أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم ازروال - في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (2 )















المزيد.....


في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (2 )


ابراهيم ازروال

الحوار المتمدن-العدد: 2332 - 2008 / 7 / 4 - 10:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


4- ختم النبوة : انفتاح أم انغلاق ؟
" هكذا يكون محمد بن عبد الله قد ختم النبوة ليقضي على التكرار والاجترار وليفتح المجال للمستقبل الذي يبنيه الإنسان مع أبناء جنسه في كنف الحرية الذاتية والمسؤولية الفردية والتضامن الخلاق . هكذا يكون قد أرسى الدعائم المتينة لأخلاقية éthique كونية بحق ، ولا يكون دوره محصورا في تقديم وصفات جاهزة ما على المسلم إلا أن يطبقها تطبيقا آليا أجوف ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 93) .
يستدعي هذا النص في اعتبارنا الملاحظات التالية :
1- قراءة التجربة المحمدية من منظور لا تاريخي يسقط فحوى الكثير من الدلالات الأصلية للتجربة كما نقلتها المرويات والمنقولات والنصوص المعيارية . فالحقيقة أن التجربة القدسانية المحمدية ، ترتكز على تأطير الهوى الميتافيزيقي والايطيقي للفرد وعلى نفي التفرد والتفريد والإبداعية الفردية في مضمار التطلع إلى المعنى الكلي والى القيمة المطلقة والى الكمال الإنساني . فنفي السؤال ونفي المسلك الاستكشافي الذاتي وتوجيه الطاقة إلى القتال المعمم باسم الجهاد ، تنهض أدلة على لا ملاءمة قراءة عبد المجيد الشرفي للتجربة المحمدية . والواقع أن تجربة بوذا ولو تسي وكونفشيوس ، يمكن أن تتسع جزئيا للقراءة المقترحة أكثر من التجربة المحمدية.
النص الأول :
"حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال : حفظناه من عمرو عن طاوس سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " احتج آدم وموسى فقال له موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة قال له آدم : يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم موسى " ثلاثا قال سفيان : حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ". ( - محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري –اعتنى به – أبو عبد الله محمود بن الجميل – الجزء الثالث – مكتبة الصفا- الطبعة الأولى – 2003- كتاب القدر – باب تحاج آدم وموسى عند الله – ص. 269)
النص الثاني:
"حدثنا أدم حدثنا شعبة حدثنا يزيد الرشك قال : سمعت مطرف بن عبد الله بن الشخير يحدث عن عمران بن حصين قال : قال رجل : يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : " نعم " قال : فلم يعمل العاملون ؟ قال : " كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له " . ( - محمد بن اسماعيل البخاري – صحيح البخاري –اعتنى به – ابو عبد الله محمود بن الجميل – الجزء الثالث – مكتبة الصفا- الطبعة الأولى – 2003- كتاب القدر – باب جف القلم على علم الله ...– ص. 265).
النص الثالث:
" وأخرج البخاري ، عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله تعالى . فبلغ ذلك امرأة من بني أسد ، فقالت له : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت !فقال : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله تعالى !فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه كما تقول ؟ قال : لئن كنت قرأته لقد وجدته ، أما قرأت : ( وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7] . قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه ". (- جلال الدين السيوطي – الإتقان في علوم القرآن – حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : فواز أحمد زمرلي – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان – طبعة 2004- ص 726)
النص الرابع:
" حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا إلى يهود " فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم : " يامعشر يهود أسلموا تسلموا " فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم فقال : " ذلك أريد " ثم قالها الثانية فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ثم قال الثالثة فقال : " اعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا اعلموا أنما الأرض لله ورسوله ". (- محمد بن إسماعيل البخاري – صحيح البخاري – اعتنى به أبو عبد الله محمود بن الجميل – الجزء الثالث – مكتبة الصفا- الطبعة الأولى – 2003- كتاب الإكراه – باب في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره - ص.345) .
من المؤكد أن النصوص الأربعة الواردة أعلاه ، تجمع على نفي استقلالية الإنسان وقدرته على تقرير مصيره الميتافيزيقي وتدبير ووجوده المحايث في العالم الفيزيقي . فالواقع أن الرسالة المحمدية ، تأتي تتويجا ، للفكرية التوحيدية ، المؤسسة ، أصلا ، على نفي التروحن الذاتي ، والتفريد الأخلاقي ، واستقلالية الذات البشرية في تدبير مصائرها القصوى . فالرسالة المحمدية ، لا تستهدف فتح التاريخ الأخلاقي للبشر ، ولا الدعوة إلى البحث عن مسالك غير مطروقة للتروحن والتخلق وإدراك الغايات العالية ، بل التبشير باكتمال " التاريخ" النبوي ، وانحصار كفاية الإنسان في التعبد الطقوسي وترسيخ دعائم المؤسسات الشرعية وبثها في الآفاق المستعصية على النداء الرسالي عبر الجهاد الدعوي السلمي الترغيبي أولا ، وعبر الجهاد القتالي الترهيبي ثانيا .
والواقع أن الإستراتيجية الإسلامية الأصلية تقوم ، على قاعدة حصر التشخصن في التماهي بالزمن النبوي الدائري ، وفي التمسك بالأخلاقية القرآنية ، المحصورة في الأمة . فالأخلاقية الإسلامية ، مشدودة إلى النجاة ، والى حث الإنسان على استحقاق السعادة الأخروية والابتعاد عن الشرور المؤدية إلى الشقاء الأخروي .واستحقاق السعادة الأخروية، يتم عبر الإخلاص لمثاليات التاريخ المقدس النبوي، أي عبر إنكار الاستقلالية الفردية والفكرية للفرد. وقد حاول المتصوفة ، روحنة عالم السعادة الموعود ، بسلوك مسلك العارفين المنقطعين لا عن الأغيار كما هو معروف في الشريعة بل عن الخلق والفناء في الحق .
يقول أبو حامد الغزالي في هذا السياق :
" فتنبه لهذا النمط من التصرف في قوارع القرآن وما يتلوه عليك ، ليغزر علمك وينفتح فكرك ، فترى العجائب والآيات ، وتنشرح في جنة المعارف ، وهي الجنة التي لا نهاية لأطرافها ، إذ معرفة جلال الله وأفعاله لا نهاية لها ، فالجنة التي تعرفها خلقت من أجسام ، فهي وإن اتسعت أكنافها فمتناهية ، إذ ليس في الإمكان خلق جسم بلا نهاية فإنه محال . وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فتكون من جملة البله وإن كنت من أهل الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : " أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب ". (- أبو حامد الغزالي – جواهر القرآن –اعتنى به وراجعه : سالم شمس الدين – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – الطبعة الأولى – 2005- ص. 77)
وهكذا انتقلنا من الأخلاق الإيمانية القائلة بوضعية الذمة لليهود والنصارى والصابئة والمجوس إلى الأخلاق العرفانية القائلة بإذابة العالم الطبيعي في التوق إلى الحضرة الإلهية . فلئن غاب الآخر العقدي في الشريعة ، فقد غاب الإنسان بوصفه إنسانا في الأخلاق العرفانية على نحو كلي.

2- لقد حدد النص المؤسس والشخص المؤسس والنموذج المثالي لدولة المدينة / يثرب، السقف الفكري للأخلاق الإسلامية. فالإنسان بمقتضى هذا السقف ، منذور لخلع صفاته الناسوتية والعقلية ، والانسياق مع النسق العقدي / الاجتماعي المشدود إلى التجربة المحمدية بما هي الذروة الروحية والأخلاقية غير القابلة للتجاوز إطلاقا . وقد اصطدم بعض الصوفية بهذا الحاجز، مما دعاهم إلى القول بانتهاء نبوة التشريع واستمرار النبوة العامة وارتفاع نصاب الولاية قياسا إلى نصاب النبوة.
يقول ابن عربي :" اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط بالعالم ، ولهذا لم تنقطع ولها الإنباء العام ، فنبوة التشريع ورسالته منقطعة بسيدنا ( محمد ) " صلى الله عليه وسلم " ، وقد انقطعت فلا نبي بعده ولا رسول مشرع ، ولا مشرع له ، فلا يبقى اسم خاص يختص به العبد دون الحق تعالى بانقطاع النبوة والرسالة ، إلا أن الله لطف بعباده ، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ...." ( محيي الدين بن عربي – المسائل لإيضاح المسائل – تحقيق : قاسم محمد عباس – المدى – دمشق – سورية – الطبعة الأولى -2004- ص .50-51) .

3- اندراج الأخلاق القرآنية في سياق الأخلاقيات الإيمانية المؤسسة للأخلاق بناء على افتراضات ميتافيزيقية غير مسلمة إلا في الإطار الديني التوحيدي .كما أنها تتميز بطابعها القسري الإلزامي المستبعد لأي اختيار جوهري بشري .
-" ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم" آل عمران: 176 .
-"وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ، ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" (إبراهيم :4)
علاوة على ذلك فإن الأخلاق الإسلامية تجذر أساسها الابستمولوجي في الله لا في الإنسان وتعتمد نظرية سلطوية في التسويغ الأخلاقي . وعليه ، فإن تحقيق ما يشير إليه الشرفي لا يتم إلا بعقلنة الأخلاق وتزويدها بقاعدة نظرية عقلانية، لا بتأويل تلويني لنصوص وتجارب حافلة بمتصورات تاريخية بعيدة عن فتوحات العقل العملي الحديث ونظريات الأخلاق الحديثة.

5- الضروري في الدين بين النص والسنة الثقافية:
"وإن إلقاء نظرة على العقائد السنية ليكشف إلى أي حد ألزم المسلمون بمجموعة من "الثوابت" كانت في الأصل مسائل خلافية ، مثل عدم خلق القرآن ، والإيمان بالقدر خيره وشره – مع ما ينجرعنه من نفي للاختيار وحرية الإنسان في خلق أفعاله ولمعقولية الظواهر الطبيعية والاجتماعية في آن - ، واعتباطية الجزاء الإلهي ، ورؤية الله في الدنيا أو في الآخرة ، وعذاب القبر وسؤال منكر ونكير ، وعصمة الصحابة ، وغيرهما مما عدّ " معلوما من الدين بالضرورة " ".(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 123-124).
تصر الإصلاحية الإسلامية على الفصل بين النص والتأويل ، و بين الخطاب والتاريخ ، لتنزيه النص عن اللامطابقة ، ولتأثيم الفعل التأويلي البشري . والواقع أن الإصلاحية الإسلامية ،لا تدرك الخطورة النظرية لهذا الفصل اللامنهجي واللاتاريخي، ولا لمستتبعاته النظرية المتعلقة بصوابية البيداغوجيا القرآنية .
وسيرا على غرار الإصلاحيين ، فإن الشرفي يؤكد على مفارقة التأويل السني لفحوى النص ، وعلى لا شرعية الكثير من المسلمات المعتبرة في أعراف أهل السنة والجماعة معلوما من الدين بالضرورة . والحال أن التيار السني حرص على رفض التأويل في العقائد وتعامل مع المقررات النصية للنص المعياري بحرفية وبعناد تسليمي مقر بغيبية الدين وبقصور العقل الجوهري عن تعقل الغيبيات :
يقول محمد بن تومرت: " للعقول حد تقف عنده لا تتعداه ، وهو العجز عن التكييف ، ليس لها وراءه مجال وملتمس إلا التجسيم والتعطيل ، عرفه العارفون بأفعاله ونفوا التكييف عن جلاله لما يؤدي إليه التجسيم والتعطيل ، وذلك محال ، وكل ما يؤدي إلى المحال فهو محال لشهادة الأفعال على وجود خالق انفرد بالاقتدار ، وما ورد من المتشابهات التي توهم التشبيه والتكييف كآية الاستواء ، وحديث النزول ، وغير ذلك من المتشابهات في الشرع ، يجب الإيمان بها كما جاءت مع نفي التشبيه والتكييف لا يتبع المتشابهات في الشرع إلا من في قلبه زيغ ..." ( - محمد بن تومرت – أعز ما يطلب – تقديم وتحقيق : عبد الغني أبو العزم – مؤسسة الغني للنشر- الرباط – المغرب – 1997- ص. 216 )
وهكذا فإن أهل السنة ألغوا فعالية العقل في تعقل الغيبيات وحصروا كفاءته في تدبر الفروع . فقد أكدوا على أولوية السمعيات على العقليات ، والمنطوقات النصية على التدبرات العقلية ، عملا بفحوى النص ، وذهبوا بالمنطق القرآني إلى نهايته المنطقية مع الباقلاني والجويني وأبي حامد الغزالي من الأشاعرة ومع ابن عقيل وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة .
فنفي حرية الاختيار ومعقولية الظواهر الطبيعية والاجتماعية واعتباطية الجزاء الإلهي مقررات قرآنية صريحة، وهي أساس الاعتقاد الديني في كل الأديان التوحيدية أصلا.
" ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ،إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" .( الحديد / 22) .
" وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ". ( آل عمران : 166)
" ومن يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا" .( الإسراء : 97) .
" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون، فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يتطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ، وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين، فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمي". (الأعراف : 130/133).
" هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال". ( الرعد : 12-13)
لقد حاول بعض المفكرين القدماء عقلنة المضامين الغيبية الواردة في الآيات القرآنية وفي المنقولات التراثية، إلا أنهم اصدموا بعنف المتخيل الإسلامي الميال إلى الأسطرة والترميز والتقديس والسباحة في اوقيانوس العلامات والإشارات الترميزية.
يقول ابن قتيبة الدينوري في ( تأويل مختلف الحديث ) :
" وأما قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) وقول موسى عليه السلام : ( رب أرني أنظر إليك قال لن ترني ) فليس ناقضا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ترون ربكم يوم القيامة " لأنه أراد عز وجل بقوله : ( لا تدركه الأبصار ) في الدنيا .
وقال لموسى عليه السلام : ( لن ترني ) يريد : في الدنيا ، لأنه عز وجل احتجب عن جميع خلقه في الدنيا ، ويتجلى لهم يوم الحساب ، ويوم الجزاء والقصاص ، فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر ، ولا يختلفون فيه ، ولم يقع التشبيه على كل حالات القمر ، في التدوير ، والمسير ، والحدود وغير ذلك !!" ( - ابن قتيبة – تأويل مختلف الحديث – خرج أحاديثه وعلق عليه : أبو المظفر سعيد بن محمد السناري – دار الحديث – القاهرة – 2006- ص. 273) .
وقد لخص أبو الحسن الأشعري الموقف الاعتزالي من مسألة الرؤية بقوله:
" أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه لا يرى بالأبصار ، واختلفت : هل يرى بالقلوب ؟ فقال " أبو الهذيل " وأكثر المعتزلة : نرى الله بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا ، وأنكر " هشام الفوطي " و"عباد بن سليمان " ذلك".( - أبو الحسن الأشعري – مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين – تحقيق – محمد محيي الدين عبد الحميد – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 1999- ص . 238) .
فالمشكلة، هنا، ليس في تناقض النصوص وإصرار الجهة السنية على التوفيق المغالطي أو السفسطائي بينها كما رأينا في نص ابن قتيبة الدينوري، بل في تجذر جواز الرؤية كحقيقة سوسيولوجية أو كحقيقة تاريخية مترسخة في الوعي والوجدان الإسلاميين. فلا يكفي رفض النصوص الحديثية وتأويلات المؤسسات الأرثوذكسية للنص القرآني ، والإحالة إلى النص المعياري بوصفه النص المرجعي المطلق في تقرير الحقائق، لعقلنة اللامعقول ونزع الأسطرة عن الفكر الإسلامي كما يرى بعض المفكرين الإصلاحيين. فصمود المتخيلات السنية إزاء التمحيص الاعتزالي والجهمي والشيعي والفلسفي ، لا يعني إلا قوة المتخيل الإسلامي ، وسعيه الاحتيالي للاحتفاظ بأكثر الصور نمطية ومخالفة لأبسط شرائط التعقل.
وحتى يتمكن الشرفي من نزع الشرعية عن الفكر السني ، فإنه نسب له اللاعقلانية واللاسببية والغيبية ، ونزه النص المرجعي عن هذه الصفات . والحقيقة أن الدين ، لا ينهض أصلا إلا على المفارقة والتعالي وعلى عابرية التاريخ والطبيعة والإنسان ، وعلى جوازية الفعل الإنساني واعتباطيته الجوهرية . فرغم المنحى العقلاني لابن رشد ، فإنه لا يملك ، إلا التسليم بغيبيات الإسلام ، بوصفها مسلمات صناعية :
يقول ابن رشد :
"وأما ما نسبه( يقصد الغزالي) من الاعتراض على معجزة إبراهيم عليه السلام ، فشيء لم يقله إلا الزنادقة من أهل الإسلام : فإن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلم ولا الجدال في مبادئ الشرائع ، وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد . وذلك أنه لما كانت كل صناعة لها مبادئ ، وواجب على الناظر في تلك الصناعة أن يسلم مبادئها ، ولا يعرض لها بنفي ولا بإبطال ، كانت الصناعة العملية الشرعية أحرى بذلك (...) فالذي يجب أين يقال فيها إن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية . فلا بد أن يعترف بها مع جهل أسبابها.ولذلك لا نجد أحدا من القدماء تكلم في المعجزات مع انتشارها وظهورها في العالم، لأنها مبادئ تثبيت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل؛ ولا فيما يقال فيها بعد الموت". ( - ابن رشد – تهافت التهافت – انتصارا للروح العلمية وتأسيسا لأخلاقيات الحوار – مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف للمشرف على المشروع : محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان- الطبعة الثانية -2001- ص. 510-511).
فإبطال معايير العقل ليس خاصا بالأشاعرة وأهل السنة، بل هو قاعدة مشتركة لدى كل الطوائف الإسلامية بلا استثناء. فرغم سعي المعتزلة إلى عقلنة الدين واحتواء العناصر الغيبية اللاعقلانية فيه ، إلا أنها اضطرت إلى التمحل في التأويل والتعسف في التسويغ والتعامل غير المبرر مع النصوص كما نجد عند إبراهيم بن سيار النظام ومعمر بن عباد السلمي وثمامة بن أشرس النميري وهشام بن عمرو الفوطي. كما أن البعض منهم أوغل في الغيبيات إلى حد القول بعقيدة التقمص أو التناسخ:
" وكان في زمانهما ( يقصد احمد بن خابط والفضل الحدثي ) شيخ المعتزلة " أحمد بن أيوب بن مانوس " ، وهو أيضا من تلامذة النظام ، وقال أيضا مثل ما قال : " أحمد بن خابط " في " التناسخ " وخلق البرية دفعة واحدة ؛ إلا أنه قال : متى صارت "النوبة " إلى البهيمية ؛ ارتفعت التكاليف ، ومتى صارت "النوبة " إلى رتبة النوبة والملك ؛ ارتفعت التكاليف أيضا ، وصارت النوبتان عالم الجزاء". (- الشهرستاني – الملل والنحل – تحقيق : محمد عبد القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – 2007- ص. 51)
فقد كان نصاب العقلانية ضئيلا في الحضارة الإسلامية ؛ وقد رأينا موقف ابن رشد من المعجزات وذهاب بعض المعتزلة إلى حدود تسويغ التناسخ حسب ما أورده الشهرستاني . فلئن كان موقف العقلانيين تسليميا لا عقلانيا في مسائل مفصلية مثل هذه ، فلنتصور حجم اللاعقلانية في التيارات المعتمدة أصلا على التغييب المنهجي والنسقي للعقل والعقلانية . ومن المحقق ، أن تأويل النص الثقافي ، ليس منفصلا كلية عن توجيهات النص القدسي . وبناء على هذه الرؤية، فإن الفصل بين النص والتأويل، لا يصيب الحقيقة، ويغرق المفكر في إشكاليات نظرية ومنهجية هو في غنى عنها.
وفي هذا السياق ، فإننا نلاحظ تقاربا بين الشرفي وحسن حنفي ؛ فهما يتفقان على أن نفي السببية في المعقولية الطبيعية والاجتماعية ، يرجع إلى النص الثقافي المتأثر بمعطيات السياق السياسي والاقتصادي ، وليس إلى النص المعياري القائل بالمعقولية في كل مجالات ممارسة الفعالية البشرية . يقول الشرفي :
" وهكذا نشأت أجيال كاملة من المسلمين وتربت وهي تستنكف عن تحليل أفعال الإنسان في مختلف مجالات حياته وردها إلى أسبابها وعللها الطبيعية والاجتماعية والمنطقية ، وتقفز إلى العلة الأولى في أبسط الظواهر
وأخطرها ، متوهمة أن الجهل علامة على التقوى وشرط من شروطها ، وممكنة بذلك لصنوف الاتكال والشعوذة والتسلط والتعصب من الشيوع والتجذر". (- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص . 188) .
ونحن نعتقد أن تأويل الشرفي للنص المؤسس ، يقفز على نصوص كثيرة تؤكد عكس ما يود البرهنة على صوابيته العقدية خصوصا أنه يشير في مقاطع أخرى من كتابه إلى حضور الميثية في مفاصل النص المؤسس ذاته " ومن الواضح أن الحديث فيها عن الجن وعن الهبوط من الجنة وعن دور إبليس والشياطين والملائكة وعن الطوفان وعمر نوح ، وغير ذلك من الظواهر الميثية ، مستمد من تلك العناصر التي تبدو اليوم بعيدة عن المفاهيم والمتصورات الحديثة . وكذا الشأن بالنسبة إلى العديد من مظاهر العجيب والغريب التي تزخر بها والتي لم يعد لها في نفوس معاصرينا الأصداء ذاتها ولا لها في فكرهم الدلالات عينها " .(- عبد المجيد الشرفي – الإسلام بين الرسالة والتاريخ – دار الطليعة – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2001-ص .45) .




#ابراهيم_ازروال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (1 )
- جودة التعليم-نحو قطيعة لغوية مع الإكليروس اللغوي
- المحرقة المغربية - تأملات في تراجيديا العصر الطحلبي
- أندريه كونت- سبونفيل-فضيلة التسامح
- في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج الصادق النيهوم )
- في نقد الفكر الاصلاحي - (نموذج الصادق النيهوم )
- في نقد الخطاب الاصلاحي -( نموذج حسن حنفي )
- في نقد الخطاب الإصلاحي-( الجابري والعشماوي )
- الفكر المغربي وثقافة حقوق الإنسان
- قراءة في - هكذا أقرأ ما بعد التفكيك - لعلي حرب- حين يصير الت ...
- شيزوفرينيا ثقافية
- الإشكالية الدينية في خطاب الحداثيين المغاربة-( نموذج الجابري ...
- واقع الثقافة بسوس-قراءة في وقائع نصف قرن
- من سوس العالمة إلى سوس العلمية
- تأملات في مطلب الحكم الذاتي لسوس الكبير
- الأخلاق والعقل-التسويغ العقلاني للأخلاق
- تأملات في المعضلة العراقية
- نحو فكر مغاربي مختلف بالكلية


المزيد.....




- الأرجنتين تطالب الإنتربول بتوقيف وزير إيراني بتهمة ضلوعه بتف ...
- الأرجنتين تطلب توقيف وزير الداخلية الإيراني بتهمة ضلوعه بتفج ...
- هل أصبحت أميركا أكثر علمانية؟
- اتفرج الآن على حزورة مع الأمورة…استقبل تردد قناة طيور الجنة ...
- خلال اتصال مع نائبة بايدن.. الرئيس الإسرائيلي يشدد على معارض ...
- تونس.. وزير الشؤون الدينية يقرر إطلاق اسم -غزة- على جامع بكل ...
- “toyor al janah” استقبل الآن التردد الجديد لقناة طيور الجنة ...
- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم ازروال - في نقد الفكر الإصلاحي:نموذج عبد المجيد الشرفي (2 )