أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نعيم الأشهب - هل- الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟ تعقيب على مقال د.ماهر الشريف















المزيد.....



هل- الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟ تعقيب على مقال د.ماهر الشريف


نعيم الأشهب

الحوار المتمدن-العدد: 2354 - 2008 / 7 / 26 - 10:53
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


كان الدكتور ماهر الشريف نشر هذا المقال ، لاول مرة، في 9/2/2004 ، ثم أعاد نشره مؤخراً على الموقع الالكتروني لـ "مركز دراسات الماركسية واليسار". ويمكن الافتراض بأن إعادة نشره إنما هي توكيد على قناعة الشريف بمادة مقاله ورغبته في تعميمها.
وفي الحقيقة ، كنت أزمع التعقيب على هذا المقال لدى نشره المرة الاولى ،ولم أعد أذكر ما الذي حال دون ذلك. لكن إعادة نشره تتيح لي هذه الفرصة ، ولو بعد أكثر من أربع سنوات . وافترض ، في البدء ، أن الخلاف في الرأي "لا يفسد للود قضية"، كما يقال. فعلاقتي بالدكتور الشريف تعود إلى سبعينيات القرن الماضي ، حين كان ما يزال يدرس في فرنسا. ومنذئذ ، أواظب على متابعة كتاباته ، وبخاصة التاريخية ، مقدرا مثابرته وجلده على البحث والانتاج.


ولكن قبل الخوض في مناقشة مقال الشريف ، الآنف الذكر ، لعله من المناسب تسجيل الملاحظة المقتضبة التالية:
يبقى ماركس ، رغم عبقريته المتميزة ، إنسان يخطىء ويصيب . لكن من الإنصاف الاقرار له بأنه أنجز عمليتين تاريخيتين يبرران تفوقه على غيره من الفلاسفة والمفكرين ، الأول: منهجه المادي الجدلي في دراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية ، والذي لم يظهر ، حتى الآن ، منهج يضاهيه أو يصل الى مستواه. ببساطة ، لأنه قائم على قوانين موضوعية موجودة في الطبيعة وفي المجتمع الانساني ، الرئيسي من هذه القوانين ثلاثة- الكم والكيف ، وصراع الاضداد ، ونفي النفي ، الى جانب أخرى ثانوية ، كالصدفة التي قال ماركس بصددها أنه لولاها لكان التاريخ نوعا من السحر. ويتعزز هذا المنهج ، منذ صاغه ماركس ، مع كل اكتشاف أو تطور هام في ميادين الرياضيات والفيزياء بنوع خاص. وأما العمل الثاني الذي أنجزه ماركس ، بالاستناد الى المنهج السالف الذكر ، فهو دراسته العلمية للرأسمالية . فكتابه رأس المال يشكل رسماً تخطيطياً ، وصورة تاريخية ، لأصل الرأسمالية ، نشأتها وتطورها في أوروبا الغربية". ويمكن القول بثقة بأن هذه الدراسة للرأسمالية لم يظهر ، حتى الآن ، ما يوازيها في طابعها العلمي المتجرد ، وبالتالي ، لا غنى لمن يتصدى لدراسة الرأسمالية وظواهرها الجديدة وامتداداتها خارج أوروبا ، عن هذه الدراسة الأساسية التي تركها ماركس.
وإذا انتقلنا إلى مادة مقال د. الشريف ، فإن أول ما يثير الدهشة والاستغراب هو عنوان المقال:"هل لـ-الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟" ، فهذا العنوان يوحي بأننا أمام فلسفة تتناول العالم ، بظواهره الطبيعية والاجتماعية ، باعتباره عالماً جامداً لا حراك فيه ، وليس فلسفه قائمة على اعتبار كل الظواهر ، بلا استثناء، في حركة وتحول دائمين لا ينقطعان ، الى الحد الذي اعتبر فيه ماركس الشيء موجود وغير موجود في الوقت ذاته ، أي أنه في حالة تحول وتغير لا تنقطع ولا تتوقف. ومعروف ، على سبيل المثال ، وليس الحصر ، أن ماركس وانجلز كانا ، كلما كتبا ، كلاهما أو أحدهما (انجلز بعد وفاة ماركس) مقدمة لطبعة جديدة من "البيان الشيوعي"، يحرصان أن يشيرا الى تقادم أجزاء منه ، في ضوء التطورات الحاصلة . بمعنى آخر : أنها فلسفة الشك ، التي تفترض إعادة تقييم ودراسة الظواهر ، بلا انقطاع أو توقف ، لرصد ما طرأ عليها من تغير.
فهل من الإنصاف اتهام الماركسية بالعجز عن التعاطي مع "عالم متغير" ، بينما هي الفلسفة المؤهلة دون سواها للتعاطي مع كل ما هو جديد؟ هذا بداية.


بعد هذا العنوان الاشكالي المثير ، يسوق دكتورنا الفقرة التالية ، التي لا تقل إثارة عن عنوان المقال ، ويسوقها باعتبارها مسلمة لا تحتمل النقاش ، والتي تقول:"لم يعد أحد يناقش في أن انهيار تجارب ما سمي بـ( الإشتراكية الواقعية) قد وجه ضربة قاصمة للماركسية ، وأدخلها في طور جديد من أزمتها الأخيرة التي راحت تتبدى بصورة واضحة منذ سبعينات القرن العشرين ، وأقول الأخيرة لأن تاريخ الماركسية قد ارتبط بالأزمات والاعلانات الدورية عن موتها".
إن من يقرأ هذه الفقرة – إذا لم تكن لديه فكرة مسبقة عن الماركسية- يتصور أنها ، أي الماركسية ،"وليد منغولي" ولدت عليلة تحمل أزمتها في أحشائها ، وانها هي ، وليست الرأسمالية ، التي دخلت "في طور جديد من أزمتها...". لكن المفارقة أنه برغم هذا "التشخيص" ورغم "الاعلانات الدورية عن موتها" ، اعتبر العالم ماركس الشخصية الاولى في الألفية الثانية ، باعتراف أعداء ماركس والماركسية. ومما له مغزاه ، في هذا الصدد ، أن هذا التقييم لماركس جاء بعد انهيار الأنظمة في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية ، فكيف يفسر دكتورنا ذلك؟!
من جانب آخر تستدعي الفقرة السالفة الذكر وقفة عند نقطتين أساسيتين ، على الأقل ، الأولى – إن دكتورنا يحاكم الماركسية بجريرة التجربة المنهارة في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية ، بل يمكن الاعتقاد بأن ذلك هو الهدف الأول للمقال كله. واعتبار تلك التجربة هي تجسيد للماركسية ، تتردد في تلك الفقرة وسواها بأشكال مختلفة ، بما في ذلك قول الكاتب:"..وأدخلها في طور جديد من أزمتها الأخيرة التي راحت تتبدى بصورة واضحة منذ سبعينات القرن العشرين" ، والإشارة الى هذا التاريخ ترمز الى الزمن الذي دخل فيه الاقتصاد السوفياتي مرحلة الركود.
إذا كان هذا الخلط يمكن فهم دوافعه من أعداء الماركسية التاريخيين ، الذين ، برغم ذلك ، لا يعتبرون أن حساباتهم مع الماركسية قد انتهى بانهيار تلك التجربة الفاشلة ، وهو ما يمثل اعترافاً ضمنياً منهم عن تميز الماركسية عن تلك التجربة ، بل إن بعض أيديولوجييهم يعتبرون أن خطر الماركسية (الشيوعية) غدا – بعد هذا الانهيار – أكبر وأشد ، وهذا ما كشفت عنه بعض المؤتمرات والندوات التي عقدت خصيصا ، ولا سيما في الولايات المتحدة ، عقب ذلك الانهيار ، باعتبار أن تلك التجارب المشوهة كانت تزيف وتخفي حقيقة الماركسية ، في جوانب أساسية ومقررة منها...إذا كان يمكن فهم هذا الخلط من اعداء الماركسية التاريخيين ، فإنه يصعب فهمه ممن كانوا موالين ، حتى لحظة الانهيار ، للمنظومة الفكرية للدولة السوفياتية ، التي كان يجري عرضها باعتبارها تجسيداً للماركسية. وفي هذا السياق ، علي الاعتراف بأنني كنت ، بشكل عام ، أحد هؤلاء الموالين ، لأكثر من اعتبار ، أحدها- الى جانب الجهل والتخلف في فهم الماركسية- يتمثل بالدعم السوفياتي للقضية الوطنية الفلسطينية.


لقد اعتبرت الرأسمالية ، وبحق ، الماركسية ألد اعدائها على الاطلاق ، وخصوصاً منذ صدور "البيان الشيوعي". فالماركسية ، عبر دراسة علمية ، لم تكشف تاريخ نشوء وتطور الرأسمالية وحسب ، بل واكدت ، عبر هذه الدراسة ، حتمية زوالها ، ليس من تلقاء ذاتها بالقطع، بل عبر الفعل الانساني ، عبر الصراع الطبقي . ومنذئذٍ والرأسمالية ، بإمكاناتها الهائلة ، تطبخ الدسائس وتخلق الأكاذيب وتزيف الحقائق ، بأمل اضعاف تأثير الماركسية على عقول الانسان العامل. وفي هذا الاطار ، اعتبرت الرأسمالية كل مرتد عن الماركسية ، من زمن برنشتاين وكاوتسكي وحتى اليوم ، أزمات متتالية للماركسية و"اعلانات دورية عن موتها".
وفي هذا الاطار كذلك ، جاء انهيار الأنظمة في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية فرصة ذهبية ، لتضاعف الرأسمالية حملاتها ليس فقط على الماركسية ، ألد أعدائها ، بل وللزعم بخلود نظامها المأزوم ، الذي تنبأت الماركسية بحتمية زواله ، على يد الانسان.
حقا ، لقد أحدث انهيار النظام في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية زلزالاً في أوساط اتباع الماركسية ، الذين كانوا ، في معظهم ، يتقبلون المنظومة الفكرية للدولة السوفياتية باعتبارها الماركسية في التطبيق . لكن هذا الزلزال أسفر عن تقسيم هؤلاء الى معسكرين أساسيين ، بينهما كتلة هلامية من المترددين حتى الآن ، المعسكر الأول : ويتشكل من الذين استفاقوا من دور المتلقي السالب ، لينتقلوا الى دور الفاعل في مراجعة أحداث الماضي ، بسلاح النقد الماركسي ، ونفض الغبار والشوائب التي تراكمت فوق الماركسية ، عن وعي أو بدونه من جهة ، ومن الجهة الأخرى ، التصدي لتحليل الظواهر الجديدة بالدراسة والتقصي ، بروح المنهج الجدلي الماركسي.
أما المعسكر الآخر ، فآثر رمي الطفل مع ماء الاستحمام – كما يقال.لكن أقساماً منه راحت ، لتبرير موقفها الجديد ، تقع فريسة لافتراءات أعداء الماركسية من كل شاكلة ولون.


وإذا كان هذا التعليق لا يتسع لاستعراض نقاط التعارض بين الماركسية وبين التجربة المنهارة في الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية ، الا أنه يمكن الإشارة الى ثلاث نقاط أساسية منها ، تتعارض فيها الماركسية ، بوضوح ، مع تلك التجارب الفاشلة .
النقطة الاولى:معروف أن ماركس كان توصل ، في دراسته للاقتصاد السياسي الرأسمالي ، الى نتيجة أن الملكية الخاصة لوسائل الانتاج تتحول ، في ظروف تطور الطابع الاجتماعي للإنتاج الى كابح لهذا التطور. وبناءً على هذه الدراسة العلمية توصل ماركس الى حتمية استبدال الملكية الخاصة لوسائل الانتاج- التي تقوم الرأسمالية على أساسها – بالملكية العامة ، لإحداث انطلاقة في عملية تطور القوى المنتجة. وجدير بالتنويه أنه لم يتوصل الى هذا الاستنتاج انطلاقاً من موقف أيديولوجي يحركه الطموح لوضع حد للاستغلال الرأسمالي ، والذي سيتحقق باعتباره أحد النتائج وليس السبب.
أما في التطبيق ، في الاتحاد السوفياتي أولاً ، ثم تعميم النموذج السوفياتي في بقية بلدان المعسكر الشرقي ، فلم يتوقف الأمر عند امتلاك الدولة لوسائل الانتاج ، نيابة عن المجتمع ، بل تجاوز ذلك الى ادارة الدولة بشكل مباشر ، للمؤسسات الاقتصادية ، كبيرها- الناضج للتأميم – وصغيرها الذي كان ينبغي عدم تأميمه بعد. وكان محتماً أن تفرز هذه العملية بيروقراطية لم يعرف التاريخ لها مثيلا في حجمها وسطوتها ، نمت وتضخمت على جسد المجتمع ، وتكلست مع الزمن ، وسدت جميع مسامات النقد وأي مظهر للديمقراطية السياسية ، وغدت بؤرة لتفريخ الفساد.وبهذا قادت الى غربة المنتج عن انتاجه ، هذه الغربة التي كانت تتعمق كل يوم. وقد غدت هذه البيروقراطية قادرة على قتل أية مبادرة للاصلاح ، كما فعلت مع خروشوف ، الذي طوحت به حين خطا نصف خطوة في اتجاه الاصلاح ، أواسط سيتينات القرن الماضي. وخطيئة غورباتشوف التاريخية التي لا تغتفر أنه لم يحصر اهتمامه وجهده في تعبئة الشعب لضرب هذه البيروقراطية وتحرير المجتمع السوفياتي من سيطرتها ، لتحقيق انطلاقة الاصلاح الشامل للنظام ، بل اندفع لضرب وتدمير كل ما كان قائماً، الصالح والطالح. أي هدم المعبد وليس مجرد تنظيفه . وفي الحقيقة، فقد شكلت هذه البيروقراطية العنصر الحاسم في انهيار التجربة السوفياتية، ومنها بالذات خرجت المافيا التي سرقت ثروات بلدان الاتحاد السوفياتي بعد الانهيار.
اما د.الشريف فيبدو ان له رأياً آخر، ولو انه يعبر عنه عبر اقتطاف ممن يسمون انصار "مدرسة بودابست" . وقد جاء ضمن ما اقتطفه منهم الشريف ما يلي "..وان احلال ملكية الدولة قد افضى الى الدكتاتورية والى بروز طبقة بيروقراطية داخل اطار الدولة -الحزب".
ان هذا الخلط المتعمد، الذي يعتبر ان بروز طبقة بيروقراطية هو وليد ملكية الدولة لوسائل الانتاج (نيابة عن المجتمع) وليس بسبب ادارة الدولة لوسائل الانتاج ، هدفه واضح وسافر ولا يحتاج الى شرح وايضاح. انه ، ببساطة، الدعوة لمحاربة وتحريم الملكية العامة لوسائل الانتاج، وبدل ذلك تكريس الملكية الخاصة – الراسمالية – باعتبارها مصير الانسان الأبدي. بمعنى آخر، انها تكرار باهت لنظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ.


على صعيد آخر، ولكن في اطار متصل بالبيروقراطية ، يقتطف د.الشريف عن الفيلسوف الفرنسي جاك تكسييه ما يلي :"ثم يتوقف الفيلسوف الفرنسي عند التمييز الذي اقامه ماركس وانجلز بين الثورة في بلدان القارة الاوروبية وبين الثورة في العالم الانغلو – ساكسوني حيث قدرا بأن الثورة بمعنى اللجوء الى الانتفاضة المسلحة ، قد لا تكون ضرورية في بريطانيا او في الولايات المتحدة الاميركية ، بل يمكن ضمان الانتقال السلمي الى الاشتراكية باللجوء الى الاقتراع العام والاعتماد على الغلبة العددية للطبقة العاملة في المجتمع، لكنه يلحظ عدم ثباتهما على موقفهما هذا، حيث كان انجلز يذكر احياناً بأن هذا الاحتمال قد لا يكون واقعياً لأن الطبقات السائدة في هذين البلدين قد ترفض التحول السلمي، مما يفرض على البروليتاريا اللجوء الى العنف الثوري".
تثير هذه الفقرة النقاط التالية ، اولاً: ان اللجوء للعنف لم يكن غاية في ذاته، لدى ماركس وانجلز ، بل وليس الخيار المفضل، وانما الخيار الذي يفرضه رفض الطبقات السائدة، قبول الاحتكام الى الخيار الديمقراطي – السلمي. وثانياً: ان أقوال ماركس وانجلز في هذه القضية جاءت في اطار الاحتمالات، كالقول، ان الانتفاضة المسلحة "قد لا تكون ضرورية في بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية"، ثم قول انجلز فيما بعد ، ان هذا الاحتمال "قد لا يكون واقعياً.." ، وثالثاً: ان نشوء هذا الاحتمال ثم تضاؤله مرده حالة البيروقراطية في هذين البلدين . فقد استقطب اهتمام ماركس وانجلز وضع هذه البيروقراطية، الضعيف والمحدود في البدء في هذين البلدين ، ومن هنا كان الاحتمال المتفائل بامكانية الانتقال السلمي، فيهما بدون عنف، لكن هذه البيروقراطية راحت تنمو وتقوى بسرعة فيهما، مما انعكس في تقييم انجلز بعد وفاة ماركس بتضاؤل احتمال الانتقال السلمي فيهما.بمعنى اخر: فالأمر ليس بلبلة وعدم وضوح رؤية.
واذا ضربنا صفحاً عن المصدر الفرنسي الذي يستند اليه د.الشريف ، فإننا نتساءل بدهشة : هل حقا ان د.الشريف لم يقرأ في الأدب الماركسي، ولا يعرف سبب التغير في موقف ماركس وانجلز في هذه القضية؟


النقطة الثانية : ان ماركس الذي قال بنهاية الرأسمالية القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وحلول الاشتراكية القائمة على الملكية العامة لوسائل الانتاج محلها ، لم يغفل عن صياغة مبدأ عام يحدد آلية تشغيل الاقتصاد الجديد، وهي التسيير الذاتي . وتطبيق هذا المبدأ وتعميمه كفيل بتحقيق أمرين رئيسيين ومقررين في مصير التجربة، اولهما ان تطبيق مبدأ التسيير الذاتي، في المؤسسات الانتاجية والادارية، يسد الطريق على نشوء البيروقراطية ، التي كان ماركس يدرك جيداً مخاطرها ويحذر منها. فاختيار العاملين في كل مؤسسة، بحرية كاملة للهيئة المنوط بها الاشراف على سير العمل فيها – والتي لا تعود ملكيتها لأي كان وإنما للمجتمع برمته – مع الحق بنزع الثقة منها او من أي من اعضائها، وفي أي وقت ، اذا لم يبرروا الثقة الممنوحة لهم، لا يترك مجالا لنشوء البيروقراطية. اما في التطبيق العملي في التجربة السوفياتية والاوروبية الشرقية، فقد استعيض عن مبدأ التسيير الذاتي بمستخدمي الدولة – البيروقراطية – في تسيير المؤسسات الانتاجية والادارية . والأمر الثاني، ان تعميم هذا المبدأ في كل مؤسسات المجتمع، يرسي البنية التحتية لتعميم الديمقراطية السياسية في المجتمع كله ، وهذا ما اكدته ، بشكل عام، تجربة كومونة باريس، القصيرة الأجل. ومعلوم، ان وأد الديمقراطية السياسية، الذي واكب التجربة السوفياتية والاوروبية الشرقية، كان له دور هام في افلاس تلك التجربة، وخصوصاً في حرمان المجتمع من الكشف عن النواقص والتجاوزات الخطيرة في عملية البناء الاقتصادي – الاجتماعي، بحيث يمكن معالجتها في الوقت المناسب.
قد يقال، ولكن رابطة الشيوعيين اليوغوسلاف أدخلت مبدأ التسيير الذاتي. لكنها ، في الحقيقة ، فعلت ذلك بشكل مجتزأ ومبتور، في بعض المؤسسات الانتاجية، ولم يكن مبدأ عاماً للمجتمع كله، وبالتالي، بقي تأثير تطبيقه محدوداً للغاية ومشوهاً وغير مؤثر.
وفيما يتعلق بوجهي الديمقراطية: الوجه السياسي والوجه الاجتماعي، معروف انه عقب ثورة اكتوبر 1917، ادخل النظام الجديد الضمانات الاجتماعية للمواطن. وقد مثل هذا أقوى تحدٍ في وجه الرأسمالية. لكن الأخيرة راحت، مع الوقت، تسعى لتحييد هذا التميز والتفوق للنظام الجديد، بغرض الحد من تأثيره على عقول العمال والشغيلة في النظام الرأسمالي، ووصل الأمر، في هذا المسعى، الى ما سمي ب "دولة الرفاه الاجتماعي" . لكن منذ ثمانينات القرن الماضي، وتحت ضغط الأزمة البنيوية المتفاقمة للرأسمالية، خرج ممثلوها، في عهد ريغان وتاتشر، بنظرية "الليبرالية الجديدة"، التي تقضي بتخلي الدولة عن التزاماتها الاجتماعية تجاه مواطنيها، وتعميم خصخصة كل شيء، من معاهد التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وحتى الأمن والسجون، وتحويل كل شيء وكل نشاط انساني الى سلعة في السوق، والعمل – في الوقت ذاته – على تعميم هذه القيم على النطاق العالمي، مع ضمان فتح جميع الأبواب والحدود، دون قيود، امام حركة رأس المالي الدولي، تتكفل مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وكذلك منظمة التجارة العالمية، بممارسة كل نفوذها وثقلها لتعميم هذه القيم، ولا سيما في البلدان النامية.


كان هذا يعني ليس فقط التخلي عن أي مقدار من الديمقراطية الاجتماعية، بنسبها المختلفة، بل محاربتها وتحريمها. ومنذئذٍ والهجمة العامة تتواصل على مكتسبات الشغيلة في البلدان الرأسمالية المتطورة والنامية، ولو بوتائر مختلفة، أخذاً في الحسبان خصائص كل بلد، وصولاً الى تصفية تلك المكتسبات التي تحققت، عبر نضال مرير على مدى عقود وأحياناً قرون من الزمن. وهكذا، غدت الديمقراطية السياسية المبتورة عن وجهها الاجتماعي، تمثل الغطاء الخادع لوحشية الاستغلال الرأسمالي وعسفه، وتخريب البيئة.
وبالمقابل، فإن الديمقراطية الاجتماعية، التي دشنتها ثورة اكتوبر، والتي غدت مبتورة عن وجهها الآخر: الديمقراطية السياسية، أدت، تحت حكم البيروقراطية، الى تآكل هذه الديمقراطية الاجتماعية، حتى لحظة الانهيار، بدل تعزيزها واغنائها بلا انقطاع.
فقط ماركس، من صاغ، ولو على شكل مباديء مقتضبة وعامة، تناسقاً بين جناحي الديمقراطية: السياسي والاجتماعي. وهذا ينقلنا الى النقطة الثالثة في تمايز الماركسية عن التجربة السوفياتية.
النقطة الثالثة: صاغ ماركس معادلة لمردود العمل، ذات مستويين، خلال مرحلتي بناء المجتمع الشيوعي. في المرحلة الأولى – والتي يصطلح عليها بالاشتراكية – فالمعادلة هي :"من كلٍ حسب مقدرته ولكل حسب عمله". وهذه المعادلة يعتبرها انجلز خاضعة لقانون القيمة الرأسمالي، في تقييم العمل كسلعة.اما في المرحلة العليا من بناء المجتمع الشيوعي، حيث غزارة الانتاج المادي بالاستناد الى التكنولوجيا والتنظيم الرفيعين، والمصحوبين بمستوى موازٍ من التطور الثقافي والتربية البريئة من نوازع الأثرة والتكسب، فالمعادلة تتغير الى :"من كل حسب مقدرته ولكلٍ حسب حاجته".


اما في التطبيق ، في التجربة السوفياتية، فقد جرى تجاهل كامل لهذه المباديء التي صاغها ماركس، وراحت البيروقراطية تقيم العمل بمعايير اعتباطية وعشوائية، مما قتل الحوافز في العمل والانتاج، واشاع روح اللامبالاة واهدار الخامات، وعمّق غربة العامل عن منتجه، حتى غدت انتاجية العامل في النظام الرأسمالي أعلى منها في الاتحاد السوفياتي، وعلى نفس الآلة، مع أن العكس هو المنطقي. وقد جرت تجارب معزولة ومحدودة، زمن خروشوف وبداية عهد بريجينيف، لتقييم العمل بشكلٍ سليم، وأعطت نتائج باهرة. لكن البيروقراطية المهيمنة اجهضتها، بدعوى ان العمال النشيطين قد يراكمون ثروة تهدد بانبعاث الرأسمالية!


والسؤال هو، لو جرى تطبيق مبدأ التسيير الذاتي في الانتاج ، ولو ازدهرت الديمقراطية السياسية، التي يمثل مبدأ التسيير الذاتي، وما يفترضه من انتخابات حرة في كل موقع وعلى مختلف المستويات، قاعدتها الراسخة، ولو جرى تقييم العمل بالشكل الصحيح، لإطلاق حوافز ومبادرات الملايين، هل كانت التجربة السوفييتية ستواجه المصير الذي انتهت اليه؟ من جانبٍ آخر، اين هي مسؤولية الماركسية وماركس عن فشل هذه التجربة، رغم إرساء الأخير لأسس النجاح لها، هذه الأسس التي جرى تجاهلها بالكامل؟
بعد هذا ينتقل د.الشريف الى نفي الطابع العلمي للاشتراكية الماركسية، حيث يقول :"فالأزمة تقبع، كما يرى بعض الباحثين، في جوهر الماركسية، التي تمظهرت بمظهرين مختلفين في آن معاً! مظهر تراث ثقافي، ومظهر حركة سياسية، الأمر الذي جعلها تعيش توترا ظهر منذ البدء في الاسم الذي اطلقه انجلز عليها وهو "الاشتراكية العلمية"،ذلك ان العلم يقوم على احترام استقلالية البحث النظري، وتخضع فرضياته للتحقق التجريبي في استقطاب دعم الجماهير، وتسلم السلطة السياسية والتوسع على النطاق العالمي".
من الواضح أن د.الشريف يأخذ على الماركسية كونها الفلسفة الوحيدة في التاريخ، التي جاءت ليس فقط لتفسير العالم وإنما لتغييره كذلك، او كما يقول ماركس نفسه" لقد انشغل الفلاسفة في تفسير العالم، اما الآن فالمهم هو تغييره" . ويبدو من هذا ، ان د.الشريف يريد للماركسية ان تكون "مظهر تراث ثقافي" وحسب، كجمهورية افلاطون مثلاً، وشأن بقية الفلسفات ، وان تتخلى عن دورها في قيادة العملية الثورية. ولتبرير موقفه من هذا التميز الذي تنفرد به الماركسية فهو، كما يبدو، يتجاهل الفارق بين مختبر الكيمياء ومختبر التاريخ في فحص "الفرضيات" . فمختبر التاريخ يتطلب عنصرين اساسيين لنجاح "الفرضية": الظروف الموضوعية الضرورية للتغيير، والعنصر البشري، عبر الصراع الطبقي، الذي هو أداة التغيير في التاريخ الاجتماعي.
مثلاً ، كانت المانيا، عشية صعود النازية، وقد طحنتها اكثر من سواها من الدول الامبريالية، أزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمية، 1929 – 1933 ، لأنها دخلت عصر التصنيع متأخرة وعلى قاعدة آخر معطيات التكنولوجيا ، بينما لم تمتلك مستعمرات واسعة، كبريطانيا وفرنسا، تصّرف جزءاً من ازمتها على حسابها.. المانيا هذه كانت على مفترق طرق تاريخي، تجاوزت عنده مرحلة المراوحة مكانها: اما التقدم نحو الاشتراكية ، أي الاقتصاد المبرمج القائم على الملكية العامة لوسائل الانتاج، او الارتداد الى الفاشية (النازية أشرس تجلياتها) باعتبارها الشكل الأكثر سفورا لدكتاتورية رأس المال. لكن انعدام توفر العنصر الذاتي، الذي تسببت فيه خيانة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الالماني، برفضه التحالف مع الحزب الشيوعي الالماني، اجهض امكانية التقدم نحو الاشتراكية، وفتح الطريق امام صعود النازية، مما أثر تأثيراً بعيد المدى على مستقبل اوروبا والعالم.
وبالمقابل: حين توجه تشي غيفارا الثوري المجرب، الى بوليفيا، ليشعل الثورة، فقد بدا توفر العامل الذاتي للثورة، لكن العامل الموضوعي لم يكن بعد ناضجاً لنجاح العملية الثورية. والنتيجة ان تجربة غيفارا، في بوليفيا، كانت نوعاً من الانتحار.
واذا كان الحكم على أية فرضية في المختبر الكيماوي، قد يتطلب عدة تجارب، وليس تجربة واحدة، في كثير من الأحيان، فلماذا هذا غير جائز في مختبر التاريخ، مع ان العملية هنا اعقد بما لا يقاس وتتطلب توفر عنصرين اساسيين وليس عنصراً واحداً. مأخوذ في الحسبان ان الماركسية تتصدى لمهمة تغيير العالم، ليس باستبدال نظام استغلال طبقي بنظام استغلال طبقي آخر ، وإنما بتصفية الاستغلال الطبقي برمته، ذي الجذور الضاربة عميقاً في التاريخ، عبر آلاف وآلاف السنين. وفي هذا السياق، فإن النظام الرأسمالي لم يتجاوز في عمره الثلاثماية او الاربعماية سنة، في أقصى تقدير. واذا اخذنا في الحسبان ان اختبار "الفرضيات" لاستبدال الملكية الخاصة لوسائل الانتاج بالملكية العامة، لم يتجاوز، حتى الآن، المحاولتين، الاولى: كومونة باريس 1871، والثانية ثورة اكتوبر 1917، فهل يعني ذلك نهاية التاريخ، وتخليد الراسمالية؟


قد يقال : ولكن ماركس نفسه كان، ومنذ 1848، يتوهم أحياناً، ان ساعة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية قد أزفت او غدت على الأبواب. وهنا ينبغي فصل قضيتين اساسيتين عن بعضهما البعض والتمييز بينهما.
الاولى: ان تحليل ماركس للاقتصاد السياسي للراسمالية، والذي لم يظهر حتى الآن ما يضاهيه في عمقه وشموله وطابعه العلمي المتجرد، اوصله – كما سبقت الاشارة – الى الاستنتاج بحتمية زوال النظام الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج الى نظام بديل قائم على الملكية العامة لهذه الوسائل، سواء دعي بالنظام الاشتراكي او المرحلة الاولى من الشيوعية او نظام العدالة الاجتماعية.


أما متى وكيف يقع ذلك، فما كان لماركس أن يحدد ذلك سلفاً ، باعتبار ان هذا التغيير، توقيته وشكله ، يقرره الفعل الانساني الواعي، في ظروف موضوعية ناضجة للتغيير.
اما القضية الثانية، فقد كان يمكن لماركس، او سواه، ان يتوقع او يخمن، بل وان يقع، احياناً، تحت تأثير الحافز الذاتي لحرق المراحل، ولكن لا ان يقطع او يحدد سلفاً، توقيت التغيير قبل اللحظة الحاسمة التي يبلغها تفاعل العاملين الموضوعي والذاتي الناضجين للتغيير نقطة الغليان – كما يقال. وكمثال على ذلك، تحفظ ماركس، وحذّر ثوار كومونة باريس، قبل أن يتحركوا ، من أخذ السلطة، لأنه كان يرى ان الظروف الموضوعية لم تكن، بعد، مواتية لذلك. لكن حين اقدموا على اخذ السلطة، فقد هبّ للدفاع عنهم بحماس يليق بثوري عظيم مثل ماركس. هذا فيما يتعلق بالتوقيت.


اما فيما يتعلق بالشكل الذي يأخذه التغيير، فإن ماركس تحدث كثيراً عن سلطة الطبقة العاملة ودكتاتورية البروليتاريا، لكنه أبداً لم يحاول تحديد هذا الشكل، حتى جاءت كومونة باريس، فعل الانسان الواعي، فأشار اليها بالقول :"هذه هي دكتاتورية البروليتاريا" ، بطابعها الديمقراطي العميق والعريض للطبقة العاملة والجماهير الكادحة الذين يشكلون غالبية الشعب ، وموقفها الراديكالي من العدو الطبقي.
لكن وعي ماركس على هذه المسألة المبدئية، المبني على الادراك العميق بأن النشاط الثوري الواعي للانسان هو الذي سيحدد شكل الدولة اللاحقة، يعتبره د.الشريف أحد مظاهر ازمة الماركسية، حيث يقول في مقاله موضع التعقيب:"وأزمة العجز عن بناء نظرية في الدولة". ولو فعل ماركس وصاغ "نظريته" في الدولة – وما كان له ان يفعل ذلك – لكانت هذه النظرية نتاجاً لليوتوبيا. وحتماً، ستأتي نتائج العمل الثوري الواعي للجماهير غير مطابقة لها. علاوة على ذلك، فإن نظرية كهذه سيتخذ منها اعداء الماركسية ذريعة اضافية للزعم بأن الماركسية تتعامل مع عملية تطور المجتمع الانساني باعتبارها عملية ميكانيكية، تتورط الماركسية في تحديد شكله سلفاً. هذا ، مع العلم ان اعداء الماركسية يثيرون اتهام الماركسية بالميكانيكية دون هذه النظرية، وهذا الاتهام يجد له صدى في مقال د.الشريف.
بمعنى آخر: اذا استنكف ماركس عن صياغة نظرية عن الدولة، فهو عاجز! واذا فعل فهو يوتوبي، وفي الوقت ذاته يتعامل مع تاريخ تطور المجتمع الانساني تعاملاً ميكانيكياً. لقد حدد ماركس المفاصل الأساسية للمجتمع الذي سيقوم على انقاض الرأسمالية : ملكية عامة لوسائل الانتاج، تعمل بالاستناد الى اقتصاد مبرمج ، وآلية لعمل هذه الوسائل (التسيير الذاتي) ، ومعادلة توزيع مردود الانتاج (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله في المرحلة الاولى، ثم من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته في المرحلة الثانية) . وما عدا ذلك يتشكل وفق خصائص وظروف كل بلد وشعب.


ثم ينتقل د.الشريف الى القول :"... وتبرز في مقدمة هذه الثغرات والنواقص (في الماركسية). النزعة الاقتصادية، التي تمحورت حول فكر التقدم المستند الى التطور المتواصل للقوى المنتجة.. فقد جعل ماركس من العامل الاقتصادي مفتاحاً لفهم تشكل المجتمعات".
حقاً، لقد اعتبر ماركس العامل الاقتصادي عاملاً حاسماً في تطور المجتمع البشري، لكنه لم يعتبره العامل الحاسم الوحيد ، كما لم يعتبر ان هذا يلغي او يقلل من شأن العوامل الأخرى كالسياسة والفكر وغيرها . يقول انجلز ، في هذا الصدد :"لم نؤكد في يوم من الأيام، لا ماركس ولا أنا "القول بأن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد". بينما يقول ماركس :"ان ما يسمى ب "القوانين الاقتصادية ، ليست قوانين خالدة مأخوذة من قوانين الطبيعة. انها قوانين تاريخية تنشأ وتزول".
بعد هذا ينتقل د.الشريف، لاتهام ماركس بأنه "استهان .. بخطورة النتائج الايكولوجية التي تترتب على تطور الرأسمالية ونزعتها الانتاجية ..".


ومع ان قضية الايكولوجيا لا يمكن مقارنة حدتها، قبل قرن ونصف (خلال حياة ماركس) بما هي عليه الآن، وفي حين كانت القضية الملتهبة، آنذاك، الصراع الطبقي، التي اولاها ماركس الاهتمام المطلوب ، فإنه لم يتجاهل قضية الايكولوجيا ، في ظل الراسمالية، وقال:"كل تقدم في الزراعة الرأسمالية هو تقدم في فن ليس استلاب العمال فقط ، بل واستلاب التربة ايضاً. كل تقدم لزيادة خصوبة التربة لفترة ما ، هو تقدم في اتجاه تدمير المصدر الدائم لتلك الخصوبة. وكلما تسارع انطلاق بلد نحو التنمية على اساس الصناعة الحديثة ، كالولايات المتحدة، على سبيل المثال، كلما تسارعت عملية التدمير هذه . لذا، فإن الانتاج الرأسمالي لا يطور اية تقنية ويدخلها في سيرورة الانتاج الاجتماعي الا بعد ان يستنفد، في الوقت ذاته، المصدرين اللذين تنبع منهما كل الثروة، وهما :"الأرض والعامل".
بعد هذا يقول الشريف : "أما الثغرة الثالثة في بنيان الماركسية فقد نجمت عن المماهاة التي أقامها ماركس بين الرأسمالية والسوق التي لا يضبطها ضابط وتشتغل بصورة عشوائية". في ضوء فهم الشريف هذا ، هل لديه تفسير اخر لوجود قرابة مليار انسان جائع ، بينما تقدر منظمة الغذاء العالمية ، أنه يتوفر مواد غدائية ، اليوم ، ودون أية اجراءات خاصة ، تكفي ، مرة ونصف المرة لجميع سكان العالم! وكيف يفسر أزمة النفط وارتفاع سعر البرميل منه من دولارين ، عام 1973 ، الى قرابة المئة والخمسين دولار هذه الأيام ، مع عدم وجود نقص في المعروض منه؟!
بعد هذا يسوق د.الشريف عدداً من القضايا، التي يعتبر ان ماركس قصّر في التصدي لدراستها. ويبدو انه كان مطلوباً من ماركس – كما يريد خصومه ومنتقدوه اليوم – ان يعالج مشاكل المجتمع الانساني، كبيرها وصغيرها، ليس في زمنه وحسب، بل وفي الأزمنة اللاحقة ، بما في ذلك ربما قضية المثليين مثلاً ! هذا ، مع العلم انهم يشككون ، اليوم، في مصداقية الدراسات التي اجراها على القضايا الاساسية والحاسمة.


لقد صاغ ماركس منهجاً علمياً لدراسة الظواهر الاجتماعية والطبيعية. وبالاستناد الى هذا المنهج يمكن للمعنيين معالجة تلك القضايا وغيرها التي تفرز الحياة اليومية المزيد منها، بالدراسة والتحليل، بدل القاء اللوم على ماركس، واتهامه بالقصور والعجز.
بعد هذا يحق لنا ان نتساءل : هل طرأت متغيرات على هوية د.الشريف الايديولوجية ، والى أي مدى؟ فهو يقول عن نفسه في مقاله هذا :"حقاً لم نعد في حاجة الى ان نطلق على انفسنا اسم "ماركسيين" .. بينما يعلن عن نفسه، كما فعل خلال زيارته للأراضي الفلسطينية، بأنه "اشتراكي" . ومعروف اليوم ان التباين بين التعبيرين او اللقبين اصبح واسعاً وجذرياً، كما لم يكن من قبل. فالذين يعتبرون انفسهم ماركسيين ، بغض النظر عن مستوى وعيهم بالماركسية ، يؤمنون بضرورة استبدال الملكية الخاصة لوسائل الانتاج بالملكية العامة لهذه الوسائل ، أي بزوال الراسمالية، بينما الاشتراكيون – الذين قطعوا صلتهم بالماركسية – نسخوا من برامجهم الملكية العامة لوسائل الانتاج، أي سلموا نهائياً بتخليد الملكية الخاصة لوسائل الانتاج – أي الرأسمالية . اكثر من ذلك اصبحت الاحزاب الاشتراكية ، التي تتداول السلطة في اوروبا، هي احد آليات تطبيق الليبرالية الجديدة، سواء في تعميم الخصخصة وتحويل كل شيء وكل نشاط انساني الى سلعة في السوق، او في الهجوم على المكتسبات الاجتماعية للعمال والشغيلة.بمعنى اخر: كل من يعتبر نفسه اشتراكيا ، مع قطع صلته بماركس والماركسية ، "فاشتراكيته" لا تتجاوز ترقيع وتجميل الرأسمالية والملكية الخاصة ، عن وعي أو بدونه.
وبينما يكرر د.الشريف في مقاله السالف الذكر ، وفي اكثر من موقع ، قدرة الرأسمالية على تجاوز ازماتها ، يسوق لنا استشهادات لمحرفين هدفهم معالجة ازمات الراسمالية ، مع الحرص على تخليدها، فمثلاً يسوق لنا ما يلي :"واقترح (هوركهايمر وادورنو) عوضاً عن بلورة نظرية عن الرأسمالية، صياغة نقد متماسك للمجتمع الرأسمالي، القائم على التشيؤ والاستلاب، بحيث يحل نقد التاثيرات السلبية للنظام الراسمالي محل نقد بنيته" . الغرض من هذا "الاجتهاد" الذي يسوقه د.الشريف ، سافر ولا يحتاج الى أي تفسير المطلوب هو التخلي عن نقد بنية المجتمع الرأسمالي التي تصدى لها ماركس، على نحوٍ لم يستطع احد مجاراته او تجاوزه في ذلك ، ويقود بالضرورة الى النتيجة الحتمية بزوال النظام الرأسمالي، والاستعاضة عنه والاكتفاء ب "نقد التاثيرات السلبية للنظام الراسمالي"، أي التعاطي فقط مع الاعراض المرضية والبثور، لمعالجتها واصلاحها، ولو بالماكياج ، حرصاً على تخليد النظام الرأسمالي.
على صعيد آخر، لم نعثر، في مقال الشريف على أي اشارة توحي بأنه ما زال يؤمن بزوال الراسمالية ، وحلول نظام العدالة الاجتماعية مكانها . واذا كان قد جهد لتجميع هذا الكم من "تنظيرات" المشككين بالماركسية، فإنه لم يسعفنا ببديل عن الماركسية ومنهجها الجدلي ، في المعركة للتصدي لمشاكل الانسان والطبيعة التي يفاقمها، اليوم، النظام الراسمالي. ولا نظن ان غرض الشريف من وراء ذلك هو نزع سلاح الشعوب المستضعفة والطبقة العاملة ، بمفهومها الواسع الذي اشار اليه ماركس، ويشمل كل من يبيع قوة عمله العضلي او الذهني، في هذه الظروف التي تتفاقم فيها ازمات الرأسمالية.


ويمكن القول ، بشكل قاطع، ان انهيار الانظمة في الاتحاد السوفييتي واوروبا الشرقية لم يمثل تزكية للراسمالية . فهذا الانهيار وقع تحت تأثير الاخطاء الخطيرة والتجاوزات التي وقعت ، في هذه البلدان ، خلال عملية البناء الاقتصادي – الاجتماعي. ولا أدل على ذلك ، من ان هذا الانهيار لم يوقف او يعرقل تطور وتفاقم تجليات ازمة الرأسمالية واتساع تأثيرها المدمر، وبروز مظاهر جديدة لها، كقضايا الائتمان والطاقة والمواد الغذائية. ومعلوم ، ان هذه ا لأزمة اكتسبت طابعاً بنيوياً، منذ اواسط السبعينات ، لأسباب لسنا بصدد تعدادها هنا، وأدت الى تحول النشاط الاساسي لرأس المال المالي المهيمن الى ميدان المضاربات، حتى غدت هذه المضاربات تمثل اليوم ، لا اقل من 95% من حجم دورة راس المال العالمي سنوياً. وغني عن القول ان هذا التحول، في نشاط راس المال، يمثل مرحلة جديدة ونوعية في تعميق الطابع الطفيلي للنظام الرأسمالي اليوم، حيث تباع وتشترى السلع – بما فيها العملات – عشرات المرات احياناً قبل ان تصنع او تستخرج او ترى النور، واحياناً تظل وهمية، مما ضاعف بشكلٍ خطير اهتزازات السوق الراسمالي العالمي، واحتمالات الانهيارات والافلاسات المفاجئة، وتدمير اقتصاديات دول بكاملها، كما جرى مع دول "النمور السبعة" في جنوب شرقي اسيا، اواسط تسعينيات القرن الماضي، وانهيار قطاعات اساسية كما جرى مع بورصة "نازدك" (الهاي تك) عام الالفين. لقد اصبح تصريح لوزير مأفون في اسرائيل، مثلاً، كما فعل موفاز، يوم 6/6/2008 ، حول ضرب ايران يرفع سعر برميل النفط اكثر من خمسة دولارات مرة واحدة !
واليوم، يؤدي تعميم هذه المظاهر من أزمة الرأسمالية، في ظل العولمة الرأسمالية، الى تفاقم وتعمق الفوارق الاجتماعية وتوزيع الثروة داخل كل دولة، وبين مختلف الدول، ويوسع دائرة الفقر والجوع ، والأمراض الفتاكة التي لا تجد من يتصدى لها. من جانب آخر، فإن الرأسمالية المأزومة تهدد اليوم، ليس في تدمير حياة البشر وحسب بل والطبيعة ايضاً.
لكن اذا كانت العولمة الرأسمالية تعمم آثار ازمتها المتعددة المظاهر على النطاق العالمي، فإنها – في الوقت ذاته – تنضج عوامل التغيير الثوري ، على نفس المستوى والاتساع.
وعندما تبلغ تراكمات هذه الأزمة، بمظاهرها المختلفة ، مرحلة الغليان، فستكون الماركسية السلاح الأمضى للخروج من طريق الهلاك الى رحاب الحرية . وينبغي الافتراض بأن القرن الحادي والعشرين سيشهد متغيرات نوعية على هذا الطريق.





#نعيم_الأشهب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعقيب على مقال د.ماهر الشريف-هل للماركسية مستقبل في عالم متغ ...
- امارة حماس
- حول شعار الدولة الديمقراطية أو الدولة ثنائية القومية
- الذكرى الخمسون لقيام الحزب الشيوعي الأردني


المزيد.....




- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...
- للمرة الخامسة.. تجديد حبس عاملي غزل المحلة لمدة 15 يوما


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - نعيم الأشهب - هل- الماركسية- مستقبل في عالم متغير؟ تعقيب على مقال د.ماهر الشريف