الملغومة بكثير من الفخاخ والمزالق،لابد أن تكون القراءة شاملة لكل المراحل الحياتية،كل الجوانب الحيوية،علمية ودينية وفلسفية،كي يتم إنتاج شجرة وارفة الظلال تلملم جراحاتنا وتنقذ ما تبقى لنا من مزايا شاعت في عصور نهضتنا،(التاريخ يعلمنا أن الأمة التي يعتريها الشعور بالتسلط والهيمنة وسراب الخلود هي أقرب ما تكون إلى التصدع والأفول)هذا ما يراه/سالم بنحميش/الروائي المغربي في قراءته للماضي،كون التاريخ مجموعة مآثر تشكلت منّا وفينا عبر متواليات حياتنا المنصرمة،ويجب أن نأخذ بنظر الاعتبار قوانين الحياة الثابتة وفق الدستور الجمعي السائد أن الحياة ديدنها أخذ وعطاء وكل فرد هو قبل كل شيء كائن حر له الخيار في صيرورة حياته شريطة أن يحافظ على ما هو ليس له،مثلما يبغي أخذ ما يحتاجه،فكل شيء في الوجود له منبت وأصل وما تلاه وتشظى منه مجرد فروع خادمة أفرزتها الحاجة أو تطلبتها الظروف المتعاقبة من أجل ديمومة الوجود وتكملة قيافة المرحلة،ربما الحديث حول هذا المفهوم متشعب ومتعب في آن،لتعذر لملمة المصادر وأحداث توافق مبدئي يرضي أصحاب الآراء والمذاهب القائمة على أسس تماشي أمزجتها بيد أنها محض أحلام تبحث عن أزمنة موعودة،طالما الوقت الراهن غير مؤهل لاختلاط الرؤى وعدم وضوح الغايات،وربما نتيجة هذا الكم المتراكم والمتناسل من طروحات ونظريات منهجية وفلسفية ليس من اليسر لملمتها وتلخيصها في أضعف الاحتمالات،ما لم يسبقها العمل على بناء مؤسسة متخصصة بمسايرة البنية الفكرية وطبيعة الحالة المعيشة للمجتمع،أساسها التراث كونه حاضنة نقية وولود وفيه أفياء أوان التصدعات ومنقذات حين تتوالد المآسي،لننظر ما يصرح به الكاتب البرازيلي الشهير/باولو كويلو/(الثقافة العربية لعبت دوراً مهماً في التراث الإنساني،فضلاً عن دورها في إثراء مخيلتي ككاتب،إنها أعطتني الكثير جداً وبصورة لا يمكن التعبير عنها بعبارات إنشائية تقال من باب رد الجميل)أن ما يهمنا الآن وضع حجر الأساس والبدء بما هو مسعف ومنقذ لمحنتنا أو يبث على أقل تقدير بعض نور لنا كي نفك الاشتباكات الخانقة لتسليط حزمة ضوء لشرخ دياجير المسالك العاطلة عن أداء أو إسداء النصح لتمكين أصحاب القرارات من وضع قطار المرحلة على سكة الخلاص،فالثقافة على حد تعبير الناقد المصري/د.عبد العزيز حمودة/هي معركة البقاء الوحيدة المعروضة أمامنا كعرب في ظل ضعفنا الاقتصادي والعسكري والسياسي)..!!
***
[لنا تراث نافذ]
أن ما يهمنا هو أيجاد فرص متكافئة للسعادة على أقل تقدير كي نجد الفرص الملائمة لخط نهجنا السليم وبناء حضارتنا المتوائمة مع المفاهيم المشاعة لثقافات الآخرين والتعايش على مبدأ المنفعة المشتركة كي لا تتعطل أية منظومة من منظومات الأطياف المتساندة داخل فرن الواقع الغامض لديمومة الحياة،يذهب/لوبون/(أن الشعب الذي يريد الرقي عليه أن لا يقطع الصلة بماضيه)حسناً كيف يمكن التعامل مع الماضي..؟؟ما لم تتوفر مناخات تيّسر مفردات تفعيل العملية النهضوية وفق متطلبات حاضر الحياة ومستقبلها،لابد من مؤسسات ثقافية مستقلة تنبذ الفرقة ولا تتعاطى المحاصصة ولا تتعكز على أجنده ومستوردات جاهزة تتقاطع مع مناهجنا،من غير مؤسسات فاعلة تبدو عملية النهوض متعثرة أو قابلة لتجاذبات ملّحة تحت تأثيرات شتى تلتجئ إليها جهات تترصد الثقوب والفراغات لأشغالها بطرق إغرائية،وليس أمام أية مؤسسة تحمل مشعل التنوير على عاتقها سوى خيار واحد أن تنطلق من منطلق أن الإنسان كائن حر لم يخلق للقيود والتجارب البشرية عبر تنظيرات سياسية خانقة ديدنها تحقيق أحلام محددة الأهداف،وضرورة استلهام ماضينا واستحضار الزاد المعرفي للإرث المهمل إلاّ فوق أرفف المكتبات وبين خازنات المتاحف،هذا الماضي المأمول لن يأتي إلاّ من خلال التمسك بنقي التراث وزلاله وسائر العلوم المعرفية والتجارب الحياتية التي أفرزتها المراحل المتعاقبة على كافة الأصعدة،الأمم تدرك أن تراثنا نافذ ومتغلغل في تضاعيف الأمم المتحضرة وثقافات الشعوب،ربما لسبب غير وجيه كتاب الليالي الألف السحر الذي رسم صورة غير مرضية لنا عبر العصور لدى مغارب الأرض ومشارقها،هذا الكتاب الذي حامت حوله شكوك غير منتهية بخصوص مؤلفيه والغاية من تأليفه خصوصاً أنه يتناول جوانب العبث والمجون لمرحلة متقدمة من الوعي المتمدن للعباسيين،ما طواه كتاب ألف ليلة وليلة،جوانب منافية لأخلاقياتنا السلوكية ونظرتنا الحاسمة تجاه أهمية الزمن وسيادة الرفاهية والسلام وفق معايير متوازنة ومشتركة بين الشعوب،تقارب في وجهات النظر وتبادل في المنافع التجارية والفكرية والثقافية والاجتماعية بين الأمم وإشاعة روح التحضر من خلال العمران وأهمية العلوم والمعارف في حياة الإنسان،ولا ينكر أحد أننا أصحاب كنوز معرفية صارت البنيان المتين لكل علم مستحدث من أصول الطب والرياضيات والكيمياء وأسرار الأفلاك وسبل التوصل إلى مسارب البحار وأصحاب أول ساعة أذهلت الملك(شارلمان)،لقد مرت أمتنا عبر مسالك ملتوية حافلة بالحروب والمجاعات وكل إشكاليات الغزو وتنوع الغزاة واختلاف مغزى غزوهم،اشتركوا معاً في السلب والنهل من كنوزنا واشتركوا من غير اتفاق ترك الخراب القائم في كل مناحي الحياة،إضافة إلى ما تركته الحكومات الشمولية من ترسبات وعوائق قد تدفعنا لسنوات ثقيلة ننهمك بمعالجة سبل التخلص من تركاتها،قبل البدء بمشروع التنمية النهضوية لرسم خرائط جديدة تستوعب مكنوناتنا وأحلامنا المؤجلة،يقول الروائي السوري/نبيل سليمان/(لقد أوصلتنا الدكتاتورية إلى عنق الزجاجة كما أوصلت نفسها،وها هي الآن تنادي بالإصلاح بعد أن أصبح الإصلاح ضرورة لها،بعدما جفت دماؤها ونخرها الفساد)أليس هذا دليل قاطع وربما حاسم على أن النظرة السياسية لأية سلطة توليتارية غالباً ما تكون ضئيلة الزاد في سفر التقدم،وأن لغة السياسة بعد تجارب مريرة وخسران مبين بدأت تستلين أمام لغة الثقافة بعدما وعت أنها لغة الحياة المتعافية..!!
***
[الاعتراف بالثقافة]
ليس من العيب اللجوء إلى التجارب السابقة لأخذ ما يناسبنا وينقذنا من آفة الانحلال الذي بات يشغلنا بل ويلجم كل فرصة مؤهلة للنهوض،فـ(التجربة أستاذ ولكن بنفقات باهضة)على حد قول/كارميل/مهما تكن الخسارات والتضحيات فالنتائج والحلول الشافية لعلاتنا المستعصية ستدفع أثمان الخسائر المهدورة على وتيرة متصاعدة،إذ ليس من المستحسن عزل فئة متنورة قادرة على تحمل المسؤولية والمضي إلى نهاية الشوط عن قيادة القافلة النهضوية لردم فجوة النكبات،المثقفون فئة نشطة لمّا تزل تتشبث ـ رغم حراجة المواقف وصلابتها وقلة الحيّل والتهميش المتعمد لهم ـ بالإرث المعرفي،فئة تنصهر على لهيب العوز والحرمان بغية المحافظة على الجذور الرافدة لاخضرار شجرة الحياة كي لا تجف،هذه الفئة التي يراها /سارتر/(المثقف إنسان يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه)وقد لا نجد عيباً فيما ذهب إليه،طالما الثقافة ضوء ساحر وخطر محظور اللجوء إليه حتى في أحلك المراحل من لدن المتنفذين وصنّاع القرار،فعملية حشر المثقف أنفه في كل محفل ليس للتشميت أو التلصص بل هو مصل التعافي لكل جسد عليل يفتقر إلى معين،لا يريد المثقف من ذلك غير مراقبة الوضع لحظات التأزم ومعاينة أو تشخيص المسببات وهو متأهب للتدخل إزاء كل انحراف يتعارض مع نهج الحياة،لقد قال/نابليون/(الخيال يحكم العالم)أليس هذا الكلام هو اعتراف كامل بدور المثقف في قوادم السنين وأن رؤيته تستند على منهجيات دنيوية قائمة وثوابت كونية آيلة للمثول،كون المثقف هو سائح مجاز وحامل مصباح/ديوجين/في أرض الخيال،يبحث عن كل ما هو ملائم لمناخ مرحلته طالما يجد نفسه الإنسان المثالي وصاحب رؤية ومنطق عقلاني ويستند في معالجة الأزمات على قوانين ثابتة لا تتدحرج خارج فلك الإنسانية،وليس من المعقول أن تنفرد جهة ترى نفسها متعالية الخطاب لرسم المستقبل ما لم تساندها جهات متنفذة كون كل مشروع فكري مطروح للتنفيذ لابد من راسم للفكرة،لابد من مموّل لدفع وشحن روح الفكرة،لابد من حارس يقظ يقي الفكرة من عبث الرافضين مع ضرورة وجود مروّج وناشر لتلك الفكرة بغية زراعتها في كل مناحي الحياة،ولا أظن أننا قادرون الآن على توفير هذه التناصرات طالما هناك سلطات تصنع الحواجز بين الثقافات داخل البيت الواحد،ولديها رقباء أمناء تتربص بكل ما هو يتقاطع مع أفكار بيئتها،حتى المعارض التي تطبل وتزمر لها أبواق السلطات غالباً ما تكون لمجموعة دور تتعامل بحساسية مع الحقائق وكل ما يمس الكيانات،مع وجود عارض صادم أمام الباحثين عن الزاد المعرفي هو غلاء الكتب ليكون في متناول فئة مقربة كونها صاحب رصيد مفتوح،بينما يدعو المثقفون إلى ضرورة إشاعة الثقافة الشعبية عبر توزيع المطبوع بطرق يسيرة غير مكلفة أو بتغيير المناهج المدرسية العقيمة وتبديلها بثقافة الصدق الحافلة بكل إشكاليات الحرية الفكرية المنتجة..!!
***
[دواعي اللجوء إلى الثقافة]
نحن الآن بالذات ننحشر في بوتقة خانقة تتهاوى علينا تراكمات أخطاء أنتجتها مؤسسات استخدمت الهمجية لا المنهجية لتجيير الواقع وربط رقاب الناس بحبل التجهيل قبل أن تترك برازها وتولي،ابتغت تحقيق غايات شوفينية لمرحلة ـ ما ـ قبل أن تبتلعها رياح التغيير لتنتج أو تقلب أحشاء ماضينا المتفاعل فينا أوان الضياع وتفعّل ما هو هادم ومدمر ولاغي لكل حلم دثرناه بلهيب صبرنا،نحن الآن نصطلي على لهيب متصاعد في انتظار لحظة صحو كي نحرر ذواتنا ونتخلص من الخمول المترسب قسراً فينا،هي ذي المرحلة الحاسمة بعدما نفدت الكثير من مراهنات أعداء التغيير وتصدعت آراء أصحاب العقول المنغلقة والتي غالت دونما استحياء في تهويل النتائج اللاحقة لوقف الرياح وإعادة السفينة المخطوفة من فك المتاهات ودفعها من جديد صوب آتون آخر،ربما نجد اليوم ورقة بغيضة أكثر فاعلية لإزاحة الشمس من أفقنا المأمول،تم اللجوء إليها وفق خطط مدروسة ومدعومة من جهات ما في غيّاب أصابع السلطة السحرية أو الفراغ الحاصل جراء التخبط والتناحر خارج بيت الثقافة،أعني ورقة الطائفية،التيزاب الذي لا يفرق بين معدن نبيل وآخر رخيص،ورقة التمزق وفق العرق والدين والقتل على الهوية،لا ينكر أحد أن المثقف هو الكائن الأكثر حساسية في أي مجتمع تجاه المغالطات الحاصلة لتصادم في الآراء السياسية البحتة،لذلك نجد المثقف أوّل من يلقي الحجر في البركة،ينفعل ويغامر وربما يتجاوز حدود الثالوث المحرم/الدين والجنس والسياسة/وهذا دليل متين على خالص حرصه وسلامة وعيه تجاه مجتمعه،نجده يؤهل نفسه أينما يكون موقعه لحمل مشعل التنوير لإنقاذ أو إذلال المواقف الصلبة أمام المجتمع،تقول/مارجريت أويانك/مؤسسة صندوق بانيبال للأدب العربي في لندن(هدفنا هو كسر الحاجز الذي بناه الغرب إزاء العالم العربي وثقافته،وموروثه الحضاري،وبالتالي فتح قنوات للحوار بين الشرق والغرب)هناك من يعترف بقوة ثقافتنا وحضورنا الذي لابد منه لإلهام الحياة بجوانب مضيئة ودافعة للسلام وتنامي المعرفة وتلاقحها بين شتى الأمم،المثقفون عقول متنورة قرأت كتاب الحياة بعين محايدة وتلصصت ببصيرة معرفية على الكنوز الحقيقية الراسخة في ضمير التاريخ،تريد للثقافة دوراً قيادياً في سلطة الحاضر لتبسيط العيش وتخليص الواقع من الأزمات،وليس من المستبعد انزلاق شريحة من مثقفينا لها ثقل واضح في راهن حياتنا الثقافية صوب أتون الطائفية،وإن كان ظاهرياً ينبذ ويستر جوهره بكلام ملغز وهارب من المجابهة العلنية،ففي النفس مناجم لا تسر وربما منابت تدفع أوان الغبرة سموم فاعلة تزيد من ضراوة المحنة وتسعير الموقف،الانزلاق مشروع قائم ما لم يتم تدارك الموقف قبل فلتان آخر خيط من يد المصير آنئذ نواري ثقافتنا ربما لدهور قاحلة،هذا الإنزياح أو الانجراف ناجم بطبيعة الحال جراء وقائع ملموسة تعج بها أيامنا،استنادا على ما جرى ويجري في يومنا هذا من انحيازات وأخوانيات ومجاملات وتلاسنات دفعت ثقافتنا نحو خانق الحياة،هذه المنبوذات ليست اعتباطية النمو،بل هي وليدة جهات مؤسساتية تعمل بخفاء لصالحها الخاص،تبذخ ما لديها من أموال مفتوحة لكسب ود فئة تراها رهن اليد أو غير محصنة إزاء لقمة العيش،مما تحصل فوارق وإنعزالات وتكتلات تهدم من الجدار الثقافي العام إذا أخذنا بنظر الاعتبار ثقافة البلد سلة تلتئم فيها مجموعة متناصرة من ثقافات متنوعة تنتجها أطياف جمعتهم جغرافية محددة من الطبيعة،(ثقافة عربية ـ ثقافة كوردية ـ ثقافة تركمانية ـ ثقافة كلدو آشورية)خليط من الممكن مزجه لإنتاج توليفة متماسكة من ثقافة نابضة وفاعلة يمكنها إنقاذ الكثير من المزالق التي تنتجها حركة التغير الآنية في كل مرافق البلد،لكن الذي يصدم ويرعش تلك الهوة التي تنمو لتغدو آفة مرعبة،تلك العلاقة االهشة والمرتبكة بين المثقفين،تتجلى المماحكات والمهاترات الشخصية فيما بينهم سواء في الندوات والدعوات وحتى في عمليتي النشر والنقد،تضفي تلاوين سمجة تقلل من هيبة الكلمة الصادقة وأثرها في البناء النفسي لمجتمع تحرر من كوابيس مظلمة وظالمة،رغم أنهم يعلمون علم اليقين أن(في البدء كانت الكلمة)وهذا الانجراف أو الخضوع لفلسفة الذات المتعالية ناجم أمّا عن ضحالة الفكر الثقافي لدى من يخبأ في ذاته بذور التطرف والزحزحة وربما يتعذر عليهم التماس سبل التخلص من تركة بيئية قاسية وترسبات سلفية راسخة في أعماقهم جراء عدم تطهير الذات بثقافة نظيفة شاملة المعنى والغايات وتهيئة العقل لمسايرة الحياة الراكضة قدماً مع الركب الإنساني الناهض،وربما جرّاء تسلل أرهاط نفعية ذات ولاءات متسترة هدفها تسعير المواقف من وراء الكواليس،هذا ما هو ملموس في يومنا ذي المسغبة،هذه الفئات يمكن أزاحتها لو تم تأسيس مؤسسة تقودها فئة نزيهة تسهر وتضحي من أجل النهوض،ويمكننا أن نستدل على ما ذهبنا إليه من خلال تسليط نظرة على ما تبرزه هذا الكم الهائل من الصحف والمجلات وخطاباتها أحادية النظرة وإصرارها الحريص والحسّاس بضرورة التمسك بنهج ثابت غير قابل للنقاش،نهج لا يصالح متطلبات المرحلة الساخنة،ولا يرضي أطراف لديها وجهات نظر مغايرة،فالمثقف العراقي خاض تجارب مريرة مع مؤسسات رفعت لافتات ثقافية اجتهدت واستنجدت بكل ما كان متاح لها لكسر رقبة المعادين لنهجها سواء بالإقصاء والإغواء أو على أقل تقدير بناء حواجز أمام المتنورين من تربع على عرش ثقافي متين،ودفع البعض منهم صوب محرقة المنافي كي ينشغل بمواجيد الغربة أكثر مما ينهمك بتنمية مشروعه الفكري،وتوظيفه لصالح مجتمعه،فالسلطة تعادي أصحاب نظرات العمومية والثقافية الشاملة كونهم شربوا من رحيق الفكر النابع من منابع فطرة الإنسان وغائية هبوطه من الفردوس،رغم أن التاريخ يوضح أن الملوك والرؤساء والأمراء كانوا يرصدون بيت المال بغية كسب ود اللامعين من الشعراء والكتّاب عبر العصور لتخليدهم أو لتسليتهم كترف لابد منه،فبماذا نعلق عن حالة أحد رجالات بني أميّة يوم سأله أبنه سبب دفعه مالاً غير معقول مقابل بيت شعر،أجابه أن المال زائل وأن البيت الشعري الذي مدحه سيعطيه عمراً أطول،هذا ما يريده السياسي من الثقافة عبر كل الأزمنة،حتى في راهن عصرنا نجد المهرجانات الثقافية والفنية قائمة ترتكز على أرصدة ثقيلة العيار لإنجاحها،أنها مدانة من المثقفين سواء جهراً أو سراً وفق سربال الوضع والمناخ بسبب فضائحية توجهاتها من جهة ومن جهة أخرى طبيعة ونوعية الوفود المدعوة للمشاركة فيها،لنتأمل هذا الكلام(الفن في بلادنا ليس ترفاً أنه الحياة ذاتها،وإلاّ ما الخيارات الموضوعة أمامنا،كي لا نجن)كما يقول الروائي الجزائري/واسيني الأعرج/ويؤيده/باولو كويلو/(إن الإنسان يتعلم من الفن وأيضاً من البشر)،أنهم يعنون الفن النبيل والأصيل النابع من ذات الإنسانية المعذبة ليكون المطر المنهمر لديمومة الحياة،لقد ضرب البابا/جوليو الثاني/الفنان/مايكل أنجلو/بعصاه،كما قام خليفته/جوليو الرابع/بتوجيه اللوم والتقريع له كون لوحاته كانت تعج بالأجساد العارية،وكان رد فعل الفنان عنيفاً إذ دعاه للتفرغ إلى واجبه المقدس بتغيير العالم،كي يتمكن هو من تغيير الأجساد العارية في لوحاته،لقد قالها بكل وضوح أن العالم فاسد وما تنتجه العبقرية الفنية مجرد إفرازات حيّة وأسئلة فاضحة ليس إلاّ للواقع المريض..!!
***
[إشكالية الحرية الثقافية]
أن المشكل الرئيس للمثقف العراقي هو عدم توفر نسمات حرية أو فضاءات تستوعب فلسفته الفكرية،كي ينسلخ من الأشواك العالقة بجذوره لينطلق في أداء دوره(المعجزاتي)إن جاز التعبير،فهو لا يريد سوى مساحة مناسبة خالية من كاميرات تتلصص أو أبواق حاقنة من وراء الكواليس تبتر ما يريد قوله أو التصريح به،فضاء الحرية حاضنة خصبة لبلورة ما لدى كل مثقف من أفكار وإبداع وإنضاجه قبل حقن مرحلته بمصل الحقائق والنقاهة براحة ضمير،كون المثقف كما يرى الروائي/سعد محمد رحيم/(يرى ابعد وأعمق من العقائدي المتعصب والسياسي التقليدي ورجل السلطة… قادراً دوماً على اكتشاف الخلل،وعلى إنضاج تصوراته بشأن الحاضر والمستقبل ويمتلك الجرأة في أن يعترف بخطئه إذا أخطأ وأن يقول ـ لا ـ كلما وجب ذلك)،نجد حتى الذين آوتهم المنافي من مثقفين رفضوا مجافاة الحقيقة أو التخلي عن مبادئهم،نراهم وبكل أسف أنهم تعاملوا بحساسيتهم السابقة مع منجزهم الثقافي،إلاّ أسماء محددة ظلّت متسترة أو لبست لبوس التمويه وقامت بحجب ما كان يقولونه نتيجة التابوهات الملاحقة وأساليب السلطة الشيطانية لخنق المعرفة وعدم ترويجها أو حتى السماح لها عبور الحواجز بين الدول من خلال تناصرات استنزفت الكثير من المال تحت يافطة التعاون الثقافي وما شابه ذلك من مسميات كانت تؤسس لنفسها خنادق خانقة لكل صاحب قلم رشيد أو فكر مضيء،تلك التناصرات كانت تستهلك الكثير من المقدرات بين الدول الرافضة لدور الثقافة الصادقة في حياتها،هذه الحسّاسية المتشبثة في الذات من قبل أصحاب الرؤى أسدت لهم ما كان يبتغونه وهم خارج طوق المخالب ومقامع الحديد،لقد أنقذتهم حسّاسيتهم من أعين الوشاة أو على أقل تقدير مكّنتهم من دفع مخالب الشر عن أهاليهم،ناهيك أن منجزهم الثقافي لما يزل نائياً عنّا رغم زوال الخانق والمانع لعدم وجود مؤسسات ثقافية نزيهة تسوّق وتروج لكل ما هو واقع حال أفرزتها مرحلتها،ولن يحصل هذا ما لم تتجرد الكيانات السياسية من التشبث بأهداب الثقافة لإثبات وجودها،كي تتمكن الثقافة أن تتنشق عطر العافية وتبث أريجها إلى كل نفس تائقة لنسمات الحرية أو تريد خصوصاً الخائفين منها التكفير المنطقي عن ماضيهم الملوّث،كي يخلو الضمير ويتهيأ لمرحلة جديدة خالية من ألاعيب السلطة ومسالكها الغائية،لقد خرجنا بطريقة ما قد لا تكون منطقية ومعقولة بالنسبة لنا أو مقنعة في أضعف احتمال من حالة شمولية السياسة وأحادية التوجه لنجد أنفسنا مكرهين إلى حد قد لا ينتهي في حالة غائمة ومغبرة يتعذر بيان مواطن الصحو فيها ربما لوقت غير ممكن التنبأ به،ما لم يأتينا مطراً عاصفاً يزيح ما هو عائق وينقي ما هو ملوّث وخابط كي نستدرك طريقنا،ثمة معضلة وخيمة تحول دون تيسير القافلة بل تخدش بوضوح كل جدار يرتفع لستر الحياة من هبوب أعاصير غامضة الاتجاهات تجتهد بشتى الوسائل والممكنات لجعل الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات المساعدة لدوران الحياة باتجاه الظلام،معضلة سيادة التخلف وهي بطبيعة الحال ليست عسيرة المعالجة،لو أتيحت أو سمحت لعقول مؤهلة متنورة تستطيع ردم فجوات الحلكة وزراعة مصابيح النور في تضاعيفها،لمّا يزل معطف التخلف يستلقي على أكتاف ليس لديها بعض حرص لدفن ما هو خامل أو غير مجدٍ لمواكبة الحياة،ثمة من ينوء بتركة حضارة استنفدت مقومات بقاءها جراء التعكز على تماثيلها الحجرية والتي طمرتها مناخات سياسية متعاقبة بعد موت سدنتها دون اللجوء إلى خفايا وسحر مقومات خلودها والتعامل مع روحها المتجددة لا شكلها الحجري،عندما تكون مشارب الثقافة سطحية أي غير موضوعية أنتجها مؤسسات براغماتية عملت بأساليب ماكرة على خلق التابوهات ومطبات الإنزياح عن حاضنات(الآخر)خشية التلاقح والتجديد في الولادات الفكرية الخلاقة والصادمة لرؤاها،لابد من تنامي فرص النكوص وتنمّر الحس المزاجي وبالتالي يحصل الشرخ الذي لن يرأب،فبدون مؤسسة ثقافية فاعلة ومنتجة لن يتمكن المثقف العراقي من بلورة آراءه واستخدامها خراطيم مياه تخمد حرائق المرحلة،المثقف العراقي ـ المستقل طبعاً كي لا ينجرف صوب الفئة التي تؤويه ـ دوره محدود بل وقابل للتحجيم في قوادم الأيام ما لم يحتضن الدستور حقوقه ويحدد واجباته،فرص عمله تستعمرها كيانات سياسية استحواذية أتت بأشباه مثقفين وأشباح موهوبين لقيادة أعلامها وحراسة ثقافاتها الخاصة،من خلال استطلاع عياني لما مطروح من خلال شاشة الفضائيات أو على صفحات الصحف والمجلات نراها لا تتعامل إلاّ وفق نظرات ضيقة بالمعنى الكامل للكلمة ولا تتجاوز خطاباتهم سوى إلقاء اللوم على البعض ومحاولة النيل من مصداقية البعض وكشف الأسرار ومن هو العمود الساند للبعض،حتى أنهم يتعاطون أو على أصح تعبير يلقون العسل على نهج الحكومات الشمولية،ما بال هذه التراكمات الثقافية الملقاة بعشوائية على الأرصفة وعارضات المكتبات ومن يقف وراء رفض كل ما هو يتقاطع مع أفكارها في وقت تشهر أعلاناً يتصدر الواجهة الذهبية للمطبوع بات يشكل نكتة سمجة متداولة لكل مثقف،هذا المطبوع لا يخضع لجهة معينة وهي مستقلة،بيد أننا نجدها لا تنشر ما هو صريح أو لا يساير مسارها الفكري التوجهي،إذا ما أردنا أن نتجاوز الأزمات وإنقاذ سفينة البلد من الغرق لابد من تسليم البيت الثقافي بالكامل لأعلام الثقافة العراقية غير المنحازة أو(المعشعشة)في أفياء التحزبات أو التكتلات السياسية تيمناً بعزل السلطة القضائية عن الدولة كي تكون العطاءات شاملة غير خاضعة لنفوذ أو تأثيرات الفئات المتنفذة لغرض تعبئة الثقافة لصالح نهجها،أننا نجد أهل الفكر والفن في المشرق والمغرب من وطننا في ماضي الزمن وحاضره،يتفقون على أن الثقافة مصادرة مقموعة الهوية،يمكننا أن نصف ثقافتنا بسمكة أخرجوها من الماء وأجبروها العيش على اليابسة،دون أجراء أية عملية جراحية لزراعة رئتين لها بدلاً عن غلاصمها العاطلة..!!
***
[الفاعلية الثقافية وقوة لغتها]
الثقافة روح لا تموت برحيل الجسد أو تبديل الهيكل السياسي الحاكم،الثقافة الصادقة وثّابة أوان الغليانات الحياتية،الثقافة علاج نفسي بارع للمجتمع أوان العطب،مصل عطاء العافية لكل جسد محروم وعقل غائم،الثقافة كانت وما تزال مصدر قلق للساسة عبر العصور،ثمة حكمة/تاوية/تشير(ذاك الذي يتكلم لا يعرف وذاك الذي يعرف لا يتكلم)،نجد في راهن الحياة أن السياسي أكثر تكلماً في شتى الميادين لا يبغي سوى إقناع أكبر شريحة ممكنة لكسب الأصوات وحشدها ليوم الانتخابات،في وقت بات المثقف يراقب ويتكلم بصمت لوجود خطوط حمر تحجم دوره،وهذا ما ينافي التعبير المنطقي الذي أطلقه/شيللر/عن الهوية الإنسانية(لا يصبح الإنسان أنساناً إلاّ عندما يلعب،لأن اللعب يعني أن الإنسان يمارس حريته فقط)،فـ(الأيام التي تجعلنا سعداء تجعلنا أيضاً أكثر حكمة)على حد زعم/جون ماسنيلد/لقد حطمت الثقافة نفسية/غوبلز/حتى أقضت مضجعه ودعته متأهباً لسحب مسدسه وافراغ رصاصات حقده وجهله في صدغ من يأوي في رأسه هذا البرعم المضيء،ربما حام/دكتور روزنبرغ/وزير الثقافة النازية حول هذا النول حين عبّر بطريقة واضحة وحاسمة(أن شخصية الفنان ينبغي أن تتطور بحرية ومن دون أي تقييدات والشيء الوحيد الذي نطلبه هو الاعتراف بأيدلوجيتنا)قيد لابد منه وهذا ما يشحن الحياة ويدفعها صوب الآتون لخلق أجيال كسولة أو خاملة العقول،كي تصدق وتصفق وفق أهواء أهل القرار،وهل كان/ديغول/غير ذي حكمة حين بدأ بترسيخ حكومته/بـأندريه مارلو/ يوم عينه وزيراً للثقافة في حكومته،ألم تكن رسالته تلك صارخة للناس كي تطمئن على سلامة تراثها وهويتها الثقافية،لقد كان يدرك أن الثقافة هو خبز الناس ووسادتهم في الحياة،لذلك بدأ حكومته بالعصا السحرية الفعّالة،لقد تجاهلت السياسة دور الثقافة التعبيرية النابعة من وعاء الضمير وأقصت بكل بوقاحة دور المثقفين من الواجهة لما تحلّوا به من تواضع وتفان ونكران للذات،حتى أن مفكراً ضالعاً مثل/لينين/خط طوق الموت حول نقاوة الفطرة والعفوية الإنسانية حين قال(لكل فنان الحق في أن يخلق بحرية ولكن علينا نحن الشوعيين أن نوجهه وفقاً لمتطلبات الخطة)أية خطة زعمها..؟؟لابد أنه رسم خطته لحجب النور من ليل الناس كي يعانق رغباته،وما الذي دعا الروائي الغواتيمالي/أوسترياس/أن يعبر بدقة عن أمراض السياسة وسلبياتها على المجتمعات المتواضعة(ليس لدينا للأسف مادة سامة تقضي على الاشتراكية مثلما يقضي السائل المبيد على حشرة أشجار الموز)لقد أدرك بثقافته النبيلة أن السياسي غالباً ما يبحث عن مسالك غير وعرة لتحقيق غاية شخصيّة ليس إلاّ،فملك من عيار/هنري الثالث/أطلق قولاً شهيراً للوصول إلى عرش فرنسا(باريس تستحق قداساً)لقد تنازل من غير استحياء عن مذهبه البروتستانتي لصالح مذهب الباريسيين الكاثوليكية،لغرض ذاتي بحت هو التسيد على رقاب الشعب،تلك هي ثقافة السياسيين تجاه الناس،من ماضي الحياة وحتى يومنا الذي سيطول..!!
***


[منطق الثقافة]
المثقف المتجرد من أنويته لن تزحزحه الأهواء ولن تغريه عسل الحكومات،فهو الرافض للحروب واللجوء إلى السلاح لمعالجة المواقف المتأزمة أو التمردات الفئوية والأقلية نتيجة سياساتها الخانقة،مبدأ القوة بكل إشكالياتها يوّلد مضاعفات وحواجز بين الأطراف المتناحرة،لا بديل سوى الثقافة كونها الحوار المنطقي لتجنب الإنشقاقات داخل الكيان الملتئم من أعراق وطوائف،الحوار هو ديدن كل عقل ترعرع في ظل ثقافة صادقة،وحوار العقل أرحم وأنفع وأفعل دوراً لتجاوز النعرات وأختناقات الحياة،يرى/البير كامو/(ليس النضال الذي يدفعنا أن نكون فنانين،بل الفن الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين)هذا المفهوم يرينا من هو المناضل الحقيقي لحراسة الحياة من مخالب الأشرار وإنقاذ الإنسان من جائحة العوز والحرمان وانتهاك الحقوق،أن المثقف هو مناضل من طراز السوبرمان،هكذا يشعر،يريد عودة السلام وتساوي الاستحقاقات البشرية بعيداً عن المكاسب والنفعيات الذاتية وهو الرافض الوحيد للحدود والتقسيمات القاتلة لروحية الأمم وثقافاتها الإنسانية،هو يدرك أن زبد الحياة يزول وما يبقى سوى الموروث المعرفي والذي يغدو جذور تخدم وتوجه الأجيال المتعاقبة،لقد ماتت حضارات وبقت ملاحمها الثقافية تنطق الحكمة والمعرفة وتستنطق أفكارنا وستنطق الأجيال اللاحقة،ليس بوسع دولة حديثة إن أرادت أن تماشي العصر وترتكز على بنية تحتية صامدة ما لم تفعّل دور الثقافة وتطلق نورها لخرق حواجز النفوس كي تذكي جواهرها المطمورة،فالإنسان كما يقول/كولن ولسن/(حيوان وليست خطاياه نتيجة للإرادة الحرة وإنما هي نتيجة للضغط الاجتماعي والظروف)،فلغة السياسة مهما تعسلت أو تسلفنت بالمن والسلوى تبقى لغة غنائية تلتجئ إليها المصاغي اليائسة لا العقول المتنورة،ربما اللجوء إليه هو لتكبيت هاجس مقلق أو قتل لحظة سأم،تحت وسيلتي الترغيب والترهيب،وليس هناك تصالح ضمني ما بين السلطة والثقافة،لأن لغة السلطة سياسة ولغة الثقافة معرفة، (السلطة تسخر كل الأشياء من أجل خدمة مصالحها،بل تسخر حتى مولود المتعة الجنسية كي يكون جندياً صالحاً لخدمتها)هكذا قرأ/رولان بارت/مفهوم السلطة،وذهب/نيتشه/أيضاً(يدرب الرجال للحروب والنساء على تسلية المقاتل وما غير ذلك حماقة)،أمّا المثقف نهجه ولغته تستند على مرجعيات معرفية وأسس متعافية لخلق الممكن من فضاءات الصحو بعيداً عن خلخلة الموازين ما بين مكونات المجتمع الواحد متعدد الأعراق والمشارب الفكرية والعقائدية،إذ ليس من المعقول أن نطلق الأقوال جزافاً في عصر التنوير التكنولوجي ووسائل المعلوماتية السريعة،فإنسان اليوم ـ خلاف ما كان قبل الثورة الصناعية الهائلة المتمثلة بعصر الإنترنت ـ لديه من الوعي ما يؤهله لتخمين ما هو قابل للوقوع من خلال ذاكرة أثخنتها إفرازات المتغيرات الاجتماعية وذهاب الأحلام المؤجلة وما كانت الحكومات تطلقها من باب الوعود،حقاً أن السعادة لا تكلف كثيراً من التضحيات لو عرفنا طريقها،هذا ما تقوله/كرستينا أوناسيس/ابنة المليونير الشهير(أننا نشقى ونحن نبحث عن السعادة بينما هي قريبة منّا بأكثر مما نتصور)،ليس من خلال الخطب الرنانة كما يحلو للبعض وصفها أو تحميل الشريحة الثقافية ما هو مكلف أو غير متوافق مع النهج الصريح والثابت لكينونة الثقافة،(شيء مؤسف ولكنها الحقيقة،فنحن ندعو إلى التمسك بالمثل العليا أمام الناس،ولكننا نجد صعوبة أن نطبق ما ندعو إليه في حياتنا الخاصة)تعبير صادق ومتوافق على ما سلف أو ما يجري في راهن حياتنا من قبل/توماس كارليل/إذ ليس من المعقول أن نطلب من الناس السير في طريق مجهولة،ما لم نؤهله ونحقنه بموجبات السير وتذليل ما سيجابهه من مفاجآت ممكنة،وحدها الثقافة تنقي أجواء الذات من دمامل الشر وتمنح فرص متاحة لخرق أي عارض طارئ،الثقافة عبر العصور منحت عيون أخرى للجسد البشري،وأهلّته لتحمل أوزار الحياة ونبذ ما هو مفتعل ومعسول لأغراض غير نبيلة،حتى أن رساماً صوفياً هو/كاسبر ديفيد/قال العام 1740(أغمض العين الحية وعندها تستطيع أن ترى بواسطة العين الروحية)،أية عيون ترى حين تنطبق عليها الأجفان،لابد هي عيون العقل والتي تتبصر الأمور حين تتغذى بما هو نور أي الثقافة،(العلم نور والجهل ديجور)،تظل الثقافة رغم أنف المتغيرات والتدخلات بكل إشكالياتها المنبر الحر والفاعل لصيرورة الحياة وليس لدينا ما نختم به هذا المقال رؤية شاعر من أمريكا اللاتينية حين عبر بكل جرأة عن دور الثقافة وفاعليتها في بناء أي مجتمع متنور صامد بوجه أعاصير المستقبل(أن شعباً بلا شعر هو شعب بلا روح،وأن أمة بلا نقد أمة عمياء)..!!



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أصل الكورد والبحث عن الهوية


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - تحسين كرمياني - لغة الثقافة ولغة السلطة..تاريخ شائك بالتحديات