أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سعيد مضيه - الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد التنوير في فلسطين-















المزيد.....


الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد التنوير في فلسطين-


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 2357 - 2008 / 7 / 29 - 10:05
المحور: القضية الفلسطينية
    


مقدمة كتاب "رواد التنوير في فلسطين"

2- زمن الاصطدام
قدر الثقافة التنويرية في فلسطين، وهي تقارب الفساد والتجهيل، خوض الصراع على جبهتين: جبهة الوافد الأجنبي الماديّ والفكري، وجبهة الموروث القديم المتخلّف عن عهود الاستبداد المديدة، وما ترتب عنه من تهميش القوة الاجتماعية الأساس في مقاومة الهجمة الوافدة، ونعني بها جماهير الفلاحين الفلسطينيين المكبّلين بقيود التخلف والاستبداد التي تبدو قدرا لا فكاك منه، عانى الفلاح الفلسطيني من إدارة لا تحسن غير توسيع الخراب. أدخل هذا الموروث الشعب الفلسطيني في علاقة غير متكافئة وتبعية مع الوافد الجديد الذي حرص بدوره على تسخير الموروث وتوظيفه لتدعيم هيمنته وتعزيزها. ومن هذه الظاهرة تناسلت شتى العلل الاجتماعية التي رسخت الوهن وأفقدت القدرة على الانتقال من المقاومة إلى الهجوم.
ما أُنتج في تلك المرحلة من كتابة لم يحفظه التاريخ الأدبي. حملت مرحلة الاستعمار التركي التي امتدت أربعة قرون صفات "الظلاميّة" وعصر "الانحطاط" و"الموات". تعزز الخمول الفكري نتيجة محدودية وسائل الاتصال الجماهيري التي سادت حتى إعلان دستور عام 1908، فقد اقتصر التواصل على الخطب في المناسبات العامة، والحلقات الأدبية. وإذا ما صدر كتاب يتعذر إيصاله وتوزيعه. ولا تدخل الصحف إلى فلسطين إلا مصادفة. وقد كان لهذا الوضع تأثيره السلبي ليس على الأدب فحسب وإنما على اللغة العربية والثقافة الفلسطينية.
ركزت الثقافة المناهضة للصهيونية لدى المنوّرين الفلسطينيين وقطاع من المثقفين العرب على التحذير من خطورة الاستيطان اليهودي والتنديد به. لكنّ أحداً لم يطرح سبل جسر الهوة الواسعة بين إمكانات المستوطنين اليهود والوضع المزري للفلاحين الفلسطينيين. جرى إغفال عوامل الضعف الذاتية، وكذلك سبل التغلغل في النفسية الاجتماعية والتعرف عليها من أجل توجيهها ومساعدتها على التغيير. لم ينشد النسق الثقافي الدارج الثورة على الأوضاع وتغييرها عبر تنوير الفلاح ومساعدته على نفض الخمول والاستلاب والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية على وجه الخصوص. كما لم يعنّ المثقف التنويري نفسه بالنزول إلى الجماهير والأخذ بيدها. حقا، لم يكن قدر الهجرة اليهودية مانعاً وكلّي السطوة بقدر ما انطوى التعامل معها على الجهل بطبيعتها وبقدراتها وإغفال حقيقة أن المواجهة معها تستغرق حقبة زمنية مديدة. تعاملت الفعاليات النافذة في الحركة الفلسطينية مع الوافد طبقاً لمنطلقات مجردة إطلاقية لم تأخذ ميزان القوى بنظر الاعتبار: إسلام ضد يهودية، والخير ضد الشر والصواب ضد الخطأ، مع حتمية ساذجة بانتصارالإسلام والخير والصلاح.
تظهر وثائق التاريخ أن الأطماع التوسعية للغرب في المنطقة كانت المبادِرة لإنشاء المستعمرات في فلسطين قبل قيام الحركة الصهيونية بزمن طويل. تناول هذه السيرورة الدكتور اميل توما ، إذ تتبع" طلائع المستوطنين إلى البلاد منذ عام1868 وهم يتبعون نحلة طائفية مسيحية سمت نفسها تمبلرز، أي بناة الهيكل(في ألمانيا)... وكالعادة لم يغير طابعها الديني من دورها الكولنيالي". وفي هذا الصدد ينقل عن هوارس ماير كالين في كتابه " الصهيونية والسياسة الدولية" تأكيده أن " فكرة بعث إسرائيل انتشرت على صعيد السياسة العملية والمستوى الديني! في بريطانيا وفرنسا بين غير اليهود بشكل أوسع من انتشارها بين اليهود. فبالنسبة لهونفورث، حين كتب في العام 1852،’ ملاحظات حول وضع اليهود في فلسطين‘ لم تكن إقامة الدولة اليهودية عملاً إنسانيا وعادلاً، بل ضرورة سياسية في الذهن البريطاني لحماية الطريق عبر آسيا الصغرى إلى الهند... قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول قامت هيئات يهودية بالاستيلاء على أراضي في فلسطين... وإقامة مؤسسات اجتماعية واقتصادية عليها....وكان قد اشترى قنصل ألمانيا في يافا أرض مستعمرة بيتح تكفا(ملبس)... والمعروف أن أسياد الأرض الغائبين هم الذين بادروا إلى بيع أكثرية المساحات لإقامة المستوطنات اليهودية... وبرز بين هؤلاء آل سرسق أصحاب المصارف في بيروت، افي نشوء أحياء في القدس وحيفا مثلاً عرفت بالكولنيالية الألمانية". جرى ذلك إبان احتدام المنافسة على الاستئثار بمنطقة الشرق الأوسط بين الضواري الامبريالية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وهذا أحد الشواهد على أن فكرة إقامة الدولة العبرية في فلسطين انبثقت في رؤوس طلائع التوسع الكولنيالي الأوروبي قبل أن تبرز في أذهان الصهاينة اليهود. وطبيعي أن تبحث الحركة الاستعمارية الحديثة عن المبرر، فوجدت ضالتها في الأصوليتين المسيحية واليهودية. وتبنى العديد من أقطاب الحركة الاستعمارية أفكار الأصولية المسيحية وأبدوا الحماس الفائق لفكرة الوطن القومي اليهودي بفلسطين.
كمنت الدوافع المعلنة لبناء المستعمرات في عودة اليهود إلى أرض الميعاد باعتبار ذلك أحد أعمدة الأصولية المسيحية ولاهوتها المسمى لاهوت " ما قبل الألفية "، هذا اللاهوت الوحيد الذي يزعم أن التاريخ يمضي بمشيئة ربانية تمهد بقيام دولة يهودية في فلسطين لقدوم المسيح وحلول ما أطلقت عليه النحلة الطائفية حقبة الألفية السعيدة. وأطلق على هذه التعاليم الخرافية لاهوت ما قبل الألفية. اعتبرت بقية الكنائس البروتستنتية والكاثوليكية والأرثوذكسية هذا اللاهوت هرطقة. لكنه رغم ذلك انتعش في مرحلة تشكل الاحتكارات الامبريالية، حيث توحدت جهود الأصولية المسيحية والأصولية اليهودية في خدمة المغامرات الاستعمارية لبلدان المشرق العربي. وذكر مؤرخون آخرون أن أولى المستعمرات أقامها في عام 1852قنصل أمريكا في القدس مستعمرة، اعتبرها "البداية حيث تقيم الأمة اليهودية وتزدهر". وما إن عقد المؤتمر الصهيوني الأول (1898) حتى كان على أرض فلسطين 22 مستعمرة تستحوذ على مائتي ألف دونم. حينئذ "وصل عدد المستوطنين في فلسطين أربعين ألفا مقابل نصف مليون عربي مواطن يعيشون على ’الأرض الخالية من الشعب‘حسب تصور هيرتسل... ولكن هؤلاء المستوطنين الكولنياليين بفضل تنظيم وطاقات مؤيديهم المالية، ومساندة رجال الإدارة العثمانية المفسدين استطاعوا أن يرسوا أقدامهم في البلاد فيسلكون سلوكا استعلائيا وحشيا عنصريا حتى في ذلك الوقت المبكر من المشروع الصهيوني... ولعل أفضل نموذج وصفي ما أورده منظّر الصهيونية الروحية أحد هعام’ الحقيقة من أرض إسرائيل‘ الصادر في عام 1891جاء في المقال كانوا ـ الكولنياليون ـ عبيدا في أقطار منافيهم، وفجأة وجدوا أنفسهم في وسط برية غير محدودة الحرية توجد في قطر مثل تركيا فقط. هذا التعبير ولّد فيهم ميلاً نحو الطغيان الذي ينمو حين يصلح العبد ملكا. إنهم يعاملون العرب بعداء وقسوة على أراضيهم بدون حق، ويضربونهم بدون مبرر، ويتباهون بذلك"2.
تنطوي هذه الوثيقة على أهمية فائقة، لأن الكتابات الصهيونية اللاحقة تغفل تماما الفعل وتركز على رد الفعل. تغفل الفعل الصهيوني المتمثل في حركة الاستيطان ومباداتها العداء للعرب أصحاب البلاد، وما أسفرت عنه من محن للمزارعين الفلسطينيين، وتستحضر دوما ردود أفعال أولئك المنكوبين في مصادر العيش الكريم. كما أن الكتابات الصهيونية تزعم أن العلاقة استمرت سمن وعسل بين المهاجرين المستوطنين والعرب ولم يتفجر العداء إلا بتحريض من الحاج امين الحسيني، ثم من حماس. يغفلون عنصرية تجلت في مواقف الحركة الصهيونية وأتباعها تجاه العرب كافة، منذ البدايات.
في 24حزيران 1891 وجه أعيان القدس مذكّرة للباب العالي العثماني يطلبون فيها وقف هجرة الصهاينة ومنع بيع الأراضي لهم. وحذّرت المذكّرة من سيطرة اليهود على التجارة المحلية. وشهدت

سنة 1900م حملة توقيع عرائض واسعة النطاق ضد بيع الأراضي للمهاجرين الصهيونيين. وفي سنة 1904 أسس نجيب عازوري في باريس رابطة الوطن العربي، وأدرج في برنامجها بند مكافحة الاستيطان الصهيوني بفلسطين. ارتفع صوت عازوري سنة 1905م محذّرًا من الخطر الصهيوني، وكان نجيب في القدس (1898 - 1904)، لكنه استقال لأن المتصرّف المعين، (رشيد بك)،كان يتواطأ مع الاستيطان الصهيوني.
استشرف نجيب عازوري في كتابه "يقظة الأمة لعربية" الصادر عام 1905 أفقاً أشبه بالنبوءة لصراع في المنطقة يدور بين قوميتين. قال نجيب عازوري في كتابه: "هناك حادِثان هامَّان من طبيعة واحدة، ولكنهما متناقضان، وهما يقظة الأمة العربية، والجهد اليهوديّ الخفيّ لإنشاء مُلْك إسرائيل القديم من جديد، وعلى مقياس أوسع. إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تَغْلُب إحداهما الأخرى، ومصير العالم كلّه منوط بالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين". في كتاب "حول الصهيونية" شرع في تأليفه الأديب محمد روحي الخالدي ولم يكتمل بسبب الوفاة المبكرة عام 1913، أورد الكاتب مقارنة معبرة: "في مقابل الفلاح الفلسطيني المغتصب تقف مزارع يهودية فيها آلات وأدوات زراعية من الطراز الأوروبي الجديد ومدارس وأطباء وجمعيات صهيونية منظمة". كان البارون روتشيلد قد مول الحركة الاستيطانية بمبلغ مليون وستمائة ألف جنيه خلال الفترة ما بين 1883و 1899 منها الإنفاق على مدرسة زراعية لتدريب المهاجرين على الرزاعة. وهو مبلغ ضخم حسب قيمة الدولار في تلك الأيام. فالبرنامج الصهيوني موجه منذ البداية إلى إقامة الدولة العبرية في ’أرض إسرائيل‘- فلسطين، أي تحقيق السيادة القومية اليهودية في أحد أقاليم السلطنة... وبذلك طرح مشروع الكيان الصهيوني المستقل على صعيد السياسة الدولية. ويتضح من مناقشات مجلس المبعوثان العثماني حثّ النواب الفلسطينيين الحكومة، وفي طليعتهم روحي الخالدي، على اتخاذ إجراءات ضدّ الهجرة اليهودية وبيع الأراضي واندفعوا يثبتون بحماسة تعذر التوفيق بين المصالح العثمانية والأهداف الصهيونية في فلسطين. كان واضحا خلوّ مرافعاتهم من النظرة العنصرية، حيث كانوا يميزون بين اليهود والصهيونية. وكان النواب يخوضون المعركة الانتخابية على هذا الأساس. وأَسْهَم في ذلك نواب عرب آخرون وعلى رأسهم الشهيد شكري العسلي - نائب دمشق. ويذكر أن شكري العسلي تولّي منصب قائمقام في فلسطين قبل أن يصبح نائباً، وشاهد على الأرض إحدى مراحل الاستيطان اليهودي، ما دفعه إلي شنّ حملات نيابية في اسطنبول ضد المشروع، يرجح أن تكون السبب الرئيسي في إعدامه من قِبل أحمد جمال (الملقّب بالسفّاح) في السادس من أيار (مايو) عام 1916.

ورصد منور آخر هو نجيب نصار معلماً آخر في اختلال الموازين مع الغزوة الوافدة، معلماً ما يزال ماثلاً في أيامنا الراهنة، حيث تواصل "المرض" المزمن في النظام العربي. كتب نصار في صحيفته، " الكرمل" يقول عام 1912: "إن الذين يديرون دفّة السياسة في الآستانة ليس لهم وقوف تام على أهمية حركة الصهيونيين رغم كلّ ما كتبناه نحن وغيرنا عنها. فبينما نحن نتوقع من مجلس الأمة أن يعيّن لجنة خصوصية يكل إليها درس تاريخ الصهيونيين والبحث عن غرضهم وسبر غور أهمية حركتهم وعلاقتها بحياة الدولة والأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذا بالصدر الأعظم حقّي باشا يقول علي منبر الأمة: ليست الصهيونية سوى رواية، وما القائمون بها إلا أفراد متهوّسون. فراعنا هذا الاقتناع".

الصحافة: معارك سياسية

اعتمد المنوّرون أدوات ثلاثا لنشر رسالتهم التنويرية: الحث على افتتاح المدارس أو المبادرة بإنشائها، إصدار الصحف والمجلات ونشر الكتب، واستحضار الأدب والثقافة القومية والاعتناء بفنون القصة والشعر والرواية والنقد الأدبي. بعث رواد التنوير شواهد النبوغ العربي في الإبداع والبحث التجريبي ردّا على العنصرية التركيّة التي دأبت على طمس الثقافة العربية وازدراء العرب. كانت الأمية منتشرة على نطاق واسع، الأمر الذي منع تفاعل المنوّرين مع الجمهور الواسع. هذا إلى جانب إغفالهم لأوسع الشرائح الاجتماعية المقيمة في الأرياف العربية المترامية وفي المدن أيضاً.
وجد جيل المنوّرين الفلسطينيين، ممن شب وعيهم بالتزامن مع المد الاستيطاني اليهودي، في الصحافة وسيلته للتعبئة ضد الخطر الوافد. برز دور الصحافة بشكل متميز بعد الانقلاب التركي وإصدار الدستور. كان للانقلاب التركي عام 1908 أثران نقيضان: فمن جهة أفرج عن حرية النشر وإصدار الصحف، فأخذ يتزايد عدد الصحف الصادرة باللغة العربية، بعد أن كان من النادر تداول مخطوطة قبل ذلك، ومن جهة مضادة أبدى الانقلابيون تعاونا صريحاً مع المشروع الاستيطاني اليهودي.
ونظراً لهذين الاتجاهين المتناقضين نشط العمل الصحفي في فلسطين. ظهرت في العهد الجديد صحف جديدة، في دمشق وبيروت والقدس ويافا. كانت "الأصمعي" أول مجلة تصدر في فلسطين. صدر عددها الأول في القدس بتاريخ 1آب 1908، وكانت نصف شهرية. سماها صاحبها حنا عبالله العيسة بهذا الاسم نظرا لولعه بالأصمعي. عالجت المجلة موضوعات سياسية واجتماعية وتربوية وأدبية. كانت تطبع بمطبعة جريدة " القدس" لصاحبها جورجي حبيب حنانيا. أما مكاتب إدارتها فكانت في يافا.. صدر منها أحد عشر عددا وتوقفت بوفاة صاحبها يوم 12/9/ 1909. شارك في الكتابة فيها خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي"
وصدرت صحيفة "الكرمل" عام 1908م في حيفا لصاحبها نجيب نصّار، واعتبرت كشف مخاطر الصهيونية هدفها الرئيسي. وما لبثت أن صدرت صحيفتا "فلسطين" 1911م و"المنادي" لتسهما في تبيان مخاطر الغزوة الصهيونية. ونشرت صحيفة "الكرمل" مضبطة تحمل احتجاجات أهالي كلّ من غزة والقدس ويافا على ما نشرته الصحف من عزم الحكومة إعطاء 800 دونم لشركة الأصفر. حملت العريضة عنوان "كتاب مفتوح إلى أمير المؤمنين وسلطان العثمانيين والصدر الأعظم وناظر الداخلية"، وورد فيه ".. فتغلغل الشركات الصهيونية داخل هذه البلاد طولاً وعرضًا، لا تقلّ نتيجتها في المستقبل عن حرب البلقان". و لعبت "الكرمل" دورًا طليعيًّا، فدعت إلى "عقد المؤتمرات للبحث عن الطرق المؤدية ل "تنظيم هيئتكم الاجتماعية، وحفظ كيانكم، وإلا صرتم حكاية تاريخية بعد حين..". وانتقدت المؤتمر العربي الأول (1913) لأنه لم يعالج مسألة الصهيونية. وقد قامت صحيفة "فلسطين" بنقد مماثل، كما قامت الصحف العربيّة بحملات مماثلة، وكانت تشدّد على ضرورة التنبيه على الخطر الصهيوني.
ومن أقوال الصحف يتبين وجود عناصر عربية مخدوعة بالصهيونية والهدف الاستراتيجي لمشروعها الاستيطاني، إذ استطاع صهاينة يدعون اليسارية تمويه حقيقة الصهيونية على مثقفين ليبراليين يعتقدون بالصواب المطلق لكلّ ما يفد من الغرب. تكرس الجناح اليساري في الحركة الصهيونية لمهمة الخديعة. في هذه المرحلة وصل ديفيد بن غوريون فلسطين وطرح فكرة الصهيونية العملية المرتكزة على دعائم ثلاث: المِلكية العبرية والعمل العبري والدفاع العبري. قضت الأقانيم الثلاثة ل" الصهيونية العملية" قطع كل علاقة مع العرب، حيث حرم عليهم العمل في الورش والمزارع العبرية. وقد ألقى أوري أفنيري في ؤكتابه (إسرائيل بلا صهاينة) الصادر باللغة الإنجليزية، وزر الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على عاتق بن غوريون بسبب نظرينه المجملة في مفهوم "الصهيونية العملية". ذلك أن توجيهات بن غوريون، وفقا لنظريته، أقامت تناقضا تناحريا بين الوجود الاستيطاني والوجود العربي.
غير أن الليبرالية العربية، وقد انبهرت بديمقراطية الغرب وتقدمه العلمي والفكري، تغافلت عما ارتكبته الحملات العسكرية الاستعمارية حديثة العهد، وانخدعت ب" عدالة الغرب". سيطر على شريحة من المثقفين الليبراليين العرب أن الغرب يناصر القضايا العادلة دوما وفي كلّ مكان، فاكتمل حصار الفلسطينيين بالليبرالية العربية المتطلعة لمحاكاة الغربي والتماثل معه. بحكم سيطرة الغرب، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، على عدد من المثقفين العرب، جرى تسريب عدالة القضية الصهيونية. وحفل الصراع الثقافي في فلسطين بالردود المستشهدة بالوقائع على تشوّه النظرة الليبرالية العربية إزاء مشروع الاستيطان الصهيوني.
من الجانب المضاد يوضح رجل السلام الإسرائيلي أوري افنيري التناقض الداخلي لليسار الصهيوني، والذي يطلق عليه اللقب الساخر"يسار لكن..."، فيتساءل في أحد مقالاته أثناء عدوان تموز على لبنان: "كيف يمكن لكتاب ذوي ضمير، والأدهى من ذك يساريين، ذوي نظرة إنسانية أن يظلوا صامتين، بينما ترتكب الفظائع؟"، ثم يفسر اللغز المحير للبعض فيقول" منذ بداية الحركة العمالية اليهودية في البلد عانى اليسار من تناقض داخلي: كانت الحركة اشتراكية وقومية معا. لكن العنصر القومي المكون كان الأهم إلى حد بعيد" . وتجلت قومية اليسار الصهيوني في مساندة عمليات الاستحواذ على الأرض، وفيما بعد مصادرتها من أصحابها واغتصابها عنوة بقوة القرارات السلطوية والسلاح العسكري.
وشاركت مجلة النفائس لناشرها الأديب خليل بيدس في الحملة الوطنية. نشرت التحقيق الموثّق المعنون "بعض مزارع يهود فلسطين من سنة 1860 إلى سنة 1900" فكان بمثابة رسالة عقلانية تتضمن صورة دقيقة حول الاستيطان اليهودي.
ومن كتابات نصار في جريدته"الكرمل"، خاصّة نشر مداخلات مجلس المبعوثان، يتضح تجاهل المسئولين العثمانيين، ونفر آخر من المثقفين العرب، لمخاطر الصهيونية. لم تحقّق الحملات

الصحفية الفلسطينية والعربية أهدافها للحد من زحف الاستيطان، ولم تشكل قوة ضغط توقِف إصدار وعد بلفور أو اتفاق سايكس بيكو. فاكتفاء المثقف بأداء دوره عن طريق مناشدة الحكام وأصحاب القرار لا يسفر عن نتيجة إيجابية، وهو عديم الجدوى. دور المثقف والثقافة يتحقق من خلال التوجه إلى الجمهور وتعبئته كي يشكل قوة الضغط الفاعلة على الحكام. لم تصل أجراس النذير مسامع الغارقين في سبات الدهور. وربما لم يدر بخلد المنوّرين أن الضغط على المسئولين لا يجدي إلا بعتلة من الحراك الشعبي الواسع يضع حدّا للبيات الذي طال قرونا عدة، وتحريك الجموع الهاجعة لتحريرها من وعي الخنوع وإشراكها في صنع الحياة.
ألقت المواجهة المباشرة للاستيطان الصهيوني ظلالا بارزة على الثقافة العربية في فلسطين. هناك سمات ثانوية أو مؤقتة ملازمة لأهداف مرحلية مضمرة هيأت الفضاءات لامتدادات الفكر والفعل. طبيعي أن تُستدعى الردود والاستجابات ضمن أنساق فكرية وعملية؛ فيتشكل خيط رفيع ينتظم النسيج الثفافي، يعمق بعض الظلال، دون أن يلون بالضرورة النسيج بلون قومي خاص. فالخصوصية الثقافية مظهر للتنوع الثقافي ضمن الثقافة العربية الواحدة ومصدر غناها ولا يتعارض مع الانتماء القومي للثقافة. والخيط الذي ميز الثقافة العربية في فلسطين هو ذلك القلق والارتباك التي ارتفع منسوبها مع الاخفاقات والنكسات في التصدّي للاستيطان اليهودي في فلسطين. أخذ هذا المنحى طابع الندب في بعض الأحيان، والانفعالية في أكثر الأحايين، الأمر الذي أفقده الرؤية الموضوعية والواقعية السياسية. واستمرت الثقافة في فلسطين ثقافة مقاومة، ولم تنجح في الانتقال إلى ثقافة تحرير.

ليس دقيقاً ولا موضوعيا القول بعقم الجهود التنويرية، فقد حرّكت الجليد الدهريّ دون أن تبعث الحيوية في العروق المتجمّدة. وجاء الانتداب الكولنيالي على فلسطين ليعزّز مكامن التخلّف في الحياة العربية السياسية والاقتصادية والثقافية في فلسطين، إذ ألبس التخلف حلة عصرية.

----------------------------------------
. إميل توما، العرب والتطور التاريخي في الشرق الأوسط،إصدار معهد إميل توما للأبحاث الاجتماعية والسياسية/حيفا مجلد 1،ط1 1995 ،ص 449
2- نفس المصدر3
أوري أفنيري، المجتمع الإسرائيلي والحرب على لبنان، ترجمة مازن الحسيني، دار البيرق العربي للترجمة والنشر، رام الله 2007، ص 30.





#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الثقافة العربية في فلسطين ( 1من 4حلقات) البدايات والإعاقات
- خنق الماركسية من خلال احتضانها
- نكبة تفرخ نكبات وكوارث
- النضال الطبقي في البنية الكولنيالية-3
- النضال الطبقي في البنيةالكولنيالية
- من ركام المحنة تنبت العقلانية
- النضال الطبقي في البنية الكولنيالية
- خطورة الفساد تتجاوز إهدار المال العام
- الأرض في المشروع الصهيوني
- الاحتلال يعزز مواقعه في العراق ... ولو بصعوبة
- احترام مشاعر الجمهور وعقله
- أجل، إسرائيل بحاجة إلى مبرر
- نموذج لعدوانية العولمة وإرهابها
- الإيديولوجيا كالهواء نتنفسه ولا نشعر به
- السلطة والفصائل تستنكف عن تحريك المقاومة الجماهيرية
- أوضاع الفلسطينيين تتدهور للأسوأ
- التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية 3من 3
- التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية حلقة2
- التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية
- دلالات سياسية لتقرير فينوغراد


المزيد.....




- عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر
- واشنطن: سعي إسرائيل لشرعنة مستوطنات في الضفة الغربية -خطير و ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهدافه دبابة إسرائيلية في موقع ال ...
- هل أفشلت صواريخ ومسيرات الحوثيين التحالف البحري الأمريكي؟
- اليمن.. انفجار عبوة ناسفة جرفتها السيول يوقع إصابات (فيديو) ...
- أعراض غير اعتيادية للحساسية
- دراجات نارية رباعية الدفع في خدمة المظليين الروس (فيديو)
- مصر.. التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام الـ-بلوغر- نادين طارق بنشر ...
- ابتكار -ذكاء اصطناعي سام- لوقف خطر روبوتات الدردشة
- الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - سعيد مضيه - الثقافة العربية في فلسطين( 2من 4) مقدمة جديد الكاتب -رواد التنوير في فلسطين-