أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - باب انقلاب الحال














المزيد.....

باب انقلاب الحال


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2330 - 2008 / 7 / 2 - 05:54
المحور: الادب والفن
    



أزعم أني صعدت ذلك الصباح، الصباح البارد كقلوبنا، باكرا إلى الحافلة الراقدة في حضن المدينة. المدينة كانت هادئة، وبردها كان القارس تأكل قساوته الوجوه الدكناء والأجساد المترامية التي كانت تتوغل في أنف الزحام، يرتطم البعض منها بالبعض، ويشتعل كلام سوقي يتصاعد لهيبه ويتلاشى في عز الفضاء. راودت التذكرة جواز الهروب، وجاءني الرقم مقعدي، صعدت السلم الصغير، وتبوأت مقعدي في تلك النار، وبدأت أتحسس هوامشي، أتهجى ثغرات برد خفيف، حاد كالمسامير يتسرب من الأرباض، ويغرق أغصاني في ارتعاشات عابرة..

كانت أكواب الحافلة تمتليء الكوب فالكوب، والأجساد تتهاوى في ثقلها، وتخر قابعة يغزوها سمت اللغط المتبادل الذاهب في الأجواء كصرير قافلة بدوية. على القارعة الصغيرة التي يجلس فيها كرسي السائق شائخا كشاهد مقبرة، يتناوب سيل من الرجال والنساء والظلال الغريبة، تطلب ما لله، وتدعو بتخوم السلامة وأعشاب العافية للجميع، عليها ندوب عتيقة من كبرياء دفينة...

آخر المرة استبد بالقارعة ظل قاتم أو أقرب من ذلك، تسنده قامة طويلة وعنيدة تقاوم جبالا من تعب تلاحقها، أطلق مدفع التحية كما نفعل كل الصباح، وبدأت الدائرة تدور: أيها الرفاق، أيها الإخوة المسافرون.. هذا أنا راية منسية في هول الصحراء، لا تاريخ يؤويني، منبوذ كالأجرب..من ذرية يلفها الجوع، يتيم هذه الأزمنة السوداء...لا أصل ولا فرع، لا مال ولا بنين، مدرس اللغات في ثانوية هذا القبر ـ المدينة.. أجرتي المثخنة بجراح القهر لا تكفي للموت، فانظروا لحالي..

كان مسكونا برعب طاف، يحاصر ملامحه البرية البدوية الحزينة، ويطوح به في مهبات غريبة وأودية من أسرار هائلة أو دامية... تحدث البدايات بلغة داجنة تمضغ عربيات أشبه بالفصيحات،وارتدت القاعة مواعين دهشة بليلة، كأنها لا تبالي، وكأنما أدرك الظل كبوة المكان، قال وهو مأخوذ بتضاريس وسهوب حدة غير مرئية، صدقوني" أنا رجل تعليم"، شابت أوراقي، والجحيم يقترب من معاقلي، أخاف أن تأكلني الغرابة، فارحموا اعترافي. قال ذلك بلغة فرنسية طليقة، وإنجليزية أنيقة، وعربية أفصح من ذلك الصبح، وبلغة أمازيغية آخر المطاف، وغشيته رغبة عارمة في البكاء، واستوت في عينيه مشارق الدمع ومغاربه..
وأطبقت قبائل من سكون على مداخل الحافلة الراكدة...
دلفت القامة الطويلة بعد ذلك لأبراج القارعة الصغيرة، وامتدت اليد ذات اليمين وذات الشمال..كانت القامة تتهاوى بين الصفوف كشجرة تغالب شهوة الإعصار، تمشي الجيئة والذهاب والمسافرون يأكلهم ضيق ساخن يسحق سحناتهم.. أحسن من أحسن في غابة الإحسان، والتقطت القامة أغصانها، شكرت أهل الخير، ودعت بالسلامة للأهل وملة الأحباب، وماتت مراسم الطواف، وتسللت من الباب الخلفي للحافلة، الدارة الصغيرة، الصغيرة كعلبة سردين.

في القارعة الأخرى المقابلة، كان الضياء يغرس أذياله في جلد الأرصفة الملطخة بالصرخات المكتومة، ودماء الأحذية البريئة ومخاط العابرين، وأكياس الفراغ القاتلة.. كان ثمة شخصان رماديان، أو قريبان من السواد، يأكلان موز الظلام في قفة الانتظار، تماما بالصدفة أو الميعاد، التفا حول القامة، سارت القامة بينهما، الخطوة، الخطوة، والقدم بالقدم، وغابوا في عجالة حيث تلاشت ظلالهم من عيون زجاج الحافلة.. الحافلة جاء الآن قائدها، ارتجفت منها الأعماق، ودار مجراها، واشتعل وراءها دخان شفيف يتشقق في مجرى ذلك الهواء المحروس برعاية العابرين...

أياما بعد ذلك، كانت القامة الطويلة نزيلة مستودع المجانين في مارستان المدينة، وانطوت صفحة إباء صغيرة، انقلبت الحال، وسقطت الذاكرة في هوادة المحال، كأنما الليل يمسك بحبل النهار ويلقي بمفاتيحه في جرة الماء...

1991.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باب-عبس وتولى-
- باب التلقيح
- ساعة ألم مضافة للزمن المغربي
- ديموقراطية في سبيل الله
- مثل الدجاجتين
- باب الفتنة
- باب القران
- باب العداوة
- ذكر ما جاء في باب التفويت
- باب التدشين
- لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي
- بصدد الجدل الدائر حول الإطار النقابي للتعليم العالي: -إصابة ...
- في أن تحويل إطار نقابة التعليم العالي إلى -جمعية- أمر مقصود ...
- في حضرة الإمام مولانا الغلاء
- في الحاجة إلى تأسيس نقابة للأساتذة الباحثين بالتعليم العالي
- رسالة مفتوحة إلى الوزير الأول
- ما تحت جلباب الإصلاح الجامعي ( 1 )-المراقبة- و-المعاقبة-المس ...


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - باب انقلاب الحال