أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف هريمة - ما وراء الكواليس !!!…















المزيد.....


ما وراء الكواليس !!!…


يوسف هريمة

الحوار المتمدن-العدد: 2343 - 2008 / 7 / 15 - 04:09
المحور: الادب والفن
    


- على أرصفة الضياع؟؟؟
بقلم: يوسف هريمة ووفاء السيد
تأتي قصة على أرصفة الضياع لترسم لها في الأفق العربي معالم ما يقع وراء كواليس الحرمان والبوس الاجتماعيين. وهو عمل مشترك بيني وبين الأخت وفاء السيد نأخذ على عاتقنا كشف الستار على مجموعة كبيرة من الإشكالات الثقافية والسياسية والاقتصادية في بنية المجتمع العربي. بمختلف تجلياته. والقصة المبثوتة بين يدي القارئ هي حلقة ضمن حلقات نتمنى أن يوفقنا الوقت والجهد لإكمالها وإخراجها ضمن سلسلة ما وراء الكواليس العربية. ولعل ما يدفع بهذا العمل بالرغم مما قد يثار حوله من ثغراث أو نواقص هو قدرته على فضح الكثير من الطابوهات المجتمعية أصبح الواقع العربي واقعا مؤسِّساً لتكريس الأزمات الفكرية والثقافية بمختلف مستوياتها. هذه الأزمات التي لا تنفصل بحال عن طبيعة البنية المعقدة لهذا التجمع البشري المستمسك بأذيال لغة وحروف، والهارب من مجابهة المد الحضاري الذي تفرضه عولمة جارفة، تسحق كل رديء ولو كانا متخفيا وراء بشريته أو آدميته. ولعل نظرة إلى عمق هذا المستنقع الحضاري - الجارف بمياهه الطبقات المسحوقة داخل مجتمعاتنا- تعكس جليا مدى الانحدار الحضاري الذي يشهده هذا الواقع. فلا إنسانية تحمي البشر والحجر على حد سواء. فالكرامة مفقودة والحقوق مهدورة والشرف ضائع وراء لقمة العيش.
ولكن بالرغم من كل مظاهر اليأس الناتج عن ظلام هذا الواقع. لا زالت هناك طبقات تقف على المنحدر حازمة أمرها، مشمرة على أمل الوصول يوما ما إلى ضفة الأمان ولو تأخر الحال. وما زالت هناك طبقات تركب مطايا عزتها ولو أوصلتها إلى ذل السؤال والخيبة في صناعة الأمل المنشود. هذه الطبقات القابعة على أرصفة الضياع والراكنة إلى أحلامها الوردية لن تنقضي حياتها بموت المستنقع، ولو أن العيش في ظلامه يلقي بظلاله على مشاهد البؤس والألم والحرمان الاجتماعي. لأنها قد عاهدت نفسها ومجتمعها والناس أجمعين أن تشعل شمعة تنير لها الطريق على وعورة مسالكها، وتكتب قصيدتها المؤلمة اتجاه الضمير الإنساني، تقول فيها سطران بمداد من الألم الممزوج بالأمل:
فلتضحك يا مجتمعي على حزم أبـــنـــائــك فمـــصيـرهـــم إلى المجهـول… !!!
ولتضحك يا مجتمعي على عزة بناتك فالشرف بات ضربا من المأمــول... !!! 

لوَّح حازم بيديه مقبِّلا وجه السماء لعل دعواته تستميل قلب القدر، ولم ييأس بالركون إلى زاوية الفراغ، لعل جدران الظلم تهوي بها الرياح في مكان سحيق، آلمه واقع حرمه وأهله أن يرقى إلى مصاف الإنسان المكرم، وظلَّت هذه الصورة القاتمة ترسم طيفها على خيال بريء، لم تمسحه دموع أمٍّ ذبلت ذبول وردة حمراء نضجت واحترقت بين عشية وضحاها؛ ولم يطفئ لهيبه معاناة أب، صادرته أيادي الغدر والحرمان لتصنع منه لون الذل والاستغلال.
ما كان لييأس ويستجيب لصدى القدر، ويصادر حلماً جميلاً عاشت عائلته على أمل معانقته يوما ما، ذلك اليوم الذي تنكسر في دربه الأسوار، وتحلق الحرية وسرب الحمام في رحلة العيش الكريم، إنه اليوم الذي تنفجر فيه الأنهار من بين قلوب الحجارة، لتمسح دموع كل محروم، وتسير في موكب تسقيه بماء قدسي نحو اللقاء والوصال.
اسمه حازم وقد حزم أمره في كل حياته، ليقرر أن يثور في وجه هذا الواقع المر ثورة العلم وثورة القلم، أصبح القلم طيِّعا بين أنامل التحدي، ورافق مسيرته كِتاب النور، في ظلام غرفة تناثرت أجزاؤها بأحلام وردية صادرتها منه قلة ذات اليد، وأسلمها للموت مجتمع لا يعرف من التضامن إلا اسمه.
ليله كنهاره وصبحه كمسائه، لا يرجع القهقرى في ساحة معركة تمنى أن يستشهد في ساحتها، وأن تصيبه سهام القتل فيها لينال شهادة فخر واعتزاز، هي معركة الحياة وساحة الإيمان بمسؤولية التغيير الاجتماعي، وهي روح الأمل إذا انتفضت في الإنسان لتشق طريقها إلى عوالم المثال.
هكذا كان يفكر، وهكذا تدرج في مدارج العلم رويدا رويدا نحو العالم المجهول، وأصبح السبيل إلى نيل الدرجات العليا في المعرفة سبيلاً ممكنا في واقع الظلم، وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الآداب برتبة جيد، ليسجل بعدها ترشيحه لنيل درجة الدكتوراه.
كان لا بد من مسار طويل يخترق ركام الظلام، ويتعالى على كل المعطيات الموضوعية المنشئة للواقع، ويتابع دراسته في مجال لا يغني ولا يسمن من جوع، أمام عولمة ثقافية وعصر حداثي بكل المقاييس، فقد ظل أَبِيَّ النفس وعزيزها، على أن يسقط في براثن واقعية خبيثة قد توقف مسيرة حياته، وصار في ركب العلم صديقا للكتاب والقلم، مواصلا رحلته إلى عالم الشهادة والأمل، متطلعا إلى غد أفضل قد تحققه له درجة الدكتوراه.
قادته قدماه إلى مكتبة قريبة من الجامعة اعتاد ارتيادها يومياً للاطلاع على بعض المراجع والكتب التي لا يستطيع شراءها، هاهو كرجل آلي يتجول بين أقسامها المتعددة في طريقه إلى زاويته التي يسكنها لساعات طويلة، شعر بتغيير ما في المكتبة، فجال بنظره ثانية ليتأكد أن الأقسام في مكانها والرفوف والكتب كما هي، ولاحظ غياب فتاة كان يراها كل يوم تبحث في قسم الأدب، وأحياناً كانت تذكره بمشهد أم تحتضن وليدها، وهي تحمل كتاباً وتضعه بتأني أمامها لتغرق مستكينة بين سطوره.
عادت إليه ذكرى التقاء نظراتهما لأول مرة، لحظات أحس فيها بإشعاعات حزن عميق تتسرب من عينيها، وسريعاً ما تحولت بأنظارها بعيداً، ولكن ذلك الحزن بقي يحوم في المكان.
استعاد وعي الواقع واختار أحد المراجع وبدأ بنسخ بعض الفقرات منه، وبعد فترة وجيزة قاطعه "كمال" مدير المكتبة يذكره بهدوء بموعد دفع الاشتراك الشهري، ترك كتابه ولحق كمال إلى مكتبه ليفرغ معظم محتويات جيبيه على الطاولة، ودار بينهما نقاش حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة، وتأثيرها على الشباب ومستقبله، وأسهب كمال في وصف "عزيزة" تلك الفتاة التي تستغل فترة استراحتها بالحضور إلى المكتبة، لتقرأ بشغف كتب الأدب، وتطلب منه كتباً غير موجودة على رفوف المكتبة، ولعن الظروف التي دفعتها للتخلي عن متابعة تحصيلها العلمي والأدبي لتعمل في صالون تجميل يقع مقابل المكتبة، وبهذا تحرم من تحقيق ماتستحقه.
ترك مكتب كمال وعاد إلى أبحاثه ولكنه لم يتمكن من التركيز على الكتاب ورأى سطوره تتداخل بسخرية، فاكتفى بما قام به وغادر المكتبة، يستعد لمسيرة عودة إلى البيت سيقطعهاً مشياً على الأقدام، لفت نظره لوحة صالون التجميل المقابل للمكتبة وتذكر قصة عزيزة، واستنتج أنها هي نفسها زميلة المكتبة الغائبة ذات النظرات الحزينة، ولأول مرة أخرجت ذاكرته صورة وجهها البيضوي وفمها الوردي المتمرد، وعيناها اللوزيتان. نفض عنه ذكراها وتخيلاته، وكور يداه في جيبي بنطاله يتعجل الخطى، وهو يقلب أفكاره بحثاً عن أسهل طريقة لتمضية الأيام القادمة من الشهر بما تبقى من مصروفه.
وعند العودة إلى المنزل مُرفَقا بقلة ذات اليد، تتقاذفه الحيرة ذات اليمين وتقلبه يد الحرمان ذات الشمال، ودمع العين يسبقه وهي تحملق في زوايا بيت أصداه صدى الفراغ المادي. جلس إلى زاوية من زواياه، وبصره يسترجع صورة الفتاة الضائعة بين أحلام الثقافة ومطرقة الواقع. وأذناه تلتقطان الصوت العذب وهو يتخفى وراء ستار الحياء خوفا أن يكشفه الحبيب، ويداه تتلمسان الأمل في مصافحة المارد في تشابك عجيب.
لم يستطع أن يتمالك سقوط دمعات استتبعتها أسئلة يتيمة، احتاجت إلى من يرد عليها سؤالها، وكأن السماء لم تشأ أن تفتح يديها لتحضنه، ولو للحظات ينعم فيها بدفئ حنان حرمه مع غيره، من تحقيق الأمل المصنوع بدم أب وأم وإخوة على فراش موت الضمير الإنساني.
ترك الخيال يجلب بخيله ورجله في زوايا البيت، وطيف صورة عزيزة لا يكاد يفارقه، تارة يداعبه وتارة يلاعبه، وتارة يشاركه دمعات تتساقط بين الفينة والأخرى لتزرع بمائها الأمل في اللقاء والوصال، وعاد إلى المكتبة يراود الكتاب ويلاعب الحروف والكلمات، منهمكا بين الأروقة والكتب، مشغول البال بالفتاة التي اعتاد معانقتها للرفوف وغيابها المفاجئ والكبير.
وفي خضم هذا السياق الزمني المليء بعلامات الاستفهام والضارب في العمق المجتمعي لثقافة مجتمعاتنا المتسولة تحت ذل التبعية، كانت عزيزة تقاوم أعراض الحمى التي أصيبت بها، مجرجرة قدماها نحو الصالون. رسمت ابتسامة على وجهها وطفقت الباب تستقبل وجوه زميلاتها وتجيب على ترحيبهم بعودتها، وأمضت الساعات بين عميلاتها اللحوحات، فمن سمراء ترغب أن تصبح شقراء، إلى شقراء صغيرة العينين تريد أن تظهرهما نجلاوتين... ويلاحق نظرها ساعة الحائط بانتظار استراحتها، حتى حانت، فهرعت إلى ملجأ روحها تفرغ فيها عشقها للأدب.
وبينما الشوق يحملها على جناح السرعة لمعانقة الكتاب، كان في الوقت ذاته حازم قد فاتح كمال صاحب المكتبة حول معانِقة الكتاب كما يسميها، وتتسابق الكلمات من بين شفتيه معبرة عن حزن دفين، وإحساس مبهم لمس معه كمال نوعا من الاهتمام بها.
خاض كل منهما وصفا فيها تشاركت فيه كل معاني القيم الإنسانية المشتركة، وشرح كمال ما كان يطفو على صورة عزيزة من الإبهام، فهي بنت قد تحالف عليها القدر والواقع، ليصنعا منها ضحية تنحدر انحدار الانكسار الثقافي لواقع اليوم؛ فكيف لا وهي نتاج الطبقة المسحوقة في دخلها وفي عيشها وكرامتها؛ وكيف لا وهي من تشرئب لقطرات من معرفة وعلم بين رفوف الضياع، لم يسعفها دخل أبيها المحدود زمانا ومكانا على أن ترتوي بمائها.
أسهب كمال في الحديث عن سرقة الأحلام متهكما بقوله:" حتى الأحلام تسرق !!!... "، مستتبعا ذلك بضحكة طويلة، غرق معها حازم في غيابات جب من التفكير المليء بالحزن والحسرة على معانِقة الكتاب. كان يحسب أن الحياة قد أدارت له ظهرها لوحده، فلم تشأ يوماً أن تعانقه كرماً ولا جوداً. ولكنه اكتشف بأن دروبها دروب من الشوك، وطرقها معبدة بنيران قد تحرق كل الأحلام والآمال.
ُالتفت إليه كمال وهو في غفلة من أمره ليوقظه من تيهه بقوله:" حازم حازم أنت معي...". كان هذا كفيلا أن يرسم في الأفق معالم حب جديد سيكون كمال شاهدا عليه، ويكون حازم أحد رواده الأساسيين واقفا أمام عتبة المعشوقة، وراكعا أمام محرابها بعد كل ما سمعه من بطولاتها.
حالما دخلت عزيزة باب المكتبة استقبلها كمال يرحب بها ويسأل عن تغيبها، وأمضيا بضع دقائق في حديث قصير أنهته عزيزة بأن سألته عن كتاب طلبته منه سابقاً، أرشدها إلى حيث رتبه وتركها، تناولت الكتاب واتجهت نحو إحدى الطاولات لتقرأه، فاستوقفها شاب وقف يحدق بعينيها مباشرة، وتكاد شفتاه تنفرجان عن بعض الكلام، انتظرت لثوانٍ أن يخرج عن صمته، ولما لم يفصح بادرته السؤال: هل أستطيع مساعدتك؟ إن كنت تبحث عن بعض الكتب اسأل صاحب المكتبة، ستجد غرفته هناك، وأشارت إلى غرفة كمال، لكن الشاب هز رأسه بإشارة نفي وقال لها: لا أبحث عن كتاب أنا حازم زميلك في المكتبة، مد يدها مصافحاً واستطرد: وأحضر مثلك يومياً، لاحظت تغيبك لعدة أيام وأحببت أن أطمئن عن السبب... تفاجأت باهتمامه الذي لم تعتده من إنسان غريب، ولدقائق لم تتمكن من الجواب، ثم شكرته بكلمات مغتصبة من بين شفاهها، شعر بأنه أحرجها وأنها ستتركه وتنصرف، فأكمل يحدثها عن الكتب والمراجع التي يقرأها، وعن استعداده لتقديم رسالة الدكتوراه، فلمح اهتماماً ظهر في عينيها على شكل وميض ساحر... انتظر أن تتحدث عن نفسها، ولكنها تمنت له التوفيق واستأذنته لضيق الوقت، وجلست إلى الطاولة تقرأ كتابها... مرت الدقائق سريعة، فأسرعت الخطى تضع الكتاب في مكانه وتخرج إلى عملها.
لم يفارق ماحصل معها في المكتبة تفكيرها طيلة الساعات المتبقية في عملها، ورافقتها الذكرى طريق عودتها إلى المنزل، تسترجع وجه الشاب اللطيف، وصوته الدافئ الحنون، تذكرت اضطرابها أمامه فأنَّبَت نفسها لغبائها في التصرف أمام أدبه، وأنها نسيت أن تعرفه بنفسها، وبالكاد شكرته لاهتمامه، وتشجعت بأنها غداً سوف تكون أكثر أدباً ووداً فيما لو التقت به.
أما حازم فقد دخل في غيبوبة مرض اسمه:" جنون العشق ". لقد أحس بأن القدر يخرق ثقبا في جدار الزمان ليمسك بعقاربه، عسى أن تتحول قصيدته إلى حب عذري يصنع منه " مجنون عزيزة "، بإيقاعات واقع مرير يشترك فيه ومحبوبته الجديدة.
آه من لوعة الأسى إذا امتزجت بسلطان الحب .!!!
لقد قرر أن يذوق طعم المحبة كما ذاق طعم علم ضائع قبلها، فاخترق جدار الصمت ليقتحم حماها، ويلج بابها القدسي ليصنعا سوية أنشودة الحياة. أسَرَتْه داخل مملكته، ونزعت عنه قناع التحدي وهي تمسك بأناملها على جمر الكتاب، استحوذت على قلب جريح بمرارة العيش، بابتسامة وعيون حزينة قرأ بين سطورها أنوثة بريئة تقاسمه عنوان طفولة مغتصبة، ومراهقة محرومة برقابة أبوية وسلطة اجتماعية تكبت كل جميل، وتميته تحت أنظار كل قاصي أو داني.
" رمته بدائها وانسلت " هكذا كان يراوده الخيال مخاطبا إياه من وراء قبة الأمل، مردفاً قوله بضحكات ساخرة يتقاسمها وطيف صورة على مائدة الفراغ المادي.
مرت أيام وأشهر وعزيزة تنتظر دقائق استراحتها من العمل على أحر من الجمر لتهرع إلى المكتبة لتقرأ الكتب وتلتقي بحازم الذي يغمرها بمشاعره وترحب بها عيناه قبل شفتاه.
كان لحازم دوراً وتأثيراً على قرار عزيزة أن تسجل في مدرسة مسائية لتنال الشهادة الثانوية بهدف متابعة الدراسة الجامعية، وهذا ما رفع من معنوياتها ولوَّنَ حياتها بألوان من التفاؤل والأمل بالمستقبل وكان إصرار حازم واجتهاده في دراسته حافزاً لها حتى حصلت على شهادتها الثانوية، ولكنه كان يتردد كلما ألمحت له بدلع المحبين برغبتها في مشاركته المستقبل ، ويتهرب كلما حاولت أن تفتح مجالاً لنقاش ارتباطهما المستقبلي.
تتوالى الأيام ويزداد الشوق إلى وصال الحبيب، ولكن جفاء الواقع كان ولا يزال عقبة حمقاء أمام حلم بريء لا تريد حلقاته أن تكتمل، لم يعد يستطيع أن يتكلم عن الارتباط الأبدي أو المشروع الأسري، فكلما حاول أن ينظر إلى مرآة المجتمع، وجدها تعكس له صورة أفواج قد طعنتها أيادي الغدر يوم صبح قريب. فيتذكر مشاهد الألم الرهيب والموكب يحمل شواهد وفاة العقول والأطر والكفاءة بمختلف مستوياتها، وكلما أراد أن يقدم على خطوة في حجم ارتباط أبدي إلا انمحى الحلم ببكاء الثقافة الوهمية، وصراع الأوراق التي تعلق على الجدران أو تدس في مكان آمن لا يمسسها سوء ولا نفحات لهيب، وهي قابلة أن تستعمل بين الحين والآخر في طهارة الحدث لدى صناع ثقافة موت الإنسان.
ورغم ضعفه في وجه قدره كان يركب مطايا الأمل، لعلها توصله يوما ولو أن الخيط أوهن من بيت العنكبوت، ولم ينقطع عن ملامسة الرجاء طلبا في جَمْعٍ تُزَوَّجُ فيه نفسيهما بشهادة ملأ أعلى.
فاتحت والدتها بوجود شاب يرغب بالزواج منها، وطلبت منها التحدث مع والدها ليقابله، وبعد معاناة دامت أياماً واجهها فيها والدها بقسوة يؤنبها بأنها اقتطعت جزء من راتبها للمدرسة المسائية، وقد تقتطع مبلغاً أكبر لمتابعة الدراسة في الجامعة، والآن تريد أن تتخلى عن إخوتها لتتزوج وتحرمهم مما تساعدهم به... وافق أخيرا أن يلتقي الشاب بعد أن وعدته عزيزة بأن تداوم على تقديم المساعدة المالية حتى لو تزوجت.
بعد مفاوضات حثيثة بين عزيزة وأهلها، قرر حازم خوض معركة الحياة رغم الألم ويد العدم، متفائلاً بأن الواقع إذا حرمه نقوداً فقد جاد عليه بحب عذري، وإذا نزع عنه رداء كرامة فقد ألبسه خلعة كبرياء جعلته غنياً من التعفف، لم يكن باليد حيلة إلا أن يستجلب معه أمه طلبا لليد الكريمة من العائلة التي لا يعرف عنهم الكثير، تبادل الطرفان الحوار بحذر شديد، كاد يكتم أنفاسه طيلة مشاهد وفصول عملية الخطبة في مجتمعاتنا العربية حتى حانت ساعة الحقيقة؛ تلك الساعة التي ضاقت لها نفس حازم، وظن أنه قد أحيط به من كل مكان، ليسأل الأب سؤالاً عادياً في مثل هذه المناسبات بعد طلب يد الفتاة، ماذا تعمل يا بني؟
تزاحمت الكلمات وتراقص الحزن مؤذناً بالأزمة الثقافية لمجتمعاتنا، فكل شيء هو مال وعمل، ولا مكان للفكر أو المستوى الثقافي في عين المجتمع. بماذا سيجيب؟ وكيف سيجيب؟ وعلى ماذا سيجيب؟.
أسئلة تناثرت لتشكل جوابا واحدا وأحدا بلسان فَقَدَ ذاكرة لغته: أنا طالب جامعي مقدم على الدكتوراه وأنتظر عملا...
بادره الأب والسخرية قد ملأت وجهه: عمل أين؟ في شوارع الضياع حيث الكرامة تهدر وتباع؟ هل ستأكلون الشهادات وتشربون ماء الحب والحياة؟ هل ستسكنون بيوت الأوهام أم تعتلون قصور الأحلام؟...لا يا ولدي: اعمل ومرحبا بك...
أسَرَّها حازم في نفسه ولم يبدها لهم، ووقف في انكسار وحُزْنُ أمِّه قد ملأ المكان، ليعود إلى حيث زوايا بيته راكنا إلى حزنه وخيبة أمله في معانقة الحلم الذي عاد بعيدا في عينيه.
حاولت عزيزة أن تقنع حازم أن يتابعا مشوارهما حتى تتحسن الظروف ويتزوجا لكن كرامة حازم التي جرحت على يدي والدها، وشعوره بأنها هي من وضعه وأمه في هذا الموقف المهين كانا سببا في نأيه عنها وقراره بأن يتركها لمصيرها ويسير خلف مصيره.
تابعت عزيزة دراستها الجامعية ودخلت معترك الحياة من أصعب أبوابها بعد أن سقطت أمام ضغوط " منير " مالك الصالون، الشاب الوسيم المستهتر، وإغراء الأموال التي أغدقها عليها وعلى أهلها، مقابل ليالٍ حمراء كان يقضي فيها متعته معها، وكانت هي تملأ فراغها العاطفي بردة فعل على مأساة جرح لم يندمل... حتى وقعت في محظور حمل جنين رفض منير تحمل مسؤوليته، ورمى لها بعض الأموال وعنوان عيادة غير رسمية لتتخلص من الجنين.
دخلت عزيزة العيادة مطأطئة رأسها، بأقدام مرتجفة، ونبضات قلبها تكاد توقف أنفاسها، وقادتها الموظفة إلى غرفة جانبية، بعد أن طلبت منها أن تخلع ملابسها وحذاءها وترتدي ثوبا أبيضا واسعا.
انهمرت الدموع مدرارة من عيني عزيزة حالما دخلت الغرفة، ورأت كرسي ولادة كبير يشبه ما كانت تراه في الأفلام، مرفقا بجهاز آخر موصول بأنابيت وأدوات غريبة الأشكال، ترددت عزيزة ولكن الموظفة شجعتها وقادتها إلى الكرسي.
أجلستها بالطريقة المناسبة لإجهاض الجنين، وأمسكت بيدها اليمنى بانتظار حضور سيدتين آخرتين أمسكت إحداهما بيدها اليسرى ووضعت السيدة الثانية قطعة قماش بين أسنانها، وطلبت منها أن تعض عليها ولاترميها من فمها، وأن لا تحرك ساقيها كي لاتؤذي نفسها، وبدأت عملية الإجهاض بإدخال متكرر لخطافات متصلة بأنابيت الجهاز، تتذوق عزيزة خلالها ألواناً من العذاب لم تخطر لها في بال، ويصرخ قلبها صرخات مدوية يستجيب لها جسدها برجفات متقطعة، مطالباً بالموت، وأنات مكتومة بقطعة القماش التي كانت تسارع العاملات لدفعها إلى فمها كلما أفلتت، وهاهي عزيزة تخطو ببطئ نحو الموت.
كانت رحلة الألم تتوقف لثوان تشعر فيها ببرودة سائل يُدفع في جوفها ويخرج مسكنناً ألمها، تقوم خلالها إحدى العاملات بمسح العرق الذي يسيل فوق جبينها وعينيها...
خرجت عزيزة من العيادة بعد ساعة من دخولها تحاول إخفاء آلامها وارتجاف قدميها، ورسمت ابتسامة على وجهها عند مدخل منزلها، دخلت وألقت التحية وقبلت والدتها، وهرعت إلى سريرها تستجدي الراحة، وغرقت حتى اليوم التالي في النوم، كما غرق سريرها بدمائها التي سالت منها حتى دخلت عزيزة في حالة غيبوبة، كانت تصحو منها لثوانٍ تلمح فيها تارة وجه أمها وتسمع صراخها، وتارة تشعر بنفسها تحمل وتلقى على سرير، وآخر صحوة لها لمحت وجه طبيبة ترتدي لباساً أبيضاً وسمعت صوتها تبلغ شخصاً ما بوجود ثقب في رحمها بالإضافة إلى جنين ثانٍ ميت.
وفي الوقت ذاته كان حازم متهيئاً لنيل درجة الدكتوراه التي حصل عليها برتبة جيدة، لكن واقع الحال دفع به كما دفع بالكثيرين من أمثاله المتنورين أن يشارك إخوته في تظاهرات من أجل العيش الكريم وضمان العمل المشروع. لم يكن يستطيع متابعة حتى هذا الوهم المنسوج بحبكة السياسة والمتاجرة بالمواقف الإنسانية. ليسقط ضحية " جميلة " جارته، امرأة أرملة والحسن قد كساها، توفي زوجها بسبب حادثة سير جعلت منها مطمعا للكثيرين من رواد فن المرأة وهي في ريعان شبابها. كانت تراوده ماسكة إياه من وتره الحساس حيث تقايضه على توفير لوازمه المالية، ويوفر لها شهوة تقضيها بين جوانحه كلما اقتضى الحال ذلك.
ظلت قضية حازم وجميلة تلقي بظلالها على مشهد الحي. فالكل يتحدث عن علاقة مشبوهة لعاطل يستغل حرمانا جنسيا لامرأة شابة. وأصبحت أعين البادي والعادي تترقب اللحظة التي ينكشف فيه السر، وتنفضح لوثة العار الذي أصاب الحارة من جراء هذا المشهد اللاأخلاقي كما يراه سكان الحي. بلغ الخبر لأهل زوج جميلة ورفعت حالات التأهب، لوضع حد لمشهد رهيب قد مس في عمقه أبناءها وعائلة زوجها.
وفي يوم من لياليهما الحمراء، ترصد أخ لزوجها مشهد خروج حازم على حين غفلة منه من قبته المشرفة، ليلاحقه في موكب جماهيري، حضره سكان الحي بصراخهم ومشاكسات الأطفال هنا وهناك، وتمت نهاية حازم في مشهد كبير من الألم، كان سببه طعنة سكين تريد أن تثأر لشرفها الضائع والملطخ بدم الواقع.
الدم المغدور يسيل ودموع الأمهات تسيل، والروح تريد أن تغادر مثواها هرباً من قذارة الفقر وهي تردد:" منهم لله يا عزيزة ...".
وصلت سيارة الإسعاف متأخرة كعادتها في مجتمعاتنا، لأنها إسعاف للموت أن يخطئ الهدف أو يرمي بسهامه بعيداً عن كل ضحية من ضحاياه. وفي المستشفى تلتقي الأعين وتتربص النظرات تربص الخائف من مواجهة مصيره. وتسأل الأعين بلغتها:
من قتل حازم ورمى بعزيزة إلى مستنقعات الذلال؟
من قتل الحلم وتربص له بمدن الكمال؟
من هيأ الجريمة ومشى في جنازتها بضمير ميت وبراحة بال؟
كانت الأعين تسأل وتجيب وتضحك وتسخر من مجتمع مستهلك للقيم الإنسانية، كله عَجْزٌ أن يخلق له في الأفق معالم صورة الحياة. فهو يقتل ويحيي وهو الحكم والخصم، فلا حازم بحزمه قد حقق المرغوب على رباطة جأشه وقوة عزيمته، ولا عزيزة بعزتها قد ارتفعت إلى مستويات تنأى بها عن عُبَّادِ الفروج والمتآمرين على الجسد سفكاً وقتلاً.



#يوسف_هريمة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حي على الصلاة... !!!
- يا قارئة الكفِّ والفنجان!!!
- عبد الرحمن المجذوب وعقدة الأنثى المغربية!!!
- وتستمر الممانعة...
- قناة العربية والأزمة اللبنانية
- لعنة السياسة وسيف المذهبية
- الدراسات المقارنة بين المعرفة والتحيز
- أين الحقيقة...؟؟؟
- عيدُ الأُمِّ شعلةٌ لا تنطفئ...
- القرآنيون والتوظيف الإيديولوجي
- مدخل إلى الكتاب المقدس؟؟؟
- حتى الأقلام تبكي...
- أكادير: تنمية بشرية أم جنسية
- الثقافة العربية وسؤال النخبة؟؟؟
- نظرية مالتوس وأزمة الزواج العربي
- رمتني بنضالها وانسلت؟؟؟
- الفن الملتزم وثقافة العولمة
- وتكسًّرَ غُصن الزَّيتون...
- سامر إسلامبولي وأزمة القرآنيين !!!
- الفتوى وإشكالية الفقه الإسلامي


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف هريمة - ما وراء الكواليس !!!…