أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير العبيدي - هوركي أرض آشور رواية جديدة















المزيد.....


هوركي أرض آشور رواية جديدة


منير العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2348 - 2008 / 7 / 20 - 07:06
المحور: الادب والفن
    


هربا من السلطة في العام 1970 و بعد اختفاء دام شهرين في بيوتٍ بغدادية ، أصبحت في آب من نفس العام عند فصائل أنصار الحزب الشيوعي ، تحديدا في فصيل ( واره كون ) المحصور بين جبلي "هندرين" و "زوزك" .
حينها كان قد مضى على " الانتصار " في معركة هندرين نحوٍ من أربع سنوات .
بقيت أجالس الخال مولود أحد الأنصار الشيوعيين و غيره الانصار من الذين شاركوا في معركة هندرين . كان يروي لي الكثير عن المعارك التي شارك فيها و خصوصا معركة هندرين قال :
ـ فتشنا جيوب الجنود من الضحايا الذين سقطوا في المعركة و تركوا في الربايا التي سيطرنا عليها فوجدنا في بعضها جريدة " طريق الشعب " السرية الناطقة بإسم الحزب الشيوعي " !!
فكرت في حينها بتبريرية عديمة المشاعر: إنهم بعض رفاقنا في التنظيم السري وضعهم القدر على الجانب الآخر .
و لكني أتسائل الآن :
هل هو القدر وحده من فعل ذلك حقا ؟؟!!
أليست هي ثقافة العنف التي مارستها كل الأطراف ؟

منير العبيدي
*************

" هوركي ارض آشور " رواية جديدة

استعادت ذاكرتي هذا الحدث حين فرغت من قراءة رواية صبري هاشم " هوركي ارض آشور " ، فصبري هاشم كان قد هرب من الجيش بعد أن كان يخدم في إحدى الوحدات العسكرية المتواجدة في كردستان العراق بسبب الملاحقات السياسية ، ثم بعدها تشرد في الكويت و اليمن قبل أن يلتحق بفصائل الأنصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي في كردستان ( أي بعد أكثر من عشرة أعوام على وجودي هناك و سماعي رواية الخال مولود ) .. ثم ليكتب بعد أن يستقر به المقام في ألمانيا العديد من الروايات ، إحداها هذه الرواية " هوركي ارض آشور " التي صدرت عن دار كنعان في دمشق هذا العام . روايته هذه هي الخامسة بعد " رقصة التماثيل " ، " خليج الفيل " ، " الخلاسيون " و " حديث الكمأة ".
كان من الممكن لصبري هاشم لو بقي في صفوف الجيش أن يواجه مصير جندي يقتله رفاقه دون أن يعلموا . أو كان من الممكن أن يواجه مصير شيوعي بين فصائل الأنصار يقتله جندي رفيق خاضع للأوامر .
إذن ليس القدر هو من فعل ذلك ، إنها مفارقة تساوي مهزلة الحياة البشرية لدينا من وجهة نظر الساسة على الجانبين من الذين اخذوا على عاتقهم تقرير مصائر الناس : أن نقتتل و ليس بيننا ضغينة و أن يبقوا هم أنفسهم على قيد الحياة ليرسموا المرة تلو المرة و بطريقة مأسوية مصير جيل آخر ربما خطر على بال البعض منه أن يفلت من دورة الخداع و أن ينقذ نفسه من دورة الموت أزلية التكرار.

************
كتب صبري هاشم قبل روايته هذه نصا قصيرا بالغ الدلالة اسمه " الصقيع الغجري .. انحطاط الوعي " . عميق دلالته يكمن في إنه يمثل أعادة تقييم لقناعاته الفكرية ذكر فيه إنه خدم في الجيش في منطقة أتروش من أعمال الشيخان و كان معه في نفس الوحدة العسكرية و في نفس ( الربيّة ) أصدقاء من الجنود من الساخطين و ممن لم يكونوا يتعاطفون مع الحكومة .
بعدها يترك صبري هاشم الربايا و الجنود ملتحقا بـ " العصاة " كما تسميهم الحكومة بعد أن يُعطي أذنا صماء لنصائح أصدقائه من الجنود من الذين قالوا له : ابقَ ! ستندم !.
و بعد أن التحق بالقوات التي تقاتل الحكومة أي انه أصبح في مواجهة أصدقاء الأمس ... و في أحدى الليالي كما كتب في هذا النص :
" اشتاقت فيها شهية الغجري للغناء إنما على إيقاع الرصاص . دنا مني .. قال : سنهجم الليلة .
ـ على مَن ؟
ـ على الربايا .
ـ لماذا ؟
ـ هؤلاء أدوات النظام .. الجنود أدوات النظام .. هؤلاء جيش الحكومة .
ـ لكن هؤلاء أصدقائي وهم ليسوا من الحكومة .
ـ المهم نضرب الربايا .
يقول صبري هاشم لمحدثه محاولا أن يثنيه عن عزمه :
ـ الربايا كنتُ فيها ورابية قمرية تحديداً ليست مع النظام . الربايا فيها مسالمون ورائعون ولقد تركتهم قبل حين .
ثم يضيف :
ذهبت معارضتي أدراج الرياح .
قتلوا مَن في الربايا .

( الربايا و مفردها ربيئة ـ ربيّة بتشديد الياء حسب اللهجة العراقية ـ هي الموقع المتقدم للجيش ، يشغله بضعة جنود و هو تعبير شائع الاستعمال في القاموس العسكري العراقي ) .

*******

ثم استعادت ذاكرتي حدثا آخر :

كنتُ في فندق في الكاظمية بعد أن انتقلت بين فندق و آخر بهوية مزورة و باسم آخر ، شاركني الغرفةَ الرخيصة إثنان : جندي مكلفٌ كما تدل ملابسه و زميلٌ له .
مستلقٍ على الفراش مغمض العينين يدخل الجنديُّ في المساء الى الغرفة بهدوء مراعيا عدم إيقاضي ، كان مسكونا بهاجس من يريد أن يروي شيئا.
يبادره زميله بنفاذ صبر :
ـ ها بشّر ! لقد تأخرت و أقلقتني .
ـ لقد مرت بخير و الحمد لله . لا تصدق !
كان الجندي قد تلقى استدعاء للمثول امام آمر الوحدة العسكرية و ذلك لأنه رفض مرارا الانتماء لحزب البعث كما كانت تطالبه المنظمة الحزبية العسكرية في وحدته لذلك تقرر أن يُستدعى من قبل آمر الوحدة لربما تنجح المحاولة في ترويضه اعتماد على هيبة الآمر و النجوم الذهبية التي تتوهج على كتفيه .
ـ لن تصدق ما جرى !
قال الجندي بصوت واطئ ملتفتا إلى جسدي المستلقي ظنا منه انني نائم و أردف :
ـ دخلت على الآمر و قمت بإداء التحية العسكرية . فقال لي بحدة :
ـ ما أسمك ؟
ـ فلان سيدي .
ـ و لماذا ترفض أن تنتمي حضرتك ؟
ـ سيدي أنا لا شأن لي في الاحزاب و اريد أن أبقى مستقلا.
ـ هذا الحزب شرفٌ لكل العراقيين يشرفك و يشرفك اباك ، لقد حقق لكم الكرامة و ا لاستقلال ..
ـ نعم سيدي الحمد لله كل شئ بخير و لا احد يستطيع أن ينكر نعمة الثورة علينا .
ـ لماذا ترفض إذن ؟ انت شيوعي أو من حزب الدعوة .
ـ لا سيدي ، أعوذ بالله ، انا انسان بسيط لا أعرف في السياسية
ـ كلكم تقولون نفس الكلام و تتمسكنون حتى تتاح لكم الفرصة فتظهر بلاويكم .
و أستمر الآمر في الضغط على الجندي الذي كان يروي الحكاية و الجندي يمانع و يتوسل ، حتى طلب الآمر من الجندي المراسل الذي يقف في باب المكتب أن يغلقه و لا يسمح لأحد بالدخول عليه .
أستمر الجندي بصوته الخفيض :
ـ ساورني الخوف و خشيت أن يلحق بي مكروه !
ـ حتى قال لي الآمر :
ـ أقترب من المكتب !
و أضاف الآمر بهدوء بعد أن تغيرت ملامح وجهه الصارمة :
ـ شوف ، انت تبين سبع و متخاف ( شجاع و لا تخاف )
ثم أضاف الآمر بنفس الهدوء و بتصميم :
ـ ابقَ على موقفك و لا تنتمي ! لا احد يستطيع أن يؤذيك طالما أنا موجود . قد تتعرض لبعض المتاعب البسيطة من إستدعاءات و ضغوط و لكن لا احد يستطيع ان يؤذيك و لكن عليك ان تبقى متمسكا بموقفك .
يقول الجندي صرخت عندئذ بحماس :
ـ شكرا سيدي ! أطال الله في عمرك .
ـ اششششششششش أخرج الآن و انس هذا الكلام الى الأبد .
انتهت المحادثة !
هذه القصة واقعية .
هذا الضابط الشهم و الشجاع ربما يكون الآن قد قتل من قبل فرق الموت التي تقودها بعض أحزاب المنتصرين الجدد بإعتباره ضابطا في الجيش العراقي و مجرما كما حصل للعديد من زملائه و بدون محاكمة .

منير العبيدي

**********

هوركي الذي أُخذ منه اسم الرواية هو قمة جبل في كردستان العراق حيث حلت مصائر بعض من الشباب الشيوعيين من أولئك الممتلئين حماسا و إيمانا صادقا بالمبادئ من الذين اكتشفوا أن الأمر لا يتعلق دائما بالمبادئ فدخلوا من حيث لم يحسبوا في حلبة الصراع السياسي و الصفقات و غدر " الأصدقاء " .
هذا ما دفع صبري هاشم لأن يتساءل على لسان سهيل :
" من دفعنا الى هذا الوحل القاتل ؟ من انتزع و عينا و دفعنا الى هذه البقعة الخرساء " ص10 .
يتردد صدى المأساة و السخط على التضليل في كل صفحة و فقرة وفي كل سطر مما كتب صبري هاشم و تتكاثف لديه قتامة الصورة ، فسهيل و نائلة زوجته و إبنهما الجنين الذي في بطنها و من معهم محاصرون من قبل الكل : الحكومة ، جندرمة الأتراك ، بل و الأكثر مرارة من ذلك إنهم محاصرون و أحيانا عرضة للغدر ـ كما سنرى ـ من قبل الحلفاء شركاءهم في " القضية " .
ثم يخاطب سهيل ابنه الجنين يحدثه عن حرب العصابات :
" هذا الخلاء مملكة للشبان الانصار القادمين من مدن الجنوب و الوسط ... أبناء السهل و الماء .. أبناء النخيل و الهديل و الخضرة . هذا العراء مملكة للذين تعلموا فنون حرب العصابات .. حرب الفظاعات . حرب البغضاء و الكراهية التي بدأت خارج زمن الوعي فوجدنا أنفسنا في خضمها ..في أتونها "
كانت مأساة التمزق الاجتماعي و دورة الدم التي قادت أفواجا من الشباب إلى هذه المصائر المأساوية هي مسئولية مشتركة لسلطة و معارضة قمعية احتقرت الإنسان كقيمة بذاته ، سلطة و معارضة ، عانت من قصور مزمن في الرؤية السياسية ـ تركا لوعة و ألما و فراغا لمن قدر له أن يخرج من المأساة سالما جسديا على إنه بقي ، من جهة أخرى ، إلى الأبد يحمل جروحا لا تندمل وحنينا لا يمكن إطفاؤه و شعورا بالخسارة لا يمكن تعويضه ، عنه يتحدث سهيل مع ابنه الجنين و هو في بطن أمه على قمة جبل هوركي حيث مستلزمات الولادة بمعناها التأويلي أو الحقيقي غير موجودة ، و حيث الجبل محاصر من قبل الجندرمة الأتراك و من قبل الجيش العراقي و القذائف تإز فوق الرؤوس و الرفاق الذين طال انتظارهم لم يأتوا عدا هاني الذي لم يكن سوى الصوت الآخر لسهيل ، و الذي استقدمه سهيل كحالة من حالاته هو .
" لكنني إلى روح سهيل دخلت . كنت هو . اعرف ما يريد و ما يسعى اليه .... " .... " أنا سهيل الآخر . أنا هاني بن رواحة الشيباني أقرب من سهيل إلى سهيل " ( هاني ) . أما سهيل فانه يرى في هاني نصفه الآخر ، فللجنين الذي في بطن امه يقول : " هل تعرف نصفي الآخر ؟ يقينا لا تعرفه لكني سأخبرك عن هاني بن رواحة الشيباني " .

***********
قسم صبري هاشم فصول الرواية الى تسعة فصول أسمى كلَّ فصلٍ نصا أو صدى ، حيث الصدى يتبع النص في الغالب. حيثما النص فإن ضمير المتكلم هو سهيل الموجود على قمة هوركي فيه يتحدث مع زوجته نائلة أو مع الجنين و مع هاني أو عنه ( بغيابه ) و يستعيد ماضيا و ذكريات في البصرة حيث تاريخهم المشترك : " عنا نأت بصرة و بنا غدرت سفينة " .
في الصدى فان ضمير المتكلم هاني الذي يفقد حبيبته " أروى " التي يبدو إنها لنفس السبب ، أي الانتماء الى الحزب ، اختطفت و صفيت في البصرة من قبل السلطة و لم يعثر لها على أثر . عدا ذلك فإن هاني كان قد فقد جميع أفراد عائلته و أحبته و لم يبق له في البيت الذي ضمهم يوما سوى نخلة البرحي التي يحاورها بين الحين و الآخر.
و في أحد الأيام حين يعود متأخرا الى البيت يقوم بالقضاء على ثعبان هائل ذي فحيح بعد أن يجده قد " ألتف على عنقها ( النخلة ) وفي هامتها يغرس نابا عظيما فيما الدم شفيفا يسيل " .

" العشاق يطيرون في غيبوبة الجسد "

نعم ! فعلى غرار سهيل و هاني أبطال رواية صبري هاشم و رفاقهم و أحبتهم ، كان العديد من الشباب في حالة طيران رغم إن أقدامهم لم تفارق الأرض ، ينتظرون الانتصار القادم الذي سوف تعلوه الرايات الحمر لجيش عابر للحدود امتد الى كل الأوطان و غطى كل القارات ينشد النشيد الأممي بعشرات اللغات .
لقد كانوا حقا في حالة طيران .
أما القيادات فلم تكن تراودها الأحلام ، بل كانت تعتبرها من السخافات الطفولية ، كانت واقعية الى أقصى حد فلم تحلم و لم تطر أبدا بل كانت أقدامها راسخة في الأرض ، إلا إنها دعمت ما رأته سخيفا و طفوليا لدى الشباب المبهور و دفعتهم إلى التحليق بأجنحة الوهم و غذت العديد من الأوهام كما يغذي رجال الدين أحلام أتباعهم بالجنة ، فدفعت الآلاف من الشباب إلى المزيد من الإيغال في الحلم الكاذب من اجل الحفاظ على وقود المعارك القادمة التي هرست خيرة شبابنا . نعم ! كانت أقدامهم راسخة في الأرض يقومون بكل ما هو ضروري من الصفقات و يحوزون المغانم ، المغانم المحسوسة و الملموسة و الملذات الأرضية. فلا وجود للشهداء إلا في الأغاني و الاحتفالات من اجل إدامة الوقود لمغانم جديدة ترجمت نهبا للموارد العامة بغطاء رسمي لمخصصات و مرتبات يحلم بها قادة اثرى الدول .
ففي الصدى حيث هاني المتكلم يروي عن سهيل ، الذي يتقن الطيران و يحلق بعيدا على خلاف هاني و صحبه الذين ما زالوا يحاولون الطيران ، يروي : بعد أن يعود من طيرانه و يجدنا بانتظاره يقول لنا ، نحن صحبه : " سنطير سوية . في المرة القادمة سنطير سوية . لا تجزعوا أيها الصحب " .
ثم يخاطب هاني سهيلا :
ـ أما وعدتني ؟
ـ بمَِ ؟
ـ أن تعلمني الطيران .
ـ علمتك الشيوعية ألا يكفي ؟ خذ جنحها و بها حلق .
بشت آشان

يكتب صبري هاشم في روايته هذه على لسان هاني الذي يقطع وعدا لطيف حبيبته أروى التي اختطفتها و غيبتها السلطة في سجونها بأنه سوف يروي الحقيقة دون أن يظلم أحدا فيقول :
" في الأول من مايس من العام 1983 هاجمت قوات الزعيم الكردي جلال الطالباني مقار الحزب الشيوعي في موقع بشت آشان و حصدت رؤوس الشباب الحالمة و كان أكثرهم من العرب ، ثم ذبحت الأسرى على أساس الهوية القومية فََمَن كان كرديا يطلق و من كان عربيا يُذبح ، فقتلت و ذبحت و شوهت أجسادهم الطاهرة " . ( ص 79 )
لم يستطع صبري هاشم الذي وضع على لسان هاني هذا الكلام أن يتجنب ، على ما يبدو ، التقريرية التي لا تلائم جو الرواية بسبب هول الفاجعة التي فقد فيها أحبته و رفاقه و أصدقاءه .
و الحادثة هي واحدة من الذرى الدرامية ( موضوعا ) تلك التي تم التغافل عنها بمؤامرة صمت مشترك بين القاتل و "الضحية " هذه الذروة هي التي قررت مسار الرواية باعتبارها مراجعة نقدية لسيرة شخصية أصبحت محاكمة بصيغة إبداعية لماضينا القريب و لمن قرروا و لا زالوا يقررون أن النسيان هو أفضل طريقة لتجنب المأساة .
و لكن صبري هاشم مع ذلك أزال جزءا من الأوهام فيما يخص استبدال المغادرين بالقادمين الجدد و أحالنا الى معيار مهم : حذار فان الضحية و الجزار يتبادلون المواقع ، ليس المهم من يحكم ، المهم كيف يحكم و بأي معيار .
لصالح الصورة لصالح المأساة

لصالح الصورة خفف صبري هاشم في هذه الرواية تعقيد اللغة التي امتازت عنده في العادة ببناء تركيبي . ففي " الخلاسيون " و " حديث الكمأة " ، الروايتين اللتين سبقتا " هوركي أرض آشور" ، بنى صبري هاشم لغتهما بكثافة و أعاد تقليب احتمالات الجملة و أعاد بناءها بشكل آخر و آخر مرات قبل الوصول بهما الى صيغتهما النهائية كما أشرت في موضوعي عن هاتين الروايتين . فيما اللغة في " هوركي أرض آشور " استرخت و استرسلت و سَلُست لصالح الصورة و لكنها لم تدخل في قطيعة كاملة مع أسلوبه الذي ألفناه ، و هذا ما هو متوقع على أي حال . على أن الميل الملح للرد بطريقة ما على توثيق الإخفاق و الإحباط و الحيرة و السخط ، وهو ما تحفل به رواياته ، قد لعب دورا في تعزيز ميول المعادل الحُلميّ أو الرمزي ( الطيران مثلا و الولادة المرتقبة ) لواقع ما انفك مُصّرا على تكثيف المأساة بشكل فاق ما لدى الشعوب الأخرى التي كنا حتى حين نشعر نحوها بالرثاء و التعاطف لكي نكتشف بشكل ، كما لو كان مفاجأ ، أن من يستحق الرثاء حقا هو نحن ، شعبنا و ليس أحدا آخر .
مع كل ما نقرأ من مآسي في رواياته و نصوصه فإن ليس بوسع احد أن يلوم صبري هاشم على سوداويته ، انه يستشرف المأساة و يدوّن ما مر ، و اليوم فإننا أكثر من أي وقت مضى نجد أن ما مر علينا من مآسٍ و ما يتلبد في أفقنا من غيوم هو ما يبرر وهو من يدافع عن انصراف صبري هاشم عن التفاؤل الساذج كما يطالبه قراءٌ يرون أن على الرواية أن تجمِّل الواقع و أن تفتعل أو أن تستجلب تفاؤلا لم نجد ما يبرره أبدا . و القريبون تاريخيا و ظرفيا يعرفون انه مذ غنينا أغنيتنا الساذجة و المخادعة " باجر أحسن من أمس " ( الغد سيكون أفضل من يوم أمس ) فإن الأمس كان دائما ، على الضد من ذلك أفضل من الغد كما أفصح كامل تاريخنا المعاصر .
رسم الشخصية ...إعادة انتاج الآلهة

ساعدت ظروف العمل السري و صعوبة الاتصال المباشر بين القيادة و القاعدة على إنتاج صور ما فوق طبيعية و خارقة للقادة . هذه الصور المخادعة التي تكونت لدى القواعد تتبخر حالما تتاح فرصة الاحتكاك أو التعامل المباشر بسبب السجن أو حرب الأنصار ، كما أشار منذ وقت ليس بالقصير القائد الثوري الصيني شو إن لاي .
هنا يكون البحث عما هو مشترك بين الاحزاب الدينية و موقفها من مرجعياتها ، و الأحزاب العلمانية و موقفها من قياداتها و تتبع جذوره و منشأه عملا ممتعا بقدر ما هو مضني و طويل . علينا أن نشير مع ذلك بعجالة إلى أن هذا الزحاف الفكري الذي يشمل ، عدا ذلك تمجيد الشهادة و تعزيز حبها بذاتها و لذاتها كهدف و ليس كمأساة لدى الشباب بطريقة تقرب من الهوس كما التطبيق العملي لمفهوم العصمة و التسامي عن الخطأ لدى القيادة و الحزب قد حقق و لا يزال مواقع راسخة .
و لكن الرواية تعيد رسم صورة البطل الخارق إلى درجة لا تبررها حتى رمزية الرواية و حتى انتقالاته بين الخيال و الواقع . فلعناصر الخيال ترابطاتها المنطقية و للخيال منطقه الخاص . و إذا ما تعرضت الرواية كما فعلت " هوركي أرض آشور " إلى نقد المفاهيم و كشف الأخطاء التي كانت سببا في المأساة فلا يترتب عليها ، من جهة أخرى ، أن تعيد إنتاج مسبباتها ، فشخصيات الرواية قد نقيّت من أدنى شائبة في السلوك و المظهر و بدت اقرب الى الآلهة منها الى بشر من لحم و دم . و قد خصص قسم كبير من الرواية لوصف بعض شخصياتها بطريقة تقرب من الغزل . لنقرأ ما يلي كمثال فقط :
" لنا أفـئدة الطير و خطرات الفراش الرقيق ، إن اشتدت به صبابة إلى النسيم يهرع . لنا صمت الحكيم حين يحتدم الكلام و نفحات الكريم غداة محنة . لنا الأمسيات الحالمات على شاطئ التوجد تتفجر . لنا المغني الحزين عن أطلالنا يعبِّر . نحن فتية في العزّ بسق عودنا و في وضوح العري تجلينا . لا نحتجب عن غريم جعلنا و في بحبوحة القول يعبق من منطقنا الهناء . نحن رجال المروءة نحو درك ما زلت لنا قدم و لا انحدرت لنا إلى ضعة نفس ..... . هي الرفعة فينا و الإباء و الكبر . نحن قوم نسنّ تحت الشمس سنَّة لنا و في الظلام أقمارا نتشقق . نحن زهر المدينة و طيبها و لولا زهونا ما ظل لها طيب . نحن دفقة الماء بها الجذور تنتعش و همسة الريح في أعالي الشجر ترقص .... ألخ " ( ص 75 ) .
و تبقى " هوركي أرض آشور " واحدة من الروايات القليلة التي سعت إلى المواجهة مع الذات و مع المفاهيم التي حركت أوساطا واسعة من الشباب و التي تحظى بأهمية كبيرة الآن و في هذه اللحظة ترتبط بأهمية الموقع الذي تشغله اللحظة التاريخية الراهنة و مفترق الطرق القائم الذي قد يقرر مصير العراق ككيان فيما تهتم أوساط من المبدعين ( ربما بسبب اليأس ) في الإغراق فيما ما هو ذاتي و حسي مصفى كشكل من أشكال الهروب خارج الزمان و المكان ، الهروب مما هو مثار جدل بدلا من وضع الأفكار على المحك و خوض غمار الصراع الفكري بكل تصميم و العمل على إدارة تعددية الأصوات في الرواية " بحيادية " تترك القارئ حرا أمام الصراع الفكري بدون إملاءات ، هذه المهمة الملحة خصوصا في فترات المنعطفات هي كتلك التي واجهها طليعيي الرواية كتورجنييف في " الاباء و البنون " و " عش النبلاء " على سبيل المثال لا الحصر .
ليس من اللازم الاتفاق مع كل الأفكار التي تثيرها الرواية و لكن من الصحيح أن الروايات المهمة قد تصدت لأسئلة العصر المطروحة لا لكي تجيب عنها و لكن لتحث الفكرَ الجمعيَّ على التصدي لها و عدم و ضعها على الرف .



#منير_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكومة العراقية تتحالف مع عتاة اليمين المعادي للاجانب في ار ...
- بيتي الوحيد الحزين
- الكسب الحزبي
- كاسترو : خمسين سنة في السلطة و لكنه ليس ديكتاتورا !!
- كيف يمكنك ان تدير موقعا الكترونيا - بنجاح -
- العقل الحزبي و المجتمع المدني
- قصيدة بالألمانية للشاعر كريم الأسدي
- ليالٍ من عاصمة كانت على قيد الحياة
- من أجل يسار جديد الجزء الثالث
- من أجل يسار جديد الجزء الثاني
- من أجل يسار جديد
- إلى قيادة الحزب الشيوعي العراق : اعينوا وطنا يحتضر !
- كيف يتخلى عن اللينينية من لم يعمل بها اصلا ؟
- اللينينية مرة اخرى
- بأي معنى تم التخلي عن اللينينية
- هل أن السيد حسقيل قوجمان هو الستاليني الوحيد ؟
- السعدية و العولمة و حرية النشر الجزء الثاني
- السعدية ، و العولمة و بيان أسباب عدم نشر موضوع البهرزي في ال ...
- الى شيوعيي ديالى الأعزاء .. لا تخسروا ابراهيم البهرزي كما خس ...
- كيف تمكن البعض من تطوير ماركس خلال سبعة أيام بدون معلم ؟


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير العبيدي - هوركي أرض آشور رواية جديدة