أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سعيد مضيه - الثقافة العربية في فلسطين البدايات والإعاقات 3من4)















المزيد.....



الثقافة العربية في فلسطين البدايات والإعاقات 3من4)


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2360 - 2008 / 8 / 1 - 11:25
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


مقدمة الجديد للكاتب " رواد التنوير في فلسطين"
3- الأدب في الصراع- ثقافة النهضة
عرفت الثقافة العربية ـ الإسلامية أفكار المعتزلة وابن سينا والفارابي وعلوم ابن الهيثم والخوارزمي، وعرفت إخوان الصفا والمعري، وشهدت بلاغة الجاحظ وابن المقفع والخليل بن أحمد وأبو تمّام والمتنبي والمعرّي وغيرهم، لكن ذكرى هؤلاء وأفكارهم جمدت وترسبت في مجرى التاريخ العربي- الإسلامي. جرى إسقاط التاريخ الحضاري العربي –الإسلامي من الوعي الاجتماعي ومن التراث الثقافي، وخرج العالم العربي ـ الإسلامي من ظلام العصر الوسيط بثقافة فقيرة بائسة. اللغة العربية التي بلغت أوج تألقها الأجمل تعبيراً والأوسع تداولا والأفصح بيانا والأغزر ثراء بالمعاني والمضامين في مراحل ازدهار الدولة العربية ـ الإسلامية، بدأت تراجعها التدريجي مع حالة الوهن التي انتابت الدولة وما أعقبها من تفسّخ وركود قاتل. وللقارئ أن يتصوّر كم كان الوضع بائساً منذ وقوع البلدان العربية تحت النير التركي، حيث لم تعد العربية هي اللغة الرسمية. تحنّطت اللغة العربية وبدأت تداهمها مفردات أعجمية تركية. أما آداب اللغة العربية على اختلاف أنواعها فقد تكلّست جرّاء الركاكة في التعبير والتقليد وخمود الخيال. حقا فالكلام يتعفن إذا ما تكرر، حيث يعبر عن ركود آسن كالمستنقع. ويأتي النتاج خالياً من الإبداع، ثقيل الظل، ملبّدا بالصور التقليدية القديمة وبأنواع البديع الموروثة وترصيع القول بالعبارات المكررة، توزع التعبير بين التفخيم والقدح، التبجيل والهجاء، وبين التقديس والشيطنة
ونظراً لأن القصص ألصق الفنون الأدبية بطبيعة البشر، فهي التي تبقى في الوعي الراكد، فالقصّ يستجيب لرغائب النفس، ويشبع تطلعات الخيال، وتتنفس في مجاله الأحلام، كما يعبر عن الأشواق والتطلّعات الدفينة والمكبوتة، فيبرز قيم المجتمع ومثله، وفي وقت لاحق يرسم له قيما ومثلا يرنو إليها. شاع صنف من القصّ الوعظي، يسرد القاص حكايته ثم يستخلص مغزاها. إنه امتداد للنقل على حساب العقل. أما القصص المترجم فقد خدم الدعاية الدينية وأعمال الوعظ والتعليم. واستمرّ الغرض التعليمي والوعظي الإرشادي لونا مميزا للإبداع القصصي حتى وقت متأخر. فقد كانت الحكاية عبارة عن مقالة أو خطبة. والشعر أيضا حرفة شيوخ الدين، وهو شعر متملق مسخّر في مدح الحكام والولاة وذمّ خصومهم، منقسم بين الإشادة والتحقير، التقديس والشيطنة، غارق في البديع مقيّد بالتكلف، هابط من حيث الشكل والمضمون. أما النقد فقد حمل ثنائية التقريظ والتسفيه، والفكر بعامة توزع بين التقديس والتدنيس، وبين التمجيد والتسفيه.

أدمنت التجمعات في كل بلد عربي الإنصات إلى حكايات الرواة الجوالين يسردون تغريبة بني هلال وبطولات أبي زيد والشاطر حسن وعنترة، وكلّها حكايات أنشئت في العصر الوسيط وغايتها إلهاء الجماهير. هي أشبه بالملاحم، بالَغَ الخيالُ في حشوها بالغرائب واجتراح المعجزات والخلاص من الجنّ والغول بوسائل مادية أو خارقة. خلال المرحلة الظّلامية، انتعش القصّ الشعبي المرتبط بالعامة. وكان الراوي يتفنن في تضمين سرديّته الأشواق المقموعة والمكبوتة في النفوس. وغلب على الحكايات الشعبية تمجيد النماذج البطولية. وعكست الحكايات حنينا شعبيا لخلاص يتوسّل بالخرافة والأسطورة. وفي أكثر من بلد عربي تتردد حكاية الفلاح الذي عاد مهموما إلى بيته، بعد أن أنهى الراوي حلقة تلك الليلة بسجن أبي زيد. رفضت نفسية الفلاح الطعام والراحة وحتى النوم، ليخرج من البيت إلى المضافة حيث يبيت الراوي. أيقظه وطلب منه سرد الحكاية إلى أن خرج أبو زيد من السجن، وعاد إلى بيته مرتاحا هادئاً وقال: الآن يحلو النوم وأبو زيد خارج السجن!
الثقافة الشعبية تؤثث بحنين إلى العدالة والسعادة والمساواة، ويدفن كجمرة بين رمادها شعور ثوري ضد الطغيان الداخلي والسيطرة الأجنبية. وتنطمر بين أسداف الفكر السلطوي عروق من العقلانية والقيم الدينية المطعمة بتكريم الإنسان، والحث على العدالة الاجتماعية. على سطح الوعي الاجتماعي المتقلب مزاجه مع تناوب اتجاهات الريح تطفو أنساق ثقافية معرفية - إنسانية وأخرى غيبية تضليلية تحث على الإذعان والتواكلية والخضوع للأعلى مقاماً والثقة المفرطة برجال لا يكنّون احتراماً لرغبات الجماهير.
لم يكن القصص الشعبي معدوداً بين الفن الأدبي، وكان الأدباء يتعالون عليه، ولم يرفد الأدب المكتوب بشيء.
على أن مصادر أخرى أخذ يتسلل منها الوعي الجديد: طلبة العلم في الأزهر بمصر، وآخرون توجهوا إلى طرابلس الشام وبيروت. كان المسجد الأقصى مركزاً هاماً من مراكز نشر العلوم الدينية وفروعها داخل فلسطين. كان بطيئا ومتفاوتا الأثرُ الذي تركته رياح التغيير التي أخذت تهب على المنطقة." تشير المعطيات إلى أن وتيرة انتشار المدارس تسارعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر... وفي لواء القدس وحده أصبح عدد المدارس قبل نهاية القرن التاسع عشر بعقد على ألأقل سبعين مدرسة، بلغ عدد التلاميذ قيها ( وبينهم عشرات الفتيات)ثلاثين ألف تلميذ، وعدد المعلمين فيها مائة، وبين هذه المدارس المدرسة الرشيدية التي استمرت في العمل واتسعت صفوفها وارتفع مستواها في العهد البريطاني... أنشئ معهد المعلمين ( السيمينار ) الروسي في الناصرة وكان من أهم المعاهد العلمية، وقام بدور بارز في اليقظة الفكرية القومية والأدبية". فقد كان المعهد الوحيد الذي درس تاريخ الأدب العربي، وتخرج منه كوادر مؤهلة للتدريس في المدارس الأرثوذكسية المنتشرة في البلاد السورية، ومنها بالطبع فلسطين. و" اخذت المقارنة الساطعة بين حال المشرق والغرب تشغل بال المتطلعين إلى التغيير، وأخذت المطبعة والصحيفة تتعاونان على تقديم الغذاء الثقافي للقلة التي نالت حظا من التعليم، وفتحت المجلة صدرها للعلم والفكر والأدب والتثقيف العام...شيء واحد كان يمكن أن يمهد للتغيير الحقيقي، هو تغيير البرامج في الأزهر والصلاحية في القدس ومعاهد دمشق ومؤسسات الآستانة، نحو تقبل المستجدات في الحياة العلمية والثقافية بعامة، أو ظهور المدرسة الحديثة في برامجها ونظمها. كان الذي حدث يمثل ازدواجية من نوعين: أولهما أن المدرسة الحديثة قد أخذت بالظهور ولكنها لا تستطيع أن تقنع المعاهد القديمة بضرورة التغيير، فأخذ الازدواج الثقافي يحدث ’شرخا‘ بين فئتين من الناس متباعدتين في نظرتهما إلى شئون الحياة، وثانيهما ان الامتيازات التي أحرزتها الدول الغربية للتدخل في شئون البلاد التابعة للدولة العثمانية بموجب ’ التنظيمات‘ قد فتحت الباب على مصراعيه للإرساليات التبشيرية وظهور المدارس الأجنبية. وكان إقبال المسلمين على هذه المدارس ضعيفا، إذ لم يكن يلحق بها منهم إلا بعض أبناء الأسر القادرة على مواجهة تكاليف الحياة الدراسية، وهكذا بدأت ازدواجية أخرى من نوع آخر، إذ تم التفاوت بين أبناء الوطن الواحد" ، حسب تعبير الدكتور إحسان عباس (فصول حول الحياة الثقافية والعمرانية في فلسطين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1993، ص 194).
اضطلع المسجد الأقصى في مدينة القدس والمواقع التعليمية الأخرى في المدن بدور مركزيّ على الصعيد تثقيف. وأسهم في هذا المجال أدباء ومحقّقون أتاح لهم ثراؤهم وأرستقراطيتهم فرص التفرغ للأدب والثقافة، وذلك من خلال حلقاتهم الأدبية أو حلقات الآخرين الأدبية التي كانوا يشاركون فيها. لعبت مدينة القدس دور إشعاع فكري على فلسطين، حيث عقدت حلقات التدريس في رحاب الأقصى، يشرح هذا الشيخ أو ذاك ما تيسّر من علوم الفقه أو التوحيد أو الحديث أو النحو والصرف والمنطق والبيان والبديع. واطلع هؤلاء على القصص القديم من كتاب الأغاني وكتب الجاحظ وأخبار الشعراء، وفي كتب التاريخ والمغازي والسير، منها قصص البطولة وقصص الحب والغزل ومنها القصص الفلسفي الفكري مثل "التوابع والزوابع" و "رسالة الغفران" و"حيّ بن يقظان"، ومنها القصص اللغوي التعليمي كمقامات البديع الهمذاني والحريري. لكن هذه المصادر لم تمكّن المتعلمين من النسج على منوالها أو تطوير مقامات جديدة.
بقيت أوضاع الريف تعاني الجهل والأمية. بقيت أكثرية المسلمين " أميين تلون تعليمهم بلون سطحي، لا يمكن أن نسميه دينيا، لأنه لم يحرز من الدين إلا ظلالا باهتة، وكان لامية المرأة المسلمة التي استمرت أمدا طويلا اكبر الأثر في أن تأخر تكوين جو ثقافي صالح لتربية النشء وتوجيهه، وكان لحرمان الريف ( الفلسطيني بالذات) من إشعاع الثقافة ( وحتى ما يسمى ثقافة دينية ) أثره البالغ في تحدي رياح التغيير التي أشرت إليها من قبل، وبقاء الحياة راكدة بطيئة غائبة عن تفتح الوعي في مناطق أخرى".
تسربت مجلات من مصر ولبنان، المقتطف واللطائف والهلال والمشرق (بيروت الآباء اليسوعيين). إلا أن محدودية عدد القراء حدّ من الانتفاع من تلك المطبوعات.
كانت في فلسطين في ذلك العهد ثلاثة أنواع من المدارس: كتاتيب وقفية قديمة لم تنل أي حظ من الإصلاح تعلّم شيئا من القراءة والتجويد والكتابة، أو مدارس حكومية ابتدائية لغة التعليم فيها التركية. والنوع الثالث مدارس طائفية تختصّ بكل جماعة دينية ومذهبية، تعلّم العربية وتتأثر بالمدارس الأجنبية التي تشاركها في المذهب، ومدارس أجنبية تنتسب إلى مختلف الدول الأجنبية تعلم لغة الدولة وتعتني في الوقت نفسه باللغة العربية. وقد تخرج خليل السّكاكيني من مدرسة الشبان أو "المدرسة الإنجليزية"، التي قال عنها إنها "أرقى مدرسة في ذلك العهد. دار معلمين تخرج معلمي المدارس الابتدائية".
انتزعت الدول الأجنبية موافقة السلطان التركي على قيام الدول بحماية أبناء الطوائف المسيحية ورعايتهم وتزويدهم بخدمات التعليم والصحة وغير ذلك. كلّ دولة تتعهد الطائفة النظيرة لطائفة مجتمعها. فرضت روسيا لنفسها حماية الروم الأرثوذكس، وفرنسا الكاثوليك، وبريطانيا البروتستانت. وافتتحت مدارس قدّمت الثقافة الأجنبية. وكشف خليل السّكاكيني عن الدور الخطير الذي تقوم به المدارس معتمدة على الحماية الأجنبية "كانت للمدارس الطائفية صفتان: الأولى أنها كانت أجنبية. والثانية أنها دينية. وكان المفهوم من الدين في ذلك الوقت التحزّن والكآبة، والزّهد في الحياة وترك العمل، وقمع النفس والرضا من الدنيا بالنصيب الأخسّ، فكان ضررها من الجهتين، من جهة كونها أجنبية ومن جهة كونها دينية".
دفع المناخ الثقيل الملبد بالتزمت والركود أدباء النهضة إلى الخروج عليه، واكتفى الأدباء بإدارة الظهر للقديم البالي، وانطلقوا إلى الفضاءات الرحبة للإبداع الأدبي والفكري الذي يحاكي الواقع، ويكرس العلاقة السببية بين الظواهر. وحيث لم يجد أدباء النهضة وسيلة لاستيعاب واقعهم والتعبيرعنه في ما وصلهم من تراث فقد وجدوا ضالتهم في ترجمة الفكر الذي أبدعته أشواق وتطلعات مماثلة لتطلعاتهم وأشواقهم. وأسفر التعليم الطائفي عن نتيجة إيجابية تمثلت في الإطلاع على الثقافات الأجنبية والنقل عنها. فتهيأ المناخ لظهور الأدب الذي يصور الإنسان في علاقته بالمجتمع، وبرز في الساحة الأدبية خليل بيدس وخليل السّكاكيني وروحي الخالدي ومحمدإسعاف النشاشيبي وبندلي الجوزي وكلثوم عودة وآخرون.
وتسرّب الجديد من الفكر والثقافات الأجنبية عبر اللغة التركية. وقد ذكر روحي الخالدي أنه اطلع على شعر فيكتور هوغو باللغة التركية. وفي صحيفة "ترجمان حقيقت" نشرت بعض القصص المترجمة.
وعبر المدارس التبشيرية تسرب القصص المترجم. وذكر ميخائيل نعيمه أنه درس بعض القصص الإنجليزية المترجمة إبان دراسته في الناصرة، وطالع قصص تولستوي وتشيكوف وقرأ الجريمة والعقاب لديستويفسكي. وعثر في تلك القصص على أدب ينبع من الحياة وأدباء لا يتلهّون بالقشور. ونشأت طائفة من أبناء فلسطين تتقن الروسية وتنقل عنها.

ردا على تصاعد وتيرة الأشكال الاستبدادية الطورانية، شرع المنوّرون الفلسطينيون بالاهتمام باللغة العربية، شأن نظرائهم في البلدان العربية. ونظموا الحلقات والندوات حول منبت اللغة العربية وجذرها التاريخي، ومراحل تطورها وأنواع علومها، كتاريخ وعلم وهوية قومية لأمة.
أثْرت الترجمات الحركة الأدبية وفتحت الأذهان على فضاءات كانت مجهولة حتى وقت قريب. فقد أسهمت الترجمات في إطلاع الحياة الفكرية على العلاقة السببية في تشكل الأحداث الواقعية بدلا من الاتكاء على الخوارق والخرافة. قدّمت البطل إنسانا عادياً وليس السوبرمان الذي يطوع الخوارق والجان والغول للوصول إلى أهدافه. عرفت بشراً يسكنهم التعاطف الوجداني مع الآخرين، وتحركهم نوازع تخفيف المعاناة البشرية. أطلّت من خلال النوافذ المشرعة صراعات بين الأفكار أظهرت الحياة تاريخا يتميز بالصراع، وعرّفت العلماء باحثين في قضايا الطبيعة والمجتمع، يحدوهم الطموح لتخفيف معاناة البشر، ويبدعون ما ينمّي الثروة الوطنية. تهبط طائرة في منطقة البقعة بالقدس فيهرع الناس لمشاهدة المنظر العجيب. أضواء العلم بدأت تنير طريق الكتّاب وإبداعاتهم، وتبدع اتجاهات جديدة في الكتابة الإبداعية من قصة وشعر ونقد. بت ينظر للأدب علم الإنسان، وللشخصية في العمل الأدبي نموذجا فنيا يعبر عن شريحة اجتماعية أو طبقة أو المجتمع بأسره. وارتبط تطور الأدب بتطور النماذج الأدبية على غرار النوع والشكل في الطبيعة. وكما يصنف العالم النباتي مظاهر عالم اختصاصه محدّداً النواميس التي يخضع لها النوع والشكل، فإن الأديب يرمي دائماً إلى إدراك كنه حقيقة الإنسان عبر تصنيف الأشخاص في نماذج لها ما يشبهها، ثم يردهم إلى أنواع وأشكال بشرية، ويصف النواميس السيكولوجية التي يخضع لها كل من النوع والشكل البشريين. وعلى هذا الفهم نشأ النقد الأدبي وتطور.
ودخلت الصحافة ميدان الثقافة والأدب. الكرمل والنفائس نقلتا إلى القراء قصصا جديدة معبّرة عن آلام الناس وآمالهم. شرعت الصحف بنشر قصص وشعر وروايات تتناول الحياة العامة.من أهم مدخلات الأدب الجديد شحن الوجدان بتعاطف مع ضحايا المجتمع الظالم، وتقديم أبطال من الواقع يمثلون نماذج من المجتمع. كما أدخلت تحسينات على الكلمات والمصطلحات، وجرى تجويد التعبير اللغوي، وباتت تعبر عن وقائع وجوانب من الحياة العامة. ومع استمرار النشر وتجذّره في التعامل، ولو على نطاق النخب، اغتنى بمفردات ومصطلحات جديدة مثل الإصلاح والعدل والحرّية والتحديث، وكذلك كلمات الشعب والاستبداد والإقطاع والرأسمالية والنهضة، وتعابير مثل الأمة العربية والقومية العربية والفكر الاشتراكي وحركة الشعوب واضطهاد الشعوب والمطالب الاجتماعية. كما ترددت دعوات الإقبال على العلم والتنديد بالجمود.
وفرت الصحافة منابر لنقاشات الأدباء والحوار حول وظيفة الأدب والثقافة والنقد الأدبي، واشتبكت الاتجاهات الأدبية في حوارات تراوحت في حدتها، وتميز اتجاهان رئيسان في الأدب، أحدهما يصر على جزالة التعبير واللفظ وبلاغة التراكيب اللغوية يمثله محمد إسعاف النشاشيبي، وآخر يفضل سلامة اللفظ وسهولة التعبير وصولاً إلى جذب القراء وتوسيع المعرفة. إنه أسلوب الصحافة بالدرجة الأولى ومثّله الأديب خليل السّكاكيني.
تميزت الحياة الفكرية في هذه المرحلة باستيحاء الواقع وإبداع الجديد المعبر عن الحاجات والمصالح الجديدة. وتتلخص في نقل المجتمع العربيّ إلى رحاب التقدّم. ودخلت القاموس الفكري كلمات التقدم والعلم والدستور والديمقراطية والشعب، وبرز التعلق بالعلم وتقييم دوره في الحياة. وباتت شئون المجتمع وشجونه من اهتمامات الشعر والنقد والأدب عموما. كما دخلت الصحافة والأدب والمدرسة والجمعيات والأندية أدوات لإنهاض المجتمع وترقية الحياة.
قدم الأديب المعاصر لأبناء وطنه صوراً بهيجة وجميلة، وأفكارا صائبة مستنيرة تمنح القراء أبدية حب الوطن والتكافل الاجتماعي وتقديم القيم الاجتماعية السامية والملهمة. إن قيمة المنتج الأدبي ترقى بقدر ما يطرحه من قيم معرفية للواقع الاجتماعي وللنفسية الإنسانية تعين على فهم مغاليقها. ولا بدّ من أن يستهدف الجمال والخير والحقّ في كتاباته، فالثقافة قيم معرفية وأخرى خلقية وثالثة جمالية.
ترافق تعرف المثقفين على الروايات الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية بمعارف جديدة في الأدب منها التعرف على الأدب العالمي، وقد عرف المثقفون شيئاً عن المسرح كنوع جديد من أنواع الأدب بالنسبة لهم. وقد حفزت جدته على الاهتمام به وممارسته. ويشهد على هذا السبيل سبقاً للمربيين خليل السّكاكيني وجميل الخالدي عندما بدءا به في مدرستهما في القدس، وانتقلا به إلى مدارس أخرى أخذ طلابها فيما بعد يقومون بتقديم التمثيليات المسرحية المدرسية أيضاً.
كما اتصل الناقد روحي الخالدي بآفاق الأدب الفرنسي المتمثلة في فيكتور هوغو، وبما أحاطه بهذه الآداب من ظروف اجتماعية، كذلك فعل الكاتب خليل بيدس في مجلته "النفائس" التي طلع بها على الناس، والتي جعلها مدرسة قائمة بذاتها، تطل على حياة الأمم الأخرى، وتنتفع بما أنتجه الفكر العالمي من آثار أدبية وغيرها. وجعلها منبراً لروايات أكبر الكتاب العالميين، وفتح نوافذها على الآفاق الروسية وغيرها في الأدب القصصي، وعني بالروايات لما لها على اختلاف مواضيعها من التأثير الخطير في القلوب والعقول، حتى اعتبرت من أعظم أركان المدنية، بالنظر إلى ما تستنبطه من الحكمة في تثقيف الأخلاق، وما تنطوي عليه من العبر والمواعظ في تنوير الأذهان.
اطلع الأدباء الفلسطينيون على الآداب الإنسانية من إبداعات بوشكين وتولستوي وتشيكوف وأوسكار وايلد. "كان أول من مارس الترجمة خليل بيدس ونقل عن الروسية عشر روايات منها ’ابنة القبطان‘ و ’الطبيب الحاذق‘ و’القوزاقي الولهان‘ و ’شقاء الملوك‘ وعشرات القصص القصيرة". ومن المترجمين أنطوان بلان حيث نقل خواطر من كتاب "طريق الحياة " لتولستوي. وترجم عن الروسية أيضاً كل من سليمان بولس وإبراهيم النجار وعبد الكريم سمعان وكلثوم عودة. واتصل بالأدب الروسي على خطو الرواد كل من نجاتي صدقي الذي ترجم من أعمال بوشكين وتشيكوف وبعض روايات المقاومة ضد الغزو النازي. وفي عقد الثلاثينات برز من المترجمين محمود سيف الدين الإيراني وعارف العزّوني الذي نقل لمحات من حياة غوركي وفصولا من روايته "الأم"، وقصصا من إبداعات القاصين السوفييت. ونقل عارف العزّوني قصصا من المقاومة السوفييتية للغزو النازي.
كان نجيب نصار قد كتب رواية "مفلح الغساني"، وفيها تجلت رغبة نصار في الحفاظ على العلاقات العربية التركية سليمة ومتينة، بخلاف نجيب عازوري الذي دعا للتخلص من الحكم التركي.
وعرف عن خليل بيدس إصدار أول رواية فلسطينية "الوريث" التي ظهرت في القدس عام 1920، ونشر أيضاً مجموعة قصصية بعنوان "آفاق الفكر" عام 1924 في القاهرة. والرواية الثانية من حيث الأهمية هي رواية اسحق موسى الحسيني "مذكرات دجاجة" 1943، وقد كتب لها المقدمة د.طه حسين، وطبعت عدة مرات لما حصلت عليه من شهرة آنذاك في العالم العربي.
أمام هذه المفاهيم الجديدة التي أخذت الآداب العربية تستوعبها، انعكست تفاعلاتها مع تطوّر حركة الإصلاح والتغيير في أوائل القرن العشرين إلى حركة النهضة القومية العربية وتيار المطالبة بالاستقلال القومي والتحرّر والاستقلال عن الدولة التركية، ما أهّل اللغة العربية وآدابها لأن تكون أحد عناصر النهضة القومية. كما نهل علماؤها وأدباؤها وما يتصل بها من صحافيين وأساتذة ومثقفين من رموز هذه النهضة. وبذلك تكرّست اللغة على أنها الأمة، والأمة هي اللغة. وأصبح مدركاً بلا جدل أو اختلاف على أن ضعف الأولى ضعف للثانية. اللغة تزدهر مع ازدهار حياة الشعوب، ذلك أنها ترتبط ارتباطاً عضويا بحياة الناس وتتطور بتطور حياة المجتمع.
وعبّر الأديب خليل السّكاكيني عن الرؤية نفسها في مقالة نقدية نشرتها مجلة "النفائس" بعنوان "تطوّر اللغة في ألفاظها وأساليبها"، حيث قال: "تتطور اللغة في ألفاظها وأساليبها تطوراً مستمراً في تؤدة وخفاء، فلكلّ عصر بل لكل إقليم في كلّ عصر لغته وأسلوبه، حتى أنك تستطيع أن تعرف القول من أي عصر أو من أي إقليم هو، حتى وإن كنت لا تعرف من هو قائله".
احتدم الصراع في فلسطين بين الاتجاهات الجديدة والقديمة، وبين معاييرها الخلقية والفكرية. ونجد نزعة التجديد والتعبير عن الواقع تكتسب أفضل العقول والمواهب.
تجلت خيبة العرب المريرة من غدر "الحلفاء" بعد الحرب العالمية الأولى في إبداعات أدبية رومانسية متوترة تتساءل مذهولة عن العدالة وقيم الحرية وحق تقرير المصير، وتستهجن العنف النازل بالشعوب المغلوبة على أمرها من قبل الدول التي تنهج الديمقراطية في نظامها الداخلي. ومن السمات الأساس للرومانسية في الفكر والسياسة ذلك الشعور بالقلق الروحي في غياب التعمق في الواقع وملاحظة الظواهر والوقائع في حركتها وعلاقاتها السببية، بحيث يتوفر الإدراك الموضوعي بطبيعة التناقضات ومصدرها أو فهم نواميس حركة الواقع وسبل حل التناقضات. تفصح التوترات العصبية المتظلمة عن عدم تفهم طبيعة السيطرة الإمبريالية التي تشكل جوهر المرحلة الجديدة.

زمن الحراك الإجتماعي:
قبل الانتداب، حفزت المعاناة طلائع الفلسطينيين لإمعان النظر في أهداف الصهيونية. كان بعض رواد النهضة حسني النية بدول الغرب، وتضمنت كتاباتهم إشادة بهذه الدولة او تلك. كانت توجهاتهم الاجتماعية ترمي إلى إقامة نظام اجتماعي على غرار مجتمعات الغرب. ولم تتضح للأغلبية الساحقة من المثقفين العرب والفلسطينيين حقيقة الامبريالية إلا بعد صدور وعد بلفور وافتضاح اتفاق سايكس بيكو، ثم إخضاع المجتمعات العربية لأنظمة كولنيالية. ورغم هذا الحيف، تواصل انخداع الجانب السياسي من الحركة القومية في فلسطين، أوتغافله، مستكينا لوهم الاستعانة بالانتداب البريطاني ضدّ الاستيطان الصهيوني. وعديدة هي الزعامات " الوطنية" في فلسطين ممن تعاونوا مع الانتداب. وتكرست عادة قبيحة في العمل السياسي الفلسطيني، هي عادة استبعاد المثقفين وإدارةالظهر لمعطيات الثقافة المعاصرة. وسر ذلك بسبب النزعة الذاتية والمزاجية، وعدم الجدية في التصدي للمخاطر المحدقة.
وبعد إعلان وعد بلفور، وافتضاح أمر سايكس بيكو، ردّ المؤتمر السوري الأول بإطلاق اسم سوريا الجنوبية على فلسطين. في فلسطين تأسست الجمعيات الإسلامية- المسيحية التي كان لها دور بارز في الدعوة إلى المؤتمر الفلسطيني الأول (13-19كانون الأول 1920) والمؤتمرات التي أعقبته. وشارك خليل السّكاكيني في تأسيس جمعية الآداب الزاهرة. وكان السكاكيني قد أسس عام 1908 في القدس فرعا لجمعية الإخاء العربي. ثم تأسست جمعية النهضة الاقتصادية العربية وحلقة الأدب لإحياء اللغة العربية وتدعيم التعليم ونشر الكتب الأدبية. وتأسست لهذا الغرض الأندية في القدس وغزة وبيت لحم والناصرة.
تلقي شهرة "مقهى الصعاليك" الضوء على مكانة مدينة القدس كعاصمة لفلسطين، وإحدى مراكز الثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين. فقد أضفى نشاطه ك (بيت المثقفين الفلسطينيين) حيوية على الحركة الثقافة في فلسطين وعمل على توحيد المثقفين حول التوجهات الوطنية للثقافة. كما أوحت التسمية في حينه بخروج المثقفين الفلسطينيين على تقليد التنابذ والإقصاء الذي ميز الحركة السياسية الفلسطينية. يعود الفضل في إنشاء التجمع إلى خليل السّكاكيني، الدينامو المحرّك لأنشطته الثقافية. اعتاد المثقفون التلاقي في مقهى بمدينة القدس القديمة يخص مختار الطائفة الأرثوذكسية، عيسى الطبّة، ويقع ملاصقاً لسور المدينة عند باب الخليل. كان المقهى هو الندوة المفتوحة للصحافيين والشعراء والمثقفين، وقد تأسس في عام 1917، وكان ملتقى الأدباء والمثقفين وضيوفهم. وأطلق عليه الأديب الكبير خليل السّكاكيني اسم "مقهى الصعاليك" . ذاع صيت "مقهى الصعاليك" في القدس ومدن فلسطين الأخرى وكذلك في خارج البلاد ، وذلك لأن المختار عيسى الطبّة كان ملتقى أصحاب الحاجات من المدينة والمدن الفلسطينية الأخرى. عمل في السابق عامل مطبعة وتوثقت صلاته بالمثقفين كافة. كان عمّال الطباعة في تلك الأيام هم عامل جذب للمثقفين في مجتمعاتهم، وكان الشعراء والأدباء يتبارون في التعرّف إليهم وإقامة العلاقة معهم وكسب ودّهم والتقرب إليهم. كما أن الشهرة الخارجية التي كان يتمتع بها المقهى جعلت منه عنواناً لتراسل الأدباء والمثقفين العرب مع نظرائهم الفلسطينيين، وخصوصاً بواسطة الحجيج الذين كانوا يجلبون معهم بعض الجرائد والمجلات والكتب الثقافية والأدبية، وكذلك أخبار الأدباء والأدب في المدن التي قدموا منها.
وكان أبو ميشيل الطبة أحد رواد الحركة الأرثوذكسية التي اندمجت مع الحركة الوطنية في فلسطين. في عهد استبداد الدولة العثمانية كانت مختلف شعوب الإمبراطورية ترغم على التخلي عن ثقافاتها بقبول "التتريك". وكانت الكنيسة الأرثوذكسية تهادن الحكومة، وأحياناً تبدو متساوقة معها في القمع، فحيث كانت الحكومة لا تأبه بحقوق العرب كانت البطريركية الأرثوذكسية إضافة إلى ما تتعرّض له رعيتها من قبل الحكومة، تنكر على رعيتها أية حقوق لهم عليها، ولا تعترف لأي من رعاياها الفلسطينيين بأهلية تقلد مناصب رفيعة في الكنيسة، وتعرقل تعريب السلك الكنسي، باعتبار الكنيسة يونانية للأبد. حرمت الكنيسة الأرثوذكسية رعيتها من الحق في أية خدمات تعليمية أو صحية أو اجتماعية أو ثقافية. وأكثر من ذلك كانت تحرّض ضد ناشطي الرعيّة في حركة الإصلاح والنهضة القومية التي تناضل من أجل الاستقلال القومي.
وقفت الكنيسة الأرثوذكسية ( ومركزها اليونان) موقفا معاديا من المثقفين الأرثوذكس، والمثقفين الفلسطينيين عامة. واتخذ العداء منحى صارخا بعد أن أسس المثقفون الأرثوذكس إطارهم التنظيمي الذي أطلقوا عليه اسم "الحركة الأرثوذكسية" وإطلاقهم مطالب "فلسطنة أو تعريب الكنيسة الأرثوذكسية"، و"الدعوة لحوار الطوائف المسيحية في فلسطين"، و"استثمار أموال وأملاك الكنيسة الأرثوذكسية في خدمة الرعيّة ولمنفعتها ومن أجل تطورها"، و"دعم الحركة القومية العربية" و"عدم التستّر على الدور التركي في تسهيل تملك الصهيونية لأراضي فلسطين" و"تشجيع حركة التنوير الثقافي والاجتماعي المسيحية"، و"مساعدة الشبيبة الأرثوذكسية في بناء مستقبلها في فلسطين تشجيعاً لها على عدم الهجرة إلى بلاد الاغتراب"، و"مساهمة الكنيسة في تشييد المدارس وإقامة المعاهد التعليمية والعلمية"، و"تطوير المناهج التعليمية في المدارس الأرثوذكسية" وغيرها من أهداف وشعارات الحركة الأرثوذكسية الوطنية الاستقلالية والقومية العربية والثقافية والعلمية والتنويرية.
للكنيسة الشرقية تقاليد تختلف عن تلك التي نسجتها الكنيسة الغربية. المسيحية الفلسطينية شرقية التراث وتتأسس على تراث المسيحية الشرقي الذي يعتبر أن الكنيسة وأملاكها ورهبانها ورعاتها في خدمة الرعية وفقرائها، وهي في الوقت ذاته الملاذً والملجأ والمصحّ للمحتاجين منهم إلى رعايتها وخدماتها، وذلك بعكس الكنيسة الغربية التي بنت تقاليد همجية الدور الذي اضطلعت به هذه الكنيسة في القرون الوسطى، حيث مارست محاكم التفتيش واضطهاد الإصلاحيين والخارجين، ومنحت صكوك الغفران لمن تريد، وحشدت من يطاله غضبها في أديرتها التي أصبحت سجوناً يديرها جلادون يحملون الصليب، وتعشش فيها روح الخرافة والإيمان بالتنجيم والنزوع نحو الاستغلال.
قدمت الكنائس الغربية، ومن ضمنها الأرثوذكسية، وفق التسهيلات التي منحتها السلطة العثمانية للإرساليات الأجنبية خدمات للمواطنين العرب، وبينهم الفلسطينيون، في مجالات التعليم والصحة والخدمة الاجتماعية، حيث فتحت المدارس والمستشفيات والمعاهد العليا والمراكز الثقافية والطبية والاجتماعية، ووفرت لها كل مستلزمات العمل، واستوعبت مختلف الكفاءات التعليمية والمهنية والثقافية فيها وأسست للنهضة التعليمية والثقافية المعاصرة، لكن دور الكنيسة الأرثوذكسية كان محدوداً على هذا الصعيد، برغم أولويتها في المسؤولية في هذا الاتجاه باعتبارها أم الكنيسة الشرقية.
إن هيمنة الاكليروس اليوناني علي الأديرة الأرثوذكسية، خصوصاً في القدس، أفاد المشروع الاستيطاني الصهيوني. لذلك قاوم الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية مساعي الوطنيين الأرثوذكس لاستعادة نفوذهم علي تلك الأديرة. والصراع المرير الذي بدأ بين الاكليروس اليوناني والفلسطيني كان له الكثير من الجولات، لعل آخرها تلك التي جرت مؤخرا وتمحورت علي دير وأرض في القدس اشتراهما الصهاينة من البطرك الأرثوذكسي اليوناني.
كان العم أبو ميشيل من أوائل الدعاة لتعريب الكنيسة الأرثوذكسية، وظلت صلاته واتصالاته مع الأدباء والمثقفين قائمة وتتوطد يوماً إثر يوم، وذلك لأن الأدباء والمثقفين والشعراء والحقوقيين كانوا هم رواد الحركة الأرثوذكسية. وعندما افتتح مقهاه، أصبح نقطة التقائهم وتجمعهم.
ويُستقرأ من كتابات الأديب خليل بيدس في الأعداد الأولى من مجلته في العهد البريطاني أن "انتفاضة عام 1919 قد تبلورت فكرة انطلاقتها وتعيين أهدافها في مقهى الصعاليك". وكان الأديب خليل بيدس هو أول سجين انتفاضة في التاريخ الفلسطيني، فقد كان واحداً من دعاة تلك الانتفاضة ومن قادتها الذين اعتقلوا وهم على رأسها.
وابتداء من عام 1919 بدأ المقهى يتكرّس كملتقى للمثقفين، ومنذ عام 1920 تقريباً أصبح زبائن المقهى يقتصرون على الأدباء والشعراء والمثقفين والسياسيين. في المقهى تجري مناقشة الإنتاجات الإبداعية للأدباء والشعراء، كما تبلغ الأخبار على تنوعها وتتلى المراسلات الأدبية والثقافية والفكرية، التي يتلقاها المثقفون من بعضهم في الوطن، وتلك التي يتلقونها من الخارج.
احتل الأدب بجميع أنواعه: الشعر، النثر، القصص، الروايات، النقد الأدبي وغيرها حيزاً واسعاً من دائرة مواضيع أحاديث مقهى "الصعاليك". وحظي موضوع الترجمة الأدبية باهتمام بالغ بينها لأسباب رئيسة من بينها حداثة هذا النوع من الأجناس الأدبية ودوره في التعريف على ثقافة الآخر والمستويات التي بلغتها من التطور والدور المتوقع من تأثيرها الإيجابي على مستوى أنواع ثقافتنا الوطنية. والسبب الأكثر أهمية على هذا الصعيد هو الدور الذي لعبته الترجمة الأدبية في صوغ وتكوين عوامل وأساليب وضع الرواية باللغة العربية ودعمها لتتحول في مرحلة لاحقة كأم للنثر في أدب فلسطين.
وكانت تنظم في المقهى حلقات نقاش مقلصة أو موسعة. وإذا حضر أحد الضيوف من أدباء العرب أو رجالاتهم البارزين إلى المقهى بضيافة أحدهم تحول المقهى بجنباته كافة إلى قاعة محاضرات يتحلّق ناسها حول ضيفهم فيصغون إلى حديثه باهتمام شديد وبأدب جم، وعندما ينتهي يمطرونه بوابل الأسئلة عن كل شاردة وواردة من شؤون الثقافة والفكر والأدب والسياسة في بلاده.
حركة مسرحية في فلسطين
كانت التجربة عبر السنوات الأخيرة من الحكم التركي متواضعة، ولم تؤسس ما يمكن البناء عليه والانطلاق منه، لذا كان المسرح والمسرحيات والممثلون المسرحيون واختصاصات العمل المسرحي البدائية التي كانت معروفة يوم ذاك تكاد تكون موضوع حديث يوميّ للشلة، وتكاد إقامة مسرح تشكل الأمنية المشتركة لكل واحد منهم، والحثّ على وضع مسرحية إلى جانب ما يمكن ترجمته من مسرحيات.
وكانت تجربة حيفا المسرحية مثار اهتمام بيت الكتاب الفلسطينيين في القدس ومتابعتهم. كان الأديب جميل البحري من حيفا رائد الكتابة المسرحية، عندما وضع روايته الأولى "قاتل أخيه" وكتبها أوائل عام 1919. وحظيت المسرحية بالإشادة، وجرى تمثيلها على مسارح سورية وفلسطين وغيرها من البلدان العربية الأخرى. وعلى الأثر تشكلت "جمعية التمثيل الأدبي" كنواة لإقامة مسرح في حيفا.
أصدر البحري، الملقب فقيد الشباب مجلة زهرة الجميل، وهي من اعرق الصحف الأدبية والثقافية في حيفا. وهي أدبية روائية سياسية ترفيهية, سميت بزهرة الجميل لكنه أبدل اسمها في السنة الثانية من صدورها وأصبحت "الزهرة". حينها صدرت بحلة جديدة مختلفة عما كانت اسما ومضمونا, وكانت تصدر مرتين في الأسبوع1 . وتوقفت المجلة عن الصدور إثر مقتل صاحبها في حادث شجار.
وعندما أسس الأديب جميل البحري "مجلة الزهرة" عام 1921، التي استمرت في الصدور حتى مقتله عام 1929، خصص أحد أبواب المجلة للروايات المسرحية. وقد أسهمت النوادي الأرثوذكسية في تنشيط حركة المسرح في فلسطين.
نجحت "الشلة" من خلال دور أعضائها الوطني، وعضويتهم في الحركة الأرثوذكسية بتشكيل لجان وجمعيات تمثيلية لأندية الشبيبة والنوادي الأرثوذكسية في المدن. انعكست بواكير هذا النشاط بتمثيل رواية "عواطف الزوج" على مسرح الشبيبة في بيت لحم. وحضر حفلات الجمعية جموع غفيرة من الناس، ومن أعضاء النوادي الأرثوذكسية من المدن الفلسطينية الأخرى. ومن الجمعيات التمثيلية التي تأسست في عقد العشرينات من القرن الماضي "جمعية الفنون والتمثيل في القدس". وكانت تستخدم مسرح مدرسة الفرير لتقديم مسرحياتها. كما تأسست "فرقة شبان القدس" ومثلت هذه الفرقة "رواية مجدولين" الشهيرة على مسرح سينما صهيون بالقدس، ولاقت استحساناً شديداً من الجمهور وحققت نجاحاً كبيراً، خصوصاً وأن فتاة شاركت في هذه المسرحية، للمرة الأولى في تاريخ المسرح في فلسطين. وتتالى تشكيل الفرق التمثيلية في مدن فلسطين. وعملت الهيئة التمثيلية في نادي شبيبة بيت لحم كمسرح جوّال طاف مختلف المدن والتجمعات الفلسطينية، وقدم مسرحية "أهوال الاستبداد" التي ترجمها خليل بيدس.



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد ال ...
- -الثقافة العربية في فلسطين ( 1من 4حلقات) البدايات والإعاقات
- خنق الماركسية من خلال احتضانها
- نكبة تفرخ نكبات وكوارث
- النضال الطبقي في البنية الكولنيالية-3
- النضال الطبقي في البنيةالكولنيالية
- من ركام المحنة تنبت العقلانية
- النضال الطبقي في البنية الكولنيالية
- خطورة الفساد تتجاوز إهدار المال العام
- الأرض في المشروع الصهيوني
- الاحتلال يعزز مواقعه في العراق ... ولو بصعوبة
- احترام مشاعر الجمهور وعقله
- أجل، إسرائيل بحاجة إلى مبرر
- نموذج لعدوانية العولمة وإرهابها
- الإيديولوجيا كالهواء نتنفسه ولا نشعر به
- السلطة والفصائل تستنكف عن تحريك المقاومة الجماهيرية
- أوضاع الفلسطينيين تتدهور للأسوأ
- التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية 3من 3
- التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية حلقة2
- التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية


المزيد.....




- علماء يستخدمون الذكاء الاصطناعي لحل مشكلة اختفاء -غابات بحري ...
- خبيرة توضح لـCNN إن كانت إسرائيل قادرة على دخول حرب واسعة ال ...
- فيضانات دبي الجمعة.. كيف يبدو الأمر بعد 3 أيام على الأمطار ا ...
- السعودية ومصر والأردن تعلق على فشل مجلس الأمن و-الفيتو- الأم ...
- قبل بدء موسم الحج.. تحذير للمصريين المتجهين إلى السعودية
- قائد الجيش الإيراني: الكيان الصهيوني اختبر سابقا ردة فعلنا ع ...
- الولايات المتحدة لا تزال غير مقتنعة بالخطط الإسرائيلية بشأن ...
- مسؤول أوروبي: الاتحاد الأوروبي يحضر الحزمة الرابعة عشرة من ا ...
- إصابة 3 أشخاص في هجوم انتحاري استهدف حافلة تقل عمالًا ياباني ...
- إعلام ونشطاء: هجوم صاروخي إسرائيلي جنوبي سوريا


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - سعيد مضيه - الثقافة العربية في فلسطين البدايات والإعاقات 3من4)