أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - ما هو الكون؟















المزيد.....



ما هو الكون؟


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2360 - 2008 / 8 / 1 - 11:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ما هو الكون؟
نحو تصوُّر كوزمولوجي مضاد
لنظرية "الانفجار الكبير" Big Bang
ما هو الكون Universe؟

إذا أرَدْنا إجابة، تَعْدِل، أو تشبه، "التعريف"، أي أنْ نُعرِّف فيها هذا "الشيء" الذي نسمِّيه "الكون"، فإنَّنا سنتورَّط في مشكلة نظرية ومعرفية كبيرة، هي "مشكلة التعريف"؛ ذلك لأنَّ تعريف "التعريف" هو أنْ نَنْسِب الضيِّق (من الأشياء والظواهر..) إلى الواسع، والواسع إلى الأوسع، فأنتَ حين تُعرِّف "الأوكسجين" تقول إنَّه "غاز.."؛ وحين تُعرِّف "البرتقالة" تقول إنَّها "فاكهةٌ.."؛ وحين تُعرِّف "الكلب" تقول إنَّه "حيوانٌ..". وإذا كان كل أوكسجين غاز فليس كل غاز أوكسجين؛ وإذا كانت كل برتقالة فاكهة فليس كل فاكهة برتقالة؛ وإذا كان كل كلب حيوان فليس كل حيوان كلب.

إنَّكَ يكفي أنْ تقول في تعريف "الكلب"، مثلاً، إنَّه "حيوان.."، وأنْ تدْرِكَ، من ثمَّ، أنَّ كَوْن كل كلب حيوان لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ كل حيوان كلب، حتى تَكْتَشِف جوهر وقوام العلاقة المنطقية بين الطرفين، أي بين "الكلب" و"الحيوان"، أو بين "الخاص (أو الفَرْد)" وبين "العام" من الأشياء.

وأنتَ قبل (وتوصُّلاً إلى) تعريف "البرتقالة"، مثلاً، على أنَّها "فاكهةٌ.."، أي قبل أن تستهلَّ تعريف "البرتقالة" بعبارة "إنَّها فاكهة"، لا بدَّ لكَ من أنْ تَعْقِد "مقارنة" بين "البرتقالة" وبين أنواع أخرى من الفاكهة (كالعنب والموز). وعقد "المقارنة" إنَّما هو البحث في أوجه التماثُل (التشابه) والاختلاف (التباين) بين شيئين، أو أكثر.

وبَعْد "المقارنة"، لا بدَّ لكَ من الانتقال إلى "عملية التجريد (النظري أو المعرفي)"، فلا "تعريفَ" لشيءٍ إلاَّ عَبْر، وبَعْد، "التجريد"؛ فأنتَ لن تُعَرِّف "البرتقالة" إلاَّ بَعْد أن تُنحِّي أوجه الاختلاف والتباين بينها وبين العنب والموز..

ومع احتفاظِكَ بأوجه التماثل، أو التشابه، بينها وبين العنب والموز..، تتوصَّل إلى "التعريف"، أي إلى تعريف "البرتقالة" على أنَّها "فاكهةٌ..".

إنَّ تعريف الشيء، أي شيء، يَسْتَلْزِم أوَّلاً مقارنته بأشياء، بينه وبينها أوجه تماثُل (تتَّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع أوجه الاختلاف). وليس من شيء في الكون، مهما كَبُرَ أو صَغُرَ، لا تقوم بينه وبين سائر الأشياء تلك العلاقة المتناقضة، أي علاقة "التماثُل" و"الاختلاف"، في الخواص والصفات..

ونحن إذا نَظْرنا إلى كَوْننا على أنَّه "شيءٌ"، فلا بدَّ لنا، إذا ما أرَدْنا "تعريفه"، من أن نقارنه أوَّلاً بـ "أكوان أخرى"، أي بأشياء من جنسه، كما قارنَّا "البرتقالة" بأنواع أخرى من الفاكهة؛ فأين هي الأكوان الأخرى، إذا ما افْتَرَضْنا أنْ لا كَوْن إلاَّ كوننا، أو إذا ما افْتَرَضْنا أنَّنا، ولأسباب موضوعية صرف، لن نتمكَّن أبداً من إدراك وجود كون آخر (أو أكوان أخرى) مع أنَّه موجود فعلاً، أو يمكن أن يكون موجوداً بالفعل؟!

على أنَّ هذا الذي قُلْنا في أمْر "التعريف" لَمْ يَحُلْ بين القائلين بنظرية "الانفجار الكبير" Big Bang وبين أنْ يُعرِّفوا الكون (تعريفاً مُخْتَصَراً، وفي كلام جامع مانع) على أنَّه "كلُّ شيء (نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف)".

التوسُّع في رؤية الكون

الإنسان، وبـ "عينه المجرَّدة"، نَظَر إلى الكون، وظلَّ يَنْظُر إليه زمناً طويلاً؛ وها نحن اليوم نَعْرِف ونُدْرِك أنَّنا لا نستطيع التوسُّع في رؤية الكون من غير "أداة"، يمكن تسميتها "العين الاصطناعية"، التي إمَّا أن تكون "التليسكوب"، الذي بفضله نرى المجرَّات والنجوم وسائر الأجسام البعيدة؛ وإمَّا أن تكون "الميكروسكوب"، أو "المجهر"، الذي بفضله نرى ما تناهى (أو بعضاً مِمَّا تناهى) في الصِغَر من الكون، كالجزيئات والذرَّات. ولكن، يجب أن نَعْلَم أنَّ "التليسكوب"، أو "الميكروسكوب"، هو كـ "المرآة"، لا تُرينا إلاَّ ما نُريها (من الأشياء).

نحن البشر نعيش على سطح جسم كوني، عُمْره خمسة بلايين سنة، أي 5000 مليون سنة، هو "كوكب الأرض"، الذي يدور حَوْل نفسه، أو حَوْل محوره، مرَّة واحدة يومياً؛ ويدور، في الوقت نفسه، حَوْل نجمنا، أي الشمس، مرَّة واحدة سنوياً.

وعندما ننظر في السماء، ليلاً، نرى كواكب أخرى كالمريخ، والزهرة، والمشتري، وزحل، تنتمي جميعاً إلى النظام ذاته الذي ينتمي إليه كوكب الأرض، وهو "النظام الشمسي" Solar System، الذي يتَّخِذ من الشمس مركزاً له.

ولو جئنا بميزان كوني ضخم، وَوَضَعْنا في إحدى كفَّتيه كل كواكب النظام الشمسي، وفي الكفَّة الأخرى، الشمس، لَرَأيْنا أنَّ وزن الكواكب جميعاً يقل عن 1 في المائة من وزن الشمس، التي، مع كواكبها، تَعْدِلُ قطرة في بحر نظام كوني أوسع هو مجرَّتنا، مجرَّة "درب التبَّانة" Milky Way، فهذه المجرَّة، أو "الجزيرة الكونية"، تضمُّ آلاف الملايين من النجوم، أو الشموس، التي كثيرٌ منها أعظم حجماً، وكتلةً، من شمسنا، وبكثير؛ وكل نجم نراه ليلاً إنَّما هو جزء من مجرَّتنا. ولقد أكَّدت الأبحاث الحديثة أنَّ نجوم مجرَّتنا جميعاً متَّصِلة، متَّحِدة، جاذبياً، وتدور حَوْل مركزٍ بعيد.

وتضمُّ مجرَّتنا كميات هائلة من الغبار والغاز، مبعثرة بين النجوم. وهذه المادة المنتشرة بين النجوم، في مجرَّتنا، تعترض سبيل الضوء المرئي المنطلق من نجومها البعيدة (عن كرتنا الأرضية) فلا يتمكَّن، بالتالي، المراقبون في الأرض من أن يروا في تفصيل ووضوح الأجزاء البعيدة من "درب التبانة". أمَّا نواة مجرَّتنا فما زالت حتى الآن منطقة يكتنفها الغموض، تَحْجِبها عن الرؤية سُحُب داكنة مُظْلمة من الغبار بين النجوم.

شمسنا إنَّما هي نجم متوسط الكتلة والحجم من بين 100 بليون (100000 مليون) نجم (تقريباً) تضمها مجرَّتنا (مجرَّة "درب التبانة"). ويبعد هذا النجم،أي نجمنا، عن مركز مجرَّتنا نحو 24 ألف سنة ضوئية. ومعظم النجوم التي نراها بالعين المجرَّدة تبعد عنَّا ما بين 10 سنوات ضوئية و 100 سنة ضوئية.

أمَّا المجرَّة الأقرب إلينا، وهي "آندروميدا" Andromeda فتبعد عنَّا 3 ملايين سنة ضوئية، أي أنَّنا نراها الآن في الحال، أو الهيئة، أو الصورة، التي كانت عليها قبل 3 ملايين سنة.

وحتى وقت ليس بالبعيد كان بعض الفلكيين يعتقدون بأنَّ مجرَّتنا هي الكون كله، وبأنَّ مركزها هو نفسه مركز الكون.

ونتوسَّع في رؤية الكون أكثر، فنَجِد أنَّ مجرَّتنا هي جزء من نظام كوني أوسع وأكبر هو "عنقود Cluster (تجمُّع، جماعة، طائفة، مجموعة، تكتُّل، اتِّحاد) المجرَّات"، الذي يضمُّ مجرَّات كثيرة. وليس في وسعنا، حتى الآن، أنْ نَعْرِف عدد "عناقيد المجرَّات" في الكون المرئي، أي الكون الذي نستطيع رؤيته (أو إدراك وجوده) الآن.

في الكون، لا وجود لنجم مُنْعَزِل، أي غير مُنْتَمٍ إلى مجرَّة ما، يهيم على وجهه في الفضاء؛ كذلك لا وجود لمجرَّة مُنْعَزِلة، فكل مجرَّة إنَّما هي فَرْدٌ من جماعة، أو طائفة، أو مجموعة، من المجرَّات. وتختلف "مجموعات المجرَّات" حجماً وكتلةً وشكلاً؛ وكل "مجموعة" تشتمل أيضاً على كل مادة تنتشر في الفضاء بين مجرَّاتها، كمادة الغاز الحار، الذي لحرارته العالية يُطْلِق "أشعة سينية" X - Rays بدلاً من الضوء المرئي.

و"القوَّة (أو "الصمغ")" التي تبقي "مجموعة المجرَّات" متماسكة، متَّحِدة، إنَّما هي "الجاذبية الداخلية"، أو "الجذب المتبادل" بين مجرَّات ومكوِّنات وعناصر "المجموعة".

ومعظم المادة في "مجموعة المجرَّات" هو مادة غير ظاهرة، غير مرئية (= مادة داكنة أو مُظْلِمة) Dark Matter. ولَمَّا كانت "مجموعة المجرَّات" هي التكوين (البناء، البُنْية) الأوسع والأضخم والأثقل في الكون، والمتَّحِد جاذبياً، استنتج العلماء أنَّ معظم المادة في الكون كله يجب أن يكون مادة غير ظاهرة، غير مرئية، أي "مادة داكنة (أو مُظْلِمة)". هذه المادة، التي ما زال وجودها نظرياً وافتراضياً، حتى الآن، وإلى حدٍّ كبير، لا ترى؛ ولكن يمكن الاستدلال على وجودها من خلال "تأثيرها الجاذبيِّ" في ما حَوْلها من أشياء وأجسام.

في الكون، نرى كواكب تدور حَوْل نجم (ينتمي، حتماً، إلى مجرَّة). ونرى نجوماً تدور (وكأنَّها في رقص بطيء) حَوْل مَرْكَز مجرَّة (تنتمي، حتماً، إلى مجموعة مستقلة من المجرَّات). ونرى كل "مجموعة (Cluster) من المجرَّات" وكأنَّها في رحلة عبر "فضاءٍ فارِغٍ خالٍ في منتهى الاتِّساع". إنَّها لا تتحرَّك، ولا تنتقل، "في"، أو "عَبْر"، الفضاء؛ ولكنَّها تبدو لنا كذلك، فالفضاء نفسه هو الذي يتمدَّد، فتتَّسِع المسافة بين كل "مجموعة" وسائر "المجموعات"، التي بعضها في منتهى الكِبَر والضخامة Super Cluster.

البيضة الكونية

إذا كنتَ مِمَّن يعتقدون بـ "نظرية الانفجار الكبير" فإنَّ عليكَ أن تَعْتَقِد بالآتي: هذا الكون، بكل ما يشتمل عليه من "عناقيد المجرَّات"، كان قبل نحو 15 أو 18 أو 20 بليون سنة في حجمٍ أصغر كثيراً من حجم نواة ذرَّة، أو من حجم البروتون؛ ومع ذلك كان في "الثقل" نفسه، أي أنَّ كل "كتلة" و"طاقة" الكون كانت مركَّزة (مُكَثَّفَة، مضغوطة) في حيِّزٍ متناهٍ في الصِغَر والضآلة، يمكن أن نسميه "البيضة الكونية". ولقد "انفجرت" هذه "البيضة"، فشرع حجم الكون هذا يتَّسِع ويكبر حتى أصبح الكون في حجمه الذي نراه اليوم. وما زال الكون في تمدُّد مستمر (ومتزايد).

في البدء، وبحسب نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، لم يكن من "وجود" إلاَّ لشيء واحد فحسب هو "البيضة الكونية" Cosmic Egg؛ ثمَّ كان "الانفجار الكبير" Big Bang.

إنَّه انفجار عظيم، ليس كمثله انفجار، فذاك "الشيء"، الذي هو، أيضاً، ليس كمثله شيء، والذي يسمِّيه بعض القائلين بتلك النظرية "البيضة الكونية"، "انفجر"، فَوُلِدَ من "انفجاره" كل شيء.

"شيءٌ" ليس كمثله شيء، "انفجر" انفجاراً ليس كمثله انفجار، فنشأ "كل شيء (نَعْرِف، أو يمكن أنْ نَعْرِف)".

ولكن، ما هو ذلك "الشيء"، أي "البيضة الكونية"، الذي منه جاء، أو انبثق، أو وُلِد، أو نشأ، الكون الذي نَعْرِف، قبل نحو 15 أو 18 أو 20 بليون سنة؟

في الإنكليزية، يسمُّونه "Singularity"؛ ومن المعاني اللغوية لهذا الكلمة: مُتَفَرِّد، فريد، مُنْفَرِد، فَرْد، مُفْرَد.

والـ "سينغيولاريتي"، أو "النقطة المتناهية في الصِغَر"، أو "النواة المتفرِّدة"، أو "البيضة الكونية"، أو "الذرَّة الأوِّلية (أو البدائية)"، أو "البذرة"، أو "الحَبَّة"، هي "شيء نسيج وحده (لا مثيل له)".

وإذا كان للكون "نواته"، فإنَّ "الانفجار الكبير" يمكن وصفه بأنَّه "فالِق النواة"، أي "نواة الكون المتفرِّدة". ولْنَتَذَكَّر، في هذا الصدد، وجود "نواة" في أشياء أخرى كـ "الذرَّة"، و"النجم"، و"المجرَّة"، و"الثقب الأسود" Black Hole.

وإنِّي لأُفضِّل الـ "فَرْد" تسميةً لذلك "الشيء"، الذي "تَعْجَز" الفيزياء عن وصفه، أو عن معرفة ماهيته، فـ "الفَرْد" هو الذي لا نظير له، ولا مثل، ولا ثاني؛ وهو في "صفات الله"، "الواحد الأحد".

تلك "النقطة (Singularity)"، التي منها جاء الكون، كانت في "حجمٍ"، إذا ما قُلْنا بوجود "حجمٍ" لها، يقلُّ كثيراً، وكثيراً جدَّاً، عن حجم "البروتون"؛ ومع ذلك كانت بـ "وزن" الكون كله، ففيها تركَّزت كل مادة الكون، أي كل كتلته وطاقته؛ وهي، بـ "معيار الكثافة"، النقطة ذات "الكثافة المطلقة". إنَّها اجتماع "الحجم الصفري (أو المعدوم)" و"الكثافة المطلقة".

أنتَ تَعْلَم أنَّ "الكثافة" هي مُنْتَج لعلاقة بين "الكتلة" و"الحجم" في شيء معيَّن، فكلَّما زادت "كتلة" شيء ما، وتضاءل "حجمه"، اشتدت "كثافته"، فإذا ألْغَيْتَ "حجمه" إلغاءً مُطْلَقاً، كأنْ تقول إنَّه "صفري"، أو "معدوم" الحجم، فهذا إنَّما يعني (على استحالة حدوث ذلك على ما أرى) أنَّ "كثافته" تغدو "مُطْلَقة (لا نهائية)"، مهما عَظُمَت، أو صَغُرَت، "كتلته".

من أين جاءت تلك "النقطة"؟

مِمَّ تتألَّف أو تتكوَّن؟

ما هي خواصها؟

ما "القوانين الفيزيائية" التي عملت فيها إذا ما كان من وجود لتلك القوانين؟

كل هذه الأسئلة، وغيرها، لا إجابات عنها، لا في نظرية "الانفجار الكبير"، ولا لدى مؤسِّسيها، ومطوِّريها، وأنصارها، والقائلين بها، فهذه "النقطة" إنَّما هي الشيء الذي لا يمكن أبداً معرفة ماهيته، فـ "الكون"، الذي هو، في مُخْتَصَر تعريفهم له، "كل شيء"، لم يُوْلَد، وينشأ، إلاَّ بَعْد، وبفضل، "الانفجار الكبير" Big Bang، الذي هو في منزلة "الخالِق الجديد"، الذي مِنْ نَسْج "الميتافيزياء" كان، فأصبح (عَبْر نظرية "الانفجار الكبير") مِنْ نَسْج "الفيزياء"، أي مِنْ نَسْجِ "فيزياء" عاثت فيها "الميتافيزياء" فساداً، حتى غدت سنداً "عِلْمياً" لـ "قصة الخلق التوراتية" للكون، والتي منها اسْتُنْسِخَت قصص خَلْق دينية أخرى.

هذا "الانفجار"، الذي هو، أيضاً، ليس كمثله انفجار، هو الذي خَلَقَ "كل شيء"؛ لقد خَلَقَ "الزمان" و"المكان" و"الفضاء" وسائر الأشياء.

ولكن، ما معنى قولهم إنَّ "الانفجار الكبير" Big Bang هو الذي "خلق كل شيء"؟

معناه الذي لا يحتاج إلى شرح وتوضيح هو أنَّ هذا "الانفجار" هو "القوَّة (الأحجية في ماهيتها)" التي أخْرَجَت الكون (بكل ما فيه) من "العدم" Nothingness إلى "الوجود" Existence. إنَّ معناه هو أنَّ "كل شيء" نراه في كوننا لم يكن له من وجود في تلك "النقطة"، أو الـ "سينغيولاريتي" Singularity.

في "البدء"، أي "قَبْل" خَلْق الزمان، كانت "البيضة الكونية"..

ومِنْ هذه "المسلَّمة"، يبدأ وينطلق التصوُّر الكوزمولوجي الذي جاءت به نظرية "الانفجار الكبير".

وهذه "المسلَّمة" هي "المجهول الأعظم"، الذي تخطته "النظرية"، وقفزت عنه، لتؤسِّس، من ثمَّ، لكل هذا "المعلوم"، ولكل هذا "اليقين (الديني الطابع)"، فأصحاب نظرية "الانفجار الكبير"، أو "البانغيُّون"، يتحدَّثون، في دِقَّة وتفصيل، وكأنَّهم كانوا هناك، عن كل شيء، بدءاً من "الجزء الأوَّل من الثانية الأولى (بعد "الانفجار") والتي تتألَّف من مليون جزء".

أمَّا الأسئلة الكوزمولوجية والكونية الكبرى التي تُثيرها "فرضية (أو "مسلَّمة") البيضة الكونية" فلا جواب عنها؛ فكل ما يعلمونه عِلْم اليقين هو أنَّها، أي "البيضة الكونية"، كانت موجودة هناك، "قبل" وقوع "الانفجار الكبير".

من أين جاء هذا الكُلُّ من المادة والطاقة؟

من أين جاءت هذه "البيضة الكونية".. أو كيف أصبحت موجودة هناك؟

ما الذي جعلها "تنفجر".. أو ما الذي تسبَّب بـ "الانفجار الكبير"؟

كل هذه الأسئلة الكبرى، وغيرها، تبقى بلا جواب، فهذه "المعرفة" إنَّما هي "المعرفة المستحيلة" بحسب وجهة نظر أصحاب هذه النظرية وأنصارها، والذين يُحْيون فكرة "الشيء في ذاته" Thing-in-Itselfلكانط وهي رميم، فهذا الفيلسوف الألماني فَهِمَ الشيء، أي كل شيء، على أنَّه "جوهر" لا يمكننا أبداً معرفته وإدراكه، فالشيء "في جوهره" هو "المستحيل إدراكاً ومعرفةً"!

عندما يقع انفجار، أو أي حادث، يمكن، ويجب، أن نسأل: "أين ومتى وقع؟". هذا "السؤال الزماني ـ المكاني"، أو "الزمكاني"، يجب ألاَّ يُسْأل، بحسب وجهة نظر القائلين بنظرية "الانفجار الكبير"، عند البحث في أمْرِ الانفجار الكوني؛ لأنَّه ليس بالسؤال السليم، بحسب منطق هذه النظرية، التي تفهم "لحظة" الانفجار على أنَّها لحظة خَلْقٍ للزمان والمكان.

وهذا إنَّما يعني أنَّ "الانفجار الكبير" هو الحادث الكوني الوحيد الذي حدث في غياب، أو في خارج، ظرفي الزمان والمكان. لقد حَدَث؛ ولكنَّه لم يَحْدُث في الزمان، ولا في المكان (أو الفضاء)!

قبل "الانفجار"

نظرية "الانفجار الكبير" شرحت، وعلَّلت، وفسَّرت، ووصفت، كل شيء حدث في الكون، بدءاً من لحظة "الانفجار"؛ ولكنَّها أحجمت، وامتنعت، عن عمد، عن التحدُّث، ولو بكلمات قليلة، عن الحال التي كان عليها الكون، أو "البيضة الكونية" Cosmic Egg، "عشيَّة"، أو "قُبَيْل"، هذا "الانفجار"، فـ "قَبْل" إنَّما هي "ظرف زمان"؛ وإذا كان الزمان نفسه لم يكن قد خُلِق بَعْد، فكيف يمكن، أو يجوز، التحدُّث عمَّا كان موجوداً "قَبْل" وقوع "الانفجار الكبير"؟!

هذا هو جواب أصحاب النظرية وأنصارها؛ ولو سألتهم "كيف يمكن أن يُوْجَد شيء قبل خَلْق الزمان؟"، فلا تستغرب وتدهش إذا ما أجابوك قائلين: "وهل من وجود لشيء قبل الانفجار؟!".

وخلاصة قولهم، بالتالي، هي "لا وجود لأيِّ شيء إلاَّ إذا وُجِد الزمان، فإذا لم يُوْجَد الزمان فلا وجود، بالتالي، لأيِّ شيء"!

لقد أسَّسوا لنظريتهم "منطقاً"، بموجبه فَقَدَ السؤال "ماذا كان يُوْجَد قبل الانفجار؟" منطقه!

عندما يُسْأل أصحاب نظرية "الانفجار الكبير" عن وجود الزمن قبل "الانفجار"، يجيبون قائلين: إنَّنا لا نعرف الحالة التي كان عليها الكون عند "الانفجار"، أو قبله. إنَّ الإجابة عن هذا السؤال ليست ممكنة؛ لأن لا وجود للزمن حتى يصح استعمال كلمة "قَبْل"، فـ "قَبْل" إنَّما هي "ظرف زمان"، ولا وجود لـ "ظروف الزمان" ما دام الزمن نفسه غير موجود. إنَّ السؤال نفسه يصبح خاطئاً، وإنَّ من الخطأ، بالتالي، أن تسأله!

ماذا حدث "قبل" حدوث "الانفجار الكبير"؟

ماذا حدث في داخل "البيضة الكونية" قبل أن "تنفجر"؟

إنَّ كل "حادث"، في علم الفيزياء، يمكن ويجب فهمه، والنظر إليه، على أنَّه "تغيير". إنَّه، أي "الحادث"، في حدِّ ذاته، "تغيير"، فحادث "تجمُّد مقدار من الماء" هو "تغيير"؛ لأنَّ الماء انتقل من حال إلى حال. لقد كان سائلاً، فأصبح صلباً. ولكن، هل كان ممكناً أن يقع هذا "الحادث"، أي تجمُّد الماء، لو لم يستوفِ "الشروط الفيزيائية" لوقوعه؟!

هل كان ممكناً أن يتجمَّد هذا المقدار من الماء السائل قبل أن تحدث في داخله تغييرات معيَّنة.. قبل أن تهبط درجة حرارته إلى حدٍّ معيَّن؟!

كلا، ليس ممكناً، فـ "الحادث"، كل حادث، إنَّما هو "تغيير"، أنْتَجته وولَّدته، بالضرورة، "تغييرات معيَّنة"؛ ولا وجود لأيِّ تغيير لم تسبقه، وتُمهِّد إليه، تغييرات معيَّنة. لا بدَّ، في اختصار، من "التغيير الذي يُحْدِثُ فَرْقاً"، أو من "الدرجة التي تُحْدِثُ فَرْقاً".

و"الانفجار الكبير" إنَّما هو "حادث" لا يمكنه أن يشذَّ عن هذا "القانون الفيزيائي (الطبيعي) المُطْلَق". وهذا إنَّما يعني أنَّ "تغييرات معيَّنة" قد اعترت "البيضة الكونية"، وحدثت في داخلها، قبل، وتوصُّلاً إلى، حدوث هذا "الانفجار". لقد استوفى "الانفجار الكبير" شروط حدوثه، فحدث.

إذا نحن ظللنا واقفين على الأرض الصلبة للفيزياء، ولم نغادرها إلى "عالم الميتافيزياء"، فلا بدَّ لنا من أن نفهم "الانفجار الكبير" على أنَّه "نتيجة"؛ وليس من "نتيجة معدومة الأسباب". وإذا نحن قلنا بحدوث، وبوجوب حدوث، "تغييرات معيَّنة"، في داخل "البيضة الكونية"، قبل، ومن أجل، أن "تنفجر"، فلا بدَّ، عندئذٍ، من القول بوجود، وبوجوب وجود، "الزمن" في تلك "البيضة"، فـ "الزمن" و"التغيير" صنوان. إنَّ نفي الزمن هو نفسه نفي التغيير؛ لأنَّ "الزمن" هو "التغيير"، وجوداً ومقياساً.

لو لم يحدث تغيير معيَّن مخصوص في داخل "البيضة الكونية" لما حدث "الانفجار الكبير". حدوث هذا "الانفجار" هو في حدِّ ذاته خير دليل على أنَّ تغييرات معيَّنة قد حدثت في داخل "البيضة الكونية" من قبل؛ وحدوث هذه التغييرات هو خير دليل على وجود "الزمن" قبل "الانفجار الكبير".

خَلْقُ "الانفجار الكبير" لـ "الفضاء" قادهم إلى القول بخلقه لـ "المادة" أيضاً، وفي اللحظة عينها، فالفضاء والمادة إنْ وُجِدا فيجب أن يُوْجدا معاً.

لقد قالوا أوَّلاً بخلق، وبوجوب خلق، "الانفجار الكبير" لـ "الفضاء"؛ ولكن، هل يمكن أن يُوْجَد فضاء إذا لم تكن "المادة" قد وُجِدَت، أو خُلِقَت، بعد؟

عن هذا السؤال أجابوا "كلاَّ، لا يمكن"، فكان "الحل" هو القول بخلق "الانفجار الكبير" لـ "الفضاء" و"المادة" معاً، أي في اللحظة عينها، فـ "الانفجار الكبير" هو، في معتقدهم، القوِّة المولِّدة للزمان والفضاء.. والمادة من رحم النقطة الكونية المتفرِّدة Singularity.

إنَّكَ يكفي أن تقول إنَّ "الزمن" قد خُلِق بـ "الانفجار الكبير" حتى لا تَجِدَ مهرباً من أن تقول، أيضاً، إنَّ هذا "الانفجار" هو الله؛ لأنَّ هذا "الانفجار" قد خَلَق "المادة كلها" من العدم، فليس من وجود للمادة إذا لم يكن من وجود للزمن.

القول بخلق الزمن إنَّما هو نفسه، لجهة المعنى، القول بخلق المادة، فإذا لم تخلق المادة من مادة قبلها، فهذا إنَّما يعني أنًَّها قد خلقت من العدم؛ وليس من "قوَّة" تخلق شيئاً من لا شيء سوى الله، في الدين، أي "الانفجار الكبير"، في الفيزياء، أو الكوزمولوجيا!

أنتَ لا تستطيع أن تسأل "ماذا كان يُوْجَد قبل الانفجار الكبير، أو قبل البيضة الكونية؟"؛ لأنَّ الزمن لم يكن قد خُلِق بَعْد؛ ولكنَّكَ تستطيع أن تسأل السؤال ذاته إذا ما كان جوابكَ هو الآتي: "كان يُوْجَد الله"!

لا تَقُلْ أبداً "إلى الأبد"، فالزمان نفسه، على ما يزعمون، ليس بالأبدي؛ وإنَّ له عُمْراً، فهو وُلِدَ، ولسوف يموت، مهما عَمَّر.

إنَّ من السُخْف بمكان أن تَسْتَعْمِل "ظروف الزمان" في سؤالكَ عن أشياء وأحداث وُجِدَت، أو وقعت، قبل خَلْق "الانفجار الكبير" لـ "الزمان"، كأن تسأل "ماذا كان يُوْجَد قبل هذا الانفجار؟"؛ ولكن ليس من السُخْف في شيء إذا ما سألْتَ السؤال السخيف الآتي: "كم عُمْر الزمان؟"!

ولو سألْتَ أحدهم عن عُمْر الزمان لأجابكَ على البديهة قائلاً: "الزمان هو الآن في طور الشباب. إنَّ عُمْره 18 بليون سنة"!

كل مادة إنَّما تُوْجَد من مادة موجودة من قبل؛ و"الفيزياء" إنَّما هي "القول بخلق المادة من مادة (قَبْلية)"؛ أمَّا "الميتافيزياء" فهي "القول بخلق المادة من العدم"، وإنْ ألْبَسَ أصحاب نظرية "الانفجار الكبير" قولهم هذا لبوس مفردات وعبارات فيزيائية.

خَلْق "المادة" و"المادة المضادة"

قبل "الانفجار الكبير"، وعلى ما يزعمون، لم يكن من وجود للمادة، فلحظة ذلك "الانفجار" هي نفسها لحظة خَلْق "المادة" Matter مع توأمها ونقيضها "المادة المضادة" Antimatter.

لم يكن من وجود، على سبيل المثال، لجسيمات كالكوارك Quark والإلكترون Electron والبوزيترون Positron.

إنَّ كل ما نَعْرِف من جسيمات المادة ومن جسيمات المادة المضادة لم يكن له من وجود قبل "الانفجار الكبير"، الذي هو في منزلة "الخالق الفيزيائي" للمادة، أي لكل شيء.

وهذا الخالِق "العادل" خَلَق "المادة" و"المادة المضادة" بمقدارين متساويين، قبل أن تنتهي المعركة الكونية الكبرى بينهما إلى تحويل كل "المادة المضادة" إلى "طاقة خالصة"، وإلى تحويل كل "المادة"، "تقريباً"، وفي الوقت نفسه، إلى "طاقة خالصة"؛ فلقد نجا من تلك المعركة، ولسبب ما زال مجهولاً، مقدار لا يُذْكَر من جسيمات المادة، منه خُلِق كل شيء له كتلة. وبحسب قوانين فيزياء الجسيمات لا بدَّ للمادة والمادة المضادة من أن تُوْجَدا في الكون بمقدارين متساويين.

ولكن، كيف.. كيف خُلِقَت "المادة" و"المادة المضادة"؟

هل خلقها "الانفجار الكبير"، أي هذا "الإله الجديد"، الذي ألبسوه، هذه المرَّة، لبوساً "فيزيائياً"، لا شيء فيه من "الفيزياء"، من "لا شيء".. من "العدم" Nothingness؟

في إجابتهم "العلمية الفيزيائية" المُبْتَكَرة عن هذا السؤال، قالوا إنَّ "حقلاً من الجاذبية" هو الذي تولَّى "المهمَّة"، فَخَلَقَ من "الفراغ" Vacuum كميتين متساويتين (في اللحظة عينها) من "المادة" و"المادة المضادة".

وفي جوابهم عن السؤال عن "السبب" الذي أدَّى إلى حدوث "الانفجار الكبير"، لا نقف إلاَّ على قول من قبيل "إنَّ شيئاً ما هو الذي تسبَّب في الانفجار". وقد يُفسِّرون التمدُّد السريع للكون بُعَيْد "الانفجار" على أنَّه نتيجة الكثافة المفرطة لـ "الذرَّة البدائية"، أو "البيضة الكونية".

الكون، عند ولادته، لم يكن بحجم حبَّة "غريب فروت"؛ لقد كان في حجم يقل ببلايين المرَّات عن حجم نواة ذرَّة الهيدروجين، فَلْتُقارِن، إذا ما أحبَبْت، بين حجم "الكون الوليد"، أو "الرضيع"، وبين حجم "الجنين البشري" عند لحظة تكوُّنه.

إنَّ حجم هذا الجنين، أو "البويضة الملقَّحة"، يفوق أضعافاً مضاعفة، وبملايين المرَّات، حجم "الكون الوليد"، الذي سرعان ما تمدَّد بسرعة تزيد مرَّات عدة عن سرعة الضوء، وفق حساباتهم.

"البيضة الكونية" ليست بشيء (ليست بجسم أو جسيم) له "كتلة". إنَّها ليست كـ "الإلكترون"، أو "الكوارك"، أو "البروتون". إنَّها "طاقة" Energy تحوَّلت إلى "جسيمات" عند "الانفجار الكبير"، فانحناء، أو تقوُّس، الفضاء هنا، أي في "البيضة الكونية"، هو الذي زوَّدها "طاقة"، تحوَّلت، عند وقوع هذا الانفجار، إلى "جسيمات (مادية متضادة)".

هذا بعضٌ من الوصف، أو التعيين، لـ "البيضة الكونية"، بحسب بعض القائلين بنظرية "الانفجار الكبير" مِمَّن كانت لديهم الجرأة للتحدُّث عن هذا الشيء الذي كان موجوداً "قبل" وقوع "الانفجار الكبير".

ليس مهمَّاً أن يقولوا إنَّ تلك "البيضة" لم تكن على هيئة شيء له "كتلة"، أو أنَّها كانت من "الطاقة الخالصة"، فالمهم هو أن يفسِّروا لنا، ويعلِّلوا، "انحناء الفضاء" في "البيضة الكونية".

إذا قُلْنا إنَّ "البيضة الكونية" التي كانت موجودة هناك "قبل" وقوع "الانفجار الكبير" اتَّسَمَت بـ "انحناء فضائها (انحناءً لا مثيل له لجهة شدَّته)"، فكيف يمكننا، بعد ذلك، أن نقول إنَّ "الانفجار الكبير" هو الذي خَلَق الفضاء؟!

إنَّ "الفضاء المنحني" هو أيضاً "فضاء"، فإذا كانت "البيضة"، "قبل" وقوع "الانفجار"، ذات "فضاء منحنٍ (انحناءً في منتهى الشِدَّة أو القوَّة)"، فليس من المنطق في شيء أنْ يُزْعَم، بعد ذلك، وبسبب ذلك، أنَّ "الانفجار" هو الذي خَلَق "الفضاء (والمكان)".

أمَّا إذا قلنا إنَّ "البيضة" لم تكن بشيء على هيئة "كتلة"، وإنَّها كانت من "الطاقة الخالصة" فحسب، وإنَّ "الانفجار" هو الذي خَلَق "الفضاء (والمكان)"، فكيف يمكننا، عندئذٍ، تفسير وتعليل وجود هذه الطاقة المركَّزة تركيزاً لا مثيل له، لجهة شدَّته، مع الزعم، في الوقت نفسه، بأن لا وجود بَعْد لـ "فضاءٍ" حتى ينحني، ويتقوَّس، حَوْل هذه "البيضة الطاقيَّة"؟!

هل يحتالون، في إجابتهم، فيزعمون، مثلاً، أنَّ "الفضاء" يُوْلَد أوَّلاً، ثمَّ ينحني حَوْلَ "الكتلة"، أو "الطاقة شديدة التركيز".. وأنَّ "الطاقة الخالصة المركَّزة" في "البيضة الكونية" يمكن أن تُوْجَد حتى "قبل" وجود الفضاء نفسه؟!

آينشتاين، في "النسبية العامة"، لم يتحدَّث عن "استحالة واحدة"، وإنَّما عن "استحالتين اثنتين"، فإذا كان "الفضاء بلا مادة (أي بلا كتلة وطاقة)" هو شيء مستحيل الوجود، فإنَّ وجود "طاقة مركَّزة تركيزاً شديداً"، في تلك "البيضة"؛ ولكن بلا فضاء، لا يقل استحالة!

"حقل الجاذبية"، أكان خاصَّاً بجسم كوني (نجم مثلاً) أم بالكون نفسه، إنَّما هو ذاته "الزمكان" Space – Time. وزوال "حقل الجاذبية" إنَّما هو ذاته زوال "الزمكان".. زوال الزمان والمكان.

والاستنتاج الذي لا مفرَّ منه، بحسب "النسبية العامة" لآينشتاين، هو الآتي: لا وجود لـ "المادة" حيث لا وجود لـ "الزمان" و"المكان"، في وحدتهما التي لا انفصام فيها أبداً؛ ولا وجود لـ "الزمان" و"المكان" حيث لا وجود لـ "حقل الجاذبية"؛ ولا وجود لـ "المادة"، بالتالي، حيث لا وجود لـ "حقل الجاذبية".

الجاذبية هي التي باشتدادها "يتقلَّص" المكان، و"يتمدَّد"، أي يبطؤ، الزمان. والمكان الذي في منتهى التقلُّص هو أيضاً مكان؛ والزمان الذي في منتهى التمدُّد هو أيضاً زمان. المكان الذي في منتهى التقلُّص هو أحد أشكال وصور المكان؛ والزمان الذي في منتهى التمدُّد هو أحد أشكال وصور الزمان. وعليه، نقول "المكان الأكثر تقلُّصاً"، ويجب، بالتالي، ألاَّ نقول "المكان الصفري"؛ ونقول "الزمان الأكثر تمدُّداً"، ويجب، بالتالي، ألاَّ نقول "الزمان الصفري".

طور "التضخُّم"

"القوى الأساسية الأربع" في الكون كانت، بحسب تصوُّرهم الكوزمولوجي الذي يعتريه كثير من التناقض المنطقي أيضاً، مندمجة، متَّحِدةً، منصهرةً؛ لقد كانت "قوَّة واحدة"، فإذا بـ "الجاذبية" Gravity تنفصل عنها، وتنشق. وهكذا استقلَّت "الجاذبية" أوَّلاً. ثمَّ استقلَّت وانفصلت "القوَّة الشديدة" Strong Force، التي تجعل "نواة الذَّرة" متَّحِدةً، متماسكةً. ومع انفصالها، بدأ طور "التضخُّم (أو الانتفاخ)" Inflation، ثمَّ شرع الكون "يتمدَّد".

وما أن انتهى طور "التضخُّم" حتى عَرَف الكون (الذي استمرَّ في التمدُّد والاتِّساع) من جسيمات المادة (والمادة المضادة) الأساسية والأوَّلية "الكوارك"، و"الكوارك المضاد"، و"الإلكترون"، و"البوزيترون"؛ وعَرَفَ، أيضاً، "جسيمات غريبة" Exotic Particles. وفي خلال الثانية الأولى بعد "الانفجار الكبير"، عَرَف الكون من الجسيمات: "الفوتون"، و"الكوارك"، و"النيوترينو"، و"الإلكترون"؛ ثمَّ عَرَف منها: "البروتون" و"النيوترون".

إنَّ بعضاً من هذا "التناقض المنطقي" نقف عليه في قولهم "مع انفصال القوَّة الشديدة بدأ طور التضخُّم"، ثمَّ في قولهم "ما أنْ انتهى طور التضخُّم حتى عرف الكون الكوارك..".

إنَّ عليهم، إذا ما أرادوا تجاوز هذا "التناقض المنطقي"، أنْ يُثْبِتوا أنَّ "القوَّة الشديدة" يمكن أن تُوْجَد حتى قبل وجود "الكوارك"؛ أمَّا إذا أعْجَزَتْهُم الحقائق الفيزيائية عن إثبات ذلك فكيف لهم، في هذه الحال، أن يستمروا في زعمهم أنَّ "القوَّة الشديدة" وُجِدَت أوَّلاً إذ انفصلت عن تلك "القوَّة الواحدة"، بعد انفصال "الجاذبية"، فبدأ "طور التضخُّم"، الذي مع انتهائه ظَهَر "الكوارك" إلى حيِّز الوجود؟!

وعليهم أنْ يُثْبِتوا، أيضاً، أنَّ الكون في الحجم الذي كان عليه عند انتهاء "طور التضخُّم" يمكنه، من الوجهة النظرية الفيزيائية، أن يشتمل، مثلاً، على كل ما خُلِق من "الكواركات" و"الكواركات المضادة"!

الأزواج من الكواركات كانت من أهم المنتجات الأوَّلية لـ "الانفجار الكبير"، الذي أنْتَج ما يشبه "الفُرْن الكوني"، الذي فيه "طُبِخَت" أنواع كثيرة من الجسيمات. لقد أنتج هذا الانفجار، بدايةً، كل أنواع "جسيمات المادة الأوَّلية" على شكل أزواج، فأنتج، مثلاً، جسيم الكوارك مع جسيمه المضاد.

وكان كل كوارك يتصادم مع الكوارك المضاد، فيفني كلاهما الآخر، أي أنَّ كتلتيهما كانت تتحوَّل إلى "طاقة خالصة"، تُحْمَل (أو تُنْقَل) بعيداً بجسيمات، تسمَّى "فوتونات".

ولقد انتهت هذه المرحلة من "الفناء المتبادل" إلى النتيجة الآتية: كوارك واحد فحسب (مصنوع من المادة العادية) يبقى بعد "الفناء المتبادل" لكل 10 بلايين زوج من الكواركات، أي لكل 10 بلايين كوارك وكوارك مضاد.

وهذا إنَّما يعني أنَّ ما يزيد عن 99.9 في المائة من "الكتلة" في الكون قد تحوَّل إلى "طاقة خالصة"، في نهاية مرحلة "الفناء المتبادل". إنَّ كوننا اليوم، ومُذْ وضعت تلك الحرب بين المادة والمادة المضادة أوزارها، هو "كون طاقيٌّ (وليس كُتليٌّ)" بنسبة تزيد عن 99.9 في المائة.

و"الطاقة" إنَّما هي أحد وجهي "المادة"، فـ "المادة" إمَّا أن تكون على هيئة "كتلة"، وإمَّا أن تكون على هيئة "طاقة". وتُحْمَل، أو تُنْقَل، "الطاقة" عَبْر جسيمات معيَّنة، عديمة الكتلة، أي تسير بسرعة الضوء، وتسمَّى "الجسيمات الحاملة (أو الناقلة) للقوى". و"الفوتون" هو الجسيم عديم الكتلة، الحامل، أو الناقل، لـ "الطاقة (والضوء)". إنَّه كـ "الرسول"، أو "المرسال"، لجهة علاقته بـ "القوَّة" Force.

"الفُرْن الكوني"، أي الكون عند نشأته من "الانفجار الكبير"، كان من "الطاقة الخالصة" Pure Energy التي منها كانت تُخْلَق جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة على شكل أزواج. درجة حرارة ذلك "الفُرْن" كانت مرتفعة بما يكفي لخلق تلك "الأزواج"، التي تملك كُتُلاً كبيرة، من "الطاقة الخالصة". ولكن كل جسيم كان عاجزاً عن الاحتفاظ بكتلته بسبب تصادمه مع جسيمه المضادة، فالكتلة المتولِّدة عن "الطاقة الخالصة" كانت تتحوَّل سريعاً إلى "طاقة خالصة" محمولة بالفوتونات. ولمَّا برد الكون إلى حدٍّ معيَّن أصبح ممكناً أن يحتفظ الجسيم المادي بكتلته.

"الكوارك" و"الكوارك المضاد"، تصادما، فأفنى كلاهما الآخر، أي تحوَّلت "كتلتاهما" إلى "طاقة خالصة". ومع ذلك، بقي فائض ضئيل من جسيمات المادة؛ ومن "الكوارك" في المقام الأوَّل. ومن هذا الفائض، أو من هذا النزر، من جسيمات المادة تكوَّنت مادة الكون التي نَعْرِف. ومع استمرار وتزايد برودة الكون (بسبب تمدُّده) تكوَّن "البروتون" و"النيوترون"؛ وكلاهما تكوَّن من ثلاثة كواركات.

وفي الثلاث دقائق الأولى من عُمْر الكون برد الكون بما يكفي لتكوين "نواة الذَّرة" من البروتونات والنيوترونات. ثمَّ تكوَّنت الذَّرة إذ أسَرَت "النواة" الإلكترونات الحُرَّة. ولقد كان الكون بعد الثانية الأولى من "الانفجار" في منتهى الحرارة أو السخونة (10 بليون درجة).

في تلك الدقائق الثلاث، تكوَّن البروتون، الذي هو نواة ذرَّة الهيدروجين، بعد الثانية الأولى من "الانفجار الكبير". ثمَّ تكوَّن نظير الهيدروجين وهو الدوتيريوم من تَجَمُّع البروتونات والنيوترونات. وتكوَّنت، أيضاً، عناصر خفيفة أخرى، كان أهمها الهيليوم، الذي تتألَّف نواة ذرَّته من بروتونين ونيوترونين.

"التكوين الذرِّي" للكون في "طفولته المبكرة" كان على هيئة "بحرٍ من الإلكترونات (الحُرَّة) تسبح فيه نوى الذرَّات (نوى ذرَّات الهيدروجين والهيليوم)". لقد كان "كوناً ذرِّياً"؛ ولكن "متأيِّناً"، فالإلكترونات كانت منفصلة تماماً عن نوى الذرَّات تلك؛ أمَّا فضاؤه فقد كان "فضاءً إلكترونياً"، أي مفعماً بتلك الإلكترونات الحُرَّة المنفصلة. ثمَّ أسَرَت نوى الذرَّات الإلكترونات الحُرَّة، فأصبح الفضاء صافياً نقياً شفَّافاً، فتمكَّنت "الفوتونات"، بالتالي، من الانتقال مسافات واسعة من غير أن تتفاعل مع المادة، أي من غير أن تَحْتَجِزها الإلكترونات الحُرَّة.

ومع وقوع الإلكترونات الحُرَّة في أسْر نوى الذرَّات تلك، أي مع تكوُّن "الذرَّات"، بدأ تأثير "الجاذبية" يظهر وينمو، فـ "الذرَّات" هي التكوين المادي الذي يبدي ميْلاً قوياً للخضوع والاستسلام لـ "الجاذبية". وعليه، شرعت "الجاذبية" تَسْتَجْمِع وتُجمِّع "الذرَّات" في سُحُبٍ (غازيَّة) اشتعلت "البواطن" منها، أخيراً، فتكوَّن الجيل الأوَّل من النجوم.

هوكينغ Hawking يشير إلى أنَّ مقداراً كبيراً من "الثقوب السوداء" الصغيرة قد ظهر في الكون بُعَيْد، أو عقب، "الانفجار الكبير". ويَزِن "الثقب" منها نحو 1000 مليون طن؛ وهذه الكتلة الضخمة نسبياً تتركَّز في حيِّزٍ يَعْدِل حجم البروتون.

"طور الطاقة" ظلَّ سائداً مهيمناً حتى بلغ عُمْر الكون 3000 سنة؛ ثمَّ انتهى هذا الطور ليبدأ "طور المادة"، والذي ما زال مستمراً، سائداً مهيمناً، حتى الآن.

ومع بدء "طور سيادة المادة"، قوي تأثير "الجاذبية" واشتد. وبفضل "الجاذبية"، وتعاظُم نفوذها، شرعت المادة تتكتَّل وتتجمَّع، فأسَرَت "نوى الذرَّات" الإلكترونات الحُرَّة، فتكوَّنت، بالتالي، ذرَّات الهيدروجين والهيليوم والليثيوم. وليس من فرق في عمل الجاذبية وسائر القوى في الطبيعة إذا ما كانت "المادة المضادة" Antimatter هي مسرح عملها، فالكون المصنوع من "المادة المضادة" لن يختلف عن كوننا لجهة عمل القوى الأساسية الأربع فيه. إنَّ "الذرَّة" من "المادة المضادة" ستختلف في كَوْنِ مضاد الإلكترون، وهو "البوزيترون" Positron، هو الذي يدور حَوْل نواة ذرَّته المؤلَّفة من بروتونات مضادة؛ ولكنَّها، أي تلك الذرَّة المضادة، لن تختلف عن الذرَّة العادية لجهة إنتاجها للضوء، فـ "الفوتون" Photon، أي جسيم الضوء، هو نفسه جسيمه المضاد.

بعد نحو 300 ألف سنة من "الانفجار الكبير"، برد الكون، بسبب تمدُّده، بما يكفي لتكوُّن ذرَّات محايدة، عَبْر اتِّحاد الإلكترونات (الحُرَّة) مع نوى ذرَّات الهيدروجين والهيليوم (والليثيوم). وبعد نحو مليون سنة من "الانفجار الكبير"، تكوَّنت النجوم والمجرَّات؛ ومنذ ذلك الحين والكون مستمرٌ في نموِّه، حجماً وبرودةً.

وبفضل أسْر الإلكترونات الحُرَّة في تلك الذرَّات، شَفَّ الفضاء، أي أصبح "شَفَّافاً"، خالياً من "الإلكترونات الحُرَّة" التي كانت "تَفْتَرِس" الضوء، أو الفوتونات. لقد أصبح الآن في مقدور الفوتونات أن تسافِر في حرِّيَّة عَبْر الفضاء، فامتلأ الكون بهذا الإشعاع المسمَّى "إشعاع الخلفية الكونية" Cosmic Microwave Background Radiation. وبعد مليوني سنة، بدأ تكوُّن "المجرَّات".

الكون عند ولادته كان كثيفاً جدَّاً، وحاراً جدَّاً؛ وعليه، كان "مسرِّع جسيمات" لا مثيل له. لقد كان كـ "حساءٍ"، إناؤه "الفضاء"، الذي كلَّما تمدَّد واتَّسَع برد "الحساء"، الذي كان مؤلَّفاً من جسيمات (مادية) نشيطة، أي مفعمة بالطاقة، ومن "فوتونات". وهذا "الحساء" إنَّما كان، في معظمه، مقداراً عظيماً من "الطاقة"، التي تركَّزت في ذلك "الإناء"، أي في ذلك الحيِّز الفضائي الصغير جدَّاً، فكانت، بالتالي، في منتهى "الكثافة".

وفي هذا "الحساء الطاقيِّ"، كانت "الكتلة" على هيئة أزواج من جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة تنشأ في استمرار، من "الطاقة الخالصة"، فتتصادم هذه الجسيمات وتلك، متبادِلةً الفناء، فتتحوَّل "الكتلة" إلى "طاقة خالصة"، ثمَّ تبدأ دورة جديدة.

وبعد نحو سنة من "الانفجار الكبير"، تمدَّد "الإناء الفضائي" بما يكفي لجعل "الحساء" في برودة، يتوقَّف عندها تفاعُل "الفوتونات" مع "المادة". ولقد استمر هذا "الغاز" من الفوتونات (= إشعاع الخلفية الكونية) في البرودة حتى بلغت درجة حرارته 3 درجات كالفن.

مادة الكون، على ما نراها اليوم، "مُتَكَتِّلة"، أي على هيئة "كُتَل"، بعضها كبير، وبعضها صغير، بعضها في منتهى الكِبَر، وبعضها في منتهى الصِغَر. هذه الظاهرة الكونية، أي ظاهرة "تَكَتُّل" مادة الكون مع تفاوت واختلاف "تَكَتُّلها"، أثارت حيرة ودهشة علماء الكون؛ ولو عُرِفَ السبب، أي سبب حيرتهم ودهشتهم، لبَطُل العجب؛ فهم افترضوا، أو تخيَّلوا، أو تصوَّروا، مادة الكون، عند نشأته وولادته، بعد "الانفجار الكبير"، على أنَّها كانت (أي يجب أن تكون على ما اعتقدوا) رقيقة، ناعمة، في منتهى الرقَّة والنعومة، ومتجانسة، متماثلة، رقَّةً ونعومةً، حيث وُجِدَت، وفي كل نواحي الكون وأجزائه.

وعليه، تساءلوا، في حيرة ودهشة، عن السبب الذي جعلها "تتكتَّل"، وتتفاوت في "تكتُّلها". تساءلوا، في حيرة ودهشة، قائلين: "كيف لهذه المادة الرقيقة الناعمة، المتجانسة رقَّة ونعومةً، في كل مكان وموضع في الكون، أن تصبح "متكتِّلةً"؟!".

إنَّهم لم ينسوا "الجاذبية الكونية" وهم يعبِّرون عن حيرتهم ودهشتهم؛ ولكنَّهم لم ينظروا إليها على أنَّها قوَّة لـ "تكتُّل" المادة؛ لأنَّ عملها هذا يتعطَّل في كونٍ وُلِدَ بمادة في منتهى التجانس والتماثل لجهة رقَّتها ونعومتها.

وتوصُّلاً إلى حلٍّ مُرْضٍ لهذه "المشكلة"، التي خلقوها إذ تصوَّروا مادة الكون الوليد على أنَّها في هذا "التجانس المُطْلَق"، رقَّةً ونعومةً، شرعوا ينظرون إلى هذه الظاهرة الفيزيائية الكونية بعين غير عين الميتافيزياء، فقالوا، افتراضاً أيضاً، إنَّ مادة الكون الوليد لم تكن متجانسة تجانساً مُطْلَقاً، في رقَّتها ونعومتها، وإنَّ شيئاً من "التكتُّل"، ولو في منتهى الضآلة، كان يعتريها.

كان يمكن أن يقوا أنفسهم شرَّ هذا الاضطراب في النظر والتفكير لو أنَّهم تمثَّلوا فكرة دياليكتيكية في منتهى الأهمية النظرية والبحثية والعملية، وهي أنْ لا وجود لـ "الخالص (النقي، الصافي، المُطْلَق)" من الأشياء والظواهر، فالكون، مهما رقَّت مادته ونعمت (لدى نشأته) تظل منطوية، مشتملة، على شيء من "التكتُّل"، فـ "التفاوت"، ولو كان في منتهى الضآلة، إنَّما هو قانون كوني شامل ومُطْلَق. والكون، مهما "تكتَّلت" مادته (اليوم) تظل منطوية، مشتملة، على شيء من الرقَّة والنعومة.

لِنَفْتَرِض الآن الافتراض الصحيح وهو أنَّ مادة الكون كانت، عند ولادته، في منتهى الرقَّة والنعومة؛ ولكنَّ شيئاً (ولو في منتهى الضآلة) من "التكتُّل" كان يعتريها؛ وكان ينبغي له أن يعتريها. هذا التفاوت في رقَّة ونعومة مادة الكون الوليد هو ما يصلح الآن تفسيراً وتعليلاً لظاهرة "نمو مادة الكون تكتُّلاً"، فـ "تكتُّلها" كان "جنيناً" في رحم رقَّتها ونعومتها، فشرع هذا "الجنين" ينمو؛ وعليه، بلغت مادة الكون ما بلغته، اليوم، من "تكتُّل (متفاوت)". أمَّا "المناخ" الذي فيه شرع المَيْل إلى "التكتُّل" ينمو ويقوى ويشتد فهو "البرودة"، أي برودة الكون، واستمرار وتعاظم برودته، والتي هي النتيجة والعاقبة الحتمية لتمدُّده، ولتعاظم تمدُّده.

عندما كانت مادة الكون الوليد (المتجانسة تجانساً ليس بمُطْلَق في رقَّتها ونعومتها) في منتهى الحرارة والسخونة ما كان ممكناً أن تنجح "الجاذبية الكونية" في تأدية عملها على خير وجه، فلمَّا بردت، وازدادت برودة، تمكَّنت تلك الجاذبية من جعل مادة الكون "تتكتَّل"، وتنمو "تكتُّلاً". قِطَع مادة الكون (الباردة، والمتزايدة برودةً) تجاذبت؛ وكلَّما تجاذبت قطعتين، أو أكثر، تكوَّن جسم، كبير الكتلة نسبياً، فشرع هذا الجسم (أو القطعة الكبيرة) يجتذب إليه مزيداً من المادة.

لقد افترضوا أخيراً الافتراض الصحيح وهو أنَّ مادة الكون الوليد كانت، على رقَّتها ونعومتها، تنطوي على شيء (ولو في منتهى الضآلة) من "التكتُّل"؛ ولكنَّهم سرعان ما عادوا ينظرون إلى هذا الذي قالوا به، أخيراً، بعين الميتافيزياء، فتساءلوا في حيرة ودهشة أيضاً عمَّا تسبَّب بهذا الشيء الضئيل من "التكتُّل". إنَّ البحث عن هذا السبب مضيعة للوقت والجهد، فلا سبب إلاَّ السبب الآتي: لا وجود أبداً لـ "الخالص" من الأشياء والظواهر.

في البدء لم يكن من وجود لـ "الذَّرة"، فالإلكترونات الحُرَّة، والبروتونات، والنيوترونات، هي التي كانت موجودة. وكل بروتون (الذي هو "نواة ذرَّة" الهيدروجين) كان منفصلاً عن سائر البروتونات. وبعد مضي 30 دقيقة على "الانفجار الكبير"، تحوَّل ما نسبته 25 في المائة من مادة الكون (أو من البروتونات، أو من نوى ذرَّات الهيدروجين) إلى هيليوم، أي إلى نوى ذرَّات الهيليوم. بعد ذلك، وفي بواطن النجوم، خُلِق مزيد من الهيليوم. مادة الكون، ولدى تكوُّنه، كانت، في معظمها، من ذرَّات الهيدروجين؛ وفي بقيتها الباقية كانت من ذرَّات الهيليوم، ومن مقدار ضئيل من ذرَّات الليثيوم.

وهذا "الخليط الذرِّي" من الهيدروجين والهيليوم والليثيوم بدأ (بفضل "الجاذبية") يتكتَّل ويتجمَّع ويتركَّز في الفضاء على شكل "سُحُبٍ ضخمة"؛ ولقد ضُغِطَت كل "سحابة"، وانكمشت، حتى اشتعل باطنها، فَوُلِد جسم كوني، يُطْلِق الحرارة والضوء، هو "النجم"، الذي من أمثاله تكوَّنت "المجرَّة".

والهيدروجين هو العنصر الكيميائي الذي باندماج نوى ذرَّاته في باطن النجم يُطْلِق المقدار الأعظم من الطاقة. وفي بواطن النجوم يُنْتَج قسم كبير من العناصر (الكيميائية) الأثقل من الهيدروجين والهيليوم، كالكربون، والأوكسجين، والسليكون، والكبريت، والحديد. أمَّا العناصر الأثقل من الحديد فتُنْتَج في الطبقات الخارجية للنجم الضخم جدَّاً، أو في انفجار "المستعِر الأعظم" Supernova من النجوم.

النيوترونات انضمت إلى البروتونات في تكوين نوى ذرَّات الهيدروجين والهيليوم؛ أمَّا ما بقي منها مستقلاًّ منفصلاً فقد انْحَلَّ وتفكَّك، فنشأ عن انحلال وتفكُّك النيوترونات جسيمات أخرى هي البروتونات، والإلكترونات، والنيوترينوات المضادة. مع اتِّحاد بعض من النيوترونات بالبروتونات، أي بنوى ذرَّات الهيدروجين، تكوَّنت نوى ذرَّات الديوتيريوم، الذي اتَّحَد معظمه، فتكوَّن الهيليوم.

"الانفجار الكبير" أشعل فتيل حرب كبرى بين جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة، فكانت النتيجة أنْ تحرَّر 99.97 في المائة من الطاقة في الكون في السنة الأولى من عُمْرِه. لقد انتهت المعركة بين الجسيمات (من المادة والمادة المضادة) إلى سيادة المادة؛ وإنْ ظلَّ السبب مجهولاً، أو محل أخذ ورد بين الكوزمولوجيين والفيزيائيين.

قبل ذلك، كانت جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة تُخْلَق وتفنى في استمرار. وفناؤها المتبادل، الناتج عن تصادمها، إنَّما يعني تحوُّلها إلى "طاقة خالصة". أمَّا خلقها فكان دائماً متساوياً من الوجهة الكمية، فالإلكترون والبوزيترون، مثلاً، كانا يخلقان بمقدارين متساويين.

في البدء، أي عندما كان الكون في منتهى الصِغَر، كانت "الطاقة" في منتهى "الكثافة"، فترتَّب على ذلك خَلْقاً وفناءً مستمرين للأزواج من المادة والمادة المضادة. ولسبب ما زال مجهولاً، وُجِدَت جسيمات المادة بمقدار يزيد قليلاً، وقليلاً جدَّاً، عن مقدار جسيمات المادة المضادة، ففي مقابل كل بليون جسيم من المادة المضادة وُجِدَ بليون جسيم وجسيم واحد من المادة العادية.

وكلَّما تمدَّد الكون هبطت درجة حرارته؛ وبعد ثانية واحدة من "الانفجار الكبير" تمدَّد الكون بما جعل درجة حرارته (أي درجة برودته) لا تكفي لخلق مزيدٍ من جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة، فاستمرت "عملية الفناء المتبادل (= التحوُّل إلى "طاقة خالصة")" وتوقَّفت "عملية إعادة خلق المادة والمادة المضادة" من "الطاقة الخالصة"، فالعملية الأخيرة تحتاج إلى درجة حرارة كونية أعلى. وهذا إنما يعني أنَّ برودة الكون إلى حدٍّ معيَّن لا تمنع عملية الإبادة المتبادلة بين جسيمات المادة والمادة المضادة ونشوء الطاقة الخالصة بالتالي؛ ولكنها تمنع إعادة خلق مادة ومادة مضادة من هذه الطاقة.

أخيراً، وباستثناء مقدار في منتهى الضآلة من جسيمات المادة العادية، تحوَّلت (عبر التصادم والفناء المتبادل) كل المادة والمادة المضادة إلى "إشعاع"، أو "طاقة خالصة"، أي إلى "فوتونات".

ولولا ذلك المقدار الضئيل جدَّاً من المادة العادية لأصبح الكون كله مؤلَّفاً من ضوء، ومن فضاء فارغ، فهبوط درجة حرارة الكون، بسبب تمدُّده، يمنع إعادة خلق الجسيمات ذات الكتلة (من المادة والمادة المضادة).

ولضآلة هذا المقدار المتبقي من المادة العادية نستطيع القول إنَّ كل المادة والمادة المضادة، "تقريباً"، قد تحوَّل إلى "طاقة خالصة (= فوتونات)"، أو إشعاع. وهذا الإشعاع هو ما نسميه "إشعاع الخلفية الكونية". إنَّه إشعاعٌ متماثل (على وجه العموم) كثافةً وشِدَّةً، يأتي من كل اتِّجاه في الكون، أو الفضاء. وطاقة هذا الإشعاع، أو الضوء، هي الآن أقل 1000 مرَّة ممَّا كانت عليه من قبل.

هذا الإشعاع مع تلك الكمية الضئيلة جدَّاً من المادة (العادية) هو النتيجة النهائية التي تمخَّضت عنها تلك المعركة الكونية الكبرى بين جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة.

إنَّ شيئاً من الإشعاع أو الطاقة لم، ولن، يفقده، أو يخسره، كوننا؛ ذلك لأنَّ كل مادة الكون، أي كل كتلته وطاقته وإشعاعه، يظل حبيس "الجدار الحديدي (أُفْق الحدث Event Horizon)" للكون.

الكون الآن ليس في حالٍ من "التماثُل الحراري"، فحرارة الشمس، مثلاً، تفوق كثيراً حرارة كوكب الأرض؛ وحرارة باطن الشمس تفوق كثيراً حرارة سطحها. وكل جسم كوني، تراه مختلفاً حرارةً، أو برودةً، عن غيره، فهو أكثر سخونةً من هذا، وأقل سخونةً من ذاك. وللفضاء بين الأجسام الكونية (بين النجوم أو بين المجرَّات..) حرارته (أو برودته) هو أيضاً.

أمَّا "إشعاع الخلفية الكونية" فهو "الحرارة" التي خلَّفها "الانفجار الكبير" نفسه. إنَّها البقية الحرارية الباقية من تلك "المادة الكثيفة الحارة"، أي من "البيضة الكونية" التي "انفجرت". وهذه "البقية الحرارية"، أو "إشعاع الخلفية الكونية (البارد جدَّاً)"، تَغْمُر، اليوم، وتَعُم، الكون كله.

وعليه، نرى أنَّ درجة حرارة الفضاء (= درجة برودته) لا تختلف (تقريباً) في كل نواحيه. وكلَّما تمدَّد الفضاء أكثر زاد برودةً، أي انخفضت أكثر درجة حرارة "إشعاع الخلفية الكونية"، التي هي اليوم 2.728 درجة فوق "الصفر المُطْلَق".

ملاحَظَة "هابل"

مِنْ ملاحظَة لاحظها هابل Hubble نشأت فكرة "تمدُّد الكون"؛ ولقد لاحظ هابل، على ما نعرف، أنَّ كل مجرَّة ترتد بعيداً عن سائر المجرَّات، أي أنَّ المسافة بين مجرَّة ومجرَّة تزداد وتتَّسِع في استمرار. و"طريقة التفكير" في هذه الملاحظَة هي ما قاد إلى نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang.

لقد تصوَّروا تاريخ الكون على أنَّه فيلم طويل، نرى مشاهده وأحداثه تتتابع من الماضي نحو المستقبل، فتساءلوا عمَّا يمكن أن يُرى إذا ما شُوهِد هذا الفيلم في اتِّجاه عكسي، أي بدءاً من مشهده الحاضر وصولاً إلى مشهده الأوَّل، أو الأكثر بُعْداً في الماضي الكوني.

افْتَرضوا، إذ أخذوا بهذه الطريقة في التفكير والنظر، أنَّهم سيشاهدون المجرَّات وهي تزداد اقتراباً من بعضها بعضاً، وصولاً.. وصولاً إلى انسحاقها وانصهارها في "جسم كروي في منتهى الصِغَر حجماً، وفي منتهى العِظَم كثافةً"، هو "البيضة الكونية" Singularity.

المجرَّات، وعلى ما نَفْتَرِض ونتوقَّع، يجب أن تجتاز جميعاً أطواراً متشابهة (عموماً) من التطوُّر. وبحسب الطور الذي عليه مجرَّة ما الآن يمكن تقدير عُمْرَها؛ كما يمكن إدراج المجرَّات في فئات عُمْرِية مختلفة (مجرَّات في طور الطفولة، ومجرَّات في طور الشباب، ومجرَّات في طور الشيخوخة).

المجرَّات الأقرب إلينا يجب أن تكون في الطور الأعلى من تطوُّرها، والذي يمكن أن ننظر إليه على أنَّه "طور الشيخوخة"؛ ولكن في المعنى النسبي لـ "الشيخوخة". أمَّا المجرَّات الأبعد فيجب أن تكون في الطور الأوَّل من تطوُّرها، وفي "طور الطفولة" بالتالي.

لِنَفْتَرِض أنَّ المجرَّة X هي المجرَّة الأبعد عنَّا، أي عن الكرة الأرضية، أو عن مجرَّتنا، وأنَّها تبعد عنَّا 20 بليون سنة ضوئية، وأنَّ الكون قد وُلِدَ قبل 20 بليون سنة، وأنَّ عُمْره، بالتالي، 20 بليون سنة.

إذا صحَّت نظرية "الانفجار الكبير"، في بعضٍ من أركانها، فلا بدَّ، عندئذٍ، من أن نظل إلى الأبد نرى المجرَّة X بوصفها المجرَّة الأبعد عنَّا، أي أنَّنا مهما طوَّرنا وحدَّثْنا تليسكوباتنا الفضائية لن نرى أبداً جسماً كونياً آخر يبعد عنَّا أكثر من تلك المجرَّة. لن نرى أبداً شيئاً أخر يقع عند "حافَّة" الكون (في معناها النسبي) غير المجرَّة X. والتليسكوب، على وجه العموم، لا يرينا إلاَّ الشيء الذي صورته الضوئية في مجال عيوننا المجرَّدة.

كذلك لا بدَّ لنا من أن نرى المجرَّة X في "طور الطفولة"، أي في الطور الأوَّل من تطوُّرها. ولو كان تطوُّر المجرَّات على هيئة هرم فإنَّ المجرَّة X يجب أن تكون في قاعدته؛ أمَّا المجرَّة الأقرب إلينا فيحب أن تكون في قمَّته.

"النظرية"، أي نظرية "الانفجار الكبير"، يمكن ويجب أن تنهار تماماً إذا ما رأيْنا في الجزء الأقصى من الكون مجرَّات تشبه المجرَّات الأقرب إلينا في درجة تطوُّرها، أو إذا ما رأيْنا في جوارنا الكوني مجرَّات تشبه المجرَّة X في درجة تطوُّرها. إنَّ "قمَّة" الهرم يجب أن تكون في الجزء الكوني الأقرب إلينا، و"قاعدته" في الجزء الكوني الأبعد عنَّا.

ولمزيدٍ من التوضيح، دعونا نَفْتَرِض أنَّ الكون، في طفولته، كان يتألَّف من ثلاثة بنَّائين، شرع كل منهم يبني عمارة؛ ولقد تمدَّد الكون حتى بلغ الحجم الذي هو عليه الآن.

إذا نظرتُ أنا من بنايتي المؤلَّفة من عشرة طوابق، في الفضاء، فيجب أن أرى البناية الأبعد مؤلَّفة من طابق واحد؛ والبناية الأقرب مؤلَّفة من سبعة طوابق؛ مع أنَّ كل بناية من البنايات الثلاث تتألَّف "الآن" من عشرة طوابق. يجب ألاَّ أرى البناية الأبعد تتألَّف من عشرة طوابق، أو أكثر؛ ويجب ألاَّ أرى البناية الأقرب تتألَّف من طابقين اثنين، أو أقل.

إنَّ "الأحْدَثَ (من الأجسام الكونية)" لن أراه، أي يجب ألاَّ أراه، في "الأبعد"؛ وإنَّ "الأقدم" لن أراه، أي يجب ألاَّ أراه، في "الأقرب". في "الأبعد مكاناً" يجب أن أرى ما يشبه "مكاني" في "ماضيه السحيق".

نشوء وتطوُّر نظرية "الانفجار الكبير"

في مستهل القرن العشرين، كان معظم العلماء يشعرون أنَّهم "يعرفون" كيف بدأ الكون، أي أنَّهم كانوا يعرفون أنْ ليس للكون من بداية (في الزمان). كان تصوُّرهم هو أنَّ الكون (الذي نرى) قد وُجِدَ منذ الأزل، وسيظل موجوداً إلى الأبد، فـ "زمن وجود الكون" لا نهاية له، لا في الماضي ولا في المستقبل. ولقد توفَّر كثير من الكوزمولوجيين على إنشاء وتطوير نظريات تقوم على فكرة أنْ ليس للكون من بداية.

القس والكوزمولوجي البلجيكي لاميتر Lemaître مهَّد لفكرة "الانفجار الكبير" إذ تحدَّث عن ضرورة وجود "بداية" للكون. لقد افْتَرَض أنَّ الكون قد نشأ من شيء صغير الحجم، سمَّاه "الذَّرة البدائية" Primeval Atom، التي كانت جسماً كروياً يزيد حجمه عن حجم الشمس ببضع عشرات المرَّات؛ ولكن سُحِقَت فيه كل مادة الكون. هذه "الذَّرة البدائية" انفجرت، متحوِّلةً إلى مقدار هائل جدَّاً من القطع (أو الشظايا) الصغيرة، التي ظلَّت تنقسم وتتجزَّأ وصولاً إلى الذرَّات التي نعرفها اليوم.

وإذا كان لاميتر قد تصوَّر نشوء الكون على أنَّه عملية انتقال من "المُركَّب (أو المُعقَّد)" إلى "البسيط" من المادة، أي من تلك "الذَّرة البدائية" إلى الذرَّات التي نعرفها اليوم، فإنَّ نظرية "الانفجار الكبير" تصوَّرته على أنَّه عملية معاكسة، انتقلت فيها المادة من "البسيط"، أو من "الأوَّلي"، إلى "المُركَّب"، أي إلى مادة تنمو تعقيداً في استمرار.

لاميتر، وفي فكرة "الذَّرة البدائية" التي جاء بها، والتي كانت البداية لنظرية "الانفجار الكبير"، تصوَّر المجرَّات على أنَّها "الشظايا" التي قذفها انفجار تلك "الذَّرة" بعيداً، فنشأت ظاهرة "تمدُّد الكون"، أي ظاهرة ارتداد كل مجرَّة عن سائر المجرَّات.

سنة 1948، طوَّر الفيزيائي جورج غاموا George Gamow من فكرة، أو نظرية، "الذَّرة البدائية"، نظرية "الانفجار الكبير"، أي نظرية أصل الكون ونشأته.

غاموا أوضح في نظريته الجديدة أنَّ الكون خُلِق من انفجار ضخم، وأنَّ العناصر المختلفة التي نراها في كوننا اليوم قد أُنْتِجَت في خلال الدقائق الأولى التي أعقبت "الانفجار الكبير" Big Bang حيث أدَّت درجة الحرارة العالية جدَّاً، مع الكثافة الهائلة، للكون إلى صهر الجسيمات دون الذَّرية، وخَلْق العناصر الكيميائية بالتالي.

وفي وقت لاحق، أشارت الأبحاث الفيزيائية إلى أنَّ عنصري الهيدروجين والهيليوم قد كانا المُنْتَجَيْن الأساسيين لـ "الانفجار الكبير" ذاته، ثمَّ تولَّت النجوم، في بواطنها، أي في "أفرانها النووية"، إنتاج العناصر الأثقل. ومع تمدُّد الكون، برد الهيدروجين والهيليوم، فتكثَّفا في نجوم ومجرَّات. ولقد فسَّرت النظرية الجديدة التمدُّد السريع للكون، بعد "الانفجار الكبير"، على أنَّه نتيجة "الكثافة العالية" في داخل "الذَّرة البدائية".

ستيفن هوكينغ Stephen Hawking فَهِم "تمدُّد الكون"، أو "الكون المتمدِّد"، ولجهة علاقته النظرية بنظرية "النسبية العامة"، على أنَّه ظاهرة يجب أن تنشأ عن "بيضة كونية" Singularity، وعن "انفجار كبير" Big Bang، بالتالي.

وهذا الفهم اعْتُبِر "برهاناً نظرياً" على "الانفجار الكبير" جاء به هوكينغ. ولقد أوضح هوكينغ "برهانه النظري" هذا إذ قال إنَّ أي كون متمدِّد، يمكن أن تصفه وتشرحه "النسبية العامة" لآينشتاين، يجب أن يبدأ من تلك "النقطة"، أو "البيضة الكونية"، ومن "انفجار كبير" بالتالي. على أنَّ هذا "البرهان النظري" لم يمنع هوكينغ من أن يقول، أيضاً، إنَّ الكون يمكن أن يُوْلَد من دون تلك "النقطة" Singularity.

في مرآة "النسبية العامة"، وبحسب فهم كثير من الكوزمولوجيين لها، يَظْهَر الكون، لجهة أصله ونشأته وماضيه، في صورة من صورتين، فهو إمَّا أن يكون قديماً لا نهاية له في القِدَم، وإمَّا أن يكون قد بدأ من "بيضة كونية" Singularity. و"ضِمْناً"، فحسب، تشير "النسبية العامة"، بحسب ما يقوله أنصار نظرية "الانفجار الكبير"، أو بحسب اعترافهم، إلى أنَّ كوننا المتمدِّد قد نشأ عن "بيضة كونية".

هوكينغ تحدَّث عن "احتمال (أو إمكانية) ثالث"، هو "الكون النهائي المحدود الذي لم يبدأ من بيضة كونية Singularity، والذي لا حدَّ له بالتالي". ولكن كيف تكون هندسة Geometry هذا الكون "الذي لا حدَّ له"، أو بنيته الهندسية؟

إنَّها، بحسب هوكينغ، تشبه هندسة "سطح جسم كروي (كالكرة الأرضية)"، باستثناء أنَّ هذا الكون، أو سطحه، يملك أربعة أبعاد (ثلاثة مكانية والرابع هو الزمن). ويُنْظَر إلى "سطح" الجسم الكروي (كسطح الكرة الأرضية) على أنَّه مؤلَّف من بُعْدين اثنين هما الطول والعرض. ووجه التشابه إنَّما تراه عندما تسير حَوْل سطح الكرة الأرضية كله من غير أن تصل إلى ما يشبه "الحافة".

الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace

على السطح الخارجي لبالون قَيْد النفخ، ضَعْ نملة، مُفْتَرِضاً أنَّها في منزلة الإنسان عقلاً وإدراكاً. أنتَ تراقِب النملة وانتفاخ البالون، فترى الحجم الداخلي للبالون ينمو، مع إدخال مزيدٍ من الهواء فيه؛ كما ترى البالون يكبر ويتمدَّد "ضِمْن" فراغ، أو فضاء.

لو سألْتَ النملة "أين (أو إلى أين) يتمدَّد البالون (أو هذا الكون الذي تعيش فيه)؟"، لأجابتكَ النملة قائلةً إنَّ سؤالكَ ليس بذي معنى؛ فهي لا ترى، ولا تُدْرِك، إلاَّ شيئاً واحداً فحسب هو أنَّ المسافة بين كل نقطتين على سطح البالون تزداد اتِّساعاً.

والجواب نفسه ستجيبكَ إيَّاه لو سألْتَها عن جوف (أو داخل) البالون، أي عن الفراغ، أو الفضاء، الذي في داخله، والذي ينمو ويكبر مع إدخال مزيدٍ من الهواء فيه. إنَّها لا تعرف شيئاً عن كل ما يمت بصلة إلى العالم الداخلي للبالون، فكل ما تعرفه، وتدركه، هو أنَّها تُوْجَد وتتحرَّك على سطحٍ يتألَّف من بُعْدين اثنين فحسب، هما "الطول" و"العرض"، فالبُعد الثالث، وهو "الارتفاع (أو العُمْق، أو السُمْك)"، لا وجود له بالنسبة إليها (أي بالنسبة إلى إدراكها ووعيها) مع أنَّه موجود فعلاً بالنسبة إليكَ.

النملة لا ترى سوى "الطول" و"العرض"؛ وهي تتحرَّك، أو قادرة على التحرُّك، على هذا السطح، إلى الأمام، وإلى الوراء، إلى اليمين، وإلى اليسار. إنَّها لا ترى شيئاً ممَّا يدلُّ على وجود البُعْد الثالث (الارتفاع) بالنسبة إليها، فهي غير قادرة أبداً على التحرُّك إلى أعلى، أو إلى أسفل.

أنتَ، وليس النملة، من يرى ويدرك وجود هذا البُعْد المكاني الثالث، فالبالون، على ما ترى وتدرك، يتمدَّد "ضِمْن" فضاء، أو فراغ، فثمَّة فضاء في خارج البالون، يتمدِّد فيه (أو إليه) البالون. وثمَّة فضاء آخر في داخل البالون، يتسع ويزداد حجماً مع إدخال مزيد من الهواء فيه.

هذا البُعْد المكاني الثالث، بوجهيه الخارجي والداخلي، لا وجود له في "كَوْن النملة"، بالنسبة إليها، فهي لا تراه، ولا تدركه، ولا يعنيها أمره شيئاً. إنَّه بالنسبة إليها الفضاء الذي لا ينتمي إلى كونها، وليس بجزء منه، لا يؤثِّر في كونها، ولا يتأثَّر فيه، ولا اتِّصال مهما كان بينه وبينها (أو بينه وبين كونها). وبالنسبة إليها يقع هذا الفضاء، أو يُوْجَد، في ما وراء كونها، وفي ما وراء "فضاء كونها"، والذي هو كل مسافة بين نقطتين على سطح البالون. إنَّه، بالنسبة إليها، الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace.

البُعْد المكاني الثالث، أو الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace، والذي يتألَّف من الفضاء الخارجي للبالون ومن فضائه الداخلي، لا وجود له بالنسبة إلى النملة وإدراكها، ولا يُعَدُّ، بالتالي، جزءاً من كونها.

أنتَ المراقِب تُدْرِك وجود هذا البُعْد المكاني الثالث؛ لأنَّكَ تعيش في كون يتألَّف من ثلاثة أبعاد مكانية. إنَّكَ تستطيع أن ترى أنَّ لهذا البالون حجماً محدوداً، وأنَّه يتمدَّد في البُعْد الثالث، وأنَّه ينطلق في تمدُّده من مركزه، الذي يقع في البُعْد الثالث.

في خارج (وحتى في داخل) البالون قد تُوْجَد بالونات أخرى. إنَّ هذه البالونات تقع جميعاً في البعد الثالث، أي في الفضاء الـ "ما ورائي"، بالنسبة إلى تلك النملة. هذه البالونات إنَّما هي أكوان أخرى لا وجود لها بالنسبة إلى النملة؛ لأنَّها لن تدرك أبداً وجودها، فالمكان المؤلَّف من بُعْدين اثنين (الطول والعرض) هو وحده المكان الموجود بالنسبة إلى النملة.

ونحن لا نختلف عن النملة إلاَّ في كوننا نعيش في كون يتألَّف سطحه من ثلاثة أبعاد مكانية (طول وعرض وارتفاع). ونحن، على سطح بالوننا الكوني، نستطيع أن نتحرَّك إلى الأمام، وإلى الوراء، إلى اليمين، وإلى اليسار، إلى أعلى، أي إلى فوق، وإلى أسفل، أي إلى تحت.

"الفضاء الآخر" Hyperspace لا وجود له، إنْ وُجِدَ فعلاً، بالنسبة إلينا؛ لأنَّه ليس بجزء من كوننا، أو فضائنا، فنحن مهما سِرْنا في فضائنا الثلاثي البُعد نحو الأسفل (أو إلى تحت) لن نصل أبداً إلى داخل بالوننا الكوني، أو مركزه، فهذا المكان ليس بجزء من كوننا؛ ونحن مهما سِرْنا نحو الأعلى (أو إلى فوق) لن نصل أبداً إلى الفضاء (الخارجي بالنسبة إلى كرتنا الكونية) الذي فيه (أو إليه) يتمدَّد كوننا، فهذا الفضاء هو أيضاً ليس بجزء من كوننا، أو فضائنا.

قد تُوْجَد بالونات، أو أكوان، أخرى في هذا الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace بالنسبة إلينا؛ ولكنَّنا لن نملك أبداً من وسيلة للاتِّصال بها، فلا تفاعل، أو تأثير متبادل، من أي نوع بين كوننا وبينها.

في كوننا المؤلَّف من ثلاثة أبعاد مكانية، مهما سِرْتَ، في خطٍّ مستقيم، إلى الأمام، أو إلى الوراء، إلى اليمين، أو إلى اليسار، فإنَّكَ لن تصل أبداً إلى نهاية الكون، أو "حافَّته"، فنهاية الكون الوحيدة التي يمكنكَ أن تصل إليها إنَّما هي النقطة التي انطلقتَ منها، أي أنَّكَ ستعود لا محالة إلى نقطة البداية في رحلتكَ الكونية.

ومهما سِرْتَ، في خطٍّ مستقيم، إلى أعلى، أو إلى أسفل، فإنَّكَ لن تصل أبداً إلى نهاية الكون "الفوقية"، أو "التحتية"، أي إلى "الفضاء الذي فيه (أو إليه) يتمدَّد الكون"، أو إلى "الفضاء الذي منه انطلق التمدُّد الكوني". إنَّكَ، وفي هذه الحال أيضاً، ستعود حتماً إلى النقطة التي انطلقتَ منها.

إنَّ كل فضاء (على افتراض أنَّه موجود فعلاً) لا يمكننا أبداً إدراكه، أو الاتِّصال به، أو التفاعل وتبادل التأثير معه، هو فضاء "ما ورائي" Hyperspace بالنسبة إلينا. إنَّه فضاء لا يُعَدُّ جزءاً من كوننا وفضائنا.

في الجسم الكروي فحسب (الكرة الأرضية مثلاً) نرى اجتماع "المحدود" Finite والـ "لا محدود" Infinite في المكان الثلاثي البُعْد. "الطول" و"العرض" إنَّما يجتمعان على "السطح" من "الجسم الكروي"، فنرى "المكان" هنا في صفة الـ "لا محدود". وهذا إنَّما يعني أنَّكَ لو سِرْتَ على سطح جسم كروي، كالكرة الأرضية، في خطٍّ مستقيم، إلى الأمام أو إلى الوراء، إلى اليمين أو إلى اليسار، نحو القطب الشمالي أو نحو القطب الجنوبي، إلى الشرق أو إلى الغرب، فإنَّكَ لن تصل أبداً إلى "نهاية المكان"، أو إلى "نهاية (أو حافة) سطح الكرة الأرضية"؛ ولسوف تعود إلى النقطة التي منها انطلقت.

أمَّا "البُعْد الثالث (الارتفاع)" في الجسم الكروي فهو ما يكسبه صفة "المحدود (مكاناً)". إذا أنتَ سِرْتَ، في خطٍّ مستقيم، من نقطة ما على سطح الكرة الأرضية نحو "العُمْق" فإنَّكَ ستصل إلى "مركز" الأرض، ثمَّ إلى نقطة على الجانب الآخر أو المقابل من سطح الأرض، ثمَّ إلى الفضاء الخارجي، الذي منه تستطيع أن ترى الأرض في حجم محدود. و"الكون" كـ "الكرة الأرضية، وكأيِّ "جسم كروي"، هو اجتماع "المحدود" والـ "لا محدود" من الوجهة المكانية.

لو سُئِلْتَ "أين هو مركز الكرة الأرضية؟"، لأجبْتَ قائلاً إنَّه يقع بعيداً عن سطحها. إنَّه لا يقع على سطحها. إنَّه يقع في داخلها، أو باطنها. وأنتَ يكفي أن تشير بإصبعكَ إلى أسفل، أو إلى تحت، حتى تشير إلى "مركز" الكرة الأرضية؛ ولكنَّكَ لن تشير أبداً إلى "مركز" الكون إذا ما أشرتَ بإصبعكَ إلى أسفل (أو إلى أعلى، إلى الشمال أو إلى الجنوب، إلى الشرق أو إلى الغرب) لأنَّ هذا "المركز" يقع بعيداً عن سطح بالوننا الكوني. إنَّه ليس بجزء من كوننا، الذي يقع كله، وبأبعاده المكانية الثلاثة، على "السطح" من بالوننا الكوني. إنَّه يقع في فضاء آخر؛ في فضاء ليس بجزء من كوننا، ولا من فضائنا الكوني؛ إنَّه يقع في الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace بالنسبة إلينا، وإلى كوننا، والذي لا يمكننا أبداً الاتِّصال به في أي شكل من أشكال الاتِّصال الفيزيائي. إنَّه لا يُوْجَد في كوننا المؤلَّف من ثلاثة أبعاد مكانية.

والفضاء الذي يتمدَّد فيه (أو إليه) كوننا هو أيضاً ليس بجزء من كوننا، أو فضائنا. إنَّه الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace، أو غير المرئي، والذي يقع بعيداً عن سطح بالوننا الكوني.

ثمَّة فضاء في داخل بالوننا الكوني؛ وثمَّة فضاء في خارجه؛ ولكن لا هذا الفضاء ولا ذاك يُعَدُّ جزءاً من كوننا. إنَّه موجود؛ ولكنَّه ليس موجوداً في كوننا. إنَّه بالنسبة إلينا، وإلى كوننا، الفضاء الـ "ما ورائي"، الذي لن نراه أبداً، ولن ندركه أبداً، ولن نتَّصِل به أبداً، وكأنَّه "الموجود غير الموجود".

"الانفجار الكبير" Big Bang ليس بالانفجار العادي؛ لأنْ ليس من "مركز" له، يشبه مركز الانفجار في الألعاب النارية. وجه الشبه بين "الانفجار الكبير" وانفجار قنبلة يدوية، مثلاً، قد يكون "الشظايا"، و"تطايرها".

وأنتَ يمكنكَ أن تتخيَّل "الشظايا الكونية وتطايرها" في طريقة أخرى، أي في طريقة "الانفجار الذي ليس له مركز". تخيَّل أنَّ أمامكَ سطحاً منبسطاً من مادة ما، وأنَّ هذا السطح قد تمزَّق، بغتةً، متحوِّلاً إلى "حبيبات"، ابتعدت كل "حبيبة" منها عن سائر "الحبيبات" ابتعاداً متماثلاً في سرعته. في هذا الحادث المتخيَّل، ترى "الشظايا"، وترى هذا الشكل من "تطايرها"، من غير أن تبرز لديك الحاجة إلى السؤال عن "مركز" هذا "التمزُّق"، أو "الانفجار".

عندما تنظر في السماء، أو الفضاء، ترى "الشظايا الكونية"؛ ولكنَّكَ لن ترى أبداً موضعاً، أو شيئاً معيَّناً، يسمح لكَ بأن تقول: "أنْظروا هذا هو مركز الانفجار الكوني.. من هنا بدأ هذا الانفجار".

كل ما يمكنكَ قوله، عن صواب، إنَّما هو الآتي: هذا الشظية الكونية التي أراها هي الأكثر بُعْداً عن موقعي في الكون، وهي، بالتالي، الأقدم وجوداً. إنني أرى "صورة قديمة لها". إنني أراها على الهيئة التي كانت عليها "بُعَيْد" وقوع "الانفجار".

إنَّكَ في رؤيتكَ لتلك "الشظية الكونية الأبعد" لن ترى "أين وقع الانفجار"؛ ولكنَّكَ ترى "متى وقع (تقريباً)"، أي أنَّكَ "مركزه في الزمان"، وليس "مركزه في المكان".

ويكفي أن تنظر إلى "الانفجار الكبير" على أنَّه يشبه التمزُّق المباغت لذلك السطح، والذي جعله "حبيبات متطايرة (متباعدة)"، حتى تقول في وصف "الانفجار الكبير": لقد كان حادثاً حدث في كل مكان وزاوية من الفضاء، في اللحظة عينها، ولم يكن كانفجار قنبلة يدوية، انطلقت شظاياه كلها من "مركز واحد".. "الانفجار الكبير" لم يقع في "داخل" كوننا؛ لأنْ ليس لكوننا من "داخل".

والضوء الذي يأتينا من "المَصْدَر الكوني الأبعد (عنَّا)" إنَّما هو نفسه الآتي من "أُفْق الكون". وعليه، يبعد عنَّا "أُفْق الكون" ما بين 15 و 20 بليون سنة ضوئية. إنَّه، أي "أُفْق الكون"، الأبعد في المكان، والأقدم في الزمان.

إذا افترضنا أنَّ عُمْر الكون 20 بليون سنة فهذا إنَّما يعني أن لا جسم في الكون يمكن أن يكون عُمْره أكثر من 20 بليون سنة. إنَّ أقدم جسم في الكون يجب أن يقل عُمْره عن 20 بليون سنة.

و"المعلومات" Information نتلقَّاها وتصِل إلينا عَبْر جسيمات عديمة الكتلة (الضوء) تسير في الفضاء بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، فالضوء الذي نستقبله من الجسم الكوني X هو الذي يَحْمِل إلينا "معلومات" عنه.

بحسب نظرية "الانفجار الكبير"، لا وجود لكون آخر، فكوننا هو وحده الموجود. وعليه، يُعرَّف "الكون"، أو "كوننا"، على أنَّه "كل شيء". ولو وُجِدَ كون آخر فإنَّ وجوده في حُكْم "اللا موجود"؛ لأنْ لا اتِّصال من أي نوع بينه وبين كوننا، فليس من جسيمات يمكن أن نستقبلها منه، أو يستقبلها مِنَّا.

وإذا ما تفاعل كونان (أي تبادلا تأثيراً فيزيائياً عبر جسيمات حاملة أو ناقلة لهذا التأثير) فهذا إنَّما يؤكِّد أنَّهما "كون واحد"؛ فـ "الكون" في خاصية جوهرية له هو الشيء الذي لا يؤثِّر، ولا يتأثَّر، أبداً في غيره؛ لأنَّ "زمكانه" في انفصال مُطْلَق عن أيِّ زمكان آخر، على افتراض وجود زمكان آخر.

نحن الآن، وبحسب نظرية "الانفجار الكبير"، نقول إنَّنا في كون عُمْره ما بين 15 و 20 بليون سنة؛ ولكن، ما الذي سيقوله أصحاب تلك النظرية إذا ما استطعنا، بفضل تليسكوب في منتهى التطوُّر أن نرى جسماً كونياً يبعد عنَّا، مثلاً، 30 بليون سنة ضوئية؟

إنَّهم لن يقولوا، عندئذٍ، إنَّ هذا الجسم أقدم وجوداً من كوننا، كما لن يقولوا إنَّ هذا الجسم ينتمي إلى كون آخر (لاستحالة وجود أي نوع من الاتِّصال الفيزيائي بين كوننا وبين هذا الكون الآخر).

ونحن يجب أن نفهم "الجاذبية الكونية" على أنَّها انحناء المكان، أو الفضاء، أو المسارات، الذي لشدَّته يمنع منعاً مُطْلَقاً كل مادة (كل كتلة، كل طاقة، كل جسيم، كل تأثير، أي كل شيء) من "مغادرة" الكون، وكأنَّها في "سجن أبدي".

إنَّهم سيقولون، عندئذٍ، إنَّ عُمْر كوننا أكبر مِمَّا افترضنا من قبل، وإنَّ "أُفْق كوننا" أوسع مِمَّا افترضنا من قبل، وكأنَّ شعارهم "لا تَدَعْ الحقائق تُفْسِد القصة الجيِّدة"!

و"أُفْق الكون" يشبه "أُفْق الحدث" الخاص بـ "الثقب الأسود" في "استحالة الهروب المادي"، فليس من جسيم، له كتلة، أو عديم الكتلة، يمكنه الإفلات من قبضة الجاذبية القوية للكون، أو لـ "الثقب الأسود"، ومغادرة "أُفْق الكون"، أو "أُفْق الحدث"، إلى خارجهما.

نحن لا يمكننا أبداً معرفة ما يحدث في داخل "الثقب الأسود"؛ لأنْ لا معلومات تخرج منه؛ وسكَّان كون آخر (على افتراض وجوده ووجودهم) لا يمكنهم أبداً إدراك وجود كوننا، أو معرفة ما يحدث في داخله؛ لأنْ لا معلومات تخرج منه إليهم.

و"أُفْق الكون" يختلف عن "أُفق الحدث" الخاص بـ "ثقب أسود" في كونه لا يَحْجِب، أو يُغلِّف، "نقطة عديمة الحجم، مُطْلَقَة الكثافة" تقع في مركزه، وتسمَّى "سينغيولاريتي" Singularity، فلو أنَّ مركبة فضائية آتية من "كون آخر" اجتازت "أُفْق كوننا"، أي دخلت إلى كوننا، فإنَّها لن تُسْحَب إلى نقطة كتلك، فليس لكوننا من "مركز" حتى تُوْجَد فيه نقطة مماثلة لتلك التي في داخل "الثقب الأسود"، فـ "السينغيولاريتي" الخاصة بكوننا إنَّما هي "النقطة"، أو "البيضة الكونية"، التي منها انبثق الكون مع زمكانه إذ وقع "الانفجار الكبير".

إذا تحرَّكْتَ في الكون، في أي اتِّجاه، وفي أي شكل من الأشكال الهندسية للحركة في المكان، وفي أي سرعة، فإنَّكَ لن تتمكَّن أبداً من مغادرة الكون، فليس من مسارٍ يمكن أن تسير فيه إلى كون آخر، أو إلى فضاء آخر (غير فضاء كوننا).

ليس ممكناً ذلك على افتراض وجود كون آخر، أو فضاء آخر. وبما يشبه ذلك يمكن ويجب أن نفهم مغادرة مادة ما (ولو كانت ضوء) لـ "ثقب أسود"، فهذا الجسم يستقبل ولا يُرْسِل مادة.

ولكن، هل كوننا يفعل الشيء ذاته إذا ما افترضنا وجود مادة في خارجه؟

هل يستقبل ولا يُرْسِل مادة؟

بالنسبة إلى المادة في داخل "الثقب الأسود" ليس من فضاء يمكنها السير فيه إلاَّ الفضاء الذي هو جزء لا يتجزأ من "الثقب الأسود" ذاته، فالفضاء الكوني، أي كل فضاء في خارج "الثقب الأسود"، ليس له من وجود بالنسبة إلى تلك المادة. "الثقب الأسود" إنَّما هو "الكون One Way".

"البيضة الكونية" و"الثقب الأسود"

أستاذ الفيزياء الشهير جون آرتشيبولد ويلر John Archibald Wheeler يميل إلى فهم "الثقوب السوداء" على أنَّها الظاهرة التي قد نعثر فيها على ما يؤسِّس لتعليل، أو تفسير، مختلف لـ "الانفجار الكبير"؛ ولكنَّ أصحاب نظرية "الانفجار الكبير"، والمدافعين عن أركانها، ينكرون إمكانية أن ينفجر "ثقب أسود" عملاق.

وهذا إنَّما يعني أنَّ تحوُّل الكون إلى "ثقب اسود" في منتهى الضخامة (لجهة كتلته ونصف قطره) بعد، وبسبب، انهياره على نفسه، لن يؤدِّي إلى "الانفجار الكبير" Big Bang.

بعضٌ من أنصار "نظرية الانفجار الكبير"، وفي محاولتهم غير الموفَّقة لإجابة أسئلة كبرى أثارتها تلك النظرية من غير أن تتمكَّن من إجابتها على نحو فيزيائي مُحْكَم ومُقْنِع، افترضوا أنَّ "البيضة الكونية" كانت "ثقباً أسود"، "تبخَّر"، مُنْتِجاً، بالتالي، ما نراه اليوم من مادة وطاقة في كل مكان. لقد تخيَّلوا "الانفجار الكبير" على هيئة "تَبَخٌّرٍ" لـ "ثقب اسود" مُفْرَد، فنَتَج من تبخُّره هذا الوجود للمادة والطاقة، أي الكون الذي نعرف.

كان ممكناً أن تتحوَّل هذه الفرضية، أو هذا التخيُّل، إلى "نظرية جديدة"، متمِّمة لنظرية "الانفجار الكبير"، لولا تناقضها مع "الحسابات الزمنية" لنظرية تبخُّر "الثقوب السوداء" التي أبدعها هوكينغ، فتبخُّر "ثقب اسود"، تتركَّز فيه كل مادة وكتلة وطاقة الكون، يستغرق زمناً، تبيَّن لهم أنَّه يفوق كثيراً العُمْر الذي افترضوه أو قدَّروه، أو حسبوه، للكون.

ثمَّ أنَّ "الثقب الأسود"، وبصرف النظر عن حجمه ووزنه، يتبخَّر في طريقة محدَّدة، أوضحها وشرحها صاحب الفكرة نفسه، أي هوكينغ، إذ قال إنَّ التفاعل بين "الثقب الأسود" وبين جسيمات متضادة "شبحية (طيفية، صورية، غير حقيقية، افتراضية، وهمية)" Virtual Particles تنبثق من "الفضاء الفارِغ" Empty Space الذي في جوار "الثقب"، أو على مقربة منه، هو ما يؤدِّي إلى تبخُّره، الذي يكون سريعاً في الصغير من "الثقوب السوداء"، وبطيئاً في الكبير منها.

وهذا إنَّما يعني، إذا ما أخذنا بفكرة مجيء الكون من تبخُّر "ثقب اسود" مُفْرَد، أنَّ في البدء، أي قبل وجود الكون الذي نعرف، كان ذلك "الثقب"، وكان معه "فضاء فارِغ"، و"جسيمات متضادة شبحية" تنبثق منه.

تقوم نظرية "الثقب الأسود" على فرضيتين: الأولى هي أنَّه يتكوَّن من مادة تبعث ضوءاُ، أي أنَّها مضيئة بطبيعتها، ولكنَّ ضوءها يعجز عجزاً مطلقاً عن مغادرة هذا الجسم الكوني إلى الفضاء الخارجي، فنراه، بالتالي، مُظْلِماً. والثانية هي أنَّ الجاذبية التي في مقدورها منع الضوء من المغادرة، أي احتجازه، يجب أن تكون لكتلة، حجمها صفر، وكثافتها مطلقة.

وكل مقدارٍ من الكتلة يناسبه نصف قطر معيَّن (يسمَّى "نصف قطر شفارز تشايلد The Schwarzschild radius) لتحوُّله إلى "ثقب أسود". مقدار كتلة الشمس، مثلاً، يناسبه نصف قطر مقداره 3 كيلومتر، من أجل تحوُّل الشمس إلى "ثقب اسود". وهذا إنَّما يعني أنَّ كل "الثقوب السوداء" متماثلة لجهة "مقدار كثافتها". وليس من وجود لمادة بين مركز "الثقب الأسود" وسطحه.

ولـ "الثقب الأسود"، ولو كان في حجم الذرَّة، خاصية جوهرية غريبة هي أنَّه يستطيع، من الوجهة النظرية، التهام كل مادة الكون، فإنَّ له "معدة" لا تضيق أبداً بأعظم مقدار من المادة الكونية.

ليس من نجم يستطيع أن يملك من الكتلة أكثر من مقدار معيَّن، فكلَّما كانت كتلته أكبر أسرع في الانهيار. أمَّا "الثقب الأسود" فهو الحلُّ لهذه المشكلة؛ ذلك لأنَّ قدرته (النظرية) على التهام أكبر مقدار من المادة، وعلى التهام كل المادة الكونية، إنَّما هي من أهم خواص "الزمكان" الخاص بهذا الجسم الكوني. وهو كلَّما التهم أكثر، أي كلَّما كَبُر نصف قطره، اشتدت صعوبة "تبخُّره"، فـ "الثقب الأسود" الأصغر، لجهة كتلته، ونصف قطره، هو الأسرع "تبخُّراً.

في "الفضاء الفارِغ" قد يظهر إلكترون مع بوزيترون. كلاهما جسيم "غير حقيقي"؛ ليس له كتلة. إذا ظهرا على مقربة من "أُفْق الحدث" فإنَّ أحدهما قد تسحبه الجاذبية العظمى لـ "الثقب الأسود" حتى عمقه، فَيَفْقِد هذا الجسم الكوني، في اللحظة عينها، مقداراً من طاقته (أي كتلته).

وهذا المقدار المفقود (بالإشعاع) يتحوَّل، على الفور، إلى "كتلة" في الجسيم الآخر، فيغدو "جسيماً حقيقياً"، وكأنَّ هذا "الفضاء الفارِغ" يصنع لـ "الثقب الأسود"، أو لجاذبيته العظمى، "قوالب" لجسيمات حقيقية، فيملأ هذا الجسم تلك القوالب بـ "طاقة"، فـ "تتجمَّد" هذه الطاقة في "القالب"، فيظهر "جسيم حقيقي".

لقد تحوَّلت "الجاذبية" في "الثقب الأسود"، بسبب نموِّها العظيم هذا، إلى عامِل طَرْدٍ لمحتواه من الطاقة والكتلة؛ وهذا العامِل لا يَظْهَر تأثيره إلاَّ إذا ظهر زوج من الجسيمات المتضادة غير الحقيقية في جوار "أُفْق الحدث".

و"الثقب الأسود"، على ما اكتشف فلكيون، لا يلتهم مادة فحسب وإنَّما يَلِدْها، فثمَّة نجومٌ تُوْلَد من "ثقب أسود" في مركز مجرَّة درب التبانة، وتَبْعُد عنه سنة ضوئية فحسب.

إنَّ قانون "حفظ المادة" يُخْرَق، في استمرار، في "الفضاء الفارِغ"، أو "الفراغ"؛ ولكن بما لا يُمَكِّن هذا القانون من أن "يحس" بهذا الخرق، فثمَّة "طاقة" في هذا الفضاء. ومن بعضٍ من هذه الطاقة، والذي يُقْتَرَضُ، أو يُسْتعار، من هذا الفضاء، يتكوَّن، مثلاً، إلكترون وبوزيترون، ما أن يظهرا حتى يختفيا من الوجود؛ ذلك لأنَّ هذا القرض من الطاقة يجب أن يُسدَّد على الفور.

هذان الجسيمان المتضادان يظهران ويختفيان في زمن متناهٍ في الصِغَر والضآلة، فيعجز قانون "حفظ المادة" عن الإحساس بهذا الذي حدث. ولولا ظاهرة كونية هي "الثقب الأسود" لَمَا تمكَّن أحد هذين الجسيمين من التحوُّل إلى جسيم حقيقي فعلي. ولولا ظهور هذا النمط من الجسيمات لَمَا حدثت ظاهرة تبخُّر "الثقب الأسود"، وكأنَّهما يظهران لهذه الغاية. وعليه، أستطيع تسمية هذا النمط من الجسيمات "جسيمات الموت" بالنسبة إلى "الثقب الأسود"، أي "جسيمات تبخُّره".

ثمَّة "شيء" وُجِدَ، أو كان موجوداً، قبل "الانفجار الكبير". القائلون بنظرية "الانفجار الكبير" يقولون، أيضاً، بـ "الوجود القَبْلي (أي قبل "الانفجار"، وقبل ولادة الكون) لهذا "الشيء"، وبمحتواه من "الكتلة ـ الطاقة".

وهم ينظرون إلى هذا "الشيء" على أنَّه "الكون الكامن"، أو "الكون على هيئة بيضة"، فيسمونه "البيضة الكونية"، التي منها انبثق الكون إذ وقع "الانفجار الكبير". ولكنَّهم يحارون، ويختلفون، في ماهيته، فهل ينظرون إليه على أنَّه "ثقب أسود"؟

إنَّ بعضهم يجيب بـ "لا" قاطعة، معتبراً أنَّ النظر إلى "البيضة الكونية" على أنَّها "ثقب أسود" ليس من المنطق في شيء.

تلك "النقطة (أو "البيضة")" Singularity التي منها انبثق الكون بقوَّة "الانفجار الكبير"، ليست بـ "ثقب أسود"؛ لأنَّ ضآلة "نصف قطرها" لا تتناسب مع عِظَم كتلتها، فكيف لـ "نقطة" تشتمل على كل كتلة الكون أن تكون على هيئة "ثقب أسود" إذا ما كان "نصف قطرها" على هذا القدر من الضآلة والصِغَر؟!

وكيف لنصف قطر الكون، إذا ما كان "ثقباً أسود"، أن يتَّسِع من غير أن تزداد كتلته؟!

يقولون، وبحسب "النسبية العامة" على ما يزعمون، إنَّ الزمن نفسه، والفضاء نفسه، قد خُلِقا بـ "الانفجار الكبير". عندما وَقَعَ هذا "الانفجار" كانت عقارب ساعة الكون متوقِّفة تماماً عن الحركة، وكان "المكان" في منتهى الضآلة، وكأنَّه غير موجود. ومع تمدُّد الكون، وازدياد وتسارُع تمدُّده شرع الزمان يتقلَّص، أي أنَّ عقارب الساعة الكونية شرعت تتحرَّك، وبسرعة متزايدة. وشرع المكان يتمدَّد.

لو أنَّ مراقباً في خارِج كوننا شاهد هذا المشهد لقال إنَّ الساعة الكونية كانت متوقِّفة تماماً عن الحركة؛ ولكن هل يقول الشيء نفسه مراقِبٌ في داخل الكون، وعند وقوع "الانفجار الكبير"؟

كلاَّ، لن يقول ذلك، فهو يرى أنَّ الساعة الكونية في حركة مستمرة منتظَمة، لا تتباطأ عقاربها، ولا تتسارَع.

تخيَّل أنَّ كوكب الأرض تحوَّل إلى "ثقب أسود"، فهل يرى سكَّانه توقُّف عقارب الساعة الأرضية عن الحركة تماماً؟

هل يروا المكان وقد اختفى؟

كلاَّ، لن يروا هذا، ولا ذاك.

وتخيَّل أنَّ كوكب الأرض تحوَّل، بعد ذلك، من "ثقب أسود" إلى جرم يزداد حجمه في استمرار، فهل يرى سكَّانه أي اختلاف في الزمان والمكان؟

كلاَّ، لن يروا.

إنَّ "انعدام" الزمان والمكان والفضاء في "البيضة الكونية" هو ظاهرة لا يراها إلاَّ مراقِب في خارج كوننا، أي في "نظام مرجعي آخر"، يسمح له برؤية هذا "الانعدام".

لو وُجِدَ "زمكان آخر"، أي كون آخر، فلن نتمكَّن أبداً من معرفته، أو الاتِّصال به، فـ "مادة كوننا" في سجن أبدي يسمى "الزمكان" الخاص بها.

تخيَّل أنَّ كوننا يتألَّف من مجرَّتين فقط. الفضاء بينهما يتمدَّد بسرعة تقلُّ عن سرعة الضوء. في هذه الحال، يستمر الاتِّصال وتبادل التأثير والتفاعل بين المجرَّتين، وتبقيان، بالتالي، في كون واحد. ولكن، تخيَّل أنَّ الفضاء بينهما قد تمدَّد الآن بسرعة تفوق سرعة الضوء. في هذه الحال، يصبح لدينا كونين، أو "زمكانين"، لا اتِّصال ولا تفاعل بينهما.

إنَّ التاريخ الواقعي والحقيقي للكون، والذي تَضْرِب عنه صفحاً نظرية "الانفجار الكبير" مع مؤسِّسيها ومطوِّريها وأنصارها، إنَّما يُثْبِت ويؤكِّد أنْ لا مادة يمكن أنْ تُوْجِد إلاَّ من مادة وُجِدَت من قبلها.

أمَّا القائلون بتلك النظرية فيقولون، عندما يقرِّرون إظهار شيء من الاعتدال في عدائهم لقانون "المادة لا تُخْلَق (من العدم أو من لا شيء) ولا تفنى"، إنَّ المادة، أو الطاقة، يمكن أن تُخْلَق من "الفضاء الفارِغ (أو الخالي)" Empty Space. و"السبب"، في رأيهم، هو أنْ لا وجود (في الكون) لفضاء فارِغٍ فراغاً مُطْلقاً أو تامَّاً.

وهذا "السبب"، الذي أوردوه في معرض التعليل والتفسير، كان يعوزه التعليل والتفسير، فما المعنى الفيزيائي لهذا الشيء الذي يسمُّونه "الفضاء الفارِغ (ظاهراً) اللا فارغ (باطناً)"، والذي منه تُخْلَق، أو يمكن أن تُخْلَق، المادة، أو الطاقة؟!

وما معنى هذا "الخلق" إذا ما انتهى دائماً إلى بقاء كمية المادة في الكون بلا زيادة؟!


وما معنى "الفناء"، الذي ينتهي إليه هذا "الخلق" في زمن في منتهى الصِغَر والضآلة، إذا لم يؤدِِّ إلى إنقاص كمية المادة في الكون؟!

وما هي الأهمية الفيزيائية الكونية لهذا "الخلق"، أو لهذا "الفناء"، إذا لم يكن على مقربة من الجسم الكوني المسمَّى "الثقب الأسود" Black Hole؟!

لقد حافظوا على قانون "حفظ المادة"، ومنعوا خرقه وانتهاكه، إذ قالوا إنَّ ظاهرة "خلق المادة من الفضاء الفارِغ"، وظاهرة "الفناء العاجِل للمادة المخلوقة"، لا تستغرقان إلاَّ زمناً في منتهى الصِغَر والضآلة، ويعجز، بالتالي، قانون "حفظ المادة" عن "الإحساس" بوجود، أو بفناء، هذا المخلوق.

إذا كان "الفضاء الفارِغ (فراغاً تامَّاً مُطْلَقاً)" لا وجود له في الكون، فما هو هذا "الفضاء الفارِغ (فراغاً ليس بالتام وليس بالمُطْلَق)"، والذي منه تُخْلَق مادة أو طاقة؟!

ما محتواه، وما هي خواصُّه، وكيف له أن يكون مَنْبِتاً لمادة، أو طاقة، لا تؤثِّر في كمية المادة في الكون؟!

الكون، بحسب النموذج، أو "الموديل"، الكوزمولوجي، المسمَّى "الانفجار الكبير"، وما يتضمَّنه من "تعريف" للكون، لا يتمدَّد ضِمْن "الفضاء"؛ لأنَّ "الفضاء" نفسه ضِمْن الكون، الذي كان على هيئة "بيضة كونية" قبل "الانفجار الكبير"، الذي هو خالق "المكان (والفضاء)" و"الزمان". وهذه "البيضة"، هي في معنى ما، "الكون عديم المكان والزمان".

وبحسب هذا "الموديل"، يُنْظَر إلى كل سؤال عن "البيضة"، أو عن هذا "الكون عديم المكان والزمان"، على أنَّه سؤال يُخْرِج سائله مع مجيبه من حيِّز العلم والفيزياء والكوزمولوجيا إلى حيِّز "الفلسفة"؛ لأنَّ السؤال، أي كل سؤال، عمَّا كان "قبل" وقوع "الانفجار الكبير"، أو عن أي شيء "قبل" هذا "الانفجار"، يجب أن يشتمل على "ظرف زمان ما"؛ وليس من المنطق في شيء، بحسب وجهة نظر القائلين بهذا "الموديل"، أن تسأل، مستعمِلاً "ظروف الزمان"، و"الزمان نفسه" لم يُخْلَق بَعْد.

"الفيزياء"، بحسب وجهة نظرهم، إنَّما هي السؤال عمَّا حَدَثَ ووُجِد "بَعْد" هذا "الانفجار"، أي بَعْد "خلق" الزمان، وليس عمَّا حَدَثَ أو كان موجوداً "قبله"، وكأنَّ "ما قَبْل الانفجار الكبير" هو نفسه "ما قَبْل الفيزياء، سؤالاً وجواباً".

معنى "التمدُّد الكوني"

سنة 1929، اكتشف هابل، إذ نَظَر عبر التليسكوب في أعماق الكون، أنَّ المجرَّة الأكثر بُعْداً عن الأرض، أو عن مجرَّتنا، مجرَّة "درب التبَّانة"، هي الأكثر سرعةً في ابتعادها عنَّا، وأنَّ المجرَّة الأكثر قرباً منَّا هي الأكثر بطئاً في ابتعادها عنَّا. وهذا إنَّما يعني أوَّلاً، وعلى وجه العموم، أنْ ليس من مجرَّة تقترب منَّا، سريعاً أم بطيئاً.

على أنَّ المجرَّة "المُفْرَدة"، أي التي ليست بفَرْد من أفراد "عائلة (أو "عشيرة"، أو "قبيلة") من المجرَّات"، لا وجود لها على ما هو مُثْبَت ومؤكَّد، فلكياً، حتى الآن، فالمجرَّة، أي كل مجرَّة، إنَّما هي جزء من كُلٍّ. وهذا "الكلُّ"، أو هذا النظام من النُظُم الكونية، يسمَّى "عنقود (أو تَجمُّع، أو مجموعة، أو تكتُّل) المجرَّات" Cluster.
وكل مجرَّة من المجرَّات "المُتَعَنْقِدة"، تدور حَوْل مركز "عنقودها" كما تدور الكواكب حَوْل الشمس.

و"عناقيد المجرَّات"، وليست المجرَّات، هي التي، على ما يُعْتَقَد حتى الآن، "تتباعَد"، فضِمْن "العنقود المجريِّ الواحد" ليس من تباعُدٍ بين المجرَّات؛ لأنَّ الجذب المتبادل بينها قوي بما يكفي لمنع تمدُّد الفضاء هنا من أن يتسبَّب بابتعاد كل مجرَّة عن سائر أفراد عائلتها.

إنَّ تمدُّد الفضاء بين "عناقيد المجرَّات"، التي تتبادل جَذْباً في منتهى الضعف، هو الذي يُباعِد بين "العناقيد"، مُظْهِراً لنا كل "عنقود" على أنَّه في ارتدادٍ عن سائر "العناقيد".

وعليه، لا بدَّ من إعادة صوغ هذا "الاكتشاف"، أو "قانون هابل"، على النحو الآتي: "عنقود المجرَّات" الأكثر بُعْداً عن "عنقودنا المجريِّ"، الذي تنتمي إليه الأرض مع مجرَّتها، هو الأكثر احْمِراراً في لون ضوئه؛ لأنَّه الأكثر سرعةً في ابتعاده عنَّا؛ و"عنقود المجرَّات" الأكثر قُرْباً من "عنقودنا المجريِّ"، هو الأقل احْمِراراً في لون ضوئه؛ لأنَّه الأكثر بطئاً في ابتعاده عنَّا، فالجسم الكوني كلَّما زادت سرعة ابتعاده عنَّا زاد مقدار اللون الأحمر في ضوئه.

وهذا الذي رآه "هابل الأرضي" يجب أن يراه كل "هابل كوني"، فـ "عناقيد المجرَّات" لا تبتعد عن أرضنا، أو مجرَّتنا، أو "عنقودنا"، وكأننا نحن "مركز الكون". إنَّ كل "عنقود" يبتعد، ويرتد، عن سائر "العناقيد" في الكون.

ولو شبَّهنا "الفضاء" بـ "بحر"، فإنَّ "العناقيد المجريَّة" هي "جُزُره"، التي تتباعد، أي تبتعد كل "جزيرة" منها عن سائر "الجُزُر"؛ لأنَّ "الفواصِل البحرية المائية" بينها هي التي تتَّسِع وتتمدَّد وتًكْبُر.

إنَّنا نرى "العناقيد المجريَّة" وكأنَّها تتحرَّك، وتنتقل، "في" الفضاء، بعيداً عنَّا؛ ولكنَّها في "واقعها الموضوعي" ليست كذلك. إنَّها تتحرَّك، وتنتقل، "مع" الفضاء، وإنَّ كل "عنقود" يتحرَّك، وينتقل، بعيداً عن سائر "العناقيد".

والقانون نفسه، أي "قانون هابل"، يمكن، ويجب، توضيحه أكثر من خلال إضافة كلمة أخرى إليه هي "الأقْدَم"، فـ "العنقود المجريِّ" الأسرع في ابتعاده عنَّا ليس هو الأبْعَد عنَّا فحسب، وإنَّما "الأقْدَم"، فأنتَ عندما تراه الآن إنَّما ترى "صورته القديمة"، أي الهيئة التي كان عليها قبل آلاف الملايين من السنين.

ما أراه الآن إنَّما يخبرني أنَّ هذا "العنقود"، الذي لا أملك، ولا يمكنني أن أملك، أي دليل على أنَّه ما زال موجوداً حتى الآن، كان قبل آلاف الملايين من السنين على الهيئة التي أراه فيها الآن.. كان يبتعد عنَّا في هذه السرعة.

ما اكتشفه هابل إنَّما يؤكِّد أنًَّ "تمدُّد (أو توسُّع) الكون" هو أقرب إلى "الفعل الماضي" منه إلى "الفعل المضارع"؛ ذلك لأنَّه أخْبَرَنا أنَّ "تمدُّد الكون" هو الآن في طور "التباطؤ"، فـ "العنقود المجريِّ" الأقرب إلينا هو الأبطأ في ابتعاده عنَّا؛ و"العنقود المجريِّ" الأبعد عنَّا هو الأسرع في ابتعاده عنَّا. و"العنقود المجريِّ" الأقرب إلينا في "المكان" يجب أن يكون الأقرب إلينا في "الزمان".

ولقد ظلَّ هذا الاعتقاد قائماً وسائداً حتى أظهرت أحدث الأبحاث الفلكية والكوزمولوجية أنَّ "تمدُّد الكون" هو الآن في طور "التسارع".

وهذا إنَّما يعني، أي يجب أن يعني، أنَّنا نعرف الآن، على وجه اليقين، ما هو "العنقود المجريِّ" الأقرب إلى "عنقودنا"، وكم من السنين الضوئية يبعد عنَّا، وأنَّنا نعرف، أيضاً، أنَّ هذا "العنقود" هو الأسرع من "عناقيد" أخرى، أبْعَد، في ابتعاده عنَّا.

وعليه، نتصوَّر "تمدُّد الكون"، بعد انتهاء "طور التضخُّم"، على النحو الآتي: كان سريعاً، فشرع يتباطأ، ثمَّ شرع يتسارع.

وبعد جَمْع مزيدٍ من الأدلة على أنَّ "تمدُّد الكون (أو الفضاء)" هو الآن في طور "التسارع"، لا بدَّ من التوسُّع في البحث، توصُّلاً إلى إجابة السؤالين الآتيين: أيُّهما أسرع في الابتعاد عنَّا، "العنقود المجريِّ" الأقرب إلينا أم "العنقود المجريِّ" الأبعد عنَّا؟

ولماذا.. لماذا "تسارَع" تمدُّد الفضاء بعدما "تباطأ" زمناً طويلاً؟


في الحديث عن "تمدُّد الكون"، كثيراً ما نشير، أو ما كُنَّا نشير، إلى أنَّ ارتداد كل "مجرَّة" عن سائر "المجرَّات" هو ما نعنيه بهذه الظاهرة، أي ظاهرة "تمدُّد الكون". ولكنَّ حقيقة الظاهرة ليست كذلك، فالذي يتمدَّد ويتَّسِع ليس المسافة بين مجرَّة ومجرَّة ضِمْن "مجموعة (Cluster) مجرَّات"، ولا المسافة بين نجم ونجم ضِمْن مجرَّة، وإنَّما المسافة بين مجموعة ومجموعة (من المجرَّات).

وهذا الاتِّساع المستمر والمتزايد والمتسارِع للمسافة بين كل "مجموعة من المجرَّات" وسائر "المجموعات" لا يعود إلى حركتها أو انتقالها "في" الفضاء، فهي، أي كل "مجموعة"، لا تتحرَّك، ولا تنتقل، "في" الفضاء، أو المكان، وإنْ بدت لنا كذلك.

إنَّها، في الحقيقة، تتحرَّك، أو تنتقل، "مع" الفضاء، فالفضاء (بين "مجموعات المجرَّات") هو الذي يتمدَّد ويتَّسِع؛ وليس "تمدُّد الكون" سوى مظهر "تمدُّد الفضاء".

أمَّا الفضاء بين المجرَّات ضِمْن "مجموعة المجرَّات"، أو الفضاء بين النجوم ضِمْن المجرَّة، فلا يتمدَّد، أي لا يخضع لتأثير "قانون هابل". وهذا عائد إلى التأثير القوي للجاذبية ضِمْن كل "مجموعة مجرات"، وضِمْن كل مجرَّة، فكل "مجموعة"، وكل مجرَّة، تشتمل على كمية من المادة، تكفي لتوليد جاذبية داخلية، تكفي لمنع الفضاء الداخلي من التمدُّد.

على أنَّ حركة المجرَّات (ضِمْن مجموعة مجرَّات) في مدارات عشوائية (من حيث الأساس) تؤدِّي، أحياناً، إلى تصادمها.

بفضل تليسكوب الفضاء "هابل"، لدينا الآن صوراً لمجرَّات تتصادم؛ وثمَّة من يتساءل قائلاً: كيف للمجرَّات أن تتصادم ما دام الكون في حالٍ من التمدُّد المستمر؟

أوَّلاً، الصور إنَّما هي صور لتصادم "مجرَّات"، فتليسكوب "هابل" لم يُزوِّدنا صوراً لتصادم "عنقودين (أو مجموعتين) من المجرَّات"؛ فالفضاء الذي يتمدَّد، والذي يتسارع تمدُّده الآن، إنَّما هو الفضاء بين "العناقيد المجريِّة".

أمَّا في داخل كل "عنقود مجريٍّ" فإنَّ الجذب المتبادل بين المجرَّات قويٌّ بما يكفي لمنع الفضاء بينها من التمدُّد. إنَّ كل مجرَّة من مجرَّات "عنقود" ما لا تتأثَّر بتمدُّد الفضاء بين "عنقودها" و"العنقود" المجاوِر. إنَّها تتأثَّر فحسب بحقل الجاذبية لمجرَّة مجاورة ضِمْن "العنقود" نفسه.

وعليه، يمكن أن نرى في داخل "العنقود" تصادُماً بين مجرَّات من مجرَّاته. وهذا التصادم كان ممكناً الحدوث أكثر في الماضي الكوني البعيد؛ وكان ممكناً أن يكون بين مجرَّة في "عنقود" ومجرَّة في "عنقود" آخر؛ ذلك لأنَّ المسافة بين كل "عنقودين" كانت صغيرة، فالكون القديم كان أصغر حجماً، وكان، بالتالي، أكثر ازدحاماً واكتظاظاً بـ "المجموعات المجريَّة"؛ وصور "هابل"، من ثمَّ، إنَّما هي صورٌ لحوادث تصادم مجريٍّ حدثت قبل آلاف الملايين من السنين.

للكون خاصية غريبة هي أنَّ الضوء الآتي من مناطق بعيدة يَحْمَرُّ أكثر فأكثر مع كل زيادة في بُعْدِها عنا؛ ونحن نعرف أنَّ "مَصْدَر الضوء" عندما يتحرَّك بعيداً عنَّا نرى لونه ضوئه يتبدَّل، أو يتغيَّر، نحو الأحمر.

إنَّ الضوء ينزاح نحو الأحمر في مجموعة ألوان الطيف Spectrum في خلال سيره الطويل في الفضاء، فكلَّما طالت المسافة زادت درجة "الانزياح إلى الأحمر".

و"ألوان الطيف" التي تَظْهَر عند تحليل الضوء الأبيض هي: الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي.

والكويزار Quasar هو الجسم الكوني الأكثر لمعاناً في الكون على ما نعرف حتى الآن. ويشير الانحراف الواسع جدَّاً نحو الأحمر في خطوط طيفه إلى أنَّ هذا الجسم يرتحل بعيداً عنَّا، أو عن مجرَّتنا، بسرعة تعدل 80 في المائة من سرعة الضوء.

نحن في مراقبتنا ودراستنا المجرَّات (وغيرها من الأجسام الكونية البعيدة) نحتاج إلى معرفة "سرعة" المجرَّة، أي سرعة ابتعادها عنَّا، ومعرفة "كم تبعد عنَّا"؛ ولكن، يكفي أنْ نَعْرِف أحد الأمرين حتى نَعْرِف الآخر، فالمجرة "الأسرع (في ابتعادها عنَّا)" هي ذاتها "الأبعد (عنَّا)"، و"الأبعد" هي ذاتها "الأسرع".

إذا نظرنا إلى مجرَّة، فرأيْنا أنَّ لون ضوئها أكثر احْمِراراً، فلا بدَّ لنا من أن نستنتج، عندئذٍ، أنَّها أكثر سرعةً في ابتعادها عنَّا، فكلَّما أسرعت في ابتعادها عنَّا احْمَرَّ لون ضوئها أكثر. على أنَّ قياس بُعْدِها عنَّا يظل أصعب نسبياً، أي نسبة إلى قياس سرعة ابتعادها عنَّا.

ويتَّخِذ الفلكيون "اللمعان" Brightness، أي شدَّة، أو قوَّة، أو درجة، لمعان الجسم الكوني، مقياساً يقيسون به "البُعْد"، فالمجرَّة الأقل لمعاناً هي (من حيث المبدأ وعلى وجه العموم) الأكثر بُعْداً عنَّا.

ولقد توصَّل علم الفلك، بَعْد، وبفضل، كثيرٍ من الأبحاث والتجارب والاختبارات، إلى أنَّ الجسم الكوني الأكثر بُعْداً عن الأرض، هو الأقل لمعاناً، والأسرع في ابتعاده عنها، والأكثر احمراراً في لون ضوئه، والأقدم وجوداً.

ولكنَّ احْمِرار لون الضوء الآتي إلينا من مجرَّات بعيدة قد يُفَسَّر بما لا يقود إلى الاستنتاج بأنَّ الكون يتمدَّد، فهذا الاحْمِرار هو ظاهرة يمكن أن تنشأ عن اصطدام هذا الضوء بإلكترونات حُرَّة موجودة بكثرة في الفضاء بين المجرَّات.

وهذا هو ما يسمَّى "تأثير كومبتون (Compton)"، الذي يتَّخِذه المناوئون لنظرية "الانفجار الكبير"، أو لنظرية "تمدُّد الكون"، سبباً للقول بكونٍ ساكِنٍ، ثابتٍ، لا يتمدَّد.

إنَّ الفضاء بين المجرَّات، ما عاد يُنْظَر إليه على أنَّه "الفراغ التام"؛ ذلك لأنَّه مليء بإلكترونات حُرَّة. وعندما يصطدم الضوء الآتي من مجرَّات بعيدة بهذه الإلكترونات تَنْتُج ظاهرة الانحراف أو التغيير نحو الأحمر، أي ما يسمَّى "تأثير كومبتون".

تمدُّد الكون إنَّما هو تمدُّد الفضاء فحسب؛ وهذا التمدُّد (الفضائي) يلقى مقاومة من قِبَل الجاذبية، التي يقوى تأثيرها ويشتد حيث تتركَّز وتتكتَّل المادة. ولقد فُسِّر التمدُّد الأوَّلي (والسريع جدَّاً) الذي عرفه الكون، بعد "الانفجار الكبير" مباشرَةً، والذي لم يستغرق سوى ثوانٍ معدودة، على أنَّه نتيجة زيادة أو إفراط في طاقة الفضاء، التي هي في منزلة القوَّة المضادة للجاذبية الكونية، والتي تَدْفَع الكون نحو التمدُّد.

والآن يُعْزى تمدُّد، وتسارع تمدُّد، الكون إلى نوع جديد من "الطاقة"، يسمَّى "طاقة الفضاء الفارغ"، فـ "الفراغ"، في فهمه الجديد، إنَّما هو "شيء" يمكن ويجب النظر إليه على أنَّه "مادة"، أي صورة من صور المادة. وكلَّما تمدَّد الكون تسارَع تمدُّده، وكأنَّ تمدُّد الكون "يُفْرِج" عن مزيد من طاقة التمدُّد التي يختزنها (يعتقلها، يسجنها، يأسرها) الفضاء الفارغ.

الكون الذي شرع يتمدَّد كان متفاوتاً في تركُّز وكثافة مادته، أي أنَّ مادته كانت تتركَّز أكثر في بعضٍ من مواضعه، فالفضاء المتمدِّد كله إنَّما كان في تلك المواضِع مكبوح التمدُّد بسبب "الجاذبية"، التي "تُجمِّع"، و"تُركِّز"، المادة، والتي، في الوقت نفسه، تقوى وتشتد حيث "تتجمَّع"، و"تتركَّز"، المادة.

وهذا التفاوت في تركُّز وكثافة مادة الكون هو ما يُفسِّر التمدُّد المتفاوت للفضاء. ولو أنَّ مادة الكون وُزِّعَت، منذ البداية، توزيعاً متساوياً في فضائه لَمَا تكوَّنت النجوم والمجرَّات، ولتمدَّد الفضاء تمدُّداً متساوياً في كل أرجائه.

نظرياً، لا بدَّ لتمدُّد الفضاء من أن يكون متساوياً في كل نواحيه وأجزائه؛ ولكنَّه، عملياً، وفعلياً، وواقعياً، ليس كذلك؛ لأنَّ تَوزُّع المادة فيه ليس بمتساوٍ.

الفضاء يزداد تمدُّداً حيث يقل تركُّز (تجمُّع، تكثُّف) المادة، ويقل تمدُّداً حيث يزداد تركُّزها. إنَّه، أي الفضاء، بين "مجموعات المجرَّات"، حيث تركُّز المادة في منتهى الضعف، في حالٍ من التمدُّد الأقصى؛ أمَّا في داخل "مجموعة المجرَّات"، وفي داخل كل مجرَّة، حيث تركُّز المادة أشد وأقوى، وحيث الجاذبية الداخلية أشد وأقوى بالتالي، فيَظْهَر تمدُّد الفضاء على أنَّه معطَّل، أو شبه معطَّل.

"تمدُّد الفضاء (أو الكون)" ليس بالمتساوي تساوياً مُطْلَقاً، فهو متفاوِت، مختلِف، متباين، سرعة ونسبةً، وإنْ تساوى تساوياً "شبه" تام بين "عناقيد المجرَّات". ويتَّحِد "التمدُّد" في الكون اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "التقلُّص"، فبعضٌ من "الكون المتمدِّد" نراه في حالٍ من الانكماش والتقلُّص. ونسبة التمدُّد الكوني تبدو مختلفة، متغيِّرة، من مكان إلى مكان، فالأجسام الكونية البعيدة عنَّا تَظْهَر لنا على أنَّها تبتعد وترتد عنَّا بسرعة أكبر، مقارَنةً بالأجسام المجاوِرة أو القريبة؛ والجسم الكوني الأبعد هو، في الوقت نفسه، الأقدم، فالأبعد مكاناً هو الأقدم زماناً.

وهذا إنَّما يعني أنَّ تمدُّد الكون كان في الماضي البعيد أسرع مِمَّا هو الآن، وإنْ كانت الملاحظات والاكتشافات الجديدة تشير إلى أنَّ الكون الآن يتسارع تمدُّداً.

وكلَّما تمدَّد الكون، أو الفضاء، تضاءلت كثافته، أي تضاءلت كثافة مادته (= كثافة الكتلة والطاقة فيه). وكثافة الكون (أو تركُّز كتلته) هي العامل المحدِّد والمقرِّر لمصير الكون وشكله، فالكون يجب أن يكون كثيفاً إلى حدٍّ معيَّن حتى يكون "مُغْلَقاً".

إنَّ نُظُماً كونية معيَّنة هي التي نرى الفضاء بينها يتمدَّد، ويتسارَع في تمدُّده. إنَّها نُظُمٌ لا تتحرَّك "في" الفضاء، أو "عَبْر" الفضاء؛ ولكنها تتحرَّك، مبتعدةً عن بعضها بعضاً، "بـ" الفضاء، أي بسبب تمدُّد الفضاء نفسه، فهل هذا يعني أنَّ كل نظام من هذه النُظُم لا يمكنه أبداً أن يتحرَّك، أيضاً، "في" الفضاء"؟

وإذا كان الجواب هو "نعم"، فلماذا لا يمكنه ذلك؟

هل السبب هو عدم وجود "مركز" تتحرَّك حَوْله؟

إنَّنا نعلم أنَّ النجم يتحرَّك، أو ينتقل، "في" الفضاء، فهو يدور، ويجب أن يدور، حَوْل "مركز" المجرَّة التي إليها ينتمي. ونعلم أيضاً أنَّ المجرَّة تتحرَّك "في" الفضاء، فهي تدور حَوْل "مركز" في "عنقود المجرَّات" الذي إليه تنتمي. هل هذا يعني أنَّ الحركة الطبيعية العادية للجسم الكوني "في" الفضاء يجب أن تكون حركة دورانية، أي حَوْل "مركز ما"؟

إنَّ انحناء وتقوُّس الفضاء حَوْل "المركز"، أي حَوْل "كتلة ضخمة"، هو الذي يُنْتِج تلك الحركة الدورانية، التي هي حركة لأجسام (نجم أو مجرَّة..) ضِمْن نظام من نُظُم كونية لا يتحرَّك هو نفسه "في" الفضاء، وإنَّما "بـ" الفضاء.

الفضاء بتمدُّده يباعِد بين "النُظُم الكونية" فتتباعد؛ وهذا التباعد ليس بحركة لهذه النُظُم "في" الفضاء" الذي يتمدَّد؛ ولكن ليس ضِمْن "فضاء آخر"؛ لأنْ لا وجود لفضاء آخر، وإنْ وُجِد، فليس من اتِّصال فيزيائي بيننا وبينه.

بين مجرة ومجرة لا يتمدَّد الفضاء (أو يُكْبَح تمدُّده فلا يَظْهَر). بين عنقودين من المجرَّات يتمدَّد الفضاء، فهنا يكاد يتلاشى "الكابح الجاذبي". الفضاء هو نفسه الذي يتمدَّد، وليس الكون هو الذي يتمدَّد ضِمْن الفضاء. ليس من فضاء (على ما يقول به أنصار نظرية "الانفجار الكبير") إلاَّ الفضاء الذي خلقه "الانفجار الكبير"؛ وهذا الفضاء هو الذي يتمدَّد.

ولكن، لماذا لا نَفْتَرِض أنَّ الفضاء متمدِّدٌ (أو متقلَّص) بطبيعته، وأنَّه موضعياً (ضِمْن مجرَّة مثلاً) يعجز عن التمدُّد.. وأنَّ فيه قوَّة، هي جزء لا يتجزَّأ منه، تدفعه، الآن، إلى التمدُّد في استمرار؟

ولماذا لا نَفْتَرِض أنَّ الفضاء هو جزء لا يتجزَّأ من "المادة"، وأنَّه يشبه حقلاً مليئاً بـ "المادة" على هيئة "بذور"، وأنَّ "البذور" لا تنمو إلاَّ إذا استوفت الشروط الفيزيائية لنموِّها، التي منها وجود "ثقب أسود" على مقربة من بعض تلك "البذور"، فإذا لم تستوفِ تلك الشروط "تموت" في زمن متناهٍ في الضآلة؟

إنَّها "تموت"؛ لأنَّها على هيئة أزواج من المادة والمادة المضادة؛ ولا بدَّ لـ "البذور" من المادة والمادة المضادة من أن تتصادم، وتبيد بعضها بعضاً في زمن متناهٍ في الضآلة.

ما هو "الفضاء"؟

منذ القِدَم ونحن ننظر إلى "الفضاء" Space على انَّه الـ "لا شيء"، فالفضاء الكوني، كالفضاء بين النجوم، كُنَّا نفهمه على أنَّه "فراغ (Vacuum, Emptiness, Nothingness)" تشغله النجوم والكواكب..، وتنتقل فيه وعبره الأجسام الكونية والضوء..

كُنَّنا ننظر إليه، ونفهمه، على أنَّه شيء يشبه "الوعاء"، يستوعب ويحتوي أشياء كالشمس والقمر والكواكب والنجوم، حتى إذا زالت واختفت كل تلك الأشياء من الوجود بقي هذا "الوعاء"، أي "الفضاء".

والآن، وبفضل "النسبية العامة" لآينشتاين، اختلفت النظرة والفهم، فلا وجود لفضاء زالت منه، واختفت، "المادة"، بوجهيها "الكتلة" و"الطاقة".

وأحسبُ أنَّ الفيزياء الكونية توشِك أنْ تُكْمِلَ تصوُّراً لـ "الفضاء" على أنَّه جزء لا يتجزأ من "المادة"، وصورة من صورها، التي لا عدَّ لها ولا حصر.

أُنْظُر إلى "الكون فوق الذرِّي"، أي إلى كل الأشياء والأجسام المَبْنِيَّة من "الذرَّات"، فماذا ترى؟

ترى أنَّ الفضاء (أو الفراغ) يؤلِّف الجزء الأعظم (ما يزيد عن 99 في المائة) من حجمه، وأنَّ الجزء الأعظم من كتلته يَشْغُل أقل من 1 في المائة حجمه، فهذا الكون مبنيٌّ من "الذرَّة" التي يؤلِّف الفضاء، أو الفراغ، ما يزيد عن 99 في المائة من حجمها، والتي يتركَّز ما يزيد عن 99 في المائة من كتلتها في "النواة"، التي تَشْغُل أقل من 1 في المائة من حجم الذرَّة.

وأنتَ لو كان في مقدورك أنْ ترى العمق من "نواة الذرَّة"، أو العمق من أي مُكوِّن من مكوِّناتها، كالبروتون، لوجدتَ أيضاً الفضاء أو الفراغ، فليس من جسيم من جسيمات المادة يمكن أن يكون "عديم الفضاء (أو الفراغ)".

وأنتَ في مقدوركَ، نظرياً، أنْ تُجَمِّع وتُركِّز كل مادة الكون (أي كل الكون) في حيِّزٍ متناهٍ في الصِغَر والضآلة، كالفراغ في داخل الذرَّة!

و"الفضاء" يشبه "السائل".. إنَّ "السائل" يتشكَّل (أي يتَّخِذَ له شكل) بما يوافِق شكل الإناء الذي يُوْضَع، أو يُسْكَب، فيه؛ و"الفضاء" يتشكَّل هندسياً بحسب كتلة الجسم الكوني الذي يتمركز فيه، فهو، أي الفضاء، ينحني ويتقوَّس أكثر حَوْل الجسم الكوني الأعظم كتلةً. إنَّه و"الكتلة" في تفاعل دائم، يتأثَّر فيها ويؤثِّر.

إنَّ أحداً من الراسخين في الفيزياء الكونية لا يجادل في أمر "تمدُّد الكون"، فهذا الأمر إنَّما هو الآن في منزلة البديهية. ونحن الآن نفهم "تمدُّد الكون" على أنَّه اتِّساع المسافة (في استمرار) بين كل مجموعتين من المجرَّات. ونفهم ذلك على أنَّه مَظْهَر تمدُّد، أو اتِّساع، للفضاء بين كل مجموعتين (أو عنقودين) من المجرَّات، فـ "تمدُّد الكون" إنَّما هو في حقيقته مَظْهَر تمدُّد الفضاء نفسه، أي الفضاء بين كل مجموعتين من المجرَّات.

ولكنَّ هذا ليس سوى نصف الحقيقة، فالفضاء بكل نواحيه وأجزائه هو الذي تمدَّد، وإنْ تفاوَت في سرعة ونسبة تمدُّده. وهذا التفاوت يمكن ويجب تفسيره على أنَّه نتيجة للتفاوت في تركيز المادة بين أجزاء الكون المختلفة، فحيثما زاد تركيز المادة (أي زادت الجاذبية) قلَّ تمدُّد الفضاء، وحيثما قلَّ تركيز المادة (أي قلَّت الجاذبية) زاد تمدُّد الفضاء.

أُنْظُرْ إلى كتلة مجرَّة من المجرَّات، فتراها مقداراً لا يُذْكَر مقارنةً بكتلة الكون؛ ثمَّ أُنْظُر إلى الحجم الذي كان عليه الكون عند ولادته، أو قبل اجتيازه "طور التضخُّم"، فتراه مقداراً لا يُذْكَر مقارنةً بحجم تلك المجرَّة.

وهذا إنَّما يؤكِّد أنَّ التمدُّد قد شمل الفضاء بين النجوم، أي الفضاء في داخل كل مجرَّة. وتعميماً، ومن حيث المبدأ، نقول إنَّ التمدُّد قد شمل الفضاء كله.. الفضاء في داخل الذرَّة، وفي داخل المجرَّة، وفي داخل "عنقود المجرَّات".

الفضاء، أي كل فضاء، كـ "المطَّاط"، يتمدَّد ويتقلَّص. في تمدُّده، الذي تتسبَّب به "طاقة" يختزنها وينطوي عليها، يُسْرِع أو يُبْطئ، يتسارع أو يتباطأ؛ ولكن هل للفضاء أن يتمدَّد بسرعة تفوق سرعة الضوء التي هي 300 ألف كيلومتر في الثانية؟

إنَّنا، وعلى ما قرَّرته نظرية "النسبية الخاصة" لآينشتاين، نعلم أنْ لا شيء في الكون (لا جسم ولا جسيم، لا مادة ذات كتلة ولا مادة عديمة الكتلة) يمكنه أن يسير، أو ينتقل، "في" الفضاء بسرعة تتجاوز سرعة الضوء، التي هي السرعة الكونية القصوى.

"المادة ذات الكتلة"، كالنجم أو الإلكترون، لا يمكنها أبداً، ومهما تسارعت، أن تسير بسرعة تَعْدِل سرعة الضوء؛ أمَّا "المادة عديمة الكتلة"، كجسيم الفوتون، والتي تسير، وينبغي لها أنْ تسير، في الفراغ بسرعة تَعْدِل سرعة الضوء، فإنَّها لا تستطيع أبداً أنْ تسير بسرعة تتجاوز سرعة الضوء.

"الفضاء" هو وحده الذي يمكنه أن يتمدَّد بسرعة تفوق سرعة الضوء؛ وقد تفوقها كثيراً. ولكن ما هي العاقبة الحتمية المترتبة على تمدُّد (واستمرار تمدُّد) الفضاء، أو فضاء ما، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء؟

إنَّها "الانفصال الفيزيائي التام"، فلو أنَّ الفضاء بين مجرَّتنا (مجرَّة درب التبَّانة) وسائر الكون تمدَّد لسبب ما بسرعة تتجاوز سرعة الضوء لانفصلت مجرَّتنا انفصالاً فيزيائياً تاماً عن سائر الكون، فليس من تأثير فيزيائي يمكنه الانتشار بسرعة تزيد عن 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.

لو حَدَثَ هذا لأصبحت مجرَّتنا ككونٍ قائمٍ في ذاته، لا يؤثِّر ولا يتأثَّر بغيره. لو حَدَثَ هذا لأصبح سائر الكون يقع في الفضاء الـ "ما ورائي" Hyperspace. لو حَدَثَ هذا لَمَا عادت مجرَّتنا جزءاً من الكون إلاَّ (على ما نَفْتَرِض) بعد زمن من تباطؤ تمدُّد الفضاء بينها وبين سائر الكون، أي بعد أن يتباطأ تمدُّد هذا الفضاء بما يكفي لمعاودة الاتِّصال الفيزيائي بين مجرَّتنا وسائر الكون.

هل الكون "الواحد" المنبثق من "الانفجار الكبير" قد "تعدَّد"، أي أصبح أكواناً، بسبب تمدُّد الفضاء، عند نشأة الكون، بسرعة تفوق سرعة الضوء؟

وهل لهذا السبب ثمَّة أكوان (= شظايا من ذلك الكون الواحد) لم يصل إلينا ضوءها؟

وهذا الضوء ألا ينبغي له أن يصل إلينا مستقبلاً ما دام تمدُّد الفضاء قد تضاءل سرعةً، أي أصبح يتمدَّد بسرعة تقلُّ عن سرعة الضوء، أم أنَّ عاقبة ذلك التمدُّد الأوَّلي هي أنْ أصبح لكل كونٍ، أي لكل شظية من ذلك الكون الواحد، "أُفْقاً" يمنع منعاً مطلقاً الضوء من مغادرته إلينا؟

لقد وُجِد الكون إذ وقع "الانفجار"، فماذا حَدَثَ بعد ذلك؟

في الجواب يقولون: عبارة "بعد ذلك" إنَّما تعني مقداراً زمنياً متناهياً في الصِغَر والضآلة، ففي "الجزء الأوَّل من الثانية الأولى التي تتألَّف من مليون جزء" تمدَّد الكون تمدُّداً لا مثيل له لجهة سرعته.

آلن غيث افْتَرَض أنَّ الكون لدى نشوئه اجتاز طوراً من التمدُّد المُفْرِط في حجمه وسرعته، فسمَّاه طور "التضخُّم (أو الانتفاخ)". وقد جاء هذا الطور نتيجةً مباشِرةً للبرودة السريعة الكون بعد "الانفجار الكبير".

وبحسب فكرة "التضخُّم (أو الانتفاخ)" Inflation التي أُدْخِلَت في نظرية "الانفجار الكبير"، أصبح الكون، بعد انقضاء "الجزء الأوَّل من الثانية الأولى التي تتألَّف من مليون جزء"، في حجم يزيد عن "حجمه الأصلي" بنحو 10100 مرَّة، ثمَّ شرع تمدُّده يتباطأ، ويزداد تباطؤاً.

لقد انتهى "طور التضخُّم الأوَّلي" هذا، والذي لم يستغرق سوى ذلك المقدار الزمني المتناهي في الصِغَر والضآلة، ليستمر الكون في تمدُّده المتباطئ، والمتزايد تباطؤاً.

إنَّنا نفترض أنَّ جاذبية لا مثيل لها لجهة قوَّتها وشدَّتها هي التي حَكَمَت "البيضة الكونية"، وتحكَّمت فيها، قبل "الانفجار الكبير"، أي قبل "انفجار" تلك البيضة"، فإذا صحَّ هذا الافتراض فما هي طبيعة وماهية تلك "القوَّة" التي تغلَّبت على جاذبية "البيضة الكونية"، وقهرتها، فَعَرَف الكون، بالتالي، بُعَيْد "الانفجار"، ذلك الطور من "التضخُّم (أو الانتفاخ)"، والذي فيه تمدَّد الكون، أو الفضاء، بسرعة تفوق كثيراً سرعة الضوء؟!

إنَّ الجسم الكوني المنهار على نفسه (نجم عظيم الكتلة مثلاً) لا بدَّ له من أن يتحوَّل إلى "سينغيولاريتي" Singularity؛ والآن، ثمَّة علماء يقولون إنَّ "جسماً يتمدَّد (أو متمدِّداً)" يمكن (ويجب) أن ينبثق من الـ "سينغيولاريتي".

الكون، وفي أثناء الحرب الكبرى والضارية بين جسيمات المادة وجسيمات المادة المضادة، أي في أثناء تلك الدورة من الخلق والفناء للمادة والمادة المضادة، تمدَّد بسرعة تفوق سرعة الضوء بمرَّات عدة.

ولقد شرع الكون يتمدَّد إذ تغلَّبت قوَّة "الانفجار" على الجذب المتبادل بين أجزاء ذلك الجسم الكوني (= البيضة الكونية) الذي كان في منتهى الصِغَر والضآلة. وهذا الجذب كان، على ما يُفْتَرَض، في منتهى القوَّة والشدَّة. ويبدو هذا التفسير مشابهاً لتفسير تطاير وانتشار شظايا قنبلة يدوية انفجرت؛ ولقد جاء هذا التفسير (نظرية "الانفجار الكبير") جواباً عن سؤال "لماذا تبتعد عنَّا المجرَّات البعيدة بسرعات عظيمة؟".

ثمَّ توسَّع القائلون بنظرية "الانفجار الكبير" في التفسير والتعليل، فنسبوا سبب تمدُّد الكون إلى الفضاء نفسه، قائلين إنَّ الفضاء هو الذي يتمدَّد ويتوسَّع (في استمرار) فتظهر لنا "مجموعات المجرَّات" على أنَّها هي التي تتحرَّك مبتعدةً عن بعضها بعضاً، ويظهر لنا، أيضاً، الكون كله على أنَّه في حالٍ من التمدُّد المستمر.

أمَّا سبب تمدُّد الفضاء فهو، على ما اكْتُشِف حديثاً، "الطاقة الداكنة" التي تغمره، والتي تعمل دائماً في اتِّجاه معاكس ومضاد للجاذبية الكونية. وهذا التفسير قد يعطي إجابة مُرْضية عن بعض الأسئلة والتساؤلات التي أثارها التفسير الأوَّل، أي "التفسير الانفجاري"، فـ "قوَّة الانفجار" يمكنها أن تفسِّر لنا "بدء" التمدُّد الكوني؛ ولكنَّ تسارُع هذا التمدُّد "الآن" بعد تباطؤه زمناً طويلاً، ليس بالظاهرة التي يمكن تفسيرها بـ "طاقة قوَّة الانفجار". والقائلون بـ "النموذج (أو الموديل) التضخُّمي"، يتوقَّعون أنْ يكون طور "التضخُّم" قد أنتج عدداً غير محدودٍ من الأكوان.

"البالون الكوني"

الكون هو الآن في تمدُّدٍ متسارِع؛ ولكن كيف نفهم تمدُّد الكون؟

تخيَّل الكون على هيئة "بالون أسود ضخم قَيْد النَفْخ"، وقد رُسِم على سطحه الخارجي بضع نُقَطٍ بيضاء. إنَّكَ ستلاحظ أنَّ كل نقطة تبتعد عن سائر النُقَط مع استمرار عملية نفخ البالون. النُقَط ليست هي التي تتحرَّك على سطح البالون. إنَّ الغشاء المطَّاطي للبالون هو الذي يتمدَّد بسبب ضغط الهواء الذي تُدْخِلَه فيه، فترى النُقَط تبتعد عن بعضها بعضاً في استمرار.

الكون هو كالبالون؛ ولكنَّه ليس كل البالون. إنَّه فحسب الغشاء المطَّاطي للبالون، أو سطحه الخارجي. في هذا "السطح"، وعليه، يقع كل الكون.. كل شيء، فـ "النُقَط البيضاء" هي "مجموعات المجرَّات"، و"الغشاء المطَّاطي الأسود" هو "الفضاء"، الذي كلَّما تمدَّد واتَّسَع تباعدت "مجموعات المجرَّات"، أي "النُقَط البيضاء".

"البالون" له داخل (له مركز) وله خارج؛ ولكنَّ "البالون الكوني" يختلف، فهو ليس له داخل، أو مركز، أو خارج، فالكون في تمدُّده لا يشبه كرة تتمدَّد ضِمْن فضاء، أو فراغ.

ولو افْتَرَضْنا أنَّ له داخل، أو خارج، فإنَّ داخله، أو خارجه، ليس بجزء منه، فهو لا يؤثِّر، ولا يتأثَّر، بالكون، الذي يُوْجَد كله على السطح الخارجي للبالون.

ما يقع بين "المركز" و"السطح (الخارجي)" من "بالوننا الكوني (المتمدِّد)" إنَّما يقع في ما وراء كوننا. إنَّه لا ينتمي إلى كوننا، وليس بجزء منه؛ لأنَّه ليس على السطح من "بالوننا الكوني".

هذا "الحيِّز"، أو "المكان"، أو "الفضاء"، الممتد من "المركز" إلى "السطح (أو إلى محيط الدائرة الكونية)"، لا يؤثِّر في كوننا، ولا يؤثِّر فيه كوننا، في أيِّ شكل من الأشكال.
وهذا إنَّما يعني أنَّنا لا ننظر عبر "الداخل" من "بالوننا الكوني" نحو الجهة المقابلة من سطح "بالوننا الكوني" عندما ننظر إلى جسم كوني بعيد. إنَّنا ننظر إلى ذلك الجسم عبر "السطح الخارجي" من "بالوننا الكوني"، والذي (أي هذا السطح) يتألَّف من ثلاثة أبعاد مكانية، فهو "المكان" الذي لا مكان غيره بالنسبة إلينا.

"مجموعات المجرَّات" هي التي في تباعدٍ مستمرٍ ومتزايدٍ ومتسارِع، فكل مجموعة تَظْهَر لنا على أنَّها في حالٍ من الارتداد (المستمر والمتزايد والمتسارِع) عن سائر المجموعات. وقد نَخْتَصِر هذا المشهد الكوني قائلين إنَّ كل مجرَّة ترتد عن سائر المجرَّات.

إنَّنا نَعْلَم، أي بِتْنا نَعْلَم، أنَّ الفضاء بين مجموعات المجرَّات هو الذي يتمدَّد (ويزداد ويتسارَع تمدُّداً) فتَظْهَر لنا تلك المجموعات (أو المجرَّات) على أنَّها هي التي تتحرَّك "في" الفضاء، مبتعدةً عن بعضها بعضاً. وهذا إنَّما هو معنى "تمدُّد الكون".

ويُنْظَر إلى كل المادة الكونية، أي إلى كل ما في الكون من كتلة وطاقة، على أنَّها القوَّة ذات التأثير المعاكس والمضاد، فالكون يتمدَّد، متغلِّباً، في كل لحظة، على محتواه من المادة، والذي يؤثِّر في تمدُّده كبحاً وإعاقةً، وكأنَّ مادة الكون في مَيْلٍ دائم إلى "استجماع" ما "تناثر" من أجزاء الكون، وإلى وقف تمدُّده، ثمَّ تحويله إلى انكماش وتقلُّص.

نظر علماء الفلك في تمدُّد الكون، فاكتشفوا أنَّ تمدده من السرعة بمكان، وأنَّ وقف تمدده يحتاج إلى مقدار هائلٍ من الكتلة. وقد فهموا مستقبل التمدُّد الكوني بما يوافق مثال صاروخ أُطْلِق من سطح الأرض نحو الفضاء.

إذا امتلك هذا الصاروخ ما يكفي من السرعة فسوف يفلت من جاذبية الأرض، ليسبح في الفضاء ضمن النظام الشمسي. أمَّا إذا كانت سرعة انطلاقه، أو قوَّة دفعه، أقل فسوف تكسب الجاذبية الأرضية المعركة، فيسقط الصاروخ، متحطِّماً على سطح الأرض.

وبما يوافق هذا المثال قالوا إنَّ الكتلة الكلِّية للكون هي التي ستقرِّر وتُحدِّد مصير ومستقبل الكون، فإذا كانت أكبر من مقدارٍ معيَّن فإنَّ تمدُّد الكون (المتسارِع الآن) سيشرع يتباطأ، ليتوقَّف، وليبدأ الكون، من ثمَّ، السير في مسارٍ معاكس، أي مسار الانكماش والتقلُّص، وصولاً إلى "الانسحاق الكبير" Big Crunch. وهذا هو ما يسمَّى "الكون المُغْلَق" Closed Universe.

أمَّا إذا كانت أقل فسوف تستمر كل مجرَّة في الابتعاد عن سائر المجرَّات إلى الأبد، أي أنَّ الكون سيظل يتمدَّد إلى الأبد، مع ما يمكن أن يترتَّب على ذلك من نتائج. وهذا هو ما يسمَّى "الكون المفتوح"Open Universe .

وبين المنزلتين، أي بين "الكون المُغْلَق" و"الكون المفتوح"، تُوْجَد منزلة ثالثة، هي "الكون المنبسط (المستوي)" Flat Universe، حيث تَعْدِل الكتلة الكونية الكلِّية ذلك المقدار (القياسي) من الكتلة. وفي هذا "الكون المنبسط"، الذي يشبه صفحة ورقة، يستمر التمدُّد الكوني؛ ولكن في سرعة متضائلة، وصولاً إلى السرعة الصفرية.

كوزمولوجيون كُثْر يعتقدون أنَّ الكون، في أوَّل طفولته، اجتاز طوراً من التمدُّد السريع جدَّاً، يسمُّونه "طور التضخُّم". ويعتقدون، إذا ما صحَّ اعتقادهم ذاك، أنَّ الكون لا بدَّ له، بالتالي، من أن يكون "منبسطاً"، أي على شكل صفحة ورقة، أو ملاءة.

مبدئياً، "المهمَّة"، "مهمَّة قطع الشكِّ بسكِّين اليقين"، من السهولة بمكان، على ما يقولون، فكل ما ينبغي لنا القيام به هو أن نَحْسِب مقدار الكتلة في الكون، لنرى ما إذا كان كافياً لوقف التمدُّد الكوني. و"مقدار الكتلة" في الكون إنَّما هو "مقدار المادة التي لا يُمْكِنها أبداً أن تسير في الفراغ بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.

لقد حسبوه إذ جمعوا كُتَل النجوم والغاز والغبار (أي كل الكُتَل المرئية) في مجرَّة، وإذ قاموا، بعد ذلك، بضرب الرقم الذي توصَّلوا إليه بـ "عدد مجرَّات الكون". وانتهت بهم عمليتا "الجمع" و"الضرب" إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ وقف التمدُّد الكوني يحتاج إلى كتلة كونية يفوق مقدارها الكتلة المرئية بنحو 100، أو 1000، مرَّة، فهل في الكون من الكتلة غير المرئية (الافتراضية) ما يفي بالغرض، الذي هو وقف التمدُّد الكوني؟

هذا هو السؤال الذي لم يتوصَّلوا بعد إلى إجابته.

مصير (مستقبل) الكون إنَّما هو مصير "تمدُّده"، الذي هو الآن في تسارع. ومصير "تمدُّد الكون" إنَّما يَعْكِس شكل، أو نوع، أو نمط، الكون ("مفتوح"، مُغْلَق"، "منبسط").

أنماط الكون

هل الكون يتمدَّد (أي في حالٍ من التمدُّد والتوسُّع)؟ هذا ما عاد بالسؤال الجائز طرحه في المجتمع الكوزمولوجي، فظاهرة "تمدُّد الكون" هي الآن مُثْبَتة مؤكَّدة، وفي منزلة البديهية؛ ولكنَّ السؤال المتفرِّع منها، والذي مازلنا في حاجة ماسَّة إلى إجابته، إجابة قاطعة حاسمة، هو "هل الكون مفتوح Open أم مُغْلَق Closed؟".

"الكون المفتوح" Open Universe هو الكون الذي يستمر في التمدُّد إلى الأبد؛ أمّا "الكون المُغْلَق" Closed Universe فهو الكون الذي ما أن يصل في تمدُّده إلى حدٍّ معيَّن حتى يشرع ينكمش ويتقلَّص مرَّة أخرى.

و"الكون المُغْلَق" هو الذي فيه من "الكتلة" ما يكفي لجعل الفضاء ينحني ويتقوَّس على ذاته، وكأنَّه سِلْك ثَنَيْناهُ حتى اتَّصَل طرفاه، أي أصبح على شكل دائرة.

إذا كانت كثافة المادة في الكون، أو كثافة مادة الكون، عالية فلا بدَّ للكون من أن يكون مُغْلَقاً، محدوداً، مُقوَّساً (أو منحنياً) تقوُّساً إيجابياً؛ ولا بدَّ له، بالتالي، وفي آخر المطاف، من أن ينهار على نفسه.

أمَّا إذا كانت كثافة مادته منخفضة فلا بدَّ له من أن يكون مفتوحاً، غير محدود، مُقوَّساً تقوُّساً سلبياً، أي يشبه "سطح السَرْج" في شكله الهندسي، فيستمر في التمدُّد إلى ما لا نهاية.

في نمطه "المفتوح"، يستمر الكون في التمدُّد إلى الأبد.. إلى ما لا نهاية، في الزمان. وفي ما عدا هذا النمط من الكون، يتوقَّف، أي يجب أن يتوقَّف، أخيراً، "التمدُّد الكوني"؛ ولكنَّ توقُّفه إمَّا أن يحدث في "زمن محدود"، أي عند نقطة زمنية معيَّنة، وإمَّا أن يحدث في "زمن لا محدود".

إذا حدث في "زمن محدود" فلا بدَّ، عندئذٍ، للكون من أن ينهار على نفسه، وكأنَّه كرة، قُذِفَت في الهواء إلى أعلى فأسْقَطَتْها الجاذبية الأرضية، بعد حين، إلى سطح الأرض؛ وهذا إنَّما هو نمط "الكون المُغْلَق"، أو "الكون الكروي".

هذا الكون يَعْكِس، حتماً، تمدُّده، أي ينتقل إلى "الانكماش"، أو "التقلُّص"، منهاراً على نفسه في "انسحاق كبير" Big Crunch، وصولاً إلى "بيضة كونية" جديدة Singularity.

إنَّ "مجموعات (أو عناقيد) المجرَّات" تبلغ الحد الأقصى من انفصالها عن بعضها بعضاً، ثمَّ تزداد تقارباً، ثمَّ تنهار على بعضها بعضاً؛ أمَّا درجة حرارة الكون فتستمر في الارتفاع أكثر فأكثر.

وعلى مقربة من لحظة "الانسحاق الكبير"، تتمزَّق الذرَّات، فيتحوَّل الكون كله إلى بحر من الطاقة والجسيمات دون الذرِّية.

وفي "الانسحاق الكبير"، تُسْحَق المادة، والطاقة، والفضاء، والمكان، والزمان، فتَخْرُج جميعاً، على ما يزعمون، من الوجود.

هل بقي من شيء؟!

وماذا يبقى إذا ما ترتَّب على "الانسحاق الكبير" إلغاء وجود المادة، والطاقة، والفضاء، والمكان، والزمان؟!

لنفتَرِض أنَّ أقرب عنقود من المجرَّات يبعد عن عنقود المجرَّات الذي تنتمي إليه مجرَّتنا 1000 سنة ضوئية، وأننا نرى ضوءه، في استمرار، باللون الأحمر. ولنفتَرِض أننا الآن نرى ضوءه باللون الأزرق أو البنفسجي.

إذا حدث ذلك فهذا إنَّما يعني، ويجب أن يعني، أنَّ الكون قد شرع ينكمش منذ 1000 سنة أرضية.

"الكون المُغْلَق"، وفي معنى من معانيه، إنَّما هو الكون الذي إذا سِرْتَ فيه في خطٍّ مستقيم (من وجهة نظركَ) وفي الاتجاه ذاته فلا مهرب لكَ من العودة إلى النقطة التي منها انْطَلَقْت.

أمَّا "الكون المفتوح" فهو المضاد، في هذا المعنى، لـ "الكون المُغْلَق"، فإذا أنتَ سِرْت في "الكون المفتوح"، على ذاك النحو، فإنَّكَ لن تعود أبداً إلى نقطة الانطلاق.

إنَّكَ لن تسير أبداً بسرعة تَعْدِل، أو تفوق، سرعة الضوء؛ وإذا كان كوننا "مُغْلقاً"، وإذا كان "متمدِّداً"، فإنَّ سَيْركَ في الفضاء هو سَيْرٌ في "فضاء متمدِّد متَّسِع في استمرار"، وكأنَّكَ تسير في طريق كلَّما تقدَّمْتَ في سَيْرِكَ فيها استطالت واتَّسَعَت.

وإذا ما حدث توقُّف "التمدُّد الكوني" في "زمن لا محدود" فهذا إنَّما يعني أنَّ الكون من النمط "المنبسط (أو المستوي)"، وكأنَّه على "حافَّة السِّكِّين" بين "الكون المفتوح" و"الكون المُغْلَق". هذا الكون يظل يتمدَّد، متباطئاً في تمدُّده أكثر فأكثر، حتى يتوقَّف عن التمدُّد؛ ولكن في "زمن لا محدود".

وفي "الكون المفتوح (وربَّما في "المنبسط" أيضاً)"، تسود، في آخر المطاف"، "الثقوب السوداء"؛ ولكن إلى حين، فمصيرها النهائي إنَّما هو "التبخُّر"، المتفاوِت سرعةً ومعدَّلاً بتفاوت كُتَلِها.

والكون الذي "تبخَّر" ما فيه من "الثقوب السوداء" يصبح بحراً واسعاً (مُظْلِماً) من الإلكترونات، والبوزيترونات، والفوتونات، والنيوترينوات.

"النار" هي نهاية الكون إذا ما انهار (أو إذا ما انهار مرَّة أُخرى) على نفسه؛ و"الجليد" هي نهايته إذا لم يَنْهَر. و"النهاية الجليدية" إنَّما تعني أن يبقى من الكون فضاء فارغ أبدي، يشتمل على قليل من الإلكترونات، والنيوترينوات، والفوتونات، ومن أضداد تلك الجسيمات.

ويُنْظَر إلى المقدار الكلِّي لـ "المادة الداكنة" في الكون، وبكل أشكالها وصورها، على أنَّه العامل المحدِّد والمقرِّر لمصير الكون.

تخيَّل أنَّكَ تقف على سطح كوكب (آخر). أمْسَكْتَ بحجرٍ، وقذفته بكلِّ قوَّتِكَ إلى أعلى. ها هو الحجر يرتفع الآن. وفي أثناء ارتفاعه، تتساءل عن "النتيجة النهائية".

هل يستمر الحجر في الارتفاع؟

هل يسقط إلى سطح هذا الكوكب؟

للإجابة لا بدَّ لكَ من معرفة كتلة هذا الكوكب. الحجر يرتفع بما يجعلكَ تعتقد أنَّ كتلة هذا الكوكب يجب أن تَعْدِل كتلة كوكب الأرض حتى يسقط الحجر إلى سطحه.

ولكن، ما تراه حتى الآن من كتلة هذا الكوكب لا يكفي لتتوقَّع سقوط هذا الحجر إلى سطحه، فما تراه من هذه الكتلة إنَّما يَعْدِل فحسب كتلة القمر؛ وهذه الكتلة ليست بكافية لوقف ارتفاع الحجر.

إنَّكَ الآن تبحث في داخل هذا الكوكب عن كتلة لم ترها بَعْد، أو غير مرئية، لعلَّ بحثكَ ينتهي إلى نتيجة مؤدَّاها أنَّ كتلة هذا الكوكب تَعْدِل كتلة كوكب الأرض، وفي مقدورها، بالتالي، أن تُوْقِف ارتفاع الحجر، وتُسْقِطه إلى سطح هذا الكوكب.

القول بأنَّ الكون سيظل يتمدد إلى الأبد يعني أنَّ للكون خالق؛ لأنَّه يعني أنَّ "النقطة" التي انطلق منها الانفجار الكوني لم تأتِ إلى حيِّز الوجود من انكماش كوني سابق؛ لأنَّها لو أتت من انكماش كوني كهذا لكانت كتلة الكون الحالية كافية لوقف تمدده، ولتحويله من ثم إلى تقلص، فليس من المنطق الفيزيائي بشيء القول بتبدل مقدار الكتلة الكونية، التي نعني بها، في هذا السياق، كمية المادة .

"الكون الدوري المُغْلَق (= الدورة الكونية)" Closed Cycling Universe هو الفرضية (أو التصوُّر) الكوزمولوجية التي تسمح لنا باجتناب كثير من المشكلات التي تثيرها "البيضة الكونية" في نظرية "الانفجار الكبير"، وفي مقدَّمها مشكلة نشوء، أو انبثاق، الكون من "لا شيء"، فالكون، بحسب فرضية "الكون الدوري المُغْلَق"، إنَّما جاء من بقايا "كون سابق". لقد انكمش الكون السابق، وانهار على نفسه، فوقع "الانفجار الكبير".

وعليه، ما عاد "الانفجار الكبير" التوأم النظري لفرضية الـ "سينغيولاريتي"، مع ما تثيره من مشكلات، فهو، وبحسب فرضية "الكون الدوري المُغْلَق"، ليس سوى "انفجار كون منهار على نفسه".

الكون، أو كوننا، هو "المادة" في صورتيها، أو هيئتيها، وهما: "الكتلة" Mass و"الطاقة" Energy. والكون، بعضه مضيء منير، وبعضه مُظْلِم داكن؛ بعضه مرئي، وبعضه غير مرئي.

علماء الفلك، ولرغبتهم في معرفة مصير ومستقبل كوننا، يتوفَّرون على حساب "كتلة الكون"، فسؤال "ما هو مقدار كتلة الكون؟" يستبدُّ بتفكيرهم.

ولقد زعم بعضهم أنَّه أنجز المهمَّة، أي عَرَف كم في الكون المرئي من "كتلة". أمَّا الطريقة التي اتَّبعها توصُّلاً إلى حساب كتلة الكون فلا يقرها ويأخذ بها إلاَّ كل من شوَّهت وأفسدت تفكيره الفيزيائي والكوزمولوجي نظرية "الانفجار الكبير".

بحسب هذه الطريقة، ينبغي لنا أن نعرف أوَّلاً عدد المجرَّات في الكون، أو في كوننا المرئي، وأن نعرف، من ثمَّ، كتلة المجرَّة الواحدة في المتوسِّط. لو كان الكون من خمس مجرَّات، ولو كانت كتلة المجرَّة الواحدة في المتوسِّط 1000 طن، لتوصَّلْنا إلى أنَّ مقدار كتلة الكون 5000 طن.

ولكن، أليس من الهُزْء بالعقول أن نَزْعُم أنَّنا نعرف عدد مجرَّات الكون، وكتلة المجرَّة الواحدة في المتوسِّط، فأصبح ممكناً، بالتالي، أن نعرف مقدار كتلة الكون المرئي؟!

لقد أخبرتهم نظرية "الانفجار الكبير" بـ "الحجم" الذي بلغه الكون الآن، فأخذوا جزءاً من أجزائه العشرة، أو الألف، وأحصوا المجرَّات (أو عددها) فيه، ثمَّ حسبوا كتلة المجرَّة الواحدة في المتوسِّط، فتوصَّلوا، بالتالي، ولو على نحو تقريبي، إلى معرفة مقدار كتلة الكون (المرئي).

خللهم الأعظم إنَّما يكمن في كونهم اتَّخَذوا ممَّا هو في حاجة إلى إثبات "مسلَّمةً"، فـ "حجم (أو عُمْر)" الكون الذي اتَّخذوه "مسلَّمة" هو ما يفتقر إلى الدليل والإثبات.

وبعدما أنجزوا مهمَّة حساب كتلة الكون توصَّلوا إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّها لا تكفي لجعل الكون "مُغْلَقاً"، أي لا تكفي لجعل كوننا المتمدِّد ينكمش ويتقلَّص، منتهياً إلى "بيضة كونية" جديدة، عَبْر "انسحاق عظيم" Big Crunch.

في سعيهم إلى معرفة مصير أو مستقبل الكون، رأيْناهم يتوفَّرون، تارةً، على حساب "كتلة الكون"، وطوراً على حساب "كثافته"، أو "كثافة كتلته". ولم يكن بالأمر المستعصي أن يحسبوا "الكثافة" بعدما عرفوا مقدار كتلة الكون وحجمه؛ ولكن أين هو المنطق في أن تحسب كثافة الكتلة في كون يتمدَّد (أي يَكْبُر حجماً) في استمرار، ويتسارَع تمدُّداً؟!

وأين هو المنطق في أن تحسب "الكتلة"، أو "الكثافة"، إذا ما كنتَ مؤمناً بأنَّ "المادة المُظْلِمة (الداكنة، غير المرئية)" هي معظم مادة الكون؟!

بل أين هو المنطق في أن تسعى إلى معرفة مصير أو مستقبل الكون ضارباً صفحاً عن حقيقة أنَّ مادة الكون، في معظمها، ليست على هيئة "كتلة"، وإنَّما على هيئة "طاقة"؟!

إنَّ من أعظم الألغاز المحيِّرة للألباب، في مجتمع علماء الفلك، أنْ يُعْرَف مِمَّ يتكوَّن الجزء الأعظم من كتلة الكون، فما بين 90 في المائة و 99 في المائة من "الكتلة" في الكون ما زال مجهولاً تماماً لدى علماء الفلك.

كل مجرَّة، وكل مجموعة من المجرَّات، تبدو لعلماء الفلك "أثقل"، أو تملك مقداراً أكبر من قوَّة الجذب (أو التجاذب) الداخلي، فبعض الظواهر في المجرَّة، أو في مجموعة المجرَّات، لا يمكن تفسيرها استناداً إلى "الكتلة الظاهرة (أو المرئية)"، أي إلى مقدار الكتلة المتأتي من جَمْع كل كُتَل النجوم وسُحُب الغاز التي تتألَّف منها المجرَّة مثلاً. وهذا التناقض هو ما حَمَل علماء الفلك على التفكير في احتمال وجود مقدار آخر من الكتلة التي لا يستطيعون رؤيتها أو ملاحظتها.

لقد وُجِدَ أنَّ النجم في مجرَّة ما يدور في مداره بسرعة تفوق كثيراً السرعة المتوقَّعة أو المُفْتَرَضة، أي السرعة المتناسِبة مع مقدار أو حجم الكتلة المرئية أو الظاهرة للمجرَّة. وسرعة دوران النجم إنَّما تعكس قوَّة الجاذبية في داخل المجرَّة، فكلَّما زادت كتلة المجرَّة زادت جاذبيتها الداخلية، التي كلَّما زادت، أو كلَّما كانت قوية وشديدة، أصبح ممكناً أن يدور النجم بسرعة أعلى من غير أن ينفصل عن مجرَّته، ويذهب بعيداً في الفضاء.

إنَّ كوكب عطارد، مثلاً، وهو الكوكب الأقرب إلى الشمس، والأسرع من سائر كواكب النظام الشمسي في دورانه حَوْل الشمس، لا يمكنه أن يدور بالسرعة نفسها حَوْلَ نحم أصغر كتلة من الشمس من غير أن ينفصل نهائياً عنه، وينطلق بعيداً في الفضاء الكوني.

من تلك السرعة العالية (أو الأعلى من المتوقَّع والمُفْتَرَض) التي يدور فيها النجم (كل نجم) حَوْل مركز مجرَّته، اسْتَنْتَج علماء الفلك وجود، أو وجوب وجود، جاذبية داخلية للمجرَّة أقوى بكثير من التي يشير إليها المقدار المرئي أو الظاهر من كتلة المجرَّة.

وهذا الاستنتاج قادهم، بالضرورة، إلى استنتاج آخر مؤدَّاه وجوب وجود كتلة للمجرَّة أكبر بكثير من كتلتها المرئية أو الظاهرة. وقد سمُّوا هذه الكتلة الإضافية المُفْتَرَضة "الكتلة المُظْلِمة (أو الداكنة)"؛ لكونها خفية غير ظاهرة، لا ترى مباشَرةً (بوسائل وأدوات المراقبة والملاحظة التي نملك الآن).

هذا الافتراض كان لا بدَّ منه لتفسير وتعليل تلك الظاهرة، أي ظاهرة بقاء (أو عدم انفصال) النجوم وسُحُب الغاز على الرغم من السرعة العالية التي تدور فيها حَوْل مركز مجرَّتها.

وَوُجِد أيضاً أنَّ المجرَّة (في مجموعة من المجرَّات) تدور في مدارها بسرعة لا تتناسب مع الكتلة المرئية والظاهرة لمجموعتها، أي أنَّها تزيد كثيراً عمَّا يجب أن تكون عليه لو أنَّ كتلة مجموعتها تَعْدِل فحسب المرئي والظاهر منها.

والمجرَّة، ومهما كانت سرعتها عالية، يكفي أن تظل تدور في مدارها حتى نستنتج أنَّ سرعة دورانها ما زالت دون سرعة الإفلات من قبضة الجاذبية لـ "مجموعة المجرَّات" التي تنتمي إليها.

ولو أنَّ سرعة دوران الأرض (على سبيل المثال) حَوْل الشمس ازدادت (لسبب ما) متجاوزةً سرعة الإفلات من قبضة الجاذبية الشمسية (التي تتناسب مع كتلة الشمس) لانفصلت عن النظام الشمسي، وذهبت بعيداً في الفضاء.

إنَّ مزيداً من "الكتلة" في "عنقود المجرًَّات" يُنْتِجُ، حتماً، مزيداً من "الشدِّ الجاذبيِّ" الذي تتعرَّض له كل مجرَّة (في العنقود). وإنَّ مزيداً من هذا وذاك يُنْتِج، حتماً، مزيداً من "تسارُع" كل مجرَّة، أي يُنْتِج زيادةً في سرعة دوران كل مجرَّة حَوْل مركز "عنقود المجرَّات".

والحركة المدارية للجسم الكوني (أي دورانه حَوْل جسم كوني آخر أعظم منه كتلةً كدوران الأرض حَوْل الشمس) إنَّما هي، بحسب نظرية "النسبية العامة" لآينشتاين، مَظْهَر لانحناء وتقوُّس الفضاء (المكان) الذي فيه يتحرَّك هذا الجسم وينتقل. والسرعة التي يدور فيها الجسم الكوني إنَّما تتناسب مع كتلة وجاذبية المركز (= جسم كوني آخر أضخم) الذي يدور حَوْلَه.

دوران النجم حَوْل مركز مجرَّته، والمجرَّة حَوْل مركز مجموعتها، أو عنقودها، بسرعة تزيد، وتزيد كثيراً، عن السرعة التي تسمح بها الكتلة المرئية (للمجرة وللعنقود) هو ما حَمَلَ علماء الفلك على افتراض وجود "الكتلة (أو المادة) الداكنة"، التي لم يتوصَّلوا بَعْد إلى حساب مقدارها الكوني، وإنْ افترضوا، أو توقَّعوا، أنَّها تؤلِّف معظم مادة الكون.

في بعضٍ من المجرَّات الكبيرة، لوحِظَ ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلاَّ بوجود "ثقوب سوداء" في مراكز هذه المجرَّات، فالنجوم في كل مجرَّة من هذه المجرَّات تتحرَّك وتنتقل بسرعة كبيرة جداً نِسْبَةً إلى مقدار الكتلة الظاهرة، أو المرئية، للمجرَّة. لقد لوحِظَ أنَّ النجوم الخارجية للمجرَّة تدور بسرعة أكبر من تلك التي يجب أن تدور بها، إذا ما قارنَّا سرعتها بكمية المادة المرئية في المجرَّة.

ولولا وجود مقدار آخر غير مرئي من الكتلة لترتَّب على هذه الحركة السريعة جدَّاً للنجوم انفصالها عن مجرَّتها، والانطلاق بعيداً في الفضاء. إنَّ هذا الانفصال لم يحدث، ولا يحدث؛ أمَّا ما يمنع حدوثه، أي ما يُمسِك بالنجوم، ويبقيها ضمن مجرَّتها على الرغم من سرعتها الهائلة نسبياً، فهو، على ما افترضوا، بدايةً، وجود "ثقب أسود" في مركز، أو باطن، المجرَّة.

ومع إجراء الفلكيين لحسابات معيَّنة توصَّلوا إلى أنَّ هذا "الجسم الافتراضي"، المستَتِر في مركز المجرَّة، هائل الكتلة؛ ولكن حجمه في منتهى الضآلة مقارنةً بعِظَم كتلته، ولا بدَّ، بالتالي، من أن يكون، بحسب استنتاجهم، "ثقباً أسود" ضخم جداً، يقبع في مركز المجرَّة.

المادة الداكنة Dark Matter

بـ "ميزان الحركة" نَزِن الأجسام الكونية من مجرَّات ونجوم وكواكب..، أي نَعْرِف ونَحْسِب كُتَلِها.

ونحن، في النظام الشمسي، نستعمل سرعة دوران الأرض حَوْل الشمس ميزاناً نَزِن به الشمس، أي نقيس كتلتها.

إنَّ الأرض تدور حَوْل نجمنا هذا بسرعة 30 كيلومتر في الثانية الواحدة؛ فلو أنَّ كتلة الشمس أكبر أربع مرَّات لوَجَبَ على الأرض أن تدور حَوْل الشمس بسرعة 60 كيلومتر في الثانية الواحدة حتى تبقى في مدارها ذاته.

والشمس تدور حَوْل مركز مجرِّتنا بسرعة 225 كيلومتر في الثانية الواحدة. ونحن نستعمل هذه السرعة، وسرعات النجوم الأخرى، لقياس كتلة مجرَّتنا. إنَّكَ كلَّما اقتربتَ من "المركز" تسارَعْت، وكلَّما ابتعدتَ عنه تباطأْت.

ومع حساب سرعة دوران الشمس مثلاً، والظاهر، أو المرئي، من كتلة مجرَّتنا، توصَّل علماء الفلك إلى استنتاج مؤدَّاه أن لا تناسب بين سرعة الشمس وكتلة المجرَّة، فهذه الكتلة (أي كتلة كل نجوم وسُحُب الغاز والغبار في مجرِّتنا) يجب أن تكون أكبر بنحو عشر مرَّات تقريباً حتى يحدث هذا التناسب.

وهذا الاستنتاج قادهم إلى افتراض وجود مقدار هائل من الكتلة غير المرئية (الداكنة أو المظلمة) في مجرَّتنا.

أمَّا مجموعة المجرَّات (عنقود المجرَّات) فيجب أن تكون كتلتها أكبر بنحو خمس مرَّات من كتلتها الظاهرة، أي من الكتلة المرئية لكل ما فيها من نجوم وغاز وغبار.

وهذا إنَّما يشبه أن ترى صاروخاً ينطلق من سطح الأرض نحو الفضاء الخارجي بسرعة 100 كيلومتر في الثانية الواحدة؛ ولكن من غير أن يتمكَّن من الإفلات من قبضة الجاذبية الأرضية، فيسقط إلى سطح الأرض.

عندما ترى ذلك لن تَجِد مفرَّاً من أن تقول مُسْتَنْتِجاً إنَّ كتلة الأرض أكبر بكثير ممَّا اعتقدتَ من قبل؛ لأنَّ سرعة الإفلات من جاذبيتها (والتي هي نحو 11 كيلومتر في الثانية الواحدة) يجب أن تكون أكبر من 100 كيلومتر في الثانية الواحدة. والقمر يجب أن يضاعف سرعة دورانه حَوْل الأرض إذا ما أراد الإفلات من جاذبيتها، أي من جاذبية مداره حولها.

جسيم النيوترينو Neutrino يمكن، إذا ما ثَبُت وجود كتلة له، أن يضيف مقداراً هائلاً من الكتلة إلى المادة الكونية الداكنة، أو المُظْلِمة، فهناك نحو بليون نيوترينو في مقابل كل بروتون أو إلكترون. وهناك من الفيزيائيين من يعتقد بوجود كمية من النيوترينوات في الكون تَعْدِل، تقريباً، كمية الفوتونات.

إنَّ أحداً لا يعلم حتى الآن على وجه اليقين ما إذا كان هذا الجسيم يملك كتلة؛ ولكن ثمَّة تجارب واختبارات تشير إلى أنَّ للنيوترينو كتلة في منتهى الصِغَر والضآلة، تقلُّ عن كتلة البروتون بملايين المرَّات. ويبدو أنَّ هذا الجسيم يتحرَّك وينتقل بسرعة قريبة من سرعة الضوء، فأيُّ جسيم يملك ولو مقداراً متناهياً في الصِغَر من الكتلة لا يمكنه أبداً أن يسير بسرعة تعدل سرعة الضوء.

إذا وجُِدَت في الكون كمية كبيرة من "المادة الداكنة" فلن تكون على هيئة المادة التي نَعْرِف، أي لن تكون مؤلَّفة من البروتونات والنيوترونات والإلكترونات، فالنيوترينو قد يكون هو مُكوِّنها الأساسي.

ولكن ما الذي يَعْنونه بـ "المادة" عندما يتحدَّثون عن "المادة الداكنة" Dark Matter؟

إنَّهم، وعلى ما يتَّضِح من كثير من آرائهم وأبحاثهم، يَعْنون بها فحسب "المادة ذات الكتلة"، فـ "الطاقة"، التي هي الوجه الآخر لـ "المادة"، مستثناة من بحثهم وتفكيرهم واهتمامهم.

وهذا ما نراه واضحاً جلياً في بحثهم عمَّا إذا كان جسيم النيوترينو من "المادة ذات الكتلة"، كالإلكترون، فالفيزيائيون، ومنذ زمن طويل، يَنْظُرون إلى النيوترينو على أنَّه جسيم عديم الكتلة. وبناءً على ذلك، رفضوا إضافة "مادة النيوترينو" إلى "المادة الداكنة".

واليوم، ثمَّة فيزيائيون يميلون إلى الاعتقاد بأنَّ لجسيم النيوترينو كتلة؛ فإذا صحَّ اعتقادهم فإنَّ كتلة هذا الجسيم ستكون أقل بنحو 500 مليون مرَّة من كتلة البروتون. على أنَّ وجود النيوترينو بكميات وفيرة في الكون يجعله جزءاً مهمَّاً من كتلة "المادة الداكنة".

في سعيهم إلى إجابة سؤال "هل الكون مغلق أم مفتوح؟"، يحسبون، فحسب، "المادة التي لا يمكنها أبداً أن تسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية"، فـ "مقدارها" هو، على ما يبدو، الذي سيحدِّد شكل ومصير الكون (مغلق أم مفتوح).

والدليل على ذلك هو أنَّهم يقولون إنَّ مقداراً كبيراً من الكتلة سيُضاف (في حسابهم) إلى كتلة الكون إذا ما كان لجسيم النيوترينو كتلة، ولو متناهية في الصِغَر.

إنَّهم يقولون إنَّ "المرئي" من تلك المادة (أو الكتلة) ليس سوى نسبة ضئيلة جدَّاً من كتلة الكون، فما يزيد عن 90 في المائة من كتلة الكون هو "مادة داكنة (أو مظلمة)"؛ ولكنَّهم يريدون جواباً عن السؤال الآتي: "ما هي نسبة المادة التي لا يمكنها السير بسرعة الضوء من المادة الداكنة؟". وإنِّي لأسأل عن السبب الذي يجعلهم يستثنون "المادة التي تسير بسرعة الضوء (الطاقة)" من هذا العامِل المقرِّر لشكل ومصير الكون.

وإنِّي لأسأل أيضاً السؤال الآتي: "إذا افترضنا أنَّ كل، أو معظم، المادة الداكنة هو من نوع المادة التي لا يمكنها السير بسرعة الضوء، فهل في مقدورنا، عندئذٍ، أن نتوصَّل إلى معرفة شكل ومصير الكون؟".

إنَّ كل الكون، "تقريباً"، يتألَّف من "الطاقة". ومع تحوُّل جزء كبير من كُتَل النجوم إلى طاقة تزداد أكثر، فأكثر، كمية الطاقة الكونية؛ فلماذا يضربون صفحاً عن هذه الحقيقة في أثناء سعيهم إلى اكتشاف ومعرفة "الكتلة (أو المادة) المظلمة"، وإلى معرفة المصير النهائي للكون؟!

إذا افْتَرَضْنا وجود "المادة الداكنة"، فما هي؟

ومن أين جاءت؟

لِنَفْتَرِض أنْ كان لدينا، لدى وقوع "الانفجار الكبير" Big Bang، 100 جسيم من المادة (العادية) و 99 جسيماً من المادة المضادة. في نهاية عملية "الإبادة المتبادلة"، أصبح لدينا جسيماً واحداً فقط من المادة مع مقدارٍ من "الطاقة الخالصة"، يَعْدِل كتلة 99 جسيماً من المادة (العادية) و 99 جسيماً من المادة المضادة.

إذا صحَّ هذا فيمكن أن نستنتج أنَّ "المادة الداكنة" جاءت من جزء من ذلك الجسيم، أو من جزء من تلك الطاقة. وثمَّة احتمال أن يكون جزء كبير من "المادة الداكنة" في الكون مؤلَّفاً من نيوترينوات بدائية أنْتَجَها "الانفجار الكبير".

وجود ما يشبه الأدلة والبراهين القاطعة والتي لا ريب فيها على أنَّ الكون قَيْد التمدُّد أنْتَج، أيضاً، تصوُّراً كوزمولوجياً آخر، يُنْظًر إليه على أنَّه المضاد لنظرية "الانفجار الكبير". ويدعى هذا التصوُّر، أو النظرية، "الحالة الثابتة" Steady – State.

القائلون بهذه النظرية "المعارِضة" قبلوا وأيَّدوا كل الملاحظات التي تُظْهِر أنَّ الكون في حالٍ من التمدُّد المستمر؛ ولكنَّهم اتَّخذوا من نتائج وعواقب التمدُّد الكوني سبباً للقول بوجود، وبوجوب وجود، خلقٍ مستمر للمادة من الفراغ، أو من الفضاء الفارغ، فتمدُّد الكون فهموه وتصوُّروه على أنَّه اتِّساع مستمر ومتزايد للمسافة بين كل مجرَّتين ترتدُّ كلتاهما عن الأخرى، فيُخْلَق، بالضرورة، مقدار جديد من المادة لشغل هذا الحيِّز، أو الفراغ، المتَّسِع بين هاتين المجرَّتين.

ولقد قالوا بهذا الخلق المستمر للمادة، وعلى هذا النحو، حلاًّ لـ "مشكلة"، فالكون سيغدو، مع، وبسبب، استمراره في التمدُّد، أقل كثافة، فكلَّما تباعدت المجرَّات أصبح الكون في حجم أكبر، فإذا ظلَّت الكتلة الكونية ثابتة المقدار فلا بد، عندئذٍ، من أن تتضاءل أكثر فأكثر كثافة الكون.

والأمر، على ما قالوا، ليس بنوع من الحل الافتراضي لهذه "المشكلة"، فاتِّساع المسافة بين كل مجرَّتين ترتد كلتاهما عن الأخرى هو "السبب" الذي يؤدِّي إلى خلق مقدارٍ جديد من المادة بينهما. وهذا إنَّما يعني، بحسب تصوُّرهم أو نظريتهم، أنَّ هذا الاتِّساع ما أن يبلغ حدَّاً معيَّناً حتى تتهيَّأ الأسباب لخلق مقدارٍ جديد من المادة بين هاتين المجرَّتين، فيتكوَّن من هذا المقدار مجرَّة جديدة، وكأنَّه كلَّما تباعدت مجرَّتين إلى حدٍّ معيَّن تكوَّنت مجرَّة ثالثة بينهما، فلا يؤدِّي استمرار التمدُّد الكوني، بعد ذلك، وبسبب ذلك، إلى تضاؤل كثافة الكون.

إنَّ خلاصة قولهم هي أنَّ المسافات بين المجرَّات تتَّسِع في استمرار، فيَعْظُم الكون حجماً، فيقل كثافة، ثمَّ تُخْلَق مقادير جديدة من المادة في الفضاء المتَّسِع بين المجرَّات، فتتكوَّن مجرَّات جديدة، فيُدْرأ عن الكون خطر التضاؤل المستمر والمتزايد في كثافته.

و"النتيجة العملية" لهذا التصوُّر هي أنَّ تمدُّد واتِّساع الكون، أو تزايد حجمه، لن يؤدِّي إلى اتِّساع المسافات الفضائية بين المجرَّات بما يجعلها تبدو لنا متباعدة أكثر ممَّا هي عليه الآن، أو ممَّا كانت عليه في الماضي؛ لأنَّ مجرَّات جديدة تتكوَّن في استمرار بين المجرَّات المتباعدة.

لقد اعتقد أصحاب ومؤيِّدو هذه النظرية "المعارِضة" بتمدُّد الكون، مضيفين إلى اعتقادهم هذا اعتقاداً آخر، ولو بدا اعتقاداً ضمنياً، هو أنَّ مقدار المادة في الكون ليس بثابت، فهو يزداد مع ازدياد تمدُّد الكون.

وهذا إنَّما يعني، ويجب أن يعني، أنَّ مقادير جديدة من المادة تُخْلق في استمرار من "العدم"، فالفراغ المتَّسِع بين المجرَّات إنَّما هو حالة لا يمكن تمييزها من "العدم"، بحسب تصوُّرهم له، أي لهذا الفراغ.

ليست "المجرَّة" Galaxy وإنَّما "مجموعة (أو عنقود، أو تجمُّع) المجرَّات" Cluster Of Galaxies هي النظام الأكبر (حجماً وكتلةً) في الكون، والذي بينه وبين أمثاله يتمدَّد الفضاء، فيتمدَّد الكون.

و"عنقود المجرَّات" لا يتحرَّك، أو ينتقل، "في" الفضاء، فليس في الكون، على ما يُلاحَظ ويُعْتَقَد حتى الآن، من نظام أوسع وأكبر، يَضُمُّ عدداً من "عناقيد المجرَّات"، له "مركز"، تدور حوله تلك "العناقيد". ومع ذلك، فبعضٌ من "عناقيد المجرَّات" من الضخامة بمكان.

وهذا "العنقود الضخم"، هو نظام (أو منظومة، أو بنية) يَسْتَغْرِق تكوُّنه زمناً يزيد، بحسب بعض الأبحاث، كثيراً عن زمن وجود الكون، أو عُمْره، ولا يمكن أن يتكوَّن في زمن أقل إلاَّ إذا كانت "كتلة" الكون، و"جاذبيته" بالتالي، أكبر بكثير ممَّا توقَّعته، أو قدَّرته، بدايةً، نظرية "الانفجار الكبير".

لقد ظهرت هذه المشكلة سنة 1986 بعد نشر أبحاث أظهرت وجود مجموعات (أو عناقيد) ضخمة جدَّاً من المجرَّات. ويَسْتَغْرِق تكوين هذه المنظومات، أو البنى، الواسعة والضخمة نحو 80 بليون سنة، بينما يقلُّ عُمْر الكون عن 20 بليون سنة.

وأظهرت أبحاث أخرى، نُشِرت سنة 1989، وجود رقعة (أو منظومة) واسعة جدَّاً من المجرَّات، سُمِّيت "السور (أو الحائط، أو الجدار) العظيم". ثمَّ اكْتُشِفت بنى، وتكوينات، ومنظومات، أوسع وأكبر وأضخم؛ ويَسْتَغْرِق تكوينها نحو 150 بليون سنة، إذا ما تصوَّرناه بما يُوافِق نظرية "الانفجار الكبير".

وأخيراً اكتشف فلكيون من جامعة "مينيسوتا" منطقة في أطراف الكون، قطرها نحو 1000 مليون سنة ضوئية، خالية تماماً من النجوم والمجرَّات، ومن عناقيد النجوم والعناقيد المجرية، ومن كل أشكال المادة المرئية الأخرى. ويُتوقَّع أنَّها تتكوَّن من "المادة المظلمة". إنَّها أكبر منطقة تُكْتَشَف حتى الآن.

لقد برزت مشكلة؛ ولحلِّها كان لا بدَّ من زيادة عُمْر الكون كثيراً، أو زيادة مقدار كتلته، وجاذبيته بالتالي.

ويبدو أنَّ أنصار نظرية "الانفجار الكبير" فضَّلوا زيادة الكتلة على زيادة العُمْر، فافترضوا وجود كتلة إضافية، سمُّوها "المادة المُظْلِمة (أو الداكنة) الباردة" Cold Dark Matter (CDM)؛ وهي المادة التي لا تُطْلق ضوء، أو تُطْلِق قليلاً منه.

وافترضوا، أيضاً، أنَّ معظم مقدار المادة، أو الكتلة، في الكون (99 – 90%) يتألَّف من هذا النوع من المادة، والذي لا يمكن ملاحظته أو اكتشافه. وهذا إنَّما يعني أنَّ علماء الكون لا يعرفون شيئاً عمَّا يؤلِّف نحو 99 في المائة من مادة الكون.

افترضوا ذلك؛ لأنَّ تكوين تلك المنظومات المجريِّة الواسعة والضخمة، أو تلك السلاسل الواسعة جدَّاً من المجرَّات، يحتاج إلى مقدار هائل من الجاذبية؛ وهذا إنَّما يستلزم وجود مقدار من الكتلة أكبر بكثير ممَّا توقَّعوا، وقدَّروا، من قبل.

إذا كان مقدار الكتلة (والجاذبية بالتالي) في تلك المنظومة الضخمة أكبر بكثير، وبكثير جدَّاً، ممَّا يظهر، أو ممَّا يُتوقَّع ويُقدَّر، فعندئذٍ، يمكن افتراض أنَّ هذه المنظومة قد تكوَّنت في زمن أقل من زمن وجود الكون (أي في زمن أقل من 20 بليون سنة).

أمَّا إذا كان مقدار الكتلة فيها يَعْدِل المقدار الظاهر، أو المرئي، أو يوافِق المتوقَّع والمقدَّر، فعندئذٍ، لا بدَّ لتكوُّنها من أن يَسْتَغْرِق زمناً أطول بكثير، وبكثير جدَّاً، من زمن وجود الكون المُقدَّر في نظرية "الانفجار الكبير"، والذي لا يزيد عن 20 بليون سنة.

إنَّ "نظاماً كونياً في منتهى الضخامة"، كذاك المسمَّى "السور (أو الحائط، أو الجدار) العظيم"، لا يمكن أن يتكوَّن، أو يَظْهَر إلى حيِّز الوجود، إلاَّ في زمن يفوق كثيراً، وكثيراً جدَّاً، زمن وجود الكون، أو عُمْره "الرسمي"، إذا ما كانت كتلته الظاهرة المرئية هي "كل" كتلته. تكوُّنه قد يستغرق 150 بليون سنة (العُمْر "الرسمي" للكون لا يزيد عن 20 بليون سنة).

أمَّا إذا كانت كتلته تزيد كثيراً، وكثيراً جدَّاً، عن كتلته الظاهرة المرئية، فيمكنه، عندئذٍ، أن يتكوَّن في زمن أقل.. في زمن قد يقل عن زمن وجود الكون.

وعليه، توفَّر أنصار نظرية "الانفجار الكبير"، ولإنقاذ نظريتهم، على استجماع أدلَّة على وجود مقدارٍ ضخم من الكتلة غير المرئية (الداكنة، أو المظلمة، أو المستترة) ضِمْن ذلك النظام.. وضِمْن الكون كله بالتالي.

إذا رأيْنا نجماً الآن (ولم نكن نراه من قبل) فهذا إنَّما يعني أنَّ هذا النجم قد نشأ وتكوَّن في مكان (من الكون) وفي زمان يسمحان (وقد سمحا فعلاً) لضوئه بالوصول إلى عيوننا.

لقد رأيْناه، أو ها نحن نراه الآن، فما معنى ذلك لجهة وجوده؟

كل ما نعرفه من أمر هذا النجم البعيد الذي نراه الآن هو أنَّه "كان موجوداً بالفعل في الماضي"؛ ولن نتمكَّن الآن من إجابة السؤال الآتي: "هل ما زال موجوداً؟".

وإذا ما نشأ نجم "الآن" في مكان آخر من الكون يبعد عنَّا، مثلاً، مليون سنة ضوئية، فلن نتمكَّن الآن من رؤيته مع أنَّه موجودٌ فعلاً. سنراه بعد مليون سنة، فالضوء الذي انطلق منه "الآن" نحونا يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، ولن يصل إلى عيوننا، بالتالي، إلاَّ بعد مليون سنة.

أمَّا إذا نشأ نجم قبل مليون سنة، في مكان من الكون يبعد عنَّا مليوني سنة، فلن نتمكَّن من رؤيته الآن، وإنَّما بعد مليون سنة، مع أنَّه موجود فعلاً الآن، ومنذ مليون سنة.

وثمة جزء من كتلة الكون لم نَرَه بَعْد في السماء منيراً؛ ولكنَّنا سنراه منيراً بعد سنة، أو مليون سنة.

تخيَّل أنَّ نجماً قد تكوَّن قبل يومين، على بُعْد مليون سنة ضوئية من كوكب الأرض. لو نظرنا الآن في السماء، عبر تليسكوب، فلن نرى له من أثر. وعندما نحسب الآن كتلة الكون فلن نضيف إليها كتلة هذا النجم؛ لأنَّنا لا نملك من دليل على وجوده؛ لأنَّ نوره لم يصل إلينا بَعْد.

إنَّ كثيراً من الأجسام الكونية المضيئة قد تكوَّن بَعْد "الانفجار الكبير" ولم يصل نوره إلينا بَعْد. ولا شكَّ في أنَّ تمدُّد (وتسارُع تمدُّد) الفضاء يساهم في تأخُّر وصول نوره إلى الأرض.

وليس ممكناً أن تقول إنَّك تَعْلَم مقدار كتلة ذلك النجم؛ لأنَّكَ تَعْلَم المادة التي تكوَّن منها، فهذه المادة إنَّما هي سحابة من الغاز، باردة، وغير مضيئة؛ وليس ممكناً، بالتالي، أن تراها (بالتليسكوب) حتى تحسب مقدار كتلتها.

إنَّ كثيراً من الأجسام الكونية التي نراها الآن مضيئة ما عادت بمضيئة؛ وإنَّ كثيراً من الأجسام الكونية غير المضيئة الآن سنراها مضيئة بعد حين.

لقد وَدَدْنا ذِكْر ذلك حتى نشير إلى أن حساب كتلة الكون (أو كتلة أيِّ نظام كوني) ليست من السهولة بمكان.

الصورة الضوئية

التليسكوب هابل زوَّدنا صوراً لأجزاء من الكون، بعيدة جدَّاً، وقديمة بالتالي. وكان المتوقَّع، بحسب نظرية "الانفجار الكبير"، أن نرى، في صورة هذا الجزء أو ذاك، المجرَّات (ضِمْن عنقودها، أو مجموعتها) متقاربة، أي اقرب إلى بعضها بعضاً مِمَّا هي الآن، فالكون المتمدِّد الآن إنَّما يعني، بحسب هذه النظرية، أنَّه كان متقلِّصاً منكمشاً من قبل، أي قبل نحو 10 بلايين سنة مثلاً.

ولكنَّنا لم نَرَ شيئاً من هذا التقارب المجريِّ المتوقَّع والمفترَض عندما نظرنا في صور هابل، وكأنَّ المسافات بين المجرَّات قد ظلَّت على حالها تقريباً، أي أنَّها لم تكن في القِدَم أقل ممَّا هي عليه الآن.

طبعاً، قد يقول قائل من المؤمنين بالصواب المطلق، أو شبه المطلق، لنظرية "التمدُّد الكوني"، المشتقَّة من نظرية "الانفجار الكبير"، إنَّ تمدُّد الكون ليس سوى انعكاس لتمدُّد الفضاء بين "مجموعات المجرَّات"، وليس بين مجرَّة ومجرَّة ضِمْن "المجموعة المجريَّة" الواحدة.

على أنَّ هذا القول الدفاعي لن يكون مُقْنِعاً إلاَّ إذا تسلَّح بصورٍ جديدة، تَظْهَر فيها "مجموعات المجرَّات" الأكثر بُعْداً عنَّا متقاربة أكثر من "مجموعات المجرَّات" الأكثر قُرْباً مِنَّا؛ ثمَّ أنَّ التمدُّد يشمل، أي يجب أن يشمل، الفضاء كله، أو كل فضاء، حتى الفضاء بين النجوم في المجرَّة الواحدة، والفضاء بين المجرَّات في "العنقود المجريِّ" الواحد، وإنْ كان أسرع وأعظم في الفضاء بين "عناقيد (أو مجموعات) المجرَّات".

إذا نظرنا عبر تليسكوب قوي متطوِّر في عُمْق الفضاء فيجب أن نرى أجزاء من الكون في الحال التي كانت عليها قبل 15 بليون سنة مثلاً. وإذا كانت هذه الأجزاء مجرَّات فيجب أن نراها قريبة كثيراً من بعضها بعضاً (ضِمْن عنقودها أو مجموعتها). وإذا كانت "عناقيد مجرَّات" فيجب أن نراها قريبة كثيراً من بعضها بعضاً.

على أنَّ هذا لا يعني أنَّنا سنتمكَّن، مستقبلاً، أي عندما نملك تليسكوبات أكثر تطوُّراً، من أن نرى "الكون كله" في طفولته.

هل تستطيع أن ترى كوكب الأرض كله؟

أجل، تستطيع ذلك إذا ما غادرته، أي إذا ما نظرتَ إليه من الفضاء الخارجي، أو من على سطح القمر مثلاً. أمَّا إذا ظللتَ مقيماً على سطحه فلن تتمكَّن أبداً من رؤيته كله.

ولكن، ماذا لو لم يكن من وجود لذاك الفضاء الخارجي، أو للقمر؟

عندئذٍ، كيف يمكنكَ أن ترى كوكب الأرض كله؟

والكون كذلك؛ فإنَّكَ لن تراه أبداً كله (مهما كان حجمه كبيراً أو صغيراً) ما دمت تعيش فيه، أي ما دمت مقيماً في داخله.

إذا لم يكن من وجود لـ "الضوء" المنبعث من شيء ما فإنَّكَ لن تتمكن أبداً من رؤية هذا الشيء.

هل كان من وجود للضوء في "البيضة الكونية"، أو حين "انفجرت"؟

أفْتَرِض أنَّ الضوء كان موجوداً "بعيد" الانفجار الكوني، وأنَّ هذا "الشيء" الذي انفجر، أو كان طفلاً رضيعاً، قد صُوِّرَ ضوئياً؛ ولكن، هل بقيت "صورته" سليمة بعد، وبسبب، "التضخُّم الكوني"؟

ألَمْ تتمزَّق تلك الصورة إرباً إرباً؟

افْتَرِضْ أنَّ الضوء المنبعث من الأشياء على سطح الأرض لا يمكنه أبداً مغادرة كوكب الأرض إلى الفضاء الخارجي، فهل هذا يعني أنَّ هذا الانفجار الذي وقع أمامي، وعلى بُعْد أمتارٍ منِّي، سأراه، أي سأرى صورته، "مرَّتين"، الآن ومستقبلاً، أي بعد أن بعد أن يقطع الضوء المنطلق منه مسافة تعدل طول محيط الكرة الأرضية، فيضرب ثانيةً الشبكية في عيني؟

لا بدَّ للإجابة من أن تكون بـ "نعم" ما دام هذا الضوء يسير في خطٍّ مستقيم، ضمن هذا المنحى المكاني، أي محيط الكوكب الأرضي، ومادام يعجز عجزاً فيزيائياً مطلقاً عن مغادرة الكوكب الأرضي إلى الفضاء الخارجي.

إنَّ الفضاء، بحسب "النسبية العامة" لآينشتاين، ينحني ويتقوَّس حَوْل، أو في جوار، أو على مقربة من، "الكتلة"، أي من جسم كبير الكتلة، كالشمس.

وهذا إنَّما يعني أنَّ "فضاءً أكثر"، أو "مزيداً من الفضاء"، ينحني ويتقوَّس حول الجسم الكوني ضخم الكتلة. وهذا التقوُّس يزداد إذا ما رُكِّزت كتلته نفسها في حجم أصغر.

ما معنى "فضاء أكثر"؟

معناه هو أنَّ "التقوُّس" يشمل مدى، أو مجال، أو حيِّز، أو نطاق، أوسع من الفضاء (المحيط بالجسم). كان "التقوُّس" يشمل فضاءً يبعد عن الجسم مليون كيلومتر، فأصبح (إذ ازدادت كتلة الجسم) يشمل فضاءً يبعد عن هذا الجسم 10 ملايين كيلومتر.

لقد ازداد "نصف قطر" الفضاء المنحني حَوْل هذا الجسم. وهذا إنَّما يعني أنَّ المسارات المستقيمة لن تظل كذلك ضِمْن هذا الفضاء. إنَّها ستتقوَّس هي أيضاً. الفضاء يتقوَّس (ينحني، يُغطِّي، يُغلِّف، يَلِفُّ، يلتف، يُطوِّق، يحيط بـ) فيتقوَّس "المسار" فيه.

تخيَّل الفضاء (أو المكان) على أنَّه كمية معيَّنة من بخار الماء؛ وتخيَّل أنَّ أي شيء لا يمكنه أن يسير ويتحرَّك إلاَّ إذا سار وتحرَّك على (أو في) هذا البخار. إنَّ الجسم الكوني عظيم الكتلة (الشمس مثلاً) يَسْتَجْمِع هذا البخار، ويُكثِّفه، ويُكوِّمه حَوْل نفسه؛ وشَكْل "المسار" من شكل "الفضاء"، أي أنَّه ينحني بانحنائه. إذا هذا الجسم جَمَع كل البخار الذي حَوْله، وكوَّمه (قوَّسه) حَوْله، فلن يبقى من مكان آخر يسير فيه الشيء. الفضاء إنَّما يشبه "سطحاً ناعماً لكرة" كان في الأصل "ورقة انحنت حَوْل نفسها".

و"تقوُّس" المسار إنَّما يَعْكِس "تقوُّس" الفضاء الذي فيه يُوْجَد هذا المسار، فإذا كان الشيء يسير في خطٍّ مستقيم فإنَّه ما أن يَدْخُل هذا الفضاء المنحني حتى يَجِد نفسه يسير في مسارٍ منحنٍ (من غير أن "يعي" ذلك) فهو يسير على النحو الهندسي الذي يُقرِّره له الفضاء.

وعندما يعجز الضوء عن السير في خطٍّ مستقيم (وهذا هو سيره الطبيعي) ويُرْغَم، بالتالي، على السير في خطٍّ منحنٍ، فإنَّه، مثلاً، لن يغادِر "الثقب الأسود" Black Hole، فالفضاء الذي يسير فيه، توصُّلاً إلى المغادَرة، يُقوِّس خطَّ سيره بما يؤدِّي إلى عودته، على الفور، إلى النقطة التي منها انطلق.

ويؤدِّي تَرَكُّز (= تَكَثُّف) الكتلة ذاتها (لجهة مقدارها) في حيِّز أصغر فأصغر إلى جَعْل سرعة الإفلات من الجاذبية السطحية للجسم تزداد أكثر فأكثر، حتى تبلغ (أو تزيد عن) سرعة الضوء.

زِدْ كتلة الشمس أكثر فأكثر، يَحْدُث الآتي: جاذبيتها السطحية تقوى، سرعة الإفلات من سطحها تصبح أكبر، شدها لكوكب الأرض يقوى، سرعة دوران الأرض حَوْلها تزداد، حجم الفضاء الذي ينحني ويتقوَّس حَوْل الكتلة الشمسية يكبر.

ابْقِ كتلة الشمس على مقدارها؛ ولكن رَكِّزْها (= كَثِّفْها) في حيِّزٍ أصغر فأصغر، يَحْدُث الآتي: جاذبيتها السطحية تقوى، سرعة الإفلات من سطحها تصبح أكبر، شدها لكوكب الأرض لا يتغيَّر، سرعة دوران الأرض حَوْلها لا تتغيَّر، حجم الفضاء المنحني والمتقوِّس حَوْل الكتلة الشمسية لا يتغيَّر.

ومقدار الانحناء والتقوَّس في الفضاء (حَوْل جسم ما) إنَّما يتحدَّد بـ "مقدار الكتلة في حيِّزٍ من الفضاء". إنَّ هذا العامل المحدِّد يتألَّف، كما هو واضح، من مُكوِّنين (في اتِّحادهما) هما: "الكتلة" و"الحجم". وهذا ما يمكن تسميته "كثافة المادة"، أو "كثافة الكتلة".

وهذا إنَّما يعني أنَّ تقوَّس الفضاء يزداد مع تركيز مقدار أكبر من "الكتلة" في "حجم" أصغر من الفضاء، فالفضاء حَوْل سطح الشمس سيكون أكثر تقوُّساً لو أنَّ كتلة الشمس ذاتها رُكِّزت في حجم أصغر. الفضاء، أو المكان، كلَّما زاد انحناءً، أو تقوُّساً، تضاءل الحجم، وزادت الكثافة.

إنَّ سطح الكرة الأرضية هو المثال الذي يأتون به دائماً لدى حديثهم عن الكون، حجماً وشكلاً، فـ "كروية" الأرض إنَّما تعني أنْ ليس للأرض "حافَّة"، وأنَّ السير في خطٍّ مستقيم على سطح الأرض لا بدَّ من أن يكون سيراً في خطٍّ منحنٍ في الوقت نفسه، فإذا أنتَ سِرْتَ في خطٍّ مستقيم، من وجهة نظرك، في موازاة خطِّ الاستواء، فإنَّ الذي يراقب سيْرك من على سطح القمر، مثلاً، يراكَ تسير في خطٍّ دائري.

والسطح الكروي للأرض إنَّما هو الموضع الذي نرى فيه، على خير وجه، اجتماع "المحدود" و"اللا محدود" من "المكان"، فالجسم الكروي، ومهما كان كبير الحجم، يظلُّ "محدود الحجم"؛ ولكنَّ شكله الهندسي هذا، أي "كرويته"، يجعله، في الوقت نفسه، "لا محدود الحجم"، فأنتَ، مهما توسَّعْتَ في سيْركَ، زماناً ومكاناً، على سطح الأرض لن تصل أبداً إلى ما يشبه "الحافَّة".

على أنَّ هذا المثال قادهم إلى استنتاج خاطئ مؤدَّاه أنَّنا لا نرى، ولا يمكننا أن نرى، من الكون إلاَّ جزءاً صغيراً جدَّاً منه، فأنتَ الواقف على سطح الأرض، في أي مكان منه، لا يمكنكَ، بسبب "كروية" هذا السطح، أن تراه كله؛ إنَّكَ ترى، فحسب، جزءاً صغيراً جدَّاً من هذا السطح.

الاستنتاج كان خاطئاً؛ لأنَّهم ضربوا صفحاً عن الفرق الأساسي والجوهري بين "السطحين"، سطح الكرة الأرضية، وسطح الكرة الكونية.

إذا كنتَ واقفاً على سطح القطب الشمالي من الكرة الأرضية فإنَّكَ لن ترى ضوء المصباح في القطب الجنوبي؛ لأنَّ هذا الضوء المنطلق في كل اتِّجاه يسير في خطوط مستقيمة، فلا يمكن، بالتالي، أن يصل بعضٌ منه إلى عينيكً.

أمَّا على سطح الكرة الكونية فلا مناص له من أن يصل إلى عينيكَ؛ لأنَّ سيره في خطوط مستقيمة يشبه سيْركَ في خطٍّ مستقيم في موازاة خطِّ الاستواء.

إذا لم يصل هذا الضوء إلى عينيكَ، ولو بعد آلاف الملايين من السنين، فهذا إنَّما يعني أنَّ الفضاء الكوني ليس منحنياً بما يكفي لإرغام شعاع الضوء على أن ينهي رحلته الفضائية (التي سار فيها في خطٍّ مستقيم بحسب وجهة نظره) بالنقطة التي منها انطلق.

لو تصوَّرنا الكون المرئي على شكل "دائرة"، واتَّخَذْنا الكرة الأرضية "مركزاً" لها، فإنَّ نصف قطر الكون (أو نصف قطر هذه الدائرة) يبلغ تقريباً 10 بلايين سنة ضوئية.

انطلاقاً من موقعنا المركزي الافتراضي هذا، لو نظرنا في الفضاء في أيِّ اتِّجاه فإنَّنا نَجِد أنَّ الجسم الكوني الأكثر بعداً عنَّا يقع على بعد 10 بلايين سنة ضوئية.

لنتخيَّل أنَّنا انطلقنا (من كوكب الأرض) في مركبة فضائية، تسير في خطٍّ مستقيم، نحو جسمٍ كوني يبعد عنَّا 10 بلايين سنة ضوئية، وأنَّنا قبل الوصول إليه مَرَرْنا بالأجسام الكونية A، B، C.

بوصولنا إلى ذلك الجسم، الذي يبعد عنَّا 10 بلايين سنة ضوئية، لن نكون قد وصلنا إلى "حافَّة" الكون، فليس للكون من "حافَّة"، أو "داخل"، أو "خارج".

لقد وصلنا إليه؛ ولكنَّنا قرَّرنا المضي قُدُماً في سيرنا، في خطٍّ مستقيم، في الاتِّجاه نفسه. الآن، تخطَّيْنا هذا الجسم، فمَرَرْنا بأجسام كونية جديدة هي D، F، G. وفي نهاية رحلتنا سنَكْتَشِف أنَّنا قد عُدنا إلى كوكب الأرض، بعدما قطعنا مسافة مقدارها 20 بليون سنة ضوئية.

ولنَفْتَرِض أنَّ الجسم X الذي يبعد عنَّا 10 بلايين سنة ضوئية مثلاً هو الجسم الكوني الأبعد الذي نراه الآن (ونحن نراه بفضل ضوئه) فما معنى ذلك؟

ما أنا متأكِّد منه إنَّما هو الآتي: هذا الضوء الذي أراه الآن قد انطلق من الجسم X قبل نحو 10 بلايين سنة، أي أنَّ رحلته الفضائية (من لحظة انطلاقه حتى لحظة وصوله) استغرقت نحو 10 بلايين سنة.

سأفْتَرِض أنَّ الجسم X لا يتحرَّك في الفضاء مبتعداً عنيِّ، أي عن الأرض، أو عن مجرَّتنا (مجرَّة "درب التبانة"). وسأفْتَرِض أنَّ الفضاء بيني وبين هذا الجسم هو الذي يتمدَّد ويتَّسِع فحسب. وسأفْتَرِض أنَّ سرعة تمدُّد هذا الفضاء، مُذْ انطلق هذا الضوء من الجسم X، تقلُّ عن سرعة الضوء.

بما يتَّفِق مع كل تلك الافتراضات لا بدَّ من أن أسْتَنْتِج أنَّ الجسم X يبعد الآن (حيث أرى "صورته الضوئية") عن الأرض أكثر من 10 بلايين سنة ضوئية.

لقد انطلق هذا الضوء من جسم "انطلق" في الاتِّجاه المعاكِس، أي أنَّ الجسم X والضوء المنطلق منه (نحو الأرض) قد انطلاقا من نقطة واحدة في اتِّجاهين متعاكسين. وعليه، لا أستطيع أن أقول، على وجه اليقين، أنَّ الجسم X يبعد الآن عن الأرض 10 بلايين سنة ضوئية.

ولكن، لِنَفْتَرِض أنَّ الجسم X هو الجسم الكوني الأبعد عن الأرض، فهَلْ من معنى لذلك إذا ما ضربنا صفحاً عن الشكل الهندسي للكون؟!

إذا كان الكون كله هو سطح بالون، فهذا إنَّما يعني أنَّ الجسم الكوني الأبعد عن الأرض هو الأرض نفسها (أو مجرَّتنا نفسها).

إنَّ الضوء ينطلق من الجسم في خطٍّ مستقيم في كل اتِّجاه، فلو انطلق الآن ضوء من الأرض فإنَّه سيسير، في الفضاء الكوني، في خطٍّ مستقيم (من وجهة نظره) من غير أن يتمكَّن من مغادرة الكون.

هذا الضوء سيسير في خطٍّ منحنٍ، أي في خطٍّ دائري؛ لأنَّه سيسير في محيط الدائرة الكونية حتى يصل بعد زمن طويل جدَّاً إلى النقطة التي انطلق منها، أي إلى كوكب الأرض نفسه.

وهذه المسافة الفضائية العظمى (المتَّسِعة في استمرار) التي سيقطعها هذا الضوء المنطلق الآن من الأرض إنَّما هي طول محيط الدائرة الكونية، وليست طول نصف قطرها، مثلاً، لأنْ ليس لها نصف قطر، فالكون كله إنَّما يقع على سطح البالون.

"الكون المحدود" إنَّما هو نفسه "الكون المُغْلَق"، أي الكون الذي على هيئة "جسم كروي" كالكرة الأرضية.

وهذا الكون، وبحسب ما يمكن استنتاجه من "النسبية العامة"، ينحني ويتقوَّس، الفضاء (بأبعاده الثلاثة) حَوْله، كانحناء وتقوُّس سطح كرة. وهذا إنَّما يعني أن لا فضاء، ولا مكان، غير هذا المنحني والمتقوِّس حَوْل "الكون المحدود"؛ لا فضاء، ولا مكان، في خارِج هذا المنحني والمتقوِّس حَوْل "الكون المحدود".

إذا انكمش الكون وتداعى وانهار على نفسه (وهذا هو مصير "الكون المُغْلَق") فهل يمكن، عندئذٍ، أن يواصِل الضوء (أو غيره من الجسيمات) سيْره نحو "الخارج"، أي إلى خارج حدود كوننا؟

هذا السؤال إنَّما يَفْتَرِض، أوَّلاً، وجود شيء ما في خارج كوننا.. وجود فضاء آخر (غير فضاء كوننا) أو فراغ واسع في ما وراء حدود كوننا.

وهذا الافتراض، ولو كان صحيحاً، لا يجيز توقُّع أن يغادِر الضوء كوننا عند انكماشه وانهياره على نفسه، فالكون الذي ينكمش ويتقلَّص وينهار على نفسه إنَّما هو "الكون المُغْلَق".

و"الكون المُغْلَق" إنَّما هو في معنى من أهم معانيه الكون الذي يحيط به "سور" قوي ومنيع من "الجاذبية"، فلا يتمكَّن أي شيء حتى الضوء من اختراقه نحو الخارِج.

إنَّه ليس بـ "سورِ"، بالمعنى الحرفي للكلمة؛ ولكن "الجاذبية" في "الكون المُغْلَق" هي من القوَّة والشدَّة بمكان؛ ويَنْتُج عن قوَّتها وشدَّتها أنَّ مسارات الضوء (وغيره من المادة) تنحني نحو "الداخل الكوني"، فيسير الضوء (وغيره من المادة) إلى حيث يَحْدُث "الانسحاق العظيم" Big Crunch.

و"انحناء المسارات" إنَّما هو نتيجة حتمية لانحناء الفضاء الكوني انحناءً تاماً حَوْل كتلة الكون، أو لالتفافه حَوْلها.

تخيَّل أنَّ الفضاء (أو المكان) هو مياه تنتشر على مساحة واسعة من سطح الأرض، وأنَّ سَمَكاً يعيش في هذه المياه. إذا حدثت حفرة واسعة عميقة على سطح الأرض فإنَّ كل هذه المياه ستتجمَّع وتتركَّز فيها؛ وعلى السَمَك، بالتالي، أن يتجمَّع ويتركَّز حيث تجمَّعت وتركَّزت المياه، فليس هناك الآن من مياه أخرى يذهب إليها السَمَك.

إنَّ "كل" الفضاء (أو المكان) يتجمَّع ويتركَّز حَوْل كتلة الكون، ولم يبقَ، بالتالي، من مكان آخر يسير فيه الضوء، أو يذهب إليه، فالسيْر إنَّما هو سيْر في "مكان".

ما "نراه"، في الكون، إنَّما هو فحسب ما "نتأثَّر به". إنَّنا لا نَقْدِر أن "نرى" ما وراء "أُفْق الكون"، فلا "نتأثَّر"، فيزيائياً، بالتالي، في أيِّ شيء (إذا ما كان موجوداً) يقع بعيداً عن "الأُفْق الكوني"، الذي هو الكون بَعْد 300 ألف سنة من ولادته، فإذا كان عُمْر الكون 20 بليون سنة فإنَّ "أُفْق الكون" هو ما يَقَعُ على بُعْد 19.3 بليون سنة ضوئية تقريباً. إنَّّه يَقَع حيث يَقَع الشيء الأبعد عنَّا.

ما "نراه" من أشياء في الكون، كالنجوم والمجرَّات..، هي وحدها الأشياء التي نتفاعل معها، أي نؤثِّر ونتأثَّر بها. وإنَّ كل شيء نقيسه يجب أن يكون في داخل الكون، وجزءاً منه.

بعض الأشياء، كـ "الثقوب السوداء"، لا يمكننا أبداً رؤيتها، لا بالعين المجرَّدة، ولا بالتليسكوب؛ ولكنَّنا نرى، أو يمكن أن نرى، تأثيرها (الجاذبيِّ) في أشياء (بجوارها) نستطيع رؤيتها.

"أُفْق الكون" و"عُمْره" إنَّما هما شيء واحد، فإذا كان "عُمْر" الكون 20 بليون سنة فإنَّ هذا يعني، بالضرورة، أنَّ أبْعَد شيء يمكن أن نراه يجب ألاَّ يبعد عن الأرض أكثر من 20 بليون سنة ضوئية. يجب أن يبعد عنَّا أقل، ولو بقليل، من 20 بليون سنة ضوئية.

أمَّا إذا اكْتَشَفْنا، مستقبلاً، وجود شيء يبعد عنَّا 21 بليون سنة مثلاً فهذا إنَّما يعني، أو يجب أن يعني، أمران: أنَّ هذا الشيء هو جزء لا يتجزأ من كوننا، وأنَّ عُمْر الكون يزيد، بالتالي، عن 20 بليون سنة.

"التليسكوب" هو حقَّاً "آلة الزمن"، التي بفضلها نستطيع السفر إلى "الماضي" فحسب، فأنتَ لو نظرتَ بتليسكوب إلى أي جسم كوني قريب منَّا، ولو كان القمر، فإنَّكَ تسافر إلى "الماضي"، أي إلى ماضي هذا الجسم.

على أنَّ التليسكوب، ومهما قوي، لا يرينا من الأجسام الكونية إلاَّ تلك التي وصل ضوءها إلى الأرض فعلاً من غير أن نتمكَّن من رؤيته بالعين المجرَّدة بسبب ضعفه؛ فهذه الآلة، أي التليسكوب، إنَّما تريكَ صورة شيء في متناول عينيكَ؛ ولكنكَ لا تستطيع رؤيتها.

إنَّ القمر الذي تراه "الآن" بواسطة التليسكوب إنَّما هو القمر في الهيئة التي كان عليها قبل نحو ثانية؛ ذلك لأنَّ القمر الذي تراه الآن بالتليسكوب هو "صورة" القمر التي "التقطتها" له "كاميرا" هذا "المصوِّر الكوني"، المسمَّى "الضوء"، والذي انطلق منه نحونا، بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، حاملاً إلينا تلك "الصورة" ليرينا إيَّاها. إنَّنا نرى الآن "صورة" الْتُقِطَت قبل نحو ثانية. لنتخيل، مثلاً، أنَّ المسافة الفاصلة بين القمر و الأرض تزداد اتساعا (تمدد الكون). سنظل، نحن سكان الأرض، نرى القمر، في استمرار، ولكننا سنراه كل مرة ليس في واقعه الفعلي الحالي، وإنما في واقعه الفعلي الماضي.. واقعه الفعلي قبل دقيقة، ثم قبل ساعة، ثم قبل سنة، ثم قبل مليون سنة.

الضوء الآتي إلينا من جسم كوني بعيد، أو من جسم كوني يمكن اعتباره الأبعد، إنَّما يشبه شخصاً نزل من قطارٍ يسير في اتِّجاه معاكِس لقطارنا، فالتقط "صورة" للقطار الذي نزل منه، ثم انطلق في اتِّجاه قطارنا بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة.

هذا الشخص ما أن نزل من قطاره، ونَظَرَ إلى المسافة الفضائية بينه وبين قطارنا، حتى توقَّع، واستناداً إلى سرعته أيضاً، أن يصل إلى قطارنا في زمن مقداره (بحسب ساعة قطارنا) 5000 مليون سنة، فإذا به يصل (بسبب تحرُّك قطارنا في الاتِّجاه ذاته) إلينا في زمن مقداره (بحسب ساعة قطارنا) 7000 مليون سنة.

عند وصوله أصبح قطاره يبعد عن قطارنا مسافة فضائية مقدارها 10000 مليون سنة ضوئية.

إذا نظرنا إلى "عدَّاد المسافات" الذي معه، أي مع ذلك الشخص، لعرفنا، على وجه اليقين، أنَّه قد قطع مسافة تعدل المسافة التي يقطعها الضوء في زمن مقداره (بحسب ساعة قطارنا) 7000 مليون سنة.

الضوء، على ما نَعْلَم، يقطع في الثانية الواحدة مسافة مقدارها 300 ألف كيلومتر؛ وهذا المسافة تسمَّى "ثانية ضوئية".

وعليكَ أن تعرف الآن مقدار المسافة الفضائية التي يقطعها الضوء في دقيقة، وفي ساعة، وفي يوم، وفي أسبوع، وفي شهر، وفي سنة، وفي مليون سنة، .. الخ.

أمَّا "الصورة" التي أرانا إيَّاها فهي إنَّما ترينا الهيئة التي كان عليها ذلك القطار (ومكانه) قبل 7000 مليون سنة.

الضوء ينتقل في الكون، أو في الفضاء، كما ينتقل شيء من نقطة إلى نقطة على محيط (أو سطح) دائرة. ما أن يصل الضوء من النقطة A إلى النقطة B حتى يكون محيط الدائرة قد ازداد اتِّساعاً (بسبب تمدُّد الكرة الكونية).

كانت المسافة بين النقطتين 100 مليون كيلومتر عندما غادر الضوء النقطة A فأصبحت 150 مليون كيلومتر عندما وصل النقطة B. لقد اجتاز مسافة متنامية (متمدِّدة، متَّسِعة).

ثمَّة تليسكوبات قوية متطوِّرة في مقدورها أن ترينا أشياء، أي "صور" أشياء، تبعد عنَّا 10 أو 15 بليون سنة ضوئية.

لنفتَرِض أنَّ مجرَّتنا وُلِدَت أو تكوَّنت قبل نحو 15 بليون سنة، فهل إذا نظرنا في السماء بواسطة هذا التليسكوب نستطيع رؤية مجرَّتنا عند ولادتها، أو في هيئتها القديمة؟

كلا، لا نستطيع، فنحن بواسطة التليسكوب يمكننا أن نرى "ماضي" كل الأجسام الكونية (المجرَّات والنجوم..) إلاَّ الجسم الكوني الذي منه ننظر إلى السماء. يمكننا أن نرى مجرَّة أخرى عند ولادتها قبل نحو 15 بليون سنة، وأن نراها، بالتالي، في هيئة تشبه الهيئة التي كانت عليها مجرَّتنا قبل نحو 15 بليون سنة. ولو كان في تلك المجرَّة شخص ينظر في السماء بواسطة تليسكوب مماثِل فإنَّه يستطيع أن يرى مجرَّتنا في ماضيها السحيق، أي أن يرى مجرَّتنا عند ولادتها.

إنَّنا نستطيع، بواسطة التليسكوب، أن نرى "ماضي" كل الأشياء في الكون، والمتفاوت في "عُمْقه"، إلاَّ ماضينا نحن، أي ماضي كوكبنا، ونظامنا الشمسي، ومجرَّتنا.

ونحن نشتَرِك مع كل "المراقبين الكونيين" في أمر واحد هو العجز المُطْلَق عن رؤية أي شيء، أو حادث، وُجِد، أو حدث، قبل أن يبلغ عًمْر الكون 300 ألف سنة؛ لأنَّ "المصوِّر الكوني"، أي "الضوء"، مع "كاميرته"، كان عاجزاً عن "التصوير".

إذا نظرتَ بتليسكوب إلى كوكب بعيد، نشأ قبل 1000 مليون سنة، ويبعد عن الأرض 30 ساعة ضوئية فإنَّكَ ترى هذا الكوكب الآن في الهيئة التي كان عليها في الماضي، أي قبل 30 ساعة. إنَّكَ لن تتمكَّن الآن، ولو نظرتَ إليه بأقوى تليسكوب لديكَ، من أن تراه في الهيئة التي كان عليها قبل ملايين السنين.

في أيِّ اتِّجاه تُوجِّه تليسكوبكَ لن ترى هذا الكوكب في الهيئة التي كان عليها قبل مليون سنة مثلاً. لن تتمكَّن حتى من أن تراه في الهيئة التي كان عليها قبل 31 ساعة. إنَّكَ، "دائماً"، تراه في الهيئة التي كان عليها قبل 30 ساعة فقط، فـ "صورته"، التي تصل الآن إلى عينيكَ، عبر التليسكوب، لا يمكن أن يزيد عُمْرها عن 30 ساعة.

أنتَ تعرف، مثلاً، الهيئة الني كانت عليها الشمس قبل 10 ساعات، أو قبل 10 أيَّام، أو قبل 10 سنوات؛ ولكنَّكَ الآن، حيث تَنْظُر إلى الشمس، لا تستطيع أن تراها إلاَّ في الهيئة التي كانت عليها قبل نحو 8 دقائق.

في المستقبل، والمستقبل البعيد، فحسب، يصبح في مقدوركَ أن ترى ذلك الكوكب في الهيئة التي كان عليها، ليس قبل 30 ساعة، وإنَّما قبل 31 ساعة مثلاً، فتمدُّد الفضاء يُوسِّع، في استمرار، المسافة بينكَ وبين هذا الكوكب. وبعد 1000 مليون سنة، مثلاً، تقوم بتوجيه تليسكوبكَ نحو هذا الكوكب، فتراه في الهيئة التي كان عليها قبل 50 ساعة مثلاً.

تخيَّل أنَّ الجسم الكوني X قد نشأ وتكوَّن الآن على بُعْد أمتارٍ من مكانكَ، وأنَّ الفضاء بين مكانكَ وبينه قد شرع يتمدَّد.

منذ البدء وَصُوَر هذا الجسم تصل إلى عينيكَ. صورته (الضوئية) الأولى وصلت إلى عينيكَ بعد التقاطها له، أو انطلاقها منه، بنصف ثانية، مثلاً. وصورته الثانية وصلت إلى عينيكَ بعد انطلاقها منه بثانية.

وصول صُوَرِه لم ينقطع قط منذ البدء؛ ولكن "حداثة الصُوَر" تقلُّ في استمرار. إنَّها، أي صُوَرِه، تنقطع إذا ما تمزَّق هذا الجسم إرباً إرباً، أو إذا ما تمدَّد الفضاء بينكَ وبينه بسرعة تفوق سرعة الضوء.

معنى ذلك أنَّ الجسم الكوني الأبعد عنكَ "يُمْكِن" أن تَراهُ "دائماً" إذا ما امتلكتَ "الوسيلة".. تليسكوب قوي. إذا ما امتلكتَ هذا التليسكوب، الآن، ونظرتَ إلى السماء، فرأيته، فإنَّ هذا لا يعني أبداً أنَّ صورته قد وصلت إليكَ "الآن".

كانت موجودة منذ البدء، أو منذ القِدَم؛ ولكن لم يكن في وسعكَ أن تراها، أي أن تَسْتَجْمِع ما يكفي من ضوء هذا الجسم، من خلال تليسكوب قوي.

أمَّا إذا وقع حادث ما في هذا الجسم الكوني "الآن" فلن ترى صورته إلاَّ بعد آلاف الملايين من السنين.

ولْتَتَخَيَّل ما يمكن أن يكون هذا الجسم الكوني الأبعد (الذي في مقدوركَ أن تَراهُ الآن إذا ما امتلكتَ الوسيلة) إذا ما كنتَ أنتَ وهو على سطح بالون ضخم.

أجزاء الكون الأساسية، أو "جُزُرُه"، أو "عناقيد المجرَّات" فيه، كانت متجاورة، قريبة من بعضها بعضاً، عندما كان الكون صغير العُمْر، فَلْنَتَخَيَّل الآتي: أنا الآن (أي عندما كان الكون طفلاً) في الجزيرة A؛ وأنتَ في الجزيرة B التي تبعد عن جزيرتي 300 ألف كيلو متر.

إنني أرى بعيني المجرَّدة جزيرتكَ. أرى صورتها التي حملها إليَّ الضوء المنطلق من جزيرتكَ. أرى تلك الصورة فأقول إنَّها صورة حال جزيرتكَ قبل ثانية واحدة من رؤيتي لها.

الجُزُر في تباعد مستمر. وعليه، أرى الصورة الثانية لجزيرتكَ فأقول إنَّها صورة حال جزيرتكَ قبل ثانية ونصف الثانية من رؤيتي لها. ثمَّ أرى الصورة الثالثة. إنَّها صورة حال جزيرتكَ قبل ثانيتين من رؤيتي لها. ثمَّ أرى الصورة العاشرة. إنَّها صورة حال جزيرتكَ قبل 5 ثوانٍ من رؤيتي لها. ثمَّ أرى صورةً لها، فأرى حال جزيرتكَ قبل مليون سنة من رؤيتي لها. وها أنا أرى صورة جزيرتكَ التي أرى فيها حالها قبل 18 ألف مليون سنة.

لقد انقضى هذا المقدار الهائل من الزمن (18 ألف مليون سنة) وأنا أشاهِد في استمرار صُوَر جزيرتكَ، والتي لا يمكنني الآن أن أراها (أي تلك الصُوَر). لقد رأيتُ من قبل، أي قبل 18 ألف مليون سنة صورة جزيرتكَ وهي في طور الطفولة؛ ولن أتمكَّن الآن من أن أرى تلك الصورة مرَّة ثانية.

ويمكن أن افْتَرِض أنَّ الحال الفعلية لجزيرتكَ الآن لا تختلف كثيراً عن الحال الفعلية لجزيرتي الآن والتي أراها بعيني المجرَّدة.

مهما ابتعدت جزيرتكَ عن جزيرتي فأنا دائما أرى آخر وأحْدَث صورة لحال جزيرتكَ؛ إنَّني لن أرى أبداً ما قبلها من صُوَر، فما رأيتُهُ لن أراهُ ثانيةً.

"الصورة" في تأخُّر مستمر ومتزايد. إنَّ وصولها إلى عينيَّ يتأخَّر أكثر فأكثر عن زمن التقاطها.

ولكن، لماذا لم نَرَ حتى الآن جسماً كونياً يبعد عنَّا 50 بليون سنة مثلاً؟

هل السبب هو افتقارنا إلى "عين اصطناعية قوية ومتطوِّرة".. أم أنَّ السبب هو أنْ لا وجود لجسم كوني كهذا؟

إنَّ أحداً لا يمكنه حتى الآن أن يجيب عن هذا السؤال إجابة قاطعة حاسمة.

افْتَرِض أنَّ جسماً كونياً بعيداً جدَّاً، يبعد عن كوكب الأرض مليون سنة ضوئية. إنَّكَ تنظر عبر التليسكوب فتراه.. ترى "صورته القديمة"، أي تراه في الهيئة التي كان عليها قبل مليون سنة. وافْتَرِض أنَّ هذا الجسم يمارس تأثيراً فيزيائياً وجاذبياً على كوكب الأرض. إنَّكَ تراه الآن؛ وإنَّه يمارس تأثيره هذا الآن أيضاً.

هذا الكوكب يمكن أن يكون قد تمزَّق إرباً إرباً قبل 100 ألف سنة مثلاً؛ ومع ذلك فهو ما زال يمارِس تأثيره الفيزيائي والجاذبي على كوكب الأرض.

وهذا إنَّما يعني أنَّ "حاضر" كوكب الأرض لا يتأثَّر (فيزيائياً وجاذبياً) بـ "حاضر" هذا الجسم الكوني، وإنَّما بـ "ماضيه". وعليه، يمكننا القول إنَّ "حاضر" كوكب الأرض يتأثَّر، فحسب، بـ "ماضي" الكون.

ولو نشأ "الآن"، على بُعْد 1000 سنة ضوئية، جسم كوني في مقدوره ابتلاع كوكب الأرض في ثانية واحدة، فإنَّ هذا الابتلاع لن يحدث الآن. إنَّه سيحدث بعد 1000 سنة، فـ "تأثير" ينتقل في الفضاء بـ "سرعة محدودة"، تعدل سرعة الضوء.

في الفضاء، "المكان (الموضع، الجسم)" الأبعد عنَّا، هو ذاته الأبعد عنَّا "زماناً"، أي الأبعد عن حاضرنا الأرضي؛ ولكن في اتِّجاه الماضي. إنَّه الأبعد في الماضي.

افْتَرِضْ أنَّ كوننا المتمدِّد كان "مُغْلَقاً"، فتوقَّف، بالتالي، عن التمدُّد، وشرع ينكمش ويتقلَّص، وأنَّ هذا "المسار المعاكِس"، أي الانكماش والتقلُّص، قد بدأ قبل 1000 سنة، فماذا نرى؟

كل جسم كوني يقع في خارج مجرَّتنا، وفي خارج مجموعة المجرَّات التي ننتمي إليها مع مجرَّتنا، ولكن يبعد عنَّا أقل من 1000 سنة ضوئية، سنرى ضوءه في اللون الأزرق؛ ذلكَ لأنَّه يتحرَّك مقترباً منَّا؛ وكل جسم كوني يبعد عنَّا أكثر من 1000 سنة ضوئية سنرى ضوءه في اللون الأحمر؛ ذلك لأنَّ ضوءه (الذي نراه الآن) قد انطلق منه عندما كان يتحرَّك مبتعداً عنَّا. إنَّنا نرى ضوءه في اللون الأحمر مع أنَّ كل الكون قد شرع ينكمش ويتقلَّص في اللحظة عينها.

كَوْنٌ أم أكوان؟

هل من وجود لكون آخر، أو لأكوان أخرى؟

القائلون، أو بعضٌ من القائلين، بنظرية "الانفجار الكبير"، يعتقدون بإمكانية وجود كون آخر، أو أكوان أخرى. وهُمْ في تصوُّرِهم لهذه الإمكانية يأتون بمثال "ماءٍ يغلي فتَظْهَر فيه فقاقيع".

والكون الآخر، بحسب تصوُّرهم المؤيَّد بهذا المثال، هو "فُقَّاعة"، أو "نُفَّاخة"، تَظْهَر، أو تنشأ، من "لا شيء"، أو من "الفراغ" Vacuum، فتتمدَّد وتَكْبُر، فتنفقيء (أو تختفي، أو تزول) سريعاً. وإنَّ "فقاقيع"، أو "أكوان"، تنشأ، أو تُخْلَق، في استمرار، من "لا شيء".

وكثيرٌ من هذه "الأكوان (أو الفقاقيع)" لا يدوم إلاَّ زمناً قصيراً؛ وكلٌّ منها جاء به إلى الوجود "انفجار كبير" Big Bang؛ ولكنَّه سرعان ما أخرجه من الوجود (أي أعاده إلى الفراغ Vacuum الذي منه جاء) حادث آخر هو "الانسحاق الكبير" Big Crunch. وهذا إنَّما يعني أنَّ حادث "الانفجار الكبير" قد حدث من قبل غير مرَّة، ولسوف يظل يحدث دائماً وفي استمرار.

ولكن، مِمَّ تتألَّف تلك الأكوان الأخرى؟

إنَّ كثيراً منها يتألَّف، على ما يقولون، من "بحرٍ من جسيمات الإلكترون والنيوترينو والفوتون".

وكل كون، وبحسب بعض من تعريف "الكون"، لا بدَّ له من أن يكون منفصلاً انفصالاً فيزيائياً مُطْلَقاً عن سائر الأكوان، وله "زمكانه" الخاص به.

ومع أنَّ مثال "الفقاقيع التي تَظْهَر في الماء عندما يغلي" يخلو تماماً مِمَّا يشير إلى ما يشبه خَلْقاً للمادة من العدم، الذي يسمُّونه أحياناً "لا شيء"، أو فراغ Vacuum، فإنَّهم يأتون به لإظهار وتوضيح فكرة "خلق أكوان (فقاقيع) من لا شيء"!

لقد تصوَّروا تلك الأكوان، أو بعضها، على أنَّها تتألَّف من بحرٍ من بعض الجسيمات"، التي منها "الإلكترون"، وهو من الجسيمات الأوَّلية (أو الأساسية) التي لها كتلة.

ونحن لو أمعنا النظر في هذا التصوُّر لتأكَّد لنا أنْ لا سند له حتى في ما يسمَّى "عملية إشعاع هوكينغ"، والتي لا يُسْتَنْتَج منها، أي من النظرية التي تتحدَّث عنها وتشرحها، أنَّ "الخرق المؤقَّت (غير المحسوس)" لقانون "حفظ المادة" يمكن أن يغدو "دائماً (وظاهراً)".

في "الفضاء الفارغ"، أو الفراغ Vacuum، تُخْلَق، في استمرار، "أزواجٌ من المادة والمادة المضادة"، كالإلكترون والبوزيترون. ولكنَّ هذه الأزواج تختفي من الوجود سريعاً، وقبل أن يلحظها، أو يشعر بها، قانون "حفظ المادة". إنَّها جسيمات متضادة "غير حقيقية". إنَّها "شبحية"، أو "طيفية"، تشبه "الظلال"، ولا تظل على قيد الحياة إلاَّ زمناً متناهياً في الضآلة.

في حالة واحدة فحسب، يمكن أن يتحوَّل أحد الجسيمين (الشبحيين) المتضادين إلى جسيم "حقيقي"، هي أن يظهر هذان الجسيمان على مقربة من "ثقب أسود".

في هذه الحالة، قد يسقط أحدهما في عمق "الثقب الأسود"، بسبب جاذبيته الهائلة، فيكتسب الجسيم الآخر (الذي بقي في الخارج) مقداراً من طاقة هذا "الثقب الأسود"؛ وبفضل هذا المقدار من الطاقة يتحوَّل الجسيم الشبحي الذي بقي في الخارج إلى جسيم "حقيقي"، أي إلى جسيم له كتلة، من غير أن يطرأ أي تغيير (زيادة أو نقصان) على مقدار المادة الكلِّي في الكون.

وفي نظرية "الفقاقيع"، أو في طريقة خَلْق "الفقاقيع (أو الأكوان الأخرى)"، ليس ثمَّة ما يوافِق نظرية "إشعاع هوكينغ" في جانبها الخاص بـ "خلق الكتلة"، أو "الجسيم الحقيقي".

إنَّهم، في نظرية "الأكوان ـ الفقاقيع"، يتحدَّثون عن أكوانٍ تتألَّف من جسيمات كجسيم الإلكترون (الذي له كتلة) وكأنَّهم يتحدَّثون عن خَلْقٍ للمادة من "العدم".

لقد نشأ كوننا بـ "انفجار"، يسمَّى "الانفجار الكبير" Big Bang، فهل حدثت "انفجارات أخرى"، فانبثقت منها "أكوان أخرى"؟

إنَّ "الانفجار" لا يكون مُنْتِجاً لـ "كون" إلاَّ إذا كان "مُنْتَجَهُ" شيئاً منفصلاً تماماً من الوجهة الفيزيائية، أي لا يتفاعل، ولا يتبادل التأثير، مع أي شيء آخر، أي مع أيِّ كون آخر.

وثمَّة كوزمولوجيون يقولون بفرضية مؤدَّاها أنَّ "انفجارات كونية" كثيرة؛ ولكن أصغر من "الانفجار الكبير"، قد وقعت، فانبثقت منها "أكوان صغيرة".

كوزمولوجيون آخرون يعتقدون الآن بأنَّ "بذور" أكوان أخرى قد بُذِرَت، وتُبْذَر، في "أرض كوننا"، وبأنَّ الأكوان التي نمت، وتنمو، من هذه "البذور" قد انفصلت نهائياً عن كوننا، أي عن "الكون الأُم"، فليس ممكناً الاتِّصال بينها وبين كوننا. إنَّها أكوان لا يمكن أبداً ملاحظتها، أو اكتشافها، أو رؤيتها، وكأنَّها غير موجودة بالنسبة إلينا.

الكون، كل الكون، كل شيء، إنَّما يقع على "السطح" من البالون الكوني الضخم. كل ما يقع على هذا السطح يمكننا الاتِّصال به، والتفاعل وتبادل التأثير معه. كل ما لا يقع على هذا السطح ليس بجزء من كوننا، فلا يمكننا أبداً الاتِّصال به، أو التفاعل وتبادل التأثير معه.

الكون، وفي هذا المعنى، يجب أن يكون واحداً موحَّداً. ولكن، هل معنى هذا أنَّ "الشيء الموجود" هو فحسب الشيء الذي يمكننا الاتِّصال به، والتفاعل وتبادل التأثير معه؟

كلاَّ، فثمَّة، على ما أعتقد، أشياء، ومنظومات ونُظُم كونية، لا يمكننا أبداً الاتِّصال بها، أو التفاعل وتبادل التأثير معها؛ ومع ذلك فهي موجودة موضوعياً، فكل ما يمكننا الاتِّصال به إنَّما هو شيء موجود بالفعل؛ ولكن ليس كل ما هو موجود بالفعل يمكننا الاتِّصال به.

كل ما يؤثِّر فينا فيزيائياً يجب أن يكون موجوداً؛ ولكن ليس كل ما هو موجود (وجوداً حقيقياً، فعلياً، موضوعياً) يجب أن يؤثِّر فينا فيزيائياً، فالموجود من المادة، أو من العالم المادي، على نوعين: نوع يؤثِّر فينا فيزيائياً، ونوع لا يؤثِّر (أو لا يمكنه أبداً أن يؤثِّر) فينا فيزيائياً.

إنَّ عجزي الموضوعي (والفيزيائي) عن الاتِّصال بشيء ما لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ هذا الشيء ليس بموجود فعلاً. إنَّه موجود فعلاً؛ وإن كنتُ لا أملك من دليل محسوس على وجوده.

وأحسب، أيضا، أنْ لا بدَّ من تخفيف حِدَّة القطعية في قولهم باستحالة الاتِّصال، أو التفاعل وتبادل التأثير الفيزيائي، مع عوالم أخرى، فالقول بهذا إنَّما هو أقرب إلى الميتافيزيقيا منه إلى الجدلية.

في كوننا، سِرْ، "مستقيماً"، في الاتِّجاه نفسه (إلى الأمام، أو إلى الوراء، إلى اليمين، أو إلى اليسار، إلى أعلى، أو إلى أسفل) تَرْجِعْ إلى النقطة التي منها انطلقت.

مركز "التمدُّد الكوني"، أو مركز "كوننا المتمدِّد"، ليس موجوداً في كوننا؛ لأنَّه ليس بموجود على السطح من بالوننا الكوني المتمدِّد.

كل فضاء لا يقع على سطح بالوننا الكوني، ولا يمكننا، بالتالي، الاتِّصال به، إنَّما هو الـ "ما ورائي (من الفضاء)" Hyperspace. إنَّه كل فضاء لا يُعَدُّ جزءاً لا يتجزَّأ من فضاء كوننا، ولا يمكننا أبداً، ولأسباب موضوعية (فيزيائية) صرف، إثبات وجوده.

خَلْق "الزمان ـ المكان"، أو "الزمكان"، Space – Time، عَبْر "الانفجار الكبير"، إنَّما يعني، بحسب منطق نظرية "الانفجار الكبير، أنَّ "كوننا" في حالٍ من الانفصال الفيزيائي المُطْلَق عن كل كون آخر، وعن كل فضاء آخر، إذا ما افترضنا وجود كون آخر، أو فضاء آخر.

إنَّ كل "زمكان آخر" لا يمكننا أبداً معرفته، أو الاتِّصال به في أيِّ شكل من أشكال الاتِّصال الفيزيائي؛ لا يمكننا أبداً التفاعل، أو تبادل التأثير الفيزيائي، معه، فكوننا لا يؤثِّر فيه أبداً، ولا يتأثَّر فيه أبداً.

أقْدَمُ شيء يمكن أن نراه في الكون، عَبْر التليسكوب، إنَّما هو الشيء الذي نشأ بعد نحو 300 ألف سنة من "الانفجار الكبير"، فأيُّ حادث حدث قبل ذلك لا يمكننا أبداً رؤيته.

وهذا إنَّما يعني، أيضاً، أنَّ "الانفجار الكبير" نفسه لا يمكننا أبداً رؤيته. أمَّا السبب فهو أنَّ الكون القديم، أي الذي كان عُمْره أقل من 300 ألف سنة، كان مُعْتِماً، غير شفَّاف؛ لأنَّه كان يتألَّف من "مادة متأيِّنة".

لقد كان يتألَّف من "مادة لا ذرِّية"، أي من نوى ذرَّات الهيدروجين والهيليوم التي لم تأسْر بَعْد إلكتروناتها؛ لأنَّ الكون لم يكن قد برد بَعْد بما يكفي (كانت درجة حرارته تزيد عن 3000 درجة كالفن) لإنهاء وجود "الإلكترونات الحُرَّة"، أي الإلكترونات التي لم تنضم بَعْد إلى نوى تلك الذرَّات لتكوين "المادة الذرِّية". وانتشار "الإلكترونات الحُرَّة"، أو اكتظاظ الفضاء بها، هو الذي جعل الكون، أو الفضاء، مُعْتِماً، غير شفَّاف، فالفوتون (أو جسيم الضوء) ما أن ينطلق حتى تفترسه الوحوش الإلكترونية الحُرَّة الطليقة.

بعد 300 ألف سنة من "الانفجار الكبير" أصبح الفضاء شفَّافاً، وأصبح السير فيه آمناً بالنسبة إلى الفوتونات، فقد اتَّسَع، وبرد، بالتالي، بما يكفي لتمكين نوى ذرَّات الهيدروجين والهيليوم من أسْر الإلكترونات الحُرَّة.

إذا كان عُمْر الكون 20 بليون سنة، وإذا ما كان ضوء هذا الجسم الكوني الذي نراه الآن يُخْبرنا أنَّه قد وصل إلى عيوننا (الآن) بعدما قطع مسافة 19 بليون سنة ضوئية، فما الذي نَعْرِف من ذلك على وجه اليقين؟

نَعْرِف فحسب أنَّ هذا الضوء (الذي نراه الآن) قد اجتاز (في طريقه إلينا) مسافة 19 بليون سنة ضوئية، وأنَّه قد انطلق من ذلك الجسم الكوني بعد "الانفجار الكبير" بنحو 1000 مليون سنة (= بليون سنة).

إنَّنا لا نَعْرِف من ذلك، وليس في مقدورنا أنْ نَعْرِف، إلاَّ الأمر الآتي: إنَّ ذلك الجسم الكوني كان قبل 19 بليون سنة في الهيئة، أو الحال، أو الصورة، التي نراه عليها الآن.

ونحن، مهما طوَّرنا تليسكوباتنا، لن نرى أبداً ما وراء "أُفْق الكون"، فالأشياء التي كانت موجودة، والحوادث التي وقعت، قبل أن يبلغ عُمْر الكون 300 ألف سنة، لن نرى أبداً "صُوَرِها".

ولو رأيْنا شيئاً، ثَبُتَ لنا أنَّ عُمْره يزيد عن عُمْر الكون، فلا بدَّ لنا، عندئذٍ، من أن نزيد عُمْر الكون، فالكون لا يمكن أن يكون أصغر عُمْراً من محتواه من الأشياء والأجسام. وحتى الآن لم يكتشف الفلكيون شيئاً في الكون (نجماً أو مجرَّة..) أقدم وجوداً من الكون نفسه، أي يزيد عُمْره عن عُمْر الكون الذي نَفْتَرِض.

توصُّلاً إلى تصوُّر كوزمولوجي مضاد

مِنْ شيء ليس كمثله شيء، وعَبْرَ (من خلال، بفضل) انفجار ليس كمثله انفجار (Big Bang) نشأ، أو وُلِدَ،الكون، أو كوننا، قبل 20 (أو 18، أو 13) ألف مليون سنة، أي عند نشوء، أو ولادة، الزمن نفسه.

ومُذْ نشأ كوننا وهو في تمدُّد مستمرٍ؛ وهذا التمدُّد هو الآن، على ما يُقال، في تسارُعٍ (تزايد). وتمدُّد الكون (توسُّعه أو اتِّساع حجمه) إنَّما هو ذاته تمدُّد الفضاء، فكل "مجموعة (Cluster) من المجرَّات" تبتعد (وتتسارَع ابتعاداً الآن) عن سائر "المجموعات"؛ لأنَّ الفضاء بين "مجموعات المجرَّات" هو الذي يتمدَّد.

وبحسب مثال "البالون قَيْد النَفْخ (أو التمدُّد)"، ليس الكون (كل الكون.. كل المادة والكتلة والطاقة والنجوم والمجرَّات وعناقيد المجرَّات والفضاء والفراغ والمكان والزمان..) سوى "السطح الخارجي" من هذا "البالون"؛ وهذا "السطح"، أو "الغشاء المطَّاطي للبالون"، هو "المكان" بأبعاده الثلاثة (الطول، والعَرْض، والارتفاع) والذي يَضُم (ويجب أن يَضُم) كل شيء. ولو وُجِدَ "شيءٌ" في خارج هذا "المكان"، أي في خارج حدود "السطح الخارجي للبالون الكوني"، فلن يكون جزءاً من كوننا؛ لأنَّ تأثيره (الفيزيائي) في كوننا، أو تأثير كوننا فيه، هو ضرب من المستحيل.

لقد رَأيْنا، بدءاً من هابل، ما يقيم الدليل على أنَّ "البالون الكوني" يتمدَّد، أي يَكْبُر حجماً. وأنتَ يكفي أنْ ترى "بالوناً يتمدَّد" حتى تَسْتَنْتِج أنَّ هذا "البالون المتمدِّد" كان في حجمٍ أصغر. وقد تقول، في استنتاجِكَ، أنَّ حجمه كان أصغر عشر مرَّات، أو مائة مرَّة، أو مليون مرَّة.

إنَّكَ حتى الآن لم تَخْرُج من حيِّز "الفيزياء" و"التفكير الفيزيائي"؛ لأنَّكَ لم تصل بَعْد، في استنتاجِكَ، إلى "الإلغاء المُطْلَق" لـ "الحجم"، كأنْ تقول إنَّ حجم هذا "البالون" يمكن أن يتقلَّص، وينكمش، ويتضاءل، حتى يغدو "صفراً"، أي حتى يصبح البالون "عديم (أو صفري) الحجم".

أُنْظُرْ إلى هذه الكرة المطَّاطية الضخمة. إنَّ لها "كتلة"، و"حجماً"، و"كثافةً". اضْغطها الآن، واسْتَمِر في ضَغْطها، فترى الآتي: كتلتها لم تزدد ولم تنقص، حجمها تقلَّص وازداد تقلُّصاً، كثافتها، بالتالي، زادت واستمرت في الازدياد.

نظرياً، يمكنكَ الاستمرار في ضغطها حتى يصبح حجمها أصغر عشر مرَّات، أو مائة مرَّة، أو مليون مرَّة، أو بليون مرَّة. إذا ما أصبح حجمها أصغر بليون مرَّة فإنَّ كتلتها لن تتغيَّر، زيادةً أو نقصاناً؛ ولكنَّ كثافتها تَعْظُم كثيراً. إنَّكَ مهما ضغطتها لن تتوصَّل أبداً إلى "شيء عديم الحجم"، أي إلى "شيء عديم الأبعاد الثلاثة للمكان". لن تتوصَّل أبداً إلى "شيء مُطْلَق الكثافة، عديم الحجم"، فليس من وجود لـ "الكتلة"، و"الكثافة"، في "شيء عديم الحجم (أو عديم المكان، أو الأبعاد الثلاثة للمكان)".

هُمْ، أي أصحاب نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang والقائلون بها، أو "البانْغِيُِّون"، وحدهم كانت لديهم الجرأة على القول بولادة الكون من "شيء مُطْلَق الكثافة عديم الحجم" Singularity. ولقد سَمُّوا هذا "الشيء"، أو "النقطة"، "البيضة الكونية" Cosmic Egg.

نظرياً، لستُ ضدَّ نظرية، أو فرضية، "البيضة الكونية"، على أنْ يُنْظَر إليها على أنَّها "شيء له حجم"، فهي يمكن أن تكون "نقطة في منتهى الضآلة والصِغَر حجماً، وفي كثافةٍ هي العظمى، وتشتمل على مادة الكون كلها، أي على كل كتلة وطاقة الكون". لستُ ضدَّها؛ ولكنني ضد أنْ يُنْظَر إليها على أنَّها نسخة من ذلك "الكائن الخرافي (الوهمي، الميتافيزيقي)"، المسمَّى "سينغيولاريتي" Singularity.

ولكن دَعُونا، أوَّلاً، نتحدَّث عن الـ "سينغيولاريتي" في "الثقب الأسود" Black Hole.

أُنْظُرْ إلى هذا الجسم الكوني على أنَّه "جسم كروي"، أو "كرة". إنَّه يتألَّف من أجزاء ثلاثة هي: "المركز" و"السطح" و"ما بينهما".

"المركز (أو النواة)" هو ما يسمُّونه الـ "سينغيولاريتي". إنَّه "نقطة مُطْلَقة الكثافة عديمة الحجم". افْتَرِضْ أنَّ الشيء الذي تحوَّل إلى "ثقب أسود" كان يَزِن 100 غرام. إنَّ كل هذا المقدار من المادة (100 غرام) يُوْجَد الآن في تلك "النقطة" فقط.

"السطح"، أو "المحيط"، أو "الغلاف"، هو ما يسمُّونه "أُفْق الحدث" Event Horizon. و"الجزء الثالث" إنَّما هو "المنطقة" التي تتوسَّط "المركز" و"السطح". وهذه "المنطقة" هي التي يمكن أن تَتَّسِع، أو تتقلَّص، حجماً، فـ "نصف القطر" المسمَّى "نصف قطر شفارز تشايلد The Schwarzschild radius"، والمُمْتَد من "المركز" إلى "السطح"، يمكن أن يطول أو يقصر، بحسب مقدار المادة الذي يشتمل عليه "المركز"، فكلَّما زاد مقدارها اتَّسَع "نصف القطر".

نظرياً، كل مقدارٍ من المادة يمكن أن يتحوَّل إلى "ثقب اسود" إذا ما ضُغِطَ إلى حدٍّ معيَّن، فالشمس تصبح "ثقباً أسود" إذا ما ضُغِطت (رُكِّزَت، كُثِّفَت) كتلتها إلى حدٍّ معيَّن، أي إلى حدٍّ يصبح عنده "نصف قطرها" 3000 متر. أمَّا كوكب الأرض فيجب أن يصبح "نصف قطره"، عندما تُضْغَط كتلته، أقل من 3000 متر بكثير، وبكثير جدَّاً، قبل، ومن اجل، أن يتحوَّل إلى "ثقب أسود".

لا شيء، ولو كان الضوء، أو "الفوتون"، يمكنه مغادرة "الثقب الأسود"؛ لأنَّ مغادرته له تقتضي أن يسير بسرعة تفوق سرعة الضوء، التي هي 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ وليس من شيء في الطبيعة يمكنه السير بسرعة تفوق سرعة الضوء. إنَّ سرعة الإفلات من قبضة جاذبية "الثقب الأسود" تزيد، أي يجب أن تزيد، عن 300 ألف كيلومتر في الثانية.

وكل شيء يَدْخُل إليه، أي يجتاز "أُفْق الحدث" نحو "المركز"، لن يتمكَّن أبداً من مغادرته، ولا بدَّ له من أن يُسْحَق في الـ "سينغيولاريتي"، أي في مركز "الثقب الأسود".

الآن، تَخيَّلْ أنَّ الشمس قد تحوَّلت إلى "ثقب أسود". كتلتها لم تَزِدْ ولم تنقص؛ ولكن "نصف قطرها (بوصفها "ثقباً أسود")" تضاءل كثيراً، وكثيراً جداً، حتى أصبح لا يزيد عن 3000 متر. كل كتلتها إنَّما تتركَّز الآن في "مركزها"، الذي هو "نقطة مُطْلَقة الكثافة عديمة الحجم". قَلِّلْ الآن تلك الكتلة. اجْعَلْها، مثلاً، أصغر بنحو 50 في المائة. إنَّ "نصف قطر" الشمس، بوصفها "ثقباً أسود"، يصبح، عندئذٍ، 1500 متر. زِدْ الآن كتلتها. اجْعَلْها، مثلاً، أكبر مرَّتين. إنَّ "نصف قطر" الشمس، بوصفها "ثقباً اسود"، يصبح، عندئذٍ، 6000 متر. وكلَّما زادت كتلة "الثقب الأسود"، من خلال ما يَدْخُل إلى "فمه" من مادة، زاد "نصف قطره"، أي زاد "حجمه". ولكنَّ زيادة حجمه لا تعني زيادة حجم مركزه؛ لأنْ ليس لمركزه من "حجم" حتى يزيد أو يقل.

إذا جِئْتَ بكل مادة الكون، وأدْخَلْتَها في "فم" الشمس التي أصبحت "ثقباً أسود"، فإنَّها (أي كل مادة الكون) تُسْحَق في "معدتها"، أي في "مركزها. إذا حَدَثَ ذلك فإنَّ "نصف قطر" هذا "الثقب الأسود" يَتَّسِع أكثر. أمَّا "مركزه" فيظلُّ "عديم الحجم مُطْلَق الكثافة"؛ ولكنَّ ثقله يصبح بثقل الكون كله. إنَّ "الثقب الأسود"، ولو كان في منتهى الضآلة حجماً (أي نصف قطرٍ) وثقلاً، أو كتلةً، هو وحده الجسم الذي في مقدوره، نظرياً، أن يشتمل في "مركزه (مُطْلَق الكثافة عديم الحجم)" على كل مادة الكون، وأن يظل، في الوقت نفسه، "ثقباً أسود".. أصبح "أثقل"، وأضخم في "نصف قطره".

بحسب هذا التصوُّر الميتافيزيقي (أساساً) لـ "الثقب الأسود" يمكن فَهْم "البيضة الكونية" على أنَّها "النقطة مُطْلَقة الكثافة عديمة الحجم"، التي، لكونها كذلك، اشْتَمَلَت على كل مادة الكون، أي على كل كتلته وطاقته، فَعَدَلَت الكون ثقلاً ووزناً.

وهذه "البيضة" ليست "ثقباً أسود" كاملاً مكتملاً، فهي ليست بجسمٍ، أو جسيمٍ، يتألَّف من الأجزاء الثلاثة التي يتألَّف منها "الثقب الأسود". إنَّها ليست بشيء كروي، له "مركز"، و"سطح (أو محيط)"، و"نصف قطر". إنَّها فحسب "سينغيولاريتي" عاريةً مجرَّدةً، أي "نقطة مُطْلَقَة الكثافة، عديمة الحجم، تشتمل على كل مادة الكون". إنَّها "الثقب الأسود" وقد مُسِخَ أكثر، ففيها، أي في "البيضة الكونية"، مَسَخَت الميتافيزياء الفيزياء أكثر كثيراً مِمَّا مَسَخَتْها في "الثقب الأسود".

بفضل "انفجارٍ" جاء "الكون" من "بيضة". وأنتَ يكفي أنْ تُمْعِن النظر في "البيضة" و"الانفجار"، أي في تصوُّرِهم لهما، حتى تتوصَّل إلى الاستنتاج الآتي: "البيضة" هي "العدم"، و"الانفجار" هو "الله".

إنَّني، وبفضل نظرية "الانفجار الكبير"، استطيع أنْ أُعَرِّف "العدم" Nothingness على أنَّه "النقطة (أو "الشيء") مُطْلَقَة الكثافة، عديمة الحجم، والتي تَعْدل الكون ثقلاً أو وزناً"!

وبفضلها، أيضاً، أستطيع أنْ أُعَرِّف "الله"، "فيزيائياً"، على أنَّه "الانفجار الكبير" Big Bang الذي أخْرَجَ الكون، أي كل شيء، من هذا "العدم"، أي من هذه "البيضة"، إلى الوجود، فهذا "الخالِق"، الفيزيائي القالب، الميتافيزيائي القلب، هو الذي خَلَقَ من تلك "البيضة"، أي من الـ "لا شيء"، كل شيء.. المادة والزمان والمكان والفضاء!

دَعُونا الآن نضع "بيضتهم"، أي "البيضة الكونية"، تحت "المجهر"، فما الذي يمكن أن نراه؟

أوَّلاً، لن نرى (وهذا أوَّل ما نرى) فيها أي نوع من المادة التي لها "كتلة سكون" Rest Mass كجسيمي "الكوارك" و"الإلكترون"، ففي "نقطة عديمة الحجم" لا وجود، بحسب وجهة نظر "المنطق"، لأيِّ شيء له "كتلة" و"حجم" كـ "الكوارك" و"الإلكترون".

و"الكتلة"، أي "كتلة السكون" هي الحاجز الفيزيائي الذي لا يمكن تخطيه أبداً، والذي يَحُول بين الجسم، أو الجسيم، وبين سيره بسرعة الضوء. و"الطاقة" يكفي أن تتركَّز، وتتكثَّف، وتتجمَّد، حتى ينشأ لدينا جسيم لا يمكنه أبداً السير بسرعة الضوء.

هل نرى فيها مادةً على شكل "فوتون" مثلاً؟

كلاَّ، لا يمكن أن نرى، فجسيم "الفوتون" لا وجود له إذا ما توقَّف عن الحركة. هذا الجسيم لا يملك "كتلة سكون"؛ ولكنَّه يملك "كتلة حركة"، أي كتلة متأتية من حركته فحسب. إنَّه يتحرَّك في الفراغ، أو الفضاء، بسرعة 300 ألف كيلومترٍ في الثانية؛ وليس في مقدوره أبداً أن يتحرَّك بسرعة أكبر. أمَّا في بعض المواد، كالزجاج والماء، فينتقل بسرعة تقل قليلاً عن 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ ولكنه ما أن يَخْرُج منها إلى الفراغ، أو الفضاء، حتى يستأنف السير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية. هذا الجسيم، والذي يسمَّى "جسيم الضوء"، يكفُّ عن الوجود إذا ما توقَّف عن الحركة، أي عن الانتقال في المكان، فكيف له أن يُوْجَد في "البيضة الكونية"، حيث لا وجود لـ "فضاء (أو مكان)" يتحرَّك فيه؟!

الإلكترون إذا سكن، أي توقَّف عن الحركة، يظل موجوداً، وعندئذٍ، لا يبقى لديه من الكتلة إلاَّ ما يسمى "كتلة السكون"، أي مقدار كتلته وهو في حالٍ من السكون. وهذا المقدار من الكتلة إنَّما يعدل مقداراً من الطاقة (المجمَّدة) هو أقل مقدار يحتاج إليه هذا الجسيم حتى يُوْجَد. أمَّا الفوتون فإنَّه يكفُّ عن الوجود إذا ما توقَّف عن الحركة. إنَّه لا يملك كتلة سكون فهو لا يمكن أن يُوْجَد إذا ما كان في حالٍ من السكون.

إنَّ كل جسيم لا يملك "كتلة سكون" ينبغي له أن يسير في الفراغ بسرعة لا تقل، ولا تزيد، عن 300 ألف كيلومتر في الثانية. أمَّا المادة التي تملك "كتلة سكون" فلا يمكنها أبدا، ومهما تسارعت، أن تسير بسرعة الضوء.

والفوتون يملك خاصية "القصور الذاتي" Inertia، فهو من تلقاء نفسه لا يمكنه أبداً تغيير سرعته الثابتة المنتظَمة، أي لا يستطيع أن يقلِّلها، كما لا يستطيع الخروج عن الاستقامة في خطِّ سيره. إنَّه في هذه الخاصية كمثل كل مادة لها "كتلة سكون".

المادة "عديمة الكتلة" لا وجود لها، أو تكف عن الوجود، فالمادة إمَّا أن تكون لها "كتلة سكون"، وإمَّا أن تكون لها كتلة متأتية من حركتها في المكان. هذه الكرة الواقفة على سطح طاولة لها "كتلة سكون"، فإذا تحرَّكت أُضيف إليها مقدار من الكتلة متأتٍ من حركتها، أي أنَّ كتلتها العامَّة تزيد. وهذا الفوتون يتحرَّك بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، فهو، بالتالي، يملك كتلة متأتية من حركته، فإذا توقَّف عن الحركة، لن يظل موجوداً.


هل نرى فيها، أي في تلك "البيضة الكونية"، مادة على شكل "طاقة خالصة"؟

لإجابة هذا السؤال لا بدَّ من إجابة سؤالٍ آخر قبله، هو هل من وجود لطاقة "مجرَّدة"، أي غير محمولة في فوتونات؟

إنَّ الطاقة، على ما نعلم، يجب أن تُحْمَل وتُنْقَل في (أو على متن) جسيمات من النوع الذي ليس له "كتلة سكون"، وينبغي له، بالتالي، أن يسير في الفراغ، أو الفضاء، بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية. و"الطاقة" إنَّما تكون على هيئة "رِزَم منفصلة"؛ وكل "رِزْمَة (حَزْمَة، صُرَّة، عُلْبَة)" تسمَّى "فوتون"؛ وحجم الرِزْمَة (أو الفوتون) متناهٍ في الصِغَر.

الشيء (أو الجسيم) يمكن ويجب تصوره على هيئة "وعاء"، لا يمكن أبداً أن يكون "فارغاً". يجب أن يكون، دائماً، ممتلئاً. وهذا "الوعاء" إنَّما يمتلئ بـ "مقادير (أو كميات)" من "أشياء (أو مواد) أخرى". "الذرَّة"، مثلاً، هي "وعاء" يمتلئ بمقادير من الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات؛ والبروتون (أو النيوترون) هو "وعاء" يحتوي على ثلاثة جسيمات من نوع الكوارك، الذي يتألَّف من "خيوط". وهذه الخيوط على أنواع؛ وبـ "كمية معيَّنة" يشارِك كل نوع منها في تكوين شيء، أو جسيم، ما.

حتى "الفوتون" يُعَدُّ "وعاءً"، فهو "رزمة من الطاقة"؛ و"الرزمة" معناها "مقدار من شيء آخر". إنَّ هذا "الفوتون" يتضمَّن "طاقة" أكثر من ذاك، فهو ثقيل ضخم، وذاك خفيف صغير.

والشيء بإطلاقه أو امتصاصه "طاقة" إنَّما يُطْلِق أو يمتص منها "رزماً"، فهو، مثلاً، يُطْلِق أو يمتص "رزمة واحدة"، أي "فوتون"، أو "رزمتين"، أو "ثلاث رزم"، ..إلخ. إنَّ إطلاق أو امتصاص الطاقة يشبه "خطَّاً من نُقَط (= خط متَّصِل ـ متقطِّع).

"التحَوُّل" من شيء إلى شيء (أو من حال إلى حال) إنَّما يعني وجود "شيء ثالث مشترَك"، فتحوُّل "الكتلة" Mass إلى "طاقة" Energy، أو "الطاقة" إلى "كتلة"، إنَّما يعني أنَّ "المادة" Matter هي هذا "الشيء الثالث المشترَك" بين "الكتلة" و"الطاقة".

إذا الجسيمات أو المادة ذات الكتلة تكوَّنت (كتَكَوُّن الإلكترون والبوزيترون) فإنَّها تُطْلِق كمية من الطاقة؛ وإذا انشطرت (كانشطار نواة ذرَّة) مُكوِّنةً مادتين مختلفتين فإنَّها تُطْلِق طاقة؛ وإذا اندمجت (كاندماج نوى ذرِّية) مُكوِّنةً مادة جديدة فإنَّها تُطْلِق طاقة.

بالاندماج النووي يفقد النجم كتلة؛ وبـ "التبخُّر" يفقد "الثقب الأسود" كتلة. لقد تعدَّدت الأسباب والنتيجة واحدة.. هي فَقْد الكتلة. و"الثقب الأسود" إنَّما هو "المُهَرِّب الكوني"، فهو "يُهَرِّب" المادة منه، "تهريباً"، إلى الخارج. إنَّه لا ينقلها إلى الخارج في "طريقة شرعية قانونية"؛ ذلكَ لأنَّ "الناموس الفيزيائي" يمنعه من ذلك!

إنَّها بديهية أنْ نقول الآن (وبفضل آينشتاين في المقام الأوَّل) إنَّ الكون (العالَم، الوجود، الطبيعة) في معناه الواسع هو "المادة"، التي إمَّا أن تكون على هيئة "كتلة" وإمَّا أن تكون على هيئة "طاقة". و"البيضة الكونية"، التي منها انبثق الكون، على ما يزعمون في نظرية "الانفجار الكبير"، ليست بـ "مادة"، ولا يمكنها أن تكون "مادة"، بسبب "خواصِّها" التي يتصوَّرونها، أو يتخيَّلونها، أو يفترضونها. ليس فيها من وجودٍ لـ "مادة في هيئة الكتلة"؛ ولن يكون فيها من وجودٍ لـ "مادة في هيئة الطاقة"؛ لأنْ لا وجود لـ "طاقة" لا ترتدي "الرداء الجسيمي"، فجسيم "الفوتون" هو "جَسَد" الطاقة، ولا وجود له إلاَّ في "الفضاء (أو المكان)" الذي ينتقل فيه، ويتحرَّك، بسرعة لا تزيد، ولا تقل، عن 300 ألف كيلو متر في الثانية. إنَّكَ يكفي أن تتصوَّر "البيضة الكونية" على أنَّّها "شيء عديم الفضاء" حتى لا يبقى لديكَ من مسوِّغ للقول باشتمالها على جسيمات تَحْمِل الطاقة، أو على "طاقة جسيمية"؛ وللقول، من ثمَّ، باشتمال هذه "البيضة" على "الطاقة".

إنَّها ليست بـ "مادة ذات كتلة"، وليست بـ "مادة عديمة الكتلة (أي عديمة كتلة السكون كالفوتون)"؛ ولن تكون بمادة، أو بشيء، مُطْلَق، أو في منتهى، "الكثافة" Density، فلا وجود لـ "كثافة" حيث لا وجود لـ "الكتلة" و"الحجم" Volume.

وإنَّها ليست بشيء مُطْلَق، أو في منتهى، "الجاذبية" Gravity، فإذا كانت "الجاذبية" هي انحناء، أو تقوَّس، الفضاء، أو المكان، فكيف لها أن تُوْجَد حيث ينعدم الفضاء، أو المكان؟!

و"البيضة الكونية"، وبحسب تصوُّرِهم "الفيزيائي" لها، إنَّما تتحدَّاهم أنْ يأتوا ولو بدليل فيزيائي (أو منطقي) واحد على أنَّها شيء ليست كـ "العدم" Nothingness. إذا لم تكن هي "العدم" بعينه فماذا تكون؟! وإذا لم يكن "العدم" هو "البيضة الكونية" بعينها فماذا يكون؟!

بعضهم قد يزعم أنَّ هذه "البيضة" هي "شيء ليس كمثله شيء"؛ ولكنَّها تشتمل على "حقلٍ من الجاذبية (التي في منتهى القوَّة أو الشدة)"، وعلى "الفضاء الفارِغ" Empty Space الذي يفهمونه على أنَّه "الرحم" الذي منه يَخْرُج في استمرار "أزواج من الجسيمات الشبحية (الظلالية، الطيفية، غير الحقيقية)" Virtual Particles. وبعد هذا الزعم يزعمون (أي يصبح في مقدورهم أن يزعموا على ما يظنُّون) أنَّ "اللغز (أو الأحجية)" قد حُلَّ، فهذا "الحقل" يؤثِّر في هذا "الفضاء الفارِغ" بما يؤدِّي في آخر المطاف إلى خَلْق المادة (أو جسيمات المادة).

إنَّ هذا الذي يسمُّونه "الفضاء الفارِغ (أو الخالي)"، والذي يفهمونه على ذلك النحو، لا يمكن فهمه إلاَّ على أنَّه جزء لا يتجزأ من "الفضاء"، وصورة من صوره، فكل "فضاء فارِغ" يُعَدُّ "فضاء"؛ ولكن ليس كل "فضاء" يجب أن يكون "فضاءً فارِغاً".

وإذا نحن فهمنا "الفضاء الفارِغ" على أنَّه "فضاء"، أو جزء من الفضاء، فكيف يجوز لنا، بعد ذلك، وبسبب ذلك، أن نتحدَّث عن اشتمال "البيضة الكونية" على "فضاء فارِغ"، قبل أن يقع "الانفجار الكبير"، ويخلق، بالتالي، "الفضاء"؟!

وهل من المنطق في شيء أن نقول إنَّ "البيضة الكونية" كانت تشتمل على "فضاء فارِغ" قبل أن يخلق "الانفجار الكبير" الفضاء ما دُمْنا متَّفقين على أنَّ "الفضاء الفارِغ" هو جزء لا يتجزأ من "الفضاء"؟!

أمَّا "حقل الجاذبية" الذي اشتملت عليه، أيضاً، "البيضة الكونية"، على ما يزعمون، فليس ممكناً أن يُوْجَد، بحسب "النسبية العامة" لاينشتاين، حيث لا وجود بَعْد للفضاء نفسه، فلا جاذبية بلا فضاء، ولا فضاء بلا جاذبية.

إنَّهم كَمَن يريد أن يقول إنَّ "البيضة الكونية" كانت عديمة الفضاء (لأنَّ "الانفجار الكبير" الذي حَدَثَ "لاحقاً" هو الذي خلق الفضاء) ولكنَّها اشتملت على ما لا يمكن أن يُوْجَد إذا ما انعدم الفضاء وهو "الفضاء الفارِغ" و"حقل الجاذبية"!

ومع ذلك، دَعُونا نُسلِّم معهم باشتمال "البيضة الكونية" على "فضاء فارِغ" و"حقل جاذبية"، فهل من سبب يدعو إلى افتراض أنَّ شيئاً يشبه "إشعاع هوكينغ" قد حدث في داخل تلك "البيضة"؟!

إذا صَحَّت تلك "الفرضية"، أي فرضية "إشعاع هوكينغ"، فإنَّ الاستنتاج الذي يمكن عندئذٍ أن نتوصَّل إليه هو أنَّ الفضاء (كل الفضاء وأي فضاء) يُنْتِجُ في استمرار ذلك النوع من "أزواج الجسيمات (المتضادة) الشبحية" Virtual Particles، وأنَّ تحوُّلها (أي تحوُّل احد الجسيمين المتضادين الشبحيين) إلى "جسيمات حقيقية، أي جسيمات لها كُتَل، مشروط بظهورها في فضاء (فارِغٍ) يحيط بـ "ثقب اسود"، فهذا الجسم الكوني هو وحده الذي في مقدوره تحويل "الشبحي" من الجسيمات إلى "حقيقي".

"إشعاع هوكينغ" لا معنى له، ولا وجود، إلاَّ في وجود "ثقب اسود"، وفي وجود فضاء (فارِغ) في جواره، ويُنْتِجُ "أزواج من الجسيمات (المتضادة) الشبحية".

إنَّ أي فضاء، وكل فضاء، يُنْتِجُ، في استمرار، هذا النوع من أزواج الجسيمات المتضادة، فإذا أنتجه فضاء في جوار "ثقب اسود" فإنَّ أحد الزوجين الشبحيين المتضادين تسحبه الجاذبية الشديدة لـ "الثقب الأسود" إلى العُمْق من هذا الجسم الكوني، فيترتَّب على ذلك أنْ يَفْقِدَ "الثقب الأسود" من مادته (أي من كتلته أو طاقته) مقداراً يكفي لتحوُّل الجسيم الشبحي الآخر (المُنْتَظِر في الخارج) إلى "جسيم حقيقي (فعلي)"، أي إلى جسيم له كتلة. وهكذا "يتبخَّر" هذا "الثقب الأسود"، وتنشأ "جسيمات حقيقية" في "الفضاء الفارِغ"، من غير أن يزيد، أو ينقص، مقدار المادة الكونية.

وأحسبُ أنَّ القائلين بنظرية "الانفجار الكبير" لا يمكنهم أبداً إقامة الدليل على أنَّ ظاهرة "الثقوب السوداء" يمكن أن تنشأ حيث لا وجود للفضاء، فـ "البيضة الكونية"، التي لم تَعْرِف "الفضاء" بَعْد؛ لأنَّ "الانفجار الكبير"، الذي خلق "الفضاء"، لم يكن قد وقع بَعْد، لا يمكن أن تكون، في ماهيتها وخواصها وتكوينها، "ثقباً أسود"، يخلق "الجسيمات الحقيقية"، أي المادة ذات الكتلة، عَبْر "إشعاع هوكينغ".

إنَّكَ يكفي أن تقول بوجود "بيضة كونية"، قبل "الانفجار الكبير" الذي خلق "الفضاء"، حتى لا يبقى لديكَ من مسوِّغ للقول باشتمال تلك "البيضة" على "فضاء فارِغ"، و"حقل جاذبية"، وعلى ما يشبه "الثقب الأسود" و"إشعاع هوكينغ".

لو قُلْتَ بذلك لكُنْتَ كَمَن يقول بأنَّ قانون آرخميدس (قانون "إذا غُمِرَ جسم في سائل فإنَّه يفقد من وزنه بقدر وزن السائل المُزاح") يَعْمَل، أيضاً، وعلى خير وجه، حيث لا وجود لأي سائل، ولا لأي جسم يمكن غمره فيه!

"البيضة الكونية" لا يمكن تعريفها على أنَّها "النقطة المتناهية في الصِغَر" التي انبثق منها الكون إذ وَقَعَ "الانفجار الكبير". إنَّها ليست "متناهية في الصِغَر"؛ لأنَّها، وعلى ما يزعمون، "عديمة الحجم". إنَّها ليست سوى "العدم" الذي اخْتَرَعَت له الفيزياء (التي أفسدتها وشوَّهتها الميتافيزياء) نظرية ومفهوماً.

بفضل نظرية "الانفجار الكبير" تديَّنت الفيزياء، وأصبح ممكناً القول، فيزيائياً، بخلق الكون من "العدم"، الذي يسمُّونه "البيضة الكونية ذات الكثافة المُطْلَقَة (أو ذات الحجم الصفري)".

معرفة "ماهية الكون"، أي "ما هو الكون"، إنَّما تحتاج، في المقام الأوَّل، إلى معرفة "ما هي المادة"، فنقص منسوب "الموضوعية" في فهم "المادة" Matter أفضى إلى نقص منسوب "الموضوعية" في فهم "الكون" Universe.

لا بدَّ من معرفة "ما هي المادة"؛ لأنَّ استعصاء فهم "المادة"، أو فهمهما فهماً مشوَّهاً، قد قادا، على ما رأيْنا، إلى استعصاء فهم "الكون".

"المادة"، بدايةً، هي كل شيء تراه، أو يمكنكَ رؤيته؛ إنَّها جسدكَ، والشجرة، والنهر، والبحر، والجبل، والقطار، وجهاز التلفون. إنَّها كوكب الأرض، والقمر، والشمس، والنجم، والمجرَّة. إنَّها الخلية، والجزيء، والذرَّة. إنَّها الإلكترون، والبروتون، والنيوترون، والكوارك، والضوء. إنَّها كل شيء يمكن أن تراه، أو تسمع صوته، أو تلمسه، أو تشم رائحته، أو تذوق طعمه.

في الفيزياء، تُعرَّف "المادة" على أنَّها كل شيء يَشْغُل حيِّزاً، ويملك "كتلةً"، أو "وزناً"، ويملك خاصيَّة "الجاذبية"، وخاصيًَّة "القصور الذاتي".

أُنْظُر إلى "كرة من رصاص" تقف على سطح طاولة. إنَّكَ، أوَّلاً، تراها بعينيكَ، وتستطيع لمسها بيدكَ، فتُدْرِك، مثلاً، أنَّها "ملساء". وترى أنَّها تَشْغُل "حيِّزاً" Space أي أنَّ لها "حجماً" Volume . و"الحيِّز" هو "الفضاء"، أو "المكان". و"حجم" الكرة إنَّما يتألَّف من "أبعاد المكان الثلاثة"، وهي "الطول"، و"العرض"، و"الارتفاع (أو "العمق"، أو السُمْك")". وقد نحسب "حجمها"، فنتوصَّل، مثلاً، إلى أنَّه 50 سنتيمتراً مُكعَّباً.

لو حَمَلْتَ هذه الكرة بيدكَ لَقُلْت إنَّها "ثقيلة"، أو "خفيفة". إنَّها "ثقيلة"، مقارنةً بـ "قلم الرصاص"، و"خفيفة"، مقارنةً بـ "الكرسي". إنَّ "كتلتها Mass (أو "وزنها"، أو "ثقلها")" أكبر من كتلة "قلم الرصاص"، وأصغر من كتلة "الكرسي".

ادْفَع هذه الكرة بيدكَ، تتحرَّك على سطح الطاولة. لو كانت هذه الكرة أثقل عشر مرَّات، مثلاً، لاحتاج تحريكها على سطح الطاولة إلى دفعة أقوى، فكلَّما زادت كتلة (أو وزن) الشيء احتاج تحريكه من مكانه إلى قوَّة أكبر. وليس من فَرْق بين "كتلة" الشيء و"قصوره الذاتي"، فكلَّما زادت كتلته زاد قصوره الذاتي.

و"القصور الذاتي" Inertiaإنَّما يعني أنَّ الجسم، أو الشيء الذي له كتلة، ككرة الرصاص، في مثالنا، عاجز، أو قاصر، ذاتياً، أو من تلقاء نفسه، عن الحركة (أي الانتقال من موضع إلى موضع) إذا ما كان ساكناً، أو عن تغيير سرعته، زيادةً أو نقصاناً، أو اتِّجاه حركته، إذا ما كان متحرِّكاً.

لقد رأيتَ أنَّ تلك الكرة لن تتحرَّك من تلقاء نفسها على سطح الطاولة، فلا بدَّ من "قوَّة خارجية"، هي يدكَ، في هذا المثال، من أجل جعلها تتحرَّك، فإذا تحركَّت فإنَّها تُظْهِر عجزاً ذاتياً آخر، هو العجز عن تغيير سرعتها، زيادةً أو نقصاناً، وعن تغيير اتِّجاه حركتها. لا بدَّ ليدكَ من أن تتولَّى هي تغيّيِر سرعتها، أو اتِّجاه حركتها.

بقي من ذلك التعريف خاصيَّة "الجاذبية" Gravity فليس من شيء له كتلة إلاَّ وله هذه الخاصيَّة. إنَّه يتبادل الشد، أو الجذب، مع غيره من الأشياء التي لها كُتَل.

خاصيَّتا "الكتلة" و"الحجم" إنَّما تقودان إلى خاصيَّة ثالثة في منتهى الأهمية الفيزيائية والكونية هي "الكثافة" Density. إنَّ شيئاً يملك مقداراً معيَّناً من الكتلة يُمْكِنكَ أن تزيد كثافته إذا ما صغَّرْتَ حجمه، مُبْقِياً، في الوقت نفسه، على مقدار كتلته من غير تغيير.

إنَّنا نميِّز شيئاً من شيء من خلال خواصِّه وصفاته الفيزيائية، كاللون، والشكل، والرائحة، والطعم، والكتلة، والحجم، والكثافة، والصلابة؛ ومن خلال خواص وصفات فيزيائية أخرى.

قُلْنا إنَّ اختلاف الأشياء في خواصِّها وصفاتها هو الذي بفضله نتوصَّل إلى تمييز بعضها من بعض، فأنتَ تَنْظُر إلى هذا الشيء، وتَعْرِف أنَّه برتقالة؛ لأنَّه مختلفٌ في لونه، وشكله، ورائحته، وطعمه، وكتلته، وحجمه، وكثافته، وفي غير ذلك من الخواص والصفات، فخواص الشيء وصفاته هي التي تصفه لنا. وبحسب تشابه، أو تماثُل، الخواص والصفات، نُدْرِج الأشياء في فئات وصنوفٍ وطوائف.

ولولا حواسنا الخمس لَمَا كان ممكناً تمييز الأشياء؛ ولعلَّ أهم حاسة نملك هي البصر، ففي قاع العين يوجد غشاء عصبي يُبَطِّن هذا القاع، ويسمَّى "الشبكية".

وأنتَ ترى الشيء، أو لونه؛ لأنَّ "قذائف" متناهية في الصِغَر، نسمِّيها "الضوء"، أو "الفوتونات"، تنطلق منه، فتَضْرِب (في استمرار) الشبكية في عينكَ.

وتبسيطاً وتسهيلاً لفهم هذه العلاقة بين الشيء، أو "المرئي"، وبين الشبكية في عينكَ، ندعوكَ إلى تَصَوُّر "الضوء" المنطلق من الشيء في اتِّجاه عينيكَ على أنَّه تيَّار، أو سَيْل، أو دَفْق، من "الكريَّات (أو "الحبيبات")". إنَّه مقدار هائل من "الكريَّات"، ينبع من شيء ما، فيجري في الفضاء، فيَصُبَّ في شبكية عينكَ، فترى هذا الشيء وتُمَيِّزه.

على أنَّ هذا لا يعني أنَّ كل شيء يجب أن ندركه إدراكاً مباشِراً، فثمَّة أشياء لا يمكننا أبداً رؤيتها بالعين المجرَّدة، فنتوصَّل إلى رؤيتها من خلال "العين الاصطناعية"، كالتليسكوب والميكروسكوب. وثمَّة أشياء، كالإلكترون، لا يمكننا رؤيتها حتى بـ "العين الاصطناعية".

إنَّنا نكتشف وندرك وجود الشيء من خلال الملاحظة المباشِرة، أو من خلال ملاحظة تأثيره في شيء آخر، يَسْهُل علينا ملاحظته ومراقبته مباشَرةً.

هذا هو مُخْتَصَر قول الفيزياء في "المادة"، لجهة تعريفها، وتعيين وشرح خواصها وصفاها الأساسية والجوهرية، فهل أُنْجِزَت "المهمة؟ في الإجابة نقول إنَّ تعريف الفيزياء لـ "المادة" لا يشمل إلاَّ جزءاً، وجزءاً صغيراً، من عالَم المادة؛ إنَّه يشمل، فحسب، أقلَّ من 1% من عالَم المادة، وإنَّه يشمل على وجه الخصوص عالَم المادة الجزيئية، أي المؤلَّفة من جزيئات Molecules.

إذا عَرَّفْتَ "المادة" على أنَّها كل شيء له (أي يجب أن تكون له) "كتلة" Mass فهذا إنَّما يعني أنَّ كل جسيم ليس له "كتلة"، كالفوتون، وسائر الجسيمات الحاملة، أو الناقلة، للقوى الأساسية في الطبيعة، ليس بـ "مادة". ونحن نعلم أنَّ ما يزيد عن 99% من الكون يتألَّف من طاقة، منها الضوء على وجه الخصوص.

ولكن، ما هي "الكتلة" Mass؟

الفيزياء، والتي عَرَّفَت "المادة"، بدايةً، تعريفاً جزئياً، عَرَّفت، بدايةً أيضاً، "الكتلة" على أنَّها "مقدار ما في الجسم (أو الشيء) من مادة"، فهذا الكيس الذي فيه 1000 حَبَّة عدس كتلته أكبر من ذاك الذي فيه 100 حَبَّة عدس؛ وذرَّة الذهب التي تضمُّ في نواتها 196 بروتوناً ونيوتروناً كتلتها أكبر من ذرَّة الأوكسجين التي تضمُّ في نواتها 15 بروتوناً ونيوتروناً.

و"الكتلة"، في هذا المعنى أو التعريف، تَجْعَلُ لحاملها، أجِسْماً كان أم جسيماً، "وزناً"، أو "ثقلاً"، Weight، فأنتَ لو أخَذْتَ أحد كيسي العدس، وقُمْتَ بوزنه (بميزان) على سطح القمر، أو على سطح المشتري، أو على سطح الشمس، أو على سطح "نجم نيوتروني"، لوجدتَ أنَّ له "وزناً"، وأنَّ وزنه يختلف باختلاف كُتَل تلك الأجسام الكونية (القمر، والمشتري، والشمس، و"النجم النيوتروني") فوزنه على سطح القمر هو الأصغر، وعلى سطح "النجم النيوتروني" هو الأكبر. لقد اختلف "وزنه" مع أنَّ "كتلته"، بحسب تعريفها ذاك، لم تَزِدْ، ولم تَنْقُص. أمَّا الفَرْق في الوزن بين كيسي العدس فيظل ثابتاً (في نسبته) لا يتغيَّر حيثما قمت بوزنهما.

لقد قاسوا "الكتلة" بمقياس "مقدار المادة في الشيء"؛ ثمَّ توصَّلوا إلى "المقياس السليم" وهو "القصور الذاتي"، فعرَّفوا "الكتلة"، من ثمَّ، على أنَّها "مقياس القصور الذاتي"، فالجسم الأكبر، أو الأعظم، "كتلةً" إنَّما هو الجسم الأكبر، أو الأعظم، لجهة "قصوره الذاتي".

والفيزياء تَعْرِف اليوم أنَّ الجسم كلَّما زادت "سرعته" زادت "كتلته"، واشتد، من ثمَّ، "تسريعه" صعوبةً. إنَّ كيس العدس نفسه يزداد "كتلةً" إذا ما جَعَلْتَهُ يسير (في الفضاء) بسرعة كبيرة (200 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة مثلاً). وهذا إنَّما يعني أنَّ "القصور الذاتي" لهذا الكيس يزداد هو أيضاً.

و"المادة"، أو "جسيماتها"، على نوعين، لجهة "الكتلة"، فبعض المادة، كحبَّة العدس والإلكترون، يملك "كتلة سكون" Rest Mass؛ وبعضها لا يملكها، كالفوتون. إذا جِئْتَ بحبَّة عدس وحرَّكْتَها، أي جعلتها تنتقل من موضع إلى موضع في المكان، أو الفضاء، فإنَّ "كتلتها" تزداد، فالحركة في المكان تضيف إليها "كتلة". أمَّا لو سَكَّنْتَها، أي جعلتها في سكون، أو متوقِّفَة عن الحركة، فإنَّها تظل محتفظةً بـ "كتلة السكون"، وتظلُّ، بالتالي، موجودة (على هيئة حبَّة عدس). ولو جِئْتَ بـ "فوتون"، وأوْقَفْتَهُ عن الحركة، فلن يظلَّ موجوداً.

إنَّ بعض "المادة" يكفُّ عن الوجود إذا ما فَقَدَ "كتلة السكون"، التي هي مقدارٌ من "الطاقة المجمَّدة (المُركَّزة، المُكثَّفة)"، فالجسيم الذي له "كتلة سكون" تزداد "كتلته" إذا ما تحرَّكَ (انتقل) في المكان؛ وكلَّما تسارَع زادت "كتلته"؛ وكلَّما تباطأ قلَّت. إذا توقَّف عن الحركة ظلَّ محتفظاً بوجوده؛ لأنَّه يملك "كتلة سكون"، فإذا فَقَدَها كفَّ عن الوجود.

وبعض من "المادة"، كـ "الفوتون"، يكفُّ عن الوجود إذا ما توقَّف عن الحركة، فكتلته متأتية من حركته، وهو لا يملك "كتلة سكون".

هذا وذاك إنَّما يعنيان أنَّ "الكتلة" بوجهيها ("كتلة السكون" و"كتلة الحركة") هي خاصية جوهرية لـ "المادة"، فـ "المادة عديمة الكتلة (بوجهيها)" لا وجود لها.

"الحركة في المكان" هي، في معنى ما، "كتلة"، فكل مادة تتحرَّك في المكان تَحْصَل بسبب حركتها على "كتلة". والمادة التي لا تملك "كتلة"، أي لا تملك "كتلة سكون"، كالفوتون، يجب أن تكون دائماً في حالٍ من الحركة في المكان، وان تنتقل فيه بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية. إنَّّها بفضل هذا النوع من الكتلة (أي "كتلة الحركة") تستمر في الوجود، فسكونها زوالها. أمَّا المادة التي تملك "كتلة سكون"، كالإلكترون، فإنَّها تستمر محتفظةً بوجودها إذا ما توقَّفت عن الحركة في المكان؛ ولكنَّها، وبسبب اشتمالها على "كتلة سكون"، لا تستطيع أبداً، ومهما تسارَعت، أن تنتقل في المكان، أو الفضاء، بسرعة تعدل سرعة الضوء.

المادة X مثلاً تملك "كتلة سكون"، أي أنَّها تشتمل على مقدارٍ من "الطاقة المجمَّدة"؛ ووجود "كتلة السكون" فيها هو ما يمنعها منعاً مُطْلَقَاً من السير بسرعة الضوء، أي بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية. قد تسير بسرعة تقارِب سرعة الضوء؛ ولكنَّها لن تتمكن أبداً من السير بسرعة تَعْدِل سرعة الضوء، فـ "كتلة السكون" التي تشتمل عليها هي "الحاجز الفيزيائي" الذي لا يمكنها أبداً تخطيه، توصُّلاً إلى السير بسرعة الضوء. كلَّما تسارعت (مع بقائها في سرعة دون السرعة الضوئية) زادت "كتلتها"، فالحركة في المكان تضيف إليها كتلة. أمَّا إذا فَقَدَت "كتلة السكون" فإنَّها تكفُّ عن الوجود.

ولكن ما معنى "تكفُّ عن الوجود"؟

معناه أنَّ ما تشتمل عليه من طاقة مجمَّدة، أو مركَّزة، "يتبخَّر"، أو "يتشتَّت"، فتتحوَّل تلك المادة إلى "طاقة"، أو إلى ما يسمُّونه "طاقة خالصة"، تُحْمَل، وتُنْقَل، في جسيمات (خاصة بها). و"جسيم الطاقة" يجب أن يملك النوع الآخر من "الكتلة"، وهو "كتلة الحركة". هذا الجسيم؛ ولكونه لا يملك "كتلة سكون"، أي لكونه "عديم الكتلة" في هذا المعنى فحسب، يستطيع الانتقال في الفراغ بسرعة 300 ألف كيلومترٍ في الثانية، والتي هي "السرعة القصوى" في الكون. إنَّه لا يستطيع أبداً السير بسرعة تفوق سرعة الضوء. قد تقلُّ سرعته في بعض المواد كالزجاج والماء عن سرعة الضوء؛ ولكنَّه لا يصبح أبداً في حالٍ من السكون، فوجوده من وجود "كتلة حركة" فيه.

إذا "تجمَّدت" الطاقة، و"تركَّزت"، أصبح لدينا مادة تملك "كتلة سكون"، ولا يمكنها، بالتالي، السير بسرعة تعدل سرعة الضوء؛ وإذا ما "تبخَّرت"، و"تشتَّت"، أصبح لدينا مادة تملك "كتلة حركة"، ويمكنها، بالتالي، السير بسرعة الضوء، ولا يمكنها أبداً أن تصبح في "سرعة صفرية".

"المادة"، أكانت في هيئة "كتلة" أم في هيئة "طاقة"، يجب أن تكون "جسيمية" البُنْية، أي على هيئات جسيمات، فـ "الجسيم" إمَّا أن يكون "كتلياً" وإمَّا أن يكون "طاقياً". إنَّ "الكتلة غير الجسيمية" لا وجود له، وإنَّ "الطاقة غير الجسيمية" لا وجود لها هي أيضاً.

جَمِّعْ وركِّز "الطاقة" تَحْصَلْ على "مادة ذات كتلة"، أي ذات "كتلة سكون". بَعْثِرْ وشَتِّتْ "الطاقة" تَحْصَلْ على "مادة عديمة الكتلة"، أي ذات "كتلة حركة".

إنَّ "الطاقة" تتجمَّد، وتتركَّز، وتتكثَّف، وتتجمَّع، فَتُعْطينا جسيماً له "كتلة سكون" كالإلكترون. أمَّا الطاقة التي تُطْلَق، أو تُمْتَص، فيجب أن تُحْمَل، أو تُنْقَل، في جسيمات لا تملك "كتلة سكون"، كالفوتون.

"الحامِل"، أو "الناقِل"، كجسيم الفوتون، يمكنكَ أن تتصوَّره على هيئة "عربة"، أو عُلْبَة، أو "صُرَّة"، أو "كرية"، أو "حبيبة"، أو "قذيفة". إذا تصوَّرته على هيئة "حبيبة"، مثلاً، فإنَّ "المُطْلَق"، أو "المُمْتَص"، من الطاقة يجب أن يكون "أعداداً صحيحة"، فالجسم A مثلاً أطْلَقَ من الطاقة 4 أو 5 أو 10 "حبيبات"، امْتَصَّها، بعد انتقالها في الفراغ، أو الفضاء، الجسم B مثلاً. الجسم A لا يمكنه أن يُطْلِق، مثلاً، 5 حبيبات ونصف، أو ربع، أو ثلث، الحبيبة. والجسم B لا يمكنه أن يَمْتَص، مثلاً، 5 حبيبات ونصف، أو ربع، أو ثلث، الحبيبة. وفي "الحبيبة" الواحدة يُحْمَل، أو يُنْقَل، مقدارٌ معيَّن من الطاقة.

"الحركة"، أي حركة الشيء في المكان، أو الفضاء، يمكن اتِّخاذها "مرجعية للفَرْز"، أي لفَرْز المادة التي على هيئة "كتلة" من المادة التي على هيئة "طاقة"، فالمادة، مهما تنوَّعت، لن تكون إلاَّ على هيئة من هيئتين اثنتين فحسب: المادة التي تملك خاصية تمنعها منعاً مُطْلَقاً من الانتقال في المكان بسرعة تَعْدِل سرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية في الفراغ) التي هي "السرعة الكونية العظمى"، والمادة التي تملك خاصية تسمح لها بالسير بسرعة الضوء.

الإلكترون، مثلاً، هو من المادة في هيئتها الأولى، فهو الطاقة إذ تجمَّدت، وتركَّزت، وتكثَّفت، وتجمَّعت، في هذا الجسيم، فكان، بالتالي، من المادة التي تملك "كتلة"، أي "كتلة سكون"، والتي لا يمكنها أبداً أن تنتقل في المكان، أو في الفضاء، ومهما تسارَعت، بسرعة الضوء.

والفوتون، مثلاً، هو من المادة في هيئتها الثانية، فهو الحامِل، والناقِل، لمقدارٍ من الطاقة، وهو الذي لكونه "عديم الكتلة"، أي لا يملك "كتلة سكون"، يمكنه، وينبغي له، السير في الفضاء بسرعة الضوء.

"الطاقة" Energy إمَّا أن تكون مُجَمَّدَة (مُركَّزة، مُكثَّفة) في جسيم كالإلكترون وإمَّا أن تكون محمولة (منقولة) في جسيم كالفوتون.

والآن دَعُونا نتحدَّث عن "التأثير الفيزيائي"، وكيف ينتقل.

لِنَفْتَرِضْ أنَّ لدينا شيئين ينتميان إلى عالَم المادة ذات الكتلة، أي المادة التي تملك "كتلة سكون"، هما الشيئان A و B. ولِنَفْتَرِض أنَّ مسافة فضائية تفصل أحدهما عن الآخر؛ فكيف يؤثِّر A مثلاً في B؟

إنَّ مقداراً من الجسيمات عديمة الكتلة (أي عديمة "كتلة السكون") يَنْطَلِق من A نحو B. كل جسيم من هذه الجسيمات يسير في الفضاء، أو الفراغ، الفاصل بين A و B بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية. B لن يتأثر، أي لن يطرأ عليه أي تغيير، قبل أن تصل إليه تلك الجسيمات (الحاملة، أو الناقلة، للتأثير، أو للقوَّة). وفي الطريقة نفسها يؤثِّر B في A.

على هذا النحو فحسب يمكننا فهم "التفاعُل (بين A و B)"، أو "التأثير (الفيزيائي) المتبادل"، أو "تبادل التأثير"، أو "التأثير (الفيزيائي)".

تَخيَّل لاعبين، أحدهما قذف كرة، تَلَقَّفَها الآخر. "الكرة" هي "الجسيم (عديم الكتلة) الحامِل للتأثير أو القوَّة"؛ و"التأثير" هو تأثير الكرة في اللاعب الذي تَلَقَّفَها، كأن يرتدَّ إلى الوراء؛ و"الفضاء"، أو "الفراغ"، هو المسافة الفاصلة بين اللاعبين.

في عالَم المادة، وعلى مستوى العلاقة بين "الكتلة" و"الطاقة"، نرى تحوُّلاً متبادلاً، فـ "الكتلة" تتحوَّل إلى "طاقة"، و"الطاقة" تتحوَّل إلى "كتلة".

كيف تتحوَّل "الكتلة" إلى "طاقة"؟

افْتَرِضْ أنَّ لدينا جسيمين متضادين هما الإلكترون والبوزيترون. في ظروف فيزيائية معيَّنة، قد يسيران بسرعة هائلة، فيتصادمان. إذا حَدَث ذلك فإنَّهما يتحوَّلان إلى "طاقة خالصة"، أي إلى طاقة محمولة، أو منقولة، في "فوتونات". لقد تحوَّلت كتلتاهما إلى طاقة. ونرى تحوُّلاً جزئياً في بواطن النجوم، فعندما تندمج نوى الذرَّات هناك يتحوَّل بعضٌ من الكتلة إلى طاقة.

كيف تتحوَّل "الطاقة" إلى "كتلة"؟

افْتَرِضْ أنَّ لدينا زوجاً من الفوتونات. في ظروف فيزيائية معيَّنة، قد يتصادمان، فيزولان، فينشأ من زوالهما جسيمان متضادان (يملك كلاهما "كتلة"، أي "كتلة سكون") كالإلكترون والبوزيترون. ونرى هذا التحوُّل في جسم متحرِّك، أو متسارع، فكلَّما زادت حركته (أو تسارَع) زادت كتلته.


من تَصادُم الفوتونات (وكل فوتون هو نفسه جسيمه المضاد) قد تنشأ كواركات متضادة، التي من تصادمها تنشأ فوتونات. وتَصادُم كوارك وكوارك مضاد (أي تحوُّلهما إلى طاقة خالصة محمولة في فوتونات) هو، على وجه الدِّقة، معنى "زوالهما". إذا لم تَزُلْ الكواركات، على هذا النحو، وفي هذا المعنى، فإنَّها تتَّحِد مع بعضها بعضاً لتؤلِّف "جسيمات مركَّبة"، كجسيم البروتون الذي يتألَّف من ثلاثة كواركات (متَّحِدة).

وتَتَّسِع وتَكْبُر "المركَّبات (المادية)"، فتنشأ "نواة الذرَّة"، فـ "الذرَّة"، فـ "الجزيء"، فالأشياء التي تتألَّف من مقادير من جزيئات مختلفة (متَّحِدة).

"المُركَّب" كـ "الذرَّة"، و"الجزيء"، و"الجسم"، هو مادة معظمها "فراغ"؛ وهذا البحر الواسع من الفراغ تسبح به الإلكترونات. إنَّه "الفراغ الواسع الإلكتروني". أمَّا "نوى الذرَّات" فتشبه الجُزُر الصغيرة، أو السُفُن، في هذا البحر الضخم.

تخيَّل أنَّ جسماً ضخماً (كوكب الأرض مثلاً) ضَمَمْنا نوى ذرَّاته جميعاً إلى بعضها بعضاً، وإلكتروناته جميعاً إلى بعضها بعضاً؛ ثمَّ ضَمَمْنا تلك النوى والإلكترونات (المُجمَّعة) إلى بعضها بعضاً، فكم، عندئذٍ، يصبح حجمه؟!

ولكنَّ قوَّة التنافر الهائلة بين الإلكترونات لن تسمح لنا بضغط الحجم أكثر مِمَّا يسمح به القانون الفيزيائي.

أمَّا لو تغلَّبْنا على هذه القوَّة فلا بدَّ، عندئذٍ، من أن تتساقط الإلكترونات في نوى ذرَّاتها، مندمجةً بالبروتونات، فينشأ، بالتالي، "جسم نيوتروني"، متناهٍ في الصِغَر والضآلة، وهائل في الكثافة.. والجاذبية.

الذرَّة مُركَّبة من عناصر يمكنها أن تُوْجَد في خارج الذرَّة نفسها، فالبروتون الذي هو من مكوِّنات الذرَّة يمكنه أن يُوْجَد في خارج الذرَّة، مستقلاً عنها. و"المكوِّن" أقدم وجوداً من "المركَّب"، فالبروتون وُجِد قبل وجود الذرَّة.

في الطبيعة وتطوُّرها، نرى الواحد يتعدَّد، يتفرَّع، ينفصل، ويتمايز، وكأنَّه شجرة تتفرَّع. ونرى أشياء مختلفة مستقلة منفصلة تَتَّحِد، فتنشأ وتتكاثر "المُركَّبات". إنَّه المَيْل في المادة إلى التجمُّع والاتِّحاد. ونرى الشيء الواحد يَنْحَل ويتفكَّك. إنَّه المَيْل في المادة إلى التفرُّق والانفصال. ونرى "الاتِّحاد" و"الانفصال" كدَرَجات سُلَّم. ونرى "النشوء" و"الزوال" وجهين لـ "التحوُّل".

وأنتَ يكفي أن تَعْلَم أنَّ 99.9 في المائة من حجم الذرَّة يتألَّف من فراغ، أو فضاء، حتى تستنتج أنَّ الفراغ، أو الفضاء، يؤلِّف ما نسبته 99.9 في المائة من حجم الكون. أمَّا "المادة ذات الكتلة" فهي (في مقدارها) قطرة في بحر "المادة عديمة الكتلة". إنَّ معظم الكون (المتمدِّد) يتألَّف من فراغ (أو فضاء) ومن "مادة عديمة الكتلة (أي عديمة "كتلة السكون").

و"الفضاء" هو مٌُكوِّن أساسي وجوهري وداخلي للشيء، أي لأيِّ شيء؛ ففي هذه القطرة من الماء يُوْجَد (ويجب أن يُوْجَد) فراغ، أو فضاء، بين جزيئاتها؛ وفي داخل كل جزيء من جزيئاتها، أي بين ذرَّات الجزيء الواحد، يُوْجَد فراغ؛ وفي داخل كل ذرَّة من ذرَّات جزيء الماء يُوْجَد فراغ؛ وبين جسيمات نواة كل ذرَّة من ذرَّات جزيء الماء يُوْجَد فراغ، .. إلخ.

بين "مجموعات المجرَّات" يُوْجَد فراغ، أو فضاء؛ وفي داخل كل مجموعة (أي بين المجرَّات من المجموعة نفسها) يُوْجَد فراغ؛ وفي داخل كل مجرَّة من مجرَّات المجموعة (أي بين نجوم المجرَّة) يُوْجَد فراغ؛ وفي داخل كل نجم يُوْجَد فراغ.

إنَّ مادة تشبه "المطَّاط"، وتسمَّى "الفضاء"، هي التي يتكوَّن منها معظم الكون، وهي مُكوِّن أساسي وجوهري وداخلي لكل شيء، مهما كَبُر أو صَغُر، فالشيء ينعدم في داخله الفراغ، أو الفضاء، إنَّما هو شيء لا وجود له.. لم يُوْجَد قط، ولن يُوْجَد أبداً.

ضَعْ جزيء ماء تحت تليسكوب، أو مجهر، قوي ومتطوِّر. أُنْظُرْ، فتكتشف وجود فراغ، أو فضاء، في داخل هذا الجزيء، أي بين الذرَّات التي يتألَّف منها. حاوِل أن تلغي وجود هذا الفراغ، فهل تستطيع؟!

وهل يظل لديكَ جزيء ماء إذا ما سعيتَ في إلغاء وجود هذا الفراغ؟!

والآن، ضَعْ ذرَّة تحت هذا المجهر أُنْظُرْ، فتكتشف، أيضاً، وجود فراغ، أو فضاء، في داخلها. لو سَعَيْتَ في تقليص حجم هذا الفراغ فربَّما تتوصَّل إلى اندماج الإلكترونات في بروتونات النواة، فتزول الذرَّة نفسها، وينشأ من زوالها مقدار من النيوترونات.

والكون كله إنَّما يشبه "كرة مطَّاطية ضخمة (تتمدَّد في استمرار)". إنَّه مصنوع من مادة مطَّاطية هي "الفضاء". نظرياً، تستطيع ضَغْط هذه "الكرة"، والاستمرار في ضَغْطِها، أي تقليص حجمها، وصولاً إلى جعلها في حجم الإلكترون مثلاً. لقد أصبحت "الكرة الكونية المطَّاطية (الضخمة)" في حجم الإلكترون؛ ولكنَّها ظلَّت محتفظةً بـ "ثقلها"، أو "وزنها"، نفسه. هذا هو "الفضاء"؛ إنَّه "مطَّاطي" الخاصية، يُوْجَد في داخل كل شيء، ويحيط بكل شيء.

ارْجَعْ إلى "مثال البالون".. لقد نَقَّطَتَّ سطحه الخارجي (أي وَضَعْتَ نٌقَطاً عليه). افْتَرِضْ أنَّ كل نقطة هي مجرَّة. الآن، قُمْ بنَفْخِ هذا البالون، واستمر في نَفْخِه، فترى "الفضاء"، الذي هو المسافة بين كل نقطتين، "يتمدَّد".

افْتَرِضْ الآن أن جسيمات عديمة الكتلة (فوتونات مثلاً) تنطلق من النقطة A نحو النقطة B. كل جسيم من هذه الجسيمات يسير (في الفراغ، أو الفضاء، بين النقطتين) بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية. إنَّّ هذا الفضاء قد يتمدَّد بما يَحُول بين تلك الجسيمات (الحاملة للتأثير الذي منه الضوء) وبين الوصول إلى النقطة B، فتصبح النقطة A عاجزة عن أن تؤثِّر فيزيائياً في النقطة B. وهذا إنَّما يشبه أن تًطْلِق قذيفة نحو هَدَفٍ، كلَّما اقترَبَت منه ازداد ابتعاداً عنها، فتَعْجَز، بالتالي، عن إصابته.

شيء من هذا القبيل، وبسبب تَعاظُم سرعة تمدُّد الفضاء بين "نقطتين"، يمكن أن يَحْدُث في كوننا، فينقطع كل "اتِّصال" بين "النقطتين"، فلا ضوء يصل من إحداهما إلى الأخرى، ولا تأثير (فيزيائياً) يصل من إحداهما إلى الأخرى؛ لأنَّ الجسيمات الحاملة، أو الناقلة، لهذا التأثير من النقطة A لا تستطيع الوصول إلى النقطة B على الرغم من كونها تسير في الفضاء بالسرعة الكونية القصوى (300 ألف كيلومتر في الثانية).

قد تكون أجزاء من كوننا في هذه الحال من العجز عن إيصال ضوئها، أو تأثيرها الفيزيائي، إلينا؛ لأنَّ ضوءها، أو تأثيرها الفيزيائي، يجتاز مسافة فضائية تَتَّسِع في استمرار، وليس بقادِرٍ، بالتالي، وحتى الآن، عن بلوغ نهاية تلك المسافة، أي الوصول إلينا. وقد يصل إلينا مستقبلاً، إذا ما تغيَّرت سرعة تمدُّد الفضاء، واستمرت في التغيُّر، بما يسمح له بالوصول (أخيراً) إلينا.

لِنَتَخَيَّل الآن أنَّ المادة في النقطة A قد انهارت على نفسها؛ ولكن، بما يمنعها، بعد ذلك، وبسبب ذلك، منعاً مُطْلَقاً من أنْ تؤثِّر في سائر النُقَط. إذا حَدَثَ لها ذلك فلا ضوء، ولا "معلومة"، ولا أي تأثير فيزيائي، يمكن أن يصل منها إلى سائر النُقَط، مع أنَّ وصول ضوء إليها (أو "معلومة"، أو تأثير فيزيائي) من نقطة، أو نُقَط، أخرى يظلُّ أمراً ممكناً. أمَّا لو حلَّ بغيرها من النُقَط ما حلَّ بها فإنَّ كل نقطة تصبح عندئذٍ كَوْناً مستقلاً، منفصلاً، قائما بذاته. كل "نقطة ـ كَوْن" ما عاد في مقدورها الآن أن تُرْسِل أو تَسْتَقْبِل (ضوءاً، أو "معلومة"، أو تأثيراً فيزيائياً). لقد أصبح "زمكانها" Space – Time منفصلاً تماماً عن أي "زمكان" آخر. إنَّ كل ما يقع في خارج "النقطة ـ الكون" من فضاء، أو "نُقَط ـ أكوان"، لا يعود الآن جزءاً منها. إنَّه موجود فعلاً؛ ولكنَّه بالنسبة إليها غير موجود؛ لأنْ لا تفاعُل، من أي نوع، بينها وبينه.

نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang بدأت بـ "ملاحَظَة" لاحظها هابل..

لقد لاحَظَ أنَّ كل "نقطة" على السطح الخارجي للبالون الكوني الضخم ترتدُّ عن سائر "النُقَط"؛ ثمَّ كان "الاستنتاج".. "الكون يتمدَّد".

ومِنْ هذا الاستنتاج جاء استنتاج آخر.. "الكون كان أصغر مِمَّا هو الآن.. كان نقطة مُطْلَقَة الكثافة عديمة الحجم".

لقد تطرَّفوا تطرُّفاً ميتافيزيقياً في "تصوُّرهم الكمِّي" لظاهرتي "التمدُّد" و"التقلُّص" في الكون.

لِنَشْرَح ذلك، ونوضِّحه، في المثال الآتي: السلعة X ارتفع سعرها؛ وها هو مستمرٌ في الارتفاع. هذا الغلاء المستمر والمتزايد (للسلعة X) إنَّما هو "المسار الكمِّي الصاعِد".

مَنْ يَنْظُر في هذا "المسار" قد يعتقد (أو يَظُن، أو يتوهم) أنْ لا نهاية له. هذا "الناظِر" رَجَحَت في تفكيره كفَّة الميتافيزيقيا على كفَّة الدياليكتيك، فـ "استنتج" أنْ لا نهاية لغلاء، أو ارتفاع، سعر السلعة X.

هذا "الناظِر" لم يرَ في بصيرته ما كان ينبغي له أن يراه لو أخذ بالدياليكتيك منهجاً في النظر والتفكير.

لو أخذ به لَمَا شقَّ عليه أنْ يُدْرِكَ أنَّ غلاء السلعة X ليس بمسارٍ لا نهاية له صعوداً، وأنَّ هذا الغلاء لا يمكنه أن ينمو من غير أن يُنمِّي، هو نفسه، وفي الوقت نفسه، أسباب، وعوامل، وقوى، وظروف، "الرُّخْص"، فغلاء تلك السلعة يؤدِّي، حتماً، مع نموِّه، إلى ما يُحَوِّل غلاءها إلى رُخْص، أي إلى نقيضه.

الكون إذا تمدَّد، وازداد تمدُّداً، فإنَّ "مساره الكمِّي الصاعِد" هذا لن يكون بلا نهاية، فمع كل تمدُد كوني جديد تنمو أكثر أسباب، وعوامل، وقوى، وظروف، التقلُّص الكوني؛ ولا بدَّ لتمدُّد الكون من أن يبلغ تلك "الهوَّة"، التي ما أن يبلغها، ويجتازها بقفزة واحدة لا غير، حتى يشرع يتقلَّص، فهل، إذا ما شرع يتقلَّص، يستمر في تقلُّصه إلى ما لا نهاية، أي إلى أنْ يبلغ تلك "النقطة مُطْلَقة الكثافة عديمة الحجم"؟

مَنْ يُجِبْ بـ "نَعَم" عن هذا السؤال فهو كَمَنْ إذا رأى السلعة X ترخص، وتنمو رخصاً، يُسْرِع إلى القول متوقِّعاً أو مُسْتَنْتِجاً: إنَّها ستَرْخُصُ حتى يَحْصُل عليها كل مُسْتَهْلِك مجَّاناً!

هذا لم يحدث قط، ولن يحدث أبداً، فتلك السلعة لن تنمو رُخْصاً إلى ما لانهاية؛ لأنَّ نمو رخصها يُنمِّي، في استمرار، كل ما يؤدِّي إلى غلائها.

الكون يمكن أن ينكمش ويتقلَّص؛ ولكنَّه لن يصل أبداً، في انكماشه وتقلُّصه إلى "الصفر" من الحجم. قد يصبح في حجم الإلكترون، أو الكوارك، أو في حجم أقل، واقل بكثير، من حجم هذا وذاك؛ ولكنَّه لن يصبح أبداً على هيئة تلك "النقطة عديمة الحجم مُطْلَقَة الكثافة" Singularity.

إنَّني لا أعرف ما هي تلك الفيزياء، وما هي تلك القوانين الفيزيائية، التي أجازت لأصحاب نظرية "الانفجار الكبير"، وأنصارها والقائلين بها، أن يتصوَّروا تلك "النقطة" على أنَّها النهاية الحتمية لانكماش وتقلُّص الكون.

لماذا أصرُّوا على أنَّ انهيار المادة على ذاتها في جسم ما يجب أن ينتهي إلى تلك "النقطة (الميتافيزيقية)"، وليس إلى شيء في حجم "البطيخة" أو الإلكترون أو الكوارك..؟!

لماذا هذا الإصرار الذي لا مبرِّر، ولا مسوِّغ، له في "الفيزياء الفيزيائية"، والذي إنْ كانت له جذور فإنَّه يضربها عميقاً في "الفيزياء الميتافيزيائية"؟!

كل الكون.. كل ما فيه من "مادة"، يمكن أن يُضْغَط، وينكمش، ويتقلَّص؛ ولكن من غير أن يصبح في هيئة تلك النقطة "عديمة الحجم مُطْلَقَة الكثافة"، فـ "الحجم"، أو "الحجم اللا صفري"، أو "فوْق الصفر"، إنَّما هو خاصية جوهرية للمادة، ولا يمكن أبداً، ومهما أفْرَطْنا في الخيال، أن نقول بوجود شيء تنعدم فيه أبعاد المكان الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع). كل شيء، مهما صَغُر وتضاءل حجماً، وزاد كثافةً، يجب أن يظل محتفظاً بـ "زمكانه"، أي بالطول والعرض والارتفاع (= الحجم والمكان) والزمان (= البُعْد الرابع المتِّحد بأبعاد المكان الثلاثة اتِّحاداً لا انفصام فيه أبداً).

قد يبلغ فيه انكماش (وتقلُّص) المكان نهايته العظمى؛ وقد يبلغ فيه تمدُّد الزمان، أو تباطؤه، نهايته العظمى، ولكن لا هذه النهاية العظمى تعني "زوال الزمان"، ولا تلك النهاية العظمى تعني "زوال المكان (أو الحجم)".

لِنَنْظُر، مثلاً، في العُمْق" من "عملية الاندماج النووي" في بواطن النجوم..

هذا "الاندماج" إنَّما هو محاولة للتقريب (أكثر فأكثر) بين نوى ذرَّات، كنوى ذرَّات الهيدروجين. ثمَّة "قوى فيزيائية (الحرارة في باطن النجم)" تتولَّى إنجاز مهمة التقريب (في اتِّجاه الاندماج) بين النوى الذرِّية. على أنَّ هذه القوى لا تستطيع إنجاز المهمة، أو أي جزء منها، من غير صراعٍ تخوضه (وتُحْرِز فيه الغَلَبَة) ضدَّ "قوى (داخلية) مضادة"، هي "قوى التنافُر" بين تلك النوى، فكلَّما تقارَبَت النوى الذرِّية اشتدَّ وقوي التنافُر بينها؛ فهل يؤدِّي المضي قُدُماً في عملية التقريب بين نوى الذرَّات إلى ما يَحْمِل على الاعتقاد بأنَّ "التنافُر المتزايد" سيستمر إلى ما لا نهاية؟

كلاَّ، لا يؤدِّي، ويجب ألاَّ يؤدِّي، ففي آخر المطاف نرى اشتداد التنافُر (المتأتِّي من ازدياد التقارُب) يتحوَّل إلى نقيضه الطبيعي والحتمي وهو "التجاذُب"، فنوى الذرَّات تندمج، أخيراً، وتتَّحِد.

أُنْظُر إلى مُكوِّنات نواة الذرَّة من البروتونات، فَتَجِدْها متجاذبة، مُتَّحِدة، مُتماسِكة، على ما بينها من تنافُر. إنَّ "تنافُرها" لم يُحُلْ بينها وبين "التجاذب"؛ وإنََّ "تجاذبها" لم يلغِ (إلغاءً مُطْلَقاً ميتافيزيقياً) وجود "التنافر"، أي استمرار وجوده، فليس "تجاذبها"، في حقيقته، سوى "التنافُر المسيطَر عليه".

و"الجاذبية"، على ما نرى عملها في باطن النجم، هي التي تتولَّى اسْتِجْماع المادة، التي هي "مادة متنافِرة"؛ لأنَّها تتألَّف من نوى الذرَّات. ولو أمعنت النظر في كل عمل تقوم به "الجاذبية" في بواطن النجوم لوَجَدَتَّ أنَّ عملها يَسْتَلْزِم بدايةً وحتماً وجود قوَّة مضادة لها، فتخوض "الجاذبية" صراعاً ضدَّها، حتى تَخْرُج منه منتصرة؛ ولكنَّها مهما انتصرت فلن تسود سيادة مُطْلَقَةً، فـ "سيادتها العظمى" إنَّما هي الحال التي فيها يتأكَّد أنَّ القوى (الداخلية) المضادة لـ "الجاذبية" ما زالت موجودة؛ ولكنْ وجوداً مسيطَراً عليه، ومكبوحاً.

الجاذبية تَضْغَط كتلة الجسم. تُقلِّصه حجماً، وتزيده كثافةً. وينتهي عملها هذا إلى "إشعال وقوده". إنَّها سبب اشتعال وإحراق "الوقود" في داخل الشيء. "اشتعال الوقود" يأتي، أوَّلاً، بما يصارِع ويقاوِم الجاذبية وعملها، أي بما يؤدِّي إلى زيادة الحجم، وتقليل الكثافة. ولكن، في آخر المطاف، لا يبقى في الشيء من "وقود" يمكن إشعاله، فتوجِّه الجاذبية ضربتها القاضية، فيشرع الشيء ينهار، وكأن لا مقاوِم في داخله لهذا الانهيار الجاذبي. إنَّ "الاندماج النووي" هو المُنْتِج للقوى المضادة لانهيار كتلة النجم بجاذبيته الداخلية.

"المادة"، أي "العالَم المادي بأسره"، لا يُمْكِنها أبداً أن تخلو من "تناقضها السرمدي (الأزلي ـ الأبدي)"، وهو التناقض بين "قوى التركيز (التكثيف،التجميع، التوحيد، الدمج)" و"قوى التشتيت (التفريق، التجزيء، التفكيك، الفصل)"، فتاريخ تطوُّر الكون إنَّما هو تاريخ الصراع السرمدي بين هذه القوى وتلك، تارةً ترجح كفَّة "قوى التركيز"، وطوراً ترجح كفَّة "قوى التشتيت"؛ ولن نرى في الكون، ولا في أي جزء من أجزائه، ولا في أي زمن من أزمانه، وجوداً لـ "قوى التركيز" وحدها، أو وجوداً لـ "قوى التشتيت" وحدها. وظاهرة "انهيار المادة على نفسها" إنَّما تَعْكس "قوى التركيز" في سيادتها العظمى، التي (أي هذه السيادة) يمكن، ويجب، فهمها على أنَّها "قوى التشتيت" المكبوحة، والمسيطَر عليها سيطرة عظمى.

إنَّ نتيجة من نتيجتين ينتهي إليها دائماً التطوُّر الفيزيائي والكوني: "تجميع" المادة، و"تركيزها (تكثيفها)"، أو "تشتيتها (تفريقها)"، و"تقليل كثافتها".

في نوى الذرَّات الكبيرة نرى "تجميعاً" للمادة، أي ضمَّ بروتونات ونيوترونات إلى بعضها بعضاً. وعليه، نرى "الكتلة" تنمو. و"الكتلة" نفسها يمكن "تركيزها" في حيِّزٍ أصغر، أي تقليل "الحجم"، وزيادة "الكثافة" بالتالي. و"المُتَجَمِّع" من المادة قد "يتشتَّت (ويتفرَّق)". و"الكتلة" نفسها قد يزداد "حجمها"، وتقل "الكثافة" بالتالي. إنَّ عمل كل قوَّة فيزيائية ينتهي، دائماً، إلى هذه النتيجة، أو تلك.

انكماش المادة (كانكماش نواة نجمٍ مُكوَّنة من الهيليوم) إنَّما هو تَرَكُّز، أو تَكَثُّف، "الكتلة" في حيِّز أصغر. هذا الانكماش، يؤدِّي، بحسب هذا المثال، إلى رفع درجة حرارة نواة النجم. ارتفاع درجة الحرارة إلى نقطة معيَّنة يؤدِّي إلى إرغام نوى الهيليوم على الاندماج، فينشأ عن اندماجها نوى الكربون وطاقة جديدة.

المادة المنكمشة تغدو حارَّة بسبب انكماشها. حرارتها تتغلَّب على قوى مضادة لاندماج (وتوحُّد، وتَجَمُّع، وتَركُّز) المادة، فتندمج أكثر. مع كل اندماج تتولَّد حرارة، أي تنمو القوَّة المولِّدة لمزيد من الاندماج. ما أن تنتهي عملية معيَّنة من الاندماج حتى تنشط الجاذبية، فتتعرَّض المادة إلى مزيدٍ من الانكماش..

"المادة" هي دائماً وأبداً هذا الاتِّحاد الفيزيائي الذي لا انفصام فيه بين "الزمان"، و"المكان"، و"الحركة في المكان"، و"قوى التركيز والتشتيت في صراعها السرمدي".

الكون، أي كوننا، لن نفهمه، نشوءاً، حقَّ الفهم، إلاَّ بدءاً من نظرية، أو ظاهرة، "انهيار المادة (الحتمي) على نفسها"، على أنْ نُنَقِّي هذه النظرية، أو الظاهرة، من كل الشوائب الميتافيزيقية.

لِنَقُلْ بـ "البيضة الكونية"، أو بـ "النقطة المتناهية في الصِغَر"، أو بما يشبههما، مُبْتِدَأً، أو مَنْشأً، للكون، على أنْ نَنْبُذَ من تصوُّرنا الفيزيائي والكوزمولوجي لها "الحجم الصفري (أو المعدوم)"، والذي لا سَنَدَ له في الفيزياء وقوانينها.

لِنَقُلْ بذلك، على أن نفهم نشوءها، أو وجودها، على أنَّه نتيجة، أو ثمرة، انهيار للمادة على نفسها، كانهيار مادة نجم ضخم الكتلة، في نهاية حياته، وتحوُّله، بالتالي، إلى "ثقب أسود" Black Hole، على أنْ نُنَقِّي هذه الظاهرة الفيزيائية الكونية ("الثقب الأسود") من الشوائب الفلسفية الميتافيزيقية.

إنَّنا مع فَهْمٍ لـ "الفضاء" يُوافِق أركان ومبادئ نظرية "النسبية العامة" لآينشتاين، فـ "الفضاء الماورائي" Hyperspace هو كل فضاء، وأيُّ فضاء، لا يمكننا الاتَّصال به، أو إدراك وجوده، مع أنَّه موجود (موضوعياً).

"النسبية العامة" لا تَرْفُض، من حيث المبدأ، وجود ظاهرة "الفضاء الماورائي"، والتي قوامها "انعدام التأثير الفيزيائي" بينه وبين كوننا، أو فضائنا الكوني، لوجود سبب فيزيائي يمنع منعاً تاماً، أو شبه تام، تبادُل التأثير الفيزيائي (والضوء) بيننا وبينه.

ونحن نَعْلَم أنَّ هذا يحدث،أو يمكن أن يحدث، بسبب أنَّ التأثير الفيزيائي المُنْطَلِق، والذي يسير بسرعة الضوء، يجتاز ويَقْطَع مسافة فضائية تَتَّسِع وتتمدَّد وتستطيل بما يَحُول بينه وبين بلوغ نهايتها؛ وهذا إنَّما يشبه أنْ تنطلق بسرعة قصوى من مُؤخَّر قطار نحو مُقدَّمه من غير أن تتمكَّن من الوصول إلى مُقدَّمه بسبب أنَّ القطار يزداد طولاً (يتمدَّد) في الوقت نفسه، بما يَحُول بينكَ، على "سرعتكَ القصوى"، وبين الوصول إلى مُقدَّمه. على أنَّ هذه العقبة الفيزيائية الكبرى التي تعترِض مسيركَ في داخل القطار يمكن أن تزول، وأنْ تصل، بالتالي، إلى مُقدَّم القطار، إذا ما زال ذلك السبب المانِع، أي إذا ما تباطأ تمدُّد القطار (بما يسمح لكَ بإتمام الرحلة، أو إذا ما شرع طول القطار يتقلَّص.

أمَّا السبب الآخر لحدوث هذه الظاهرة فهو "اشتداد انحناء وتقوُّس الفضاء والمكان"، أي اشتداد "الجاذبية"، بما يتسبَّب بمنع "التأثير الفيزيائي" من الانطلاق بعيداً، وعودته السريعة، بالتالي، إلى النقطة التي منها انطلق، أو دورانه حَوْل الجسم، أو حَوْل كوننا.

ونحن يكفي أن نفهم الفضاء، ونتصوَّره، على هذا النحو حتى يصبح ممكناً أنْ نفهم ونتصوَّر كوننا على أنَّه "كرة ضخمة" تَكْبُر حجماً في استمرار، في داخلها، أو جوفها، "فضاء ماورائي"، وفي خارجها (أي يحيط بها) "فضاء ماورائي" آخر.

إنَّ مقداراً هائلاً من المادة (أو كَوْناً سابقاً) قد انهار على نفسه، متحوِّلاً إلى "بيضة كونية"، فيزيائية (لا ميتافيزيائية) الخواص والماهية، فانبثق منها كوننا الحالي.

ويكفي أنْ نقول بثبات هذا المقدار من المادة (فكيف له أن ينقص إذا ما كان عاجِزاً عن الهروب من هذا السجن الفيزيائي) حتى نَسْتَنْتِج أنَّ انهيار مادة كوننا الحالي على نفسها هو النتيجة النهائية، والحتمية، التي سينتهي إليها تمدُّد الكون.

لِنَعُدْ إلى "المفتاح"، أي إلى ظاهرة انهيار مادة نجم ضخم (الكتلة) على نفسها..

في هذه الظاهرة، وعلى نحو مُبَسَّط ومُخْتَصَر نقول: في البدء، كان النجم، أي قبل أن يصبح نجماً، سحابة ضخمة من غاز الهيدروجين. كانت تلك السحابة باردة، مُظْلِمَة، هائلة الحجم، ضئيلة الكثافة، التي كانت متفاوتة الشِّدَة بين أجزائها.

"الجاذبية"، ومنذ البدء، كانت تَعْمَل على استجماع، وتركيز، وتكثيف، غاز السحابة؛ ولقد ساعدها في ذلك أنَّ غاز الهيدروجين كان متفاوِت الكثافة والتركُز بين أجزاء السحابة المختلفة، فالشيء مهما كان متجانساً في كثافة مادته يظل، ويجب أن يظل، منطوياً على شيء من التفاوت.

وكلَّما تَجَمَّع، وتركَّز، وتَكثَّف، مقدارٌ من غاز السحابة، بفضل جاذبيتها الداخلية، أصبح في مقدور هذا المقدار (المُجمَّع، المُركَّز، المُكثَّف) أن يجتذب إليه مزيداً من غاز السحابة.

وفي آخر المطاف، غدت السحابة على هيئة كرة ضخمة، لها "مَرْكَز"، هو الموضع الأكثر كثافةً وتركُّزاً، والأكثر تأثُّراً بضغط ثِقَل مادة هذا الجسم الكروي.


"الجاذبية" في مَرْكَز، أو باطن، هذه السحابة، أو هذا الجسم الكروي الذي لم يَغْدُ نجماً بعد، نجحت، أخيراً، في التغلُّب على قوى التنافر بين نوى ذرَّات الهيدروجين، مُقَرِّبة بعضها إلى بعضٍ أكثر فأكثر، حتى شرعت تندمج (في مناخ اشتداد حرارة وسخونة المركز).

لقد وُلِدَ ونشأ وتكوَّن النجم إذ شرعت نوى ذرَّات الهيدروجين في باطنه، وفي المركز من باطنه، تندمج، مُولِّدةً، بالتالي، حرارة وضوء. ومع كل اندماج نووي يَفْقِدُ مركز النجم جزءاً، أو نزراً، من كتلته. وهذا الجزء المفقود هو ما يَنْتُج من الاندماج النووي من حرارة وضوء (طاقة).

وهذا "الناتِج"، أو "المُنْتَج"، أي "الطاقة"، أو "الحرارة"، هو الذي يَدْفَع مادة النجم نحو "التمدُّد"، عامِلاً، بالتالي، في اتِّجاه معاكِس ومضاد لاتِّجاه عمل الجاذبية الداخلية المركزية (وهو الانكماش والتقلُّص).

ومع كل "تمدُّد" يَفْقَد النجم جزءاً من طاقته وحرارته فيَبْرُد نسبياً، فتضعف، بالتالي، قوَّة الضغط الحراري المضادة للجاذبية النجمية الداخلية، فتقوى هذه الجاذبية، ويشتدُّ ساعدها، فتبدأ، بالتالي، عملية جديدة من الاندماج بين نوى ذرَّات الهيدروجين في مركز النجم.

والنجم عظيم الكتلة إنَّما هو النجم سريع الموت والزوال؛ لأنَّه يستنفد سريعاً طاقته النووية، مُنْتِجاً في فرنه النووي، أي في مركزه، آخر منتجاته وهو "الحديد"، الذي لا تقوى الطاقة الحرارية هنا، أي في مركز النجم، على دمج نواه الذرِّية، فتضعف كثيراً قوَّة الضغط الحراري، وتقوى كثيراً، بالتالي، الجاذبية النجمية المركزية، فتنهار كل مادة النجم على ذاتها انهياراً لا مثيل له لجهة قوَّته وشدَّته، فيقع "انفجاران ضخمان"، انفجارٌ نحو الداخل، وانفجار، في الوقت نفسه، نحو الخارج.

وفي لحظة الانفجار نحو الخارج، وبسبب ما يتولَّد من حرارة هائلة، تُنْتَج (بالاندماج النووي) العناصر الأثقل من الحديد، في طبقات النجم الخارجية، أي المحيطة بمركزه، ثمَّ تُقْذَف، بقوَّة هذا الانفجار Supernova، العناصر الجديدة، ومعها عناصر مُنْتَجة من قبل، بعيداً في الفضاء الكوني.

أمَّا انهيار نواة النجم على نفسها (الانفجار نحو الداخل) فلا يتوقَّف حتى تحوُّل النواة المنهارة إلى "ثقب أسود". وليس ثمَّة ما يمنع من أن أفْتَرِض أنَّ القوى الفيزيائية الأربع تعود إلى الاندماج والاتِّحاد والانصهار في "قوَّة واحدة" في العُمْق من "الثقب الأسود".

والآن، كيف يمكننا أن نتَّخِذ من نظرية، أو ظاهرة، "الثقب الأسود"، بعد تنقيتها من الشوائب الميتافيزيقية، سبيلاً إلى فهم وتصوُّر وتفسير نشوء الكون؟

لِنَتَخَيَّل كَوْناً سابقاً انهار على نفسه انهيار نجمٍ ضخم الكتلة، فتحوَّلت نواته (أي نواة الكون السابق) إلى "ثقب أسود هائل"، وتناثرت بقية مادته، أو مسحوق مادته، ثمَّ تحوَّلت إلى نجومٍ ومجرَّات.. في كَوْننا؛ أو لِنَتَخَيَّل أنَّ الانهيار كان كاملاً، فتحوَّلت كل مادة الكون السابق، إذ انهارت على نفسها، إلى "ثقب اسود هائل"، منه وُلِدَ كوننا.

لِنَفْتَرِض أنَّ نصف قطر هذا "الثقب الأسود" يَعْدِل، طولاً، مسافة يقطعها الضوء في زمن مقداره 50 بليون سنة.

نواة (Singularity) هذا "الثقب الأسود (الكوني)" هي "نقطة متناهية في الصِغَر والضآلة"؛ ولكنَّها ليست "عديمة الحجم". إنَّها نقطة تركَّزت فيها كل مادة الكون السابق، فكانت في منتهى الكثافة؛ وكان "الزمان" فيها في "منتهى التمدُّد (أي البطء)"، و"المكان"، أو "الفضاء"، في "منتهى التقلُّص (أو الانكماش)".

"محيط" دائرة هذا "الثقب الأسود الكوني"، أي "أُفْق الحدث" Event Horizon، يَبْعُد عن "النواة"، أو "المركز"، 50 بليون سنة ضوئية (50 ألف مليون سنة ضوئية) بحسب افْتراضنا.

إنَّه "فضاء فارِغ" Vacuum أو Empty Space هذا الذي يقع ما بين "المركز" و"المحيط" من دائرة "الثقب الأسود الكوني".

سأفْتَرِضْ أنَّ هذا "المركز"، ولِفَرْط انحناء وتقوُّس المكان، أو الفضاء، فيه، وحَوْلَه، يَمْنَع حتى الضوء (الذي يسير بالسرعة القصوى في الطبيعة) من مغادرته، أو الإفلات من قبضته (الحديدية).

ولكنَّ هذا المركز سيتفاعل مع ذلك "الفضاء الفارِغ" بما يُوافِق نظرية "إشعاع هوكينغ"..

هذا "الفضاء الفارِغ" يُنْتِج، في استمرار، أزواجاً من الجسيمات الطيفية (الشبحية، الظلالية، غير الحقيقية) المتضادة Virtual Particles. لِنَفْتَرِض أنَّه أنْتَجَ منها إلكترون وبوزيترون، وأنَّ أحدهما (البوزيترون مثلاً) قد سقط في عُمْق هذا المركز بسبب ما يملكه من قوَّة شدٍّ أو سَحْبٍ هائلة.

بسبب ذلك يَفْقِد هذا المركز (وكأنَّه "يتبخَّر") جزءاً من مادته (أو طاقته) فيتحوَّل هذا "المفقود" إلى "كتلة" في "الإلكترون (الشبحي)" المُنْتَظِر في الخارج، أي في ذلك الجزء من "الفضاء الفارِغ".

وفي هذه الطريقة يمكننا حل مشكلة "الفَرْق في المقدارين" بين "المادة" و"المادة المضادة"، فهذا "التبخُّر"، أو "إشعاع هوكينغ"، يمكن أن يكون هو الذي أنْتَج مقداراً أكبر من "المادة"، أي من الإلكترونات بحسب مثالنا.

لقد "تبخَّر" جزء كبير من مادة "المركز"، وامتلأ، بالتالي، "الفضاء الفارِغ" في جوار "المركز" بمقدار كبير من "جسيمات المادة"، كالإلكترون والكوارك.

ومن هذا المقدار تكوَّنت النجوم والمجرَّات و"عناقيد المجرَّات".. مُنْتَشِرةً في محيط متِّسِع (ضِمْن هذا "الفضاء الفارِغ"). ولسوف تستمر في انتشارها حتى "أُفْق الحدث"، الذي هو الحدِّ الذي يبعد عن "المركز (المتبخِّر)" 50 بليون سنة ضوئية، بحسب افْتِراضنا، والذي لا يمكن الإفلات منه إلى فضاء آخر، أي إلى "فضاء ماورائي" Hyperspace.

هذا "الانتشار" ما أن يبلغ حدُّه الأقصى (50 بليون سنة ضوئية) حتى ينهار كوننا على نفسه.

في هذا المثال الافتراضي لدينا ثلاثة فضاءات: الفضاء المحيط بـ "المركز"، والمنحني حَوْلَه انحناءً لِفَرْط شدَّته يمنع حتى الضوء من مغادرة هذا "المركز"؛ و"الفضاء الفارِغ (الواسع)" الممتد من "المركز" حتى "محيط الدائرة الكونية"، أي "أُفْق الحدث"، والذي طول نصف قطره 50 بليون سنة ضوئية، وفيه يتمدَّد الكون؛ و"الفضاء الماورائي" Hyperspace الذي يقع في خارج "أُفْق الحدث"، أي في خارج "محيط دائرتنا الكونية".

إذا استثنينا "التبخُّر"، أو "إشعاع هوكينغ"، تفسيراً وتعليلاً، فليس ثمَّة ما يمنع من افْتِراض "انفجار" هذا "المركز"، أو "النقطة المتناهية في الصِغَر (اللا صفرية الحجم)"، أو "البيضة الكونية"، بما يتَّفِق مع بعضٍ من نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang.

إنَّ المادة المركَّزة في هذا "المركز"، أي في "البيضة الكونية"، والتي هي كل مادة الكون السابق، قد شرعت تنتشر بما يوافِق مثال "البالون الكوني".

ثمَّة فضاء يَكْبُر في استمرار هو الفضاء في داخل "البالون الكوني"؛ ولكنَّ هذا الفضاء ليس بجزء من كوننا، ولا يمكننا الاتِّصال به، أو تبادل التأثير الفيزيائي معه.

وثمَّة فضاء آخر، هو الفضاء في خارج "البالون الكوني"، والذي فيه يتمدَّد الكون؛ ولكنَّ هذا الفضاء هو، أيضاً، ليس بجزء من كوننا.

الفضاء المتمدِّد، والمتسارِع تمدُّداً، والذي بسبب تمدُّده تتَّسِع المسافة الفضائية بين كل عنقودين من المجرَّات، هو، وحده، الذي يُعَدُّ جزءاً لا يتجزأ من كوننا.

إنَّ نصف قطر كوننا ينمو في استمرار؛ ولكنَّه لم يبلغ بعد أقصاه، الذي يبلغ، في مثالنا الافتراضي، 50 بليون سنة ضوئية.

الصراع مستمرٌ بين تلك "الطاقة" التي ينطوي عليها فضاء كوننا، والتي تسبِّب تمدُّد هذا الفضاء، وبين الشد الجاذبي الكوني نحو الداخل.

افْتَرِضْ، الآن، أنَّ سبباً فيزيائياً كونياً ما سيؤدِّي، في آخر المطاف، إلى إحراز هذا الشد الغلبة، وإلى انهيار مادة الكون، بالتالي، على نفسها، وصولاً إلى تركُّزها في "بيضة كونية" جديدة.

إنَّ المادة التي انطوت عليها "البيضة الكونية" القديمة، أي "بيضة كوننا الحالي"، لا يمكنها أن تنتشر وتتمدَّد بما يجعل نصف قطر الكون أكبر من 50 بليون سنة ضوئية (= نصف قطر "الثقب الأسود الكوني") فكوننا إنَّما يتمدَّد "ضِمْن" فضاء (منفصل تماماً عنه) هو نفسه المنطقة التي يمكن تسميتها "أُفق الحدث الكوني"، والتي طول نصف قطرها 50 بليون سنة ضوئية.

كوننا ما أن يَسْتَنْفِد، في تمدُّده المستمر، والمتسارِع الآن، هذه المسافة حتى يشرع ينهار على نفسه، متحوِّلاً إلى "بيضة كونية" جديدة، تتهيَّأ في داخلها الأسباب لـ "انفجار كبير" جديد.

لقد انبثق كوننا، بقوَّة "الانفجار الكبير"، من "نقطة مادية متناهية في الصِغَر"؛ ولكنَّ هذه "النقطة" مادية صرف، يتَّحِد فيها اتحاداً لا انفصام فيه الزمان والمكان (بأبعاده الثلاثة) ويُعَدُّ الفضاء جزءاً لا يتجزَّأ منها، ويبلغ فيها الزمان منتهى تمدُّده، والمكان (مع الفضاء) منتهى تقلُّصه. إنَّها نقطة تشتمل على كل الكتلة الكونية، في حجم متناهٍ في الصِغَر والضآلة؛ ولكنه ليس بالحجم الصفري أو المعدوم. وعليه، تبلغ فيها كثافة المادة نهايتها العظمى، أي حدُّها الأقصى، فهي كثافةٌ ليست بـ "مُطْلَقَة".

في هذه "النقطة"، وفي الكون المنبثق منها، ليس من فناء للمادة، أو خلق لها من العدم، فمقدار المادة الكونية ثابت لا يتغيَّر، زيادةً أو نقصاناً. وإذا كان "الفضاء الفارِغ فراغاً مُطْلَقَاً" لا وجود له فإنَّ "فكرة العدم" يجب أن تُطْرَد إلى الأبد من تفكيرنا الفيزيائي والكوزمولوجي.

إنَّ مادة الجسم تسقط، لدى انهيارها على نفسها، في داخل ما يشبه "البئر"، الذي نسمَّيه "أُفْق الحدث"؛ وهي في تمدُّدها، انطلاقاً من "مركزها"، أو "نقطتها المتناهية في الصِغَر"، إنَّما تَصْعَد، حَجْماً، ضِمْن هذا "البئر" حتى تبلغ الحد الذي يمثِّل "فتحته".

وفي تفسير آخر لتفوُّق "المادة" على "المادة المضادة"، أستطيع أن أفْتَرِضْ أنَّ "الانفجار الكبير" خلق مقدارين متساويين من الجسيمات والجسيمات المضادة (كجسيمي الإلكترون والبوزيترون) وأنَّ النتيجة النهائية للمعركة بينهما كانت "كَوْنٌ كله طاقة خالصة".

الآن، أفْتَرِض أنَّ هذا الكون عرف، أيضاً، النوع البدائي من "الثقوب السوداء"، وأنَّ هذا الكون المؤلَّف من "الطاقة الخالصة" و"الثقوب السوداء البدائية الصغيرة"، تمدَّد أكثر، وبرد أكثر.

في الفضاء المحيط بكل "ثقب" كان يظهر زوج من الجسيمات المتضادة، فيُسْحَب أحدها إلى عٌُمْق هذا "الثقب"، فـ "تتبخَّر" كمية من طاقته، فيتحوَّل الجسيم الآخر (غير الحقيقي المنتظِر في خارج "الثقب") إلى جسيم حقيقي. هذا الجسيم الحقيقي قد يكون إلكترون أو بوزيترون. وبالمصادفة، أو لسبب ما، كانت نسبة الإلكترونات، مثلاً، هي الأكبر.

نحن نعلم أنَّ "الطاقة الخالصة"، بُعَيْد "الانفجار الكبير"، كانت تتحوَّل، في استمرار، إلى "جسيمات مادية متضادة".. إلى إلكترون وبوزيترون مثلاً؛ ولكن أليس ممكناً تحويل مقدار معيَّن من "الطاقة الخالصة"، بعد "تركيزه" في "حيِّز صغير"، إلى إلكترون فقط، أي إلى جسيم من المادة غير مقترِن بجسيمه المضاد؟!

ولِمَ لا يكون ممكناً بُعَيْد "الانفجار الكوني"، "تركيز" مقدارٍ هائل من "الطاقة الخالصة" في "حيِّز متناهٍ في الصِغَر والضآلة"، توصُّلاً إلى خلق "ثقب أسود صغير"، يتولَّى هو (وغيره) إنتاج كمية من "المادة" أكبر من كمية "المادة المضادة"، في "الفضاء الفارِغ" المحيط به، عبر "إشعاع هوكينغ"؟!


الشيء، ولو كان الكون نفسه، ما أن يستسلم لضغط جاذبيته الهائل، حتى تنهار مادته على نفسها، متحوِّلةً إلى "نقطة متناهية في الصِغَر"، "حجمها ليس بصفريٍّ"، مهما تضاءل، "في منتهى الكثافة"، تَعْرِف "المكان" بأبعاده الثلاثة، أي الطول والعرض والارتفاع"، وتَعْرِف "الزمان" أيضاً، وإنْ كان في منتهى التمدُّد، أي البطء، وينحني حَوْلها الفضاء، ويتقوَّس، انحناءً وتقوَّساً، في منتهى الشِدَّة.

ويبدو أنَّ القائلين بـ "انعدام الزمن" في "البيضة الكونية" قد ضربوا صفحاً عن "الزمن الحقيقي"، وهو الزمن الذي يقيسه مراقِب ينتمي مع ساعته إلى نظام مرجعي واحد.

"الزمن الحقيقي" إنَّما هو الزمن الذي أقيسه بساعتي أنا؛ و"أبعاد المكان الحقيقية" إنَّما هي الأبعاد التي أقيسها بمتري أنا؛ فـ "القياس الحقيقي (للزمان والمكان..)" إنَّما هو كل قياس أقوم به أنا.

قد يسألُكَ سائِل: إذا كان سفركَ بسرعة تقارب سرعة الضوء إلى الكوكب X الذي يبعد عن الأرض 4 سنوات ضوئية يستغرق زمناً مقداره دقيقة واحدة (بحسب ساعتكَ أنتَ) فلماذا يقطع الضوء المسافة نفسها في 4 سنوات؟

إذا سألَ أحدهم هذا السؤال (الفاسِد) فينبغي لكَ أن تجيبه قائلاً: إنَّ الضوء، بحسب ساعة المراقب الأرضي، يقطع تلك المسافة في زمن مقداره 4 سنوات؛ أمَّا بحسب ساعته هو، أي بحسب ساعة الضوء، فإنَّه يقطعها في زمن مقداره صفر (تقريباً) فـ "الصفر" هو الزمن الحقيقي بالنسبة إلى ساعة الضوء.

عقارب ساعة رائد الفضاء، الذي هبط على سطح كوكب شديد الجاذبية، تتحرَّك في بطء؛ لأنَّ الزمن هناك يبطؤ. وبطء الزمن إنَّما يعني أنَّ كل الأحداث تسير هناك في بطء (من وجهة نظر المراقِب الخارجي، أي المراقب الموجود على سطح كوكب جاذبيته أقل).

"الحقيقة"، في بُعْدِها الزماني، وأبعادها المكانية، تختلف باختلاف النُظُم المرجعية التي منها يُنْظَر إليها.

وعليه، لا يبطؤ الزمن بُطئاً لا مثيل له لجهة شِدَّته، في "البيضة الكونية"، إلاَّ إذا قيس بساعة "مراقِب خارجي"، يراقب (إذا ما كان في مقدوره أن يراقِب) تلك "البيضة" من موضعٍ (= "نظام مرجعي") أقلُّ جاذبية بكثير. لو كان هذا المراقِب في داخل تلك "البيضة" لَمَا قال ببطء، أو انعدام، الزمن فيها.






#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مؤتمرات تكافِح الفساد بما ينمِّيه!
- الأخطر في أقوال اولمرت لم يكن القدس!
- -قضاءٌ- وظَّف عنده -القضاء والقدر-!
- جريمة في حقِّ -العقل الفلسطيني-!
- تفاؤل رايس!
- ثلاثية -الإيمان- و-العقل- و-المصلحة-!
- -المجلس الأعلى للإعلام- إذ حسَّن -مسطرته-!
- ادِّعاء القدرة على -تثليث الاثنتين-!
- -نور-.. صورتنا!
- رايس تدير الحملة الانتخابية لماكين!
- -أزمة المعلومات- في جرائدنا اليومية!
- -الدولة-.. عربياً!
- -اتِّفاق التهدئة-.. نتائج وتوقُّعات!
- غساسنة ومناذرة ذهبنا إلى باريس!
- تسلُّح مُنْتِج للضعف!
- توقُّع الأسد.. و-مبادرة- فياض
- هل يخضع نفط العرب ل -انتداب دولي-؟!
- بيريز الغاضب على عباس!
- مهاجمة إسرائيل لإيران.. متى تغدو حتمية؟
- خبر له وقع الصاعقة.. من -فينيكس-!


المزيد.....




- -جريمة ضد الإنسانية-.. شاهد ما قاله طبيب من غزة بعد اكتشاف م ...
- بالفيديو.. طائرة -بوينغ- تفقد إحدى عجلاتها خلال الإقلاع
- زوجة مرتزق في أوكرانيا: لا توجد أموال سهلة لدى القوات المسلح ...
- مائتا يوم على حرب غزة، ومئات الجثث في اكتشاف مقابر جماعية
- مظاهرات في عدة عواصم ومدن في العالم دعمًا لغزة ودعوات في تل ...
- بعد مناورة عسكرية.. كوريا الشمالية تنشر صورًا لزعيمها بالقرب ...
- -زيلينسكي يعيش في عالم الخيال-.. ضابط استخبارات أمريكي يؤكد ...
- ماتفيينكو تؤكد وجود رد جاهز لدى موسكو على مصادرة الأصول الرو ...
- اتفاق جزائري تونسي ليبي على مكافحة الهجرة غير النظامية
- ماسك يهاجم أستراليا ورئيس وزرائها يصفه بـ-الملياردير المتعجر ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - ما هو الكون؟