تكتيك عبد الكريم قاسم ضد نفسه 3

جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22 - 10:34
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

لم يكن خافيا على كل متابع لسياسة الأجهزة الأمنية القاسمية تجاه الشيوعيين عموما . فقد كانت الشخصية الشيوعية ، خاصة الشخصية القاعدية والكوادر الوسطية ، مطاردة من قبل الأجهزة الأمنية ، خصوصا في المحافظات . إذ بدأت عام 1959 حملات الاعتقالات والسجون والاغتيالات وصدور أحكام إعدام بحق مناضلين شيوعيين عديدين . وصارت الشخصية الشيوعية أو حتى الشخصية الوطنية المتهمة بالشيوعية تعاني الكثير من المحن في العمل والتوظيف والمنع من السفر كما جرى التضييق المباشر على نشاط الاتحاد العام لطلبة العراق وعلى نقابات السكك والنفط والموانئ والزيوت والنسيج والنقل والسجاير كما بدأت تظهر في كل انحاء العراق إجراءات للكبت حرية المرأة ومنع نشاطاتها عبر منظمتها الخاصة ، الرابطة .وكذا الحال في التضييق على الجمعيات الفلاحية ، كما حرم عدد من المحافظات العراقية من توزيع جريدة الحزب المركزية . عادت أجهزة الأمن من جديد للتضييق على المثقفين والعلماء في نقابتي الأطباء والمحامين والمعلمين والتضييق على آراء ومعتقدات المواطنين .
يبدو أن تقديم طلب الحزب الشيوعي العراقي ( زكي خيري ) في مثل هذه الظروف حرّك جميع القوى المعادية له سواء في الدوائر الأمنية وفي وزارة الدفاع وفي وزارة الداخلية وفي الأحزاب الرجعية وغيرها . لا شك أن هذه الدوائر جميعا خشيت أن تعود مظاهر الأشهر الأولى اللاحقة لقيام الثورة يوم 14 تموز 1958 حيث كانت أيامها غنية بالنشاط السياسي في الشارع العراقي وفي داخل المنظمات الجماهيرية التي كانت تغتني وتتطور بالحوار والأفكار والكتابات الصحفية والانتخابات الديمقراطية لأغلب المنظمات غير الرسمية . شهدت تلك الشهور ظهورا واضحا لقوة الحزب الشيوعي الجماهيري وفي نفس الوقت شهدت انحسارا واضحا لقوى معادية للثورة وللزعيم عبد الكريم قاسم نفسه . عادت كل الطبول ، بعد تقديم طلب الحزب ، تدق على الأوتار التي تعمق الخلاف بين الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم في محاولة للضغط على وزارة الداخلية لرفض طلب زكي خيري وجماعته . وقد نشطت أجهزة الإعلام المعادية للشيوعية في مصر ولبنان وغيرهما من البلدان العربية بإعادة التذكير بمضامين خطاب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز 1959 التي هاجم فيها بصورة مباشرة وغير مباشرة الحزب الشيوعي والحزب البارتي الكردي ، كما راحت بعض الصحف تعيد إلى الأذهان مضامين المؤتمر الصحفي الذي عقده عبد الكريم قاسم بعد عشرة ايام من خطاب مار يوسف أي في يوم 29 تموز 1959 وهو المؤتمر الذي حذر فيه قاسم تحذيرا مباشرا موجها للحزب الشيوعي بالكف عن الكتابة حول مؤامرات الأعداء والقوى الرجعية للإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم ..!
كان واضحا أن جميع هذه التحركات والتصريحات السابقة لصدور قانون الجمعيات قانون إجازة الأحزاب قد حققت هدفين رئيسيين :
(1) الأول انها منحت وزير الداخلية القوة الرئيسية في رفض طلب الحزب الشيوعي العراقي لممارسة العمل السياسي العلني ، فقد كانت الداخلية تعتقد أن العمل العلني سيقوي الحزب الشيوعي بين الجماهير وتتوسع عضويته بأضعاف ما هو عليه .
(2) الثاني أنها عززت اندفاع بعض محرري جريدتي الثورة (صاحبها يونس الطائي ) وجريدة الحرية ( صاحبها قاسم حمودي) ضد طلب الحزب الشيوعي سواء بمقالات مباشرة نشرت في الصفحتين أو عن طريق النفخ السري – الاستشاري في أذن وزير الداخلية معتمدين على وثائق اللجنة المركزية تموز 1959 التي أدانت فيها شعار اشتراك الحزب بالسلطة والتي شكلت تراجعا واضحا أمام ضغوط عبد الكريم وهجومه على الحزب .
كذلك حاول البعض من محيط عبد الكريم قاسم أن يحقق هدف عبد الكريم قاسم بشق الحزب الشيوعي عن طريق الضغط على زكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس لتنحية سلام عادل من اللجنة المركزية الذي كان عبد الكريم قاسم لا يوده ولا يرغب في وجوده على رأس قيادة الحزب الشيوعي وكانت قد وصلته بعض أخبار الصراعات الداخلية في اللجنة المركزية ، وربما كانت هذه الاخبار قد وصلت إليه عن طريق مرافقه ( وصفي طاهر ) ولذلك صار واضحا في اوساط قيادة الدولة وعلى نطاق الشارع أيضا ان عبد الكريم قاسم ووزارة الداخلية سيكون لهما موقفان متعارضان :
الأول هو إجازة الحزب الذي تقدم به داود الصائغ رغم ان الداخلية تعرف تماما ان هذا الطلب مفتعل وهو لا يعبر عن وجود تنظيمي حقيقي لمجوعة الصائغ في الساحة السياسية العراقية الواسعة آنذاك .
الثاني هو رفض إجازة طلب زكي خيري الذي كان يعبر عن وجود الحزب الشيوعي الحقيقي لكن هذا الرفض أريد تغليفه بمسوغات " قانونية " خاصة وان جميع المسئولين في دوائر الداخلية والدفاع يعرفون حق المعرفة ان الحزب الشيوعي ( جماعة زكي خيري ) يملك موروثا نضاليا طويلا يحتفظ بمكانة بارزة بين الجماهير الشعبية . لذلك كان الهم الرسمي الأول هو البحث عما يساعد في رفض الطلب الشيوعي .
الأكثر من هذا أن الآراء التي كانت تتسرب من بعض القياديين في وزارتي الداخلية والدفاع بان عبد الكريم قاسم نفسه لم يكن يرغب بإجازة أي حزب من الأحزاب التي قدمت طلبات التأسيس كالحزب الوطني الديمقراطي والحزب البارتي وحزب عبد الفتاح إبراهيم إلا إذا حقق انشقاقات داخلها يضمن فيها نفس تجربة طلب داود الصائغ مع الحزب الشيوعي لان الزعيم عبد الكريم كان يدور بخلده تأسيس حزب قومي يعتمد على عناصر معروفة في الوسط القومي لينافس بها التنظيم القومي الناصري ويقال انه حاول إقناع محمد مهدي كبة في تأسيس مثل هذا الحزب غير ان الأخير اعتذر عن هذه المهمة . من المعروف أن مهدي كبة كان رئيسا لحزب الاستقلال وهو حزب قومي .
لا بد من السؤال هنا : هل كان الميثاق الوطني للحزب الشيوعي ونظامه الداخلي المقدمين لوزارة الداخلية يحمل شيئا متناقضا مع أهداف عبد الكريم الوطنية المعلنة في اغلب خطبه أو مع المضمون الأساسي للبيان الأول الصادر صبيحة يوم 14 تموز ..؟ هل تضمنت وثائق الحزب الشيوعي المرفقة بطلبه لوزارة الداخلية أي اعتبارات غير حضارية أو أية اعتبارات تتناقض مع نضال الشعب العراقي او مع تكويناته الاثنية والدينية ، أو مع أي قانون من قوانين الثورة التي صدرت حتى ذلك الحين ..؟
أحاول ، هنا ، أن أضع أمام القارئ ما يساعد على الوصول إلى أجوبة لتلك الأسئلة من خلال عرض القيم الأساسية التي حملتها وثيقتا الحزب الشيوعي ، الميثاق الوطني والنظام الداخلي ، التي وجدت هندستها في أيجاد المواءمة بين أهداف الحزب وأهداف الشعب العراقي وأهداف ثورة 14 تموز .
فقد أرفق زكي خيري مع عريضته المقدمة إلى وزارة الداخلية الميثاق الوطني والنظام الداخلي الذي يمكن الإشارة إلى أهم البنود الواردة في هاتين الوثيقتين :
(1) تضمن الميثاق خمسة أبواب وخاتمة . جاء في الباب الأول نص يقول : ( إن الحزب يكافح بحزم ضد أعداء الثورة في الداخل والخارج ويعمل على انتهاج سياسة تنسجم مع إرادة الشعب وتلبية حقوقه كما يعمل من اجل ضمان الحقوق القومية للشعب الكردي والأقليات القومية في العراق كما يعمل الحزب من اجل السير في سياسة عربية تحررية تأخذ بنظر الاعتبار حقيقة ان العراق جزء من الوطن العربي ويعمل الحزب من اجل انتهاج سياسة خارجية وطنية مستقلة تقوم على صيانة وتعزيز الاستقلال الوطني والسير بثبات في سياسة مكافحة الاستعمار وتوثيق علاقات الصداقة والتعاون مع البلدان الاشتراكية .
الباب الثاني من الميثاق خصص لتناول السياسة الاقتصادية بالدعوة إلى تصنيع العراق وتعبئة الموارد والطاقات الإنتاجية جميعها بهذا الاتجاه كما تضمن انجاز الإصلاح الزراعي وتنشيط التجارة ورسم سياسة مالية تعزز النقد ومعالجة القضية النفطية وفقا لمصلحة الوطن كما اكد الميثاق على احترام الملكية الخاصة والعمل على إنقاص الحد الأعلى لملكية الأرض وإفساح مجال العمل الرأسمال الوطني ودعا الميثاق إلى زيادة حصة الحكومة من أرباح الشركات النفطية وحصر امتيازاتها في حدود الآبار المستثمرة . وخصص الباب الثالث من الميثاق لشئون العمل والطبقة العاملة معالجة البطالة بين العمال ورفع الحد الأدنى للأجور وتعديل قوانين العمل والضمان الاجتماعي .
تناول الباب الرابع حقوق الفلاحين والتدابير الكفيلة بتمكينهم من حقوقهم في الأرض واستغلالها بطرق تساعد في تنمية المجتمع ولتحسين شروط حياة الفلاحين .
تم تخصيص الباب الخامس لسبل تطوير حياة الشعب العراقي ورفع مستواه المعاشي والصحي والتعليمي والثقافي والعمل على تمكين المرأة للتمتع بحقوقها السياسية الكاملة .
هذه هي أهم الأهداف البرنامجية التي حددها الميثاق الوطني . لم يستطع أي مسئول في وزارة الداخلية أن يجد سؤالا مقارنا بوجه خاص مع برنامج حزب داود الصائغ الذي كانوا يعرفون حق المعرفة أن برنامج الصائغ ليس سوى مجرد كلمات ثقافية عامة وأنها حبر على ورق الغرض الرئيسي منه هو أيجاد نوع من التداخل " القانوني " الذي يتطلب من " مديرية الأمن العامة " أن تبذل جهودها لمواجهة " الحق القانوني " للحزب الشيوعي استنادا إلى نصوص قانون الجمعيات ذاته .
الحقيقة أن مديرية الأمن العامة لم تجد ثغرة في الميثاق الوطني لذلك حاولت إعادة تشكيل أسس ومسوغات رفضها في التفسيرات التي فبركتها بصورة عدائية واضحة عند مناقشتها النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي المرفق مع طلب التأسيس .

#جاسم_المطير (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات