أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مازن لطيف علي - عدنان الصائغ : الشعر يستوعب الوجود كله















المزيد.....



عدنان الصائغ : الشعر يستوعب الوجود كله


مازن لطيف علي

الحوار المتمدن-العدد: 2329 - 2008 / 7 / 1 - 10:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في أجواء الحرية والرفاهية والأمان، وبعيداً عن الخوف والحروب والجنرالات والمفخخات والغزاة والطغاة والظلاميين والتكفيريين ومخابرات دول الجوار، يمكن للثقافة أن تنتعش، خاصة أن لها أرضية كالعراق. ولدت عليها أولى الملاحم الشعرية في التاريخ الانساني (ملحمة كلكامش). وازدهرت وتناسلت فيها أربع حضارات مهمة هي: (السومرية والأكدية والبابلية والآشورية). وهي غنية بشعبها وبمثقفيها وعلمائها وفنانيها، وخصبة بخيراتها ومواردها" (دجلة والفرات والنخيل والنفط والخ). هذا ما يؤكده الشاعر العراقي المعروف عدنان الصائغ أحد أبرز الشعراء العراقيين في حوارنا معه.
ولد الشاعر الصائغ في مدينة الكوفة عام 1955 وعمل في الصحف والمجلات العراقية والعربية.. غادر العراق عام 1993 اثناء مشاركته في مهرجان جرش في عمان واقام فيها، ثم انتقل الى بيروت عام 1996، واستقر في السويد حيث يقيم فيها حالياً، صدرت له مجاميع شعرية عديدة منها: انتظريني تحت نصب الحرية- أغنيات على جسر الكوفة، العصافير لا تحب الرصاص، سماء في خوذة، مرايا لشعرها الطويل، غيمة الصمغ، تحت سماء غريبة، خرجت من الحرب سهواً، نشيد أوروك "قصيدة طويلة"، صراخ بحجم وطن "مختارات شعرية، تأبط منفى، وغيرها من الدواوين الشعرية.. شارك في العديد من المهرجانات الشعرية العالمية في السويد وهولندا والمانيا والنرويج والدنمارك وبغداد.. ترجم البعض من شعره إلى لغات عديدة، حصل على جائزة هيلمان هاميت للابداع وحرية التعبير في نيويورك عام 1996 وجائزة مهرجان الشعر العالمي في روتردام عام 1997..
قلتُ له:


* إلى أي مدى يمكن الحديث عن علاقة الشعر والفلسفة، وتأثير ذلك على تكويناتك الأولى؟

- "الشيء الأساس عندي الشعر ومنه أنطلق صوب علم الجمال والفلسفة والسياسة". هكذا يقول الشاعر أوكتافيوباث، ومن هذا الباب كانت رؤيتي إلى العالم من خلال الشعر. وهو الأقرب إلى تكويني وأحلامي وقراءاتي..
هكذا وجدت الأمر منذ تفتح وعيي على الحياة والكتب، في مدينتي الحالمة على نهر الفرات، الكوفة، والتي شهدت عبر تاريخها الحافل أعظم مدارس الأدب والفلسفة والنحو والفقه: المتنبي، النفري، جابر بن حيان، الكندي، الكسائي، عبدك الصوفي، سعيد بن جبيرا، أبو حنيفة، سفيان الثوري، شريح القاضي، رسائل أخوان الصفا، فيوضات ربيع بن خيثم، زهد ابراهيم التميمي، هوس أبي الفضل الكوفي، من جانب. وشهدت - على أرضها المضطربة - من جانب آخر، صراعات الخير والشر والحق والظلم: ثورة الحسين، زيد بن علي، أبن الأشعث، المختار الثقفي، الجعد بن درهم، القرامطة، انتفاضة التوابين.. والخ والخ من ثورات وخيبات..
وانظر على مقربة 500 متر من بيتنا الصغير هناك، كانت أطلال قصر الإمارة، تستوقف طفولتي الحائرة المتسائلة، فأقرأ للقاضي الديار بكري المالكي المتوفى 966 هـ وهو يقول:
"في سنة 71 هـ هدم عبد الملك بن مروان قصر الأمارة في الكوفة وسببه أنه جلس ووضع رأس مصعب بين يديه فقال له عبد الملك بن عمير: يا أمير المؤمنين جلست أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس ورأس الحسين بن علي بين يديه ثم جلست أنا والمختار بن أبي عبيدة فأذا رأس عبيد الله بن زياد بين يديه ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه ثم جلستُ مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه وأنا أعيذ أمير المؤمنين من شر هذا المجلس، فارتعد عبد الملك بن مروان وقام من فوره وأمر بهدم القصر".
أي تاريخ هذا.. يا الهي!؟
وقريباً من هذا القصر وبيتنا، يقع مسجد الكوفة الذي بناه سعد أبن أبي وقاص بعد تمصيره الكوفة عام 17هـ - 639 م. وفيه يذكر الحسين بن علي بن زياد الوشاء البجلي نقلاً عن أبن عيسى القمي: "أني أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد"..
أي تاريخ هذا اختلط به الدم بالكتب، والغبار بالفلسفة، والفرات بالثورات.. وكيف لصبي مثلي أن ينجو من تلك الكوابيس وهي شاخصة أمام عينيه الحالمتين أينما التفت.. لكنني وجدتُ متنفسي في المكتاب والنهر..
" كان النهرُ.. صديقي
منذ نعومةِ أحلامي
وأنا أتسكّعُ في ضفتهِ..
.. الممتدةِ حتى آخر أطرافِ القلب
بحثاً عن أعشابِ السحرِ
وأزهارِ الشعرِ
أداوي فيها أحزاني الأولى
وصباباتي الأولى
فتشكُّ الأشواكُ نعومةَ كفي
وتسيلُ دمائي في النهرْ"
هكذا أكتب في قصائدي الأولى (من ديواني الأول "انتظريني تحت نصب الحرية" عام 1984).. كأن الشعر تعويذة سأظل أحملها، في أزقة مديني الكوفة، ثم إلى بغداد، سنوات الحروب الطويلة والمريرة، حتى هروبي من الوطن بعد عرض ومنع مسرحيتي "الذي ظل في هذيانه يقضاً" عام 1993 وطوافي في مدن الغربة والترحال..
لم أجد لي ملاذاً غيره، وجوداً وفلسفة وصليباً ويوتوبيا.. مثلما لم أكن أجد في طفولتي ملاذاً لي غير السباحة في ذلك النهر ولساعات طويلة.. كأنه ملعبي وصديقي وسلوتي وأحلامي، كي أنسى مذاق الفقد المبكر والفقر.
كنتُ استغرق بين أمواجه كأني أقرأ في كتاب.. هائماً بأحلامي الطافية على سطحه كأنها الشموع التي كانت توقدها نساء مدينتي نذراً ويتركنها طافية على خشبة تندفع مع المويجات.. لكن إلى أين؟
هل من هنا تعلمت الشعر، وقرأت فلسفة الوجود؟ لا أدري..
انها الحيرات والتساؤلات التي تبقى مفتوحة إلى آخر الرحلة، أو آخر العمر..
يقول روبرت فروست: "يبدأ الشعر بالمسرّة، وينتهي بالحكمة". ويقول سان جون بيرس: "على الفلاسفة أن يتعلموا من الشعراء".
فأذا كان ول ديورانت في كتابه (مناهج الفلسفة) يقول: "لولا الفلسفة لكان التأريخ مجرد نبش عن الوقائع يدس أنفه في الماضي". فأن رسول حمزاتوف يرى أنه "لولا الشعر لتحولت الجبال إلى كومة من الحصى، والمطر إلى ماء آسن ومستنقع، والشمس إلى جرم سماوي مشع له قدرة حرارية ...لولا الشعر؛ تبقى المفاهيم الجغرافية بدلاً من نداء البلاد البعيدة، يبقى خزان مياة كبير بدلاً من البحر، تبقى صرخة ذكر يدعو أنثى بدلاً من أغنية عصفور، تبقى مجموعة من الغازات بدلاً من السماء الزرقاء، وتبقى الدورة الدموية بدلاً من خفقان القلب.. إن روحي أكثر خفاء في أعماقي، من أضلاعي وعمودي الفقري ورئتي... ومع الشعر روحي على يدي مفتوحة شفافة... ويستطيع الناس أن ينظروا خلال نفسي"..
نعم، لولا الشعر لضاع كثير من تاريخ الأمم وفلسفاتها وتراثها، ولاندثرت أحداث كثيرة ووقائع وحروب وحب وهواجس.
لقد حفظت لنا الياذة هوميروس الكثير من المعتقدات القديمة للأغريق، وحفظت لنا الشعر الجاهلي والمعلقات السبع الكثير من طقوس العرب القدامى، بل أن تاريخ دولة مثل "الدولة العيونية" اكتشف صدفه عن طريق شاعرها عبد الله ابن المقرب العيوني...
وسأتوقف أخيراً عند ما قاله صديقي الشاعر المغربي المرحوم محمد الطوبي: "بالشعر عبرت قارات لم أكن لأعبرها لولا الشعر ..بالشعر أيضا تكبدت خسارات وعداوات لم تكن لولا الشعر الذي غمر حياتي بمفارقات عجيبة"..


* برأيك استاذنا الفاضل ما هي الفترة الذهبية لانتعاش الثقافة العراقية؟

- في أجواء الحرية والرفاهية والأمان، وبعيداً عن الخوف والحروب والجنرالات والمفخخات والغزاة والطغاة والظلاميين والتكفيريين والعمائم المسلحة ومخابرات دول الجوار، يمكن للثقافة أن تنتعش خاصة وأن لها أرضية كالعراق. ولدت عليها أولى الملاحم الشعرية في التاريخ الانساني (ملحمة كلكامش). وازدهرت وتناسلت فيها أربع حضارات مهمة هي: (السومرية والأكدية والبابلية والآشورية). وهي غنية بشعبها وبمثقفيها وعلمائها وفنانيها، وخصبة بخيراتها وموارها" (دجلة والفرات والنخيل والنفط والخ).
نعم.. يمكن للثقافة أن تنتعش، وللبلد أن ينمو ويتطور لو ترك لشعبه الحرية والأمان والاستقلال.. بعيداً عن تلك المنظومة الكارثية التي ذكرتها أعلاه والتي أنشبت أظفارها - منذ سقوط النظام البائد، ولليوم - وراحت تنهش فيه وتتقاتل على تقطيع لحمه وعظمه..
لقد شهدت بغداد على مر تاريخها انتكاسات عدة وازدهارات عدة، وتقلبت بين عصور ذهبية وأخرى نحاسية وفترات ظلامية، وزلزلتها حروب وانقلابات وكوارث كثيرة، وما أن ينقشع عنها ذلك الظلام حتى تعود من جديد مشرقة وهّاجة كطائر العنقاء الذي يحترق ويولد من رماده..


* ما هو الهاجس الأهم للشاعر العراقي الكبير عدنان الصائغ بعد هذه التجربة الطويلة في البحث والكتابة الشعرية؟

- هاجسي الوطن والقصيدة معاً، مثلما هاجسي الحرية والجمال: حياةً ونصاً، وما بينهما من حب وكتب وأصدقاء ومدن وتسكعات وأحلام وخيبات وتساؤلات دائمة..
لا يزال البحث في القصيدة يشغلني على الدوام، ويدخلني عوالم ما كنت أحلم بدخولها: ممالك مدهشة لم تجد بعد من يفك أسرارها وطلاسمها، وتاريخ أمم، ومعارف وحيرات طافية على سطح بحيرة الوجود منذ آلاف السنين..
فالقصيدة ليست كلمات فقط، انها دخول في مغارات النفس البشرية، وبحث دائب في بطون التاريخ ومشارف المستقبل.. هي تلمس خفي لسبر أغوار لتلك الأحاسيس والرعشات التي تعتري الانسان لحظة فرحه وحزنه وحلمه، للوصول إلى كنه البشر وجوهر الوجود..
ولا تزال هموم الوطن تبهظني قلقاً وأنا أتتبع - من منفاي البارد - غصاته اليومية، وأقول آن هذا الكابوس أن ينتهي، ولهذا الظلام أن ينجلي... فأسمع "نشيد أوروك":
مَن أين يطلعُ فجرُ العراق
وحراسنا - كلَّ يومٍ - يعلّون أسوارنا؟
...
أنامُ وأصحو، فلا أجدً الفجرَ.
مَنْ سرقَ الفجرَ - يا ديكُ - من شرفاتِ المدينةْ...
قلتُ عبود: كانتْ تضيقُ بنا كوّةُ الأفقِ، نوسعها بالأغاني
تضيق الأغاني، فنوسعها بالأماني........
فمَنْ يوسعُ الآن كوّةَ منفاك..
لا شيءَ، غير السماءِ المعرّاةِ تسحبُ قطعانها البيضَ / فوق مدارجِ جفنيكَ / نحلمُ في شجرٍ وارفٍ / سيظلّلُ بيتاً رسمناهُ منذ الطفولةِ / خلفَ سياجِ دفاترنا / والرمالِ المندّاةِ بالبحر.../ يا أيها البحرُ ما أبقتِ السنواتُ المريرةُ منكَ سوى نصفِ نافذةٍ / تتلألأُ فوق السفوحِ الغريبةِ / أرقبُ منها زفيرَ المدينةِ - في آخرِ الليلِ - تقطعهُ المركباتُ ونايُ الحبيبِ / ويا خبزَ أمي اشتهيتكَ / في برد منفاي، إشّاه..... - والشايُ أبردُ مما تظنين، / أبردُ من مقلِ العابرين سنشربهُ في المقاهي على عجلٍ / ونذوبُ بموجِ الزحامِ / فمن سيعدُّ العشاءَ لأبنكِ/ حين ستنفدُ منه النقودُ / وليس أذلَّ من الجوعِ في مدنِ الغرباءِ..
...........
أأقضي على وحشتي بالكتابةِ؟ / لكنْ إلى مَ؟ / أقولُ لكلكامشٍ: لو رأيتَ الذي قد رأينا / لبلتَ على رأسِ هذي الحياةِ / وأسألُ: هل عمرنا سجننا؟ / هل كتابي ضريحي؟ / هل أرى البابَ حلماً أنامُ لأدخلهُ؟ / هل أجرّبُ موتي لعلي أرى عالماً / لمْ يصوّرهُ ملتون / أخرجُ رأسي بين السطورِ لأبصرَ: أطفالنا يلعبونَ بميراثنا من حقولِ القنابلِ / والفتياتِ على نهرِ دجلة / يغسلنَ أوجههنَّ / فتمضي المياهُ مرقرقةً بالجمالِ ليكرعها البحرُ / كمْ كرعَ البحرُ أحلامنا / جالسون على حجرِ الحكمةِ البابليةِ/ تمضي بنا عرباتُ الطغاة/ إلى غرفِ النومِ والمقصلاتِ ولا أصلُ.... / البحرُ عاتٍ بأمواجهِ والجراذينُ تأكلُ من سفني / وأنا أتصارعُ والموجَ - ربّاهُ – / لا وطنٌ في السفينةِ"
......
حتى إذا أورقَ الفجرُ - فوق غصونِ المصاطبِ -
ودعتني.... ومضيتَ وحيداً لمنفاكَ
تنشدُ في الريحِ منكسراً مثلَ نايٍّ غريبٍ:
- أماناً بلادي التي لن أرى...."


* اختفت ظاهرة المرأة الشاعرة بعد نازك الملائكة في العراق ..ما تعليقك على هذا؟

- في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وقف الزهاوي مدافعاً عن حقوق المرأة، هاتفاً في شوارع بغداد وصحفها ومنابرها:
"اسفري فالحجاب يا أبنة فهر هو داء في الاجتماع وخيم
كل شئ الى التجدد ماض فلماذا يقر هذا القديم؟
اسفري فالسفورللناس صبح زاهر والحجاب ليل بهيم
لم يقل بالحجاب في شكله هذا نبي ولا ارتضاه حكيم
لا يقي عفة الفتاة حجاب بل يقيها تثقيفها والعلوم"
وهذه القصيدة كنا قد حفظناها عن ظهر قلب، صبية وصبايا، في صفوفنا المتوسطة، لأنها كانت أحدى مقررات المناهج المدرسية في العراق!
ولم يطالب المشايخ، شيعة ولا سنة، بحذفها من مناهجنا المدرسية ولا من رؤوسنا
ويقول أيضا :
مزقي يا ابنة العراق الحجابا أسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقيه واحرقيه بلا ريث فقد كان حارسا كذابا
وكتب الشاعر جميل صدقي الزهاوي مقالاً "المرأة والدفاع عنها" أشار فيه إلى عشرة مضار في الحجاب، ليختمها بهذا االبيت:
"أَخرَ المسلمين عن أمم الأرض حجابٌ تشقى به المسلمات"
وفي عشرينات العراق أيضاً تأسست جمعيات نسائية خاصة بها
وصدر عام 1923 عدد من المجلات النسائية مثل مجلة "ليلى" التي رأس تحريرها بولينا حسون، إحدى زعيمات النهضة النسوية العراقية.
ووقف في تلك المعركة، الى جانب الزهاوي ودعاة السفور: حسين الرحال ومصطفى علي ومحمود أحمد السيد وسامي شوكت وعوني بكر صدقي ومحمد سليم فتاح.
ونشرت جريدة العراق التي كان يتولى تحريرها رزوق غنام وروفائيل بطي مقالاً لسامي شوكت:
"إن المطالبين في بقاء تستر المرأة وأسرها يكون طلبهم منطقيا أكثر لو طلبوا إلغاء التعليم ورفع التهذيب والإبقاء على الحالة الهمجية للمجتمع".
وكتبت إحدى سيدات بغداد تحت إسم مستعار متهكمة من أعداء التحرر: "يقول هؤلاء المستبدون إن البرقع والحجاب ليس معناه أسر المرأة، فأرجو من الرجال أن يجربوا ولو لإسبوع لبس البوشي والعباءتين"!..
وبرزت مبدعات كان لهن اسهاماتهن في معترك الحياة الثقافية والسياسية فالمجتمع بكل تخلفه زمنذاك لم يكن منغلقاً وسلبياً تجاه المرأة كما نراه الآن.
واليوم، بعد حوالي قرن من معركة تحرر المرأة، من تستطيع السير بلا حجاب في الشوارع والأسوق، فهي أما تقتل أو تخطف أو تسمع كلاماً غير لائق..
ومن تستطيع أو يستطيع أن يجهر بمثل هذه الأفكار، ويعود، وتعود إلى بيتها آمنة..
لهذا ونتيجة للوضع الكارثي الذي يعيشه العراق والمرأة فقد هاجرت من هاجرت وانكفأت من انكفأت، وظلت الشموع الباقية تكافح ببصيصها هذه الظلمة المطبقة وسط عصف الرياح: دنيا ميخائيل، كولالة نوري، فليحة حسن، نجاة عبد الله، داليا رياض، فيء ناصر، ريم قيس كبة، وسناء العبيدي وعادلة العيداني، فائدة آل يس، ورنا جعفر ياسين، باسمة الحسيني، أطياف رشيد، فينوس فائق، ، بلقيس حميد حسن، منال الشيخ، أمل البياتي، أمل الجبوري، وفاء عبد الرزاق، رشيدة العكيلي، ورود الموسوي، وئام ملا سلمان، رشا فاضل، سمرقند، منال أحمد، عالية البقال، فاتن نور، افراح الكبيسي، سهام جبار، لميعة عباس عمارة.. وغيرهن، وغيرهن الكثير..
ولا أضع هنا تقييماً على ابداعهن، فالأسماء كالنجوم هناك من تلتمع بوهج أو بخفوت، ثم تنطفيء نتيجة عوامل داخلية أو خارجية، وهناك من تظل متوهجة إلى الأبد..


* كيف تفسر ظاهرة فشل العراق في صنع شخصية لمثقف المؤثر في الحياة السياسية ومصير الامة؟

- لقد اشارت مس بيل في في مذكراتها في بدايات القرن الماضي إلى ظاهرة ملفتة في الشارع العراقي، وهي هو بروز وتسلط العسكري والاقطاعي ورجل الدين، وغياب للمثقف...
وقد تكرر هذا المشهد عبر عقود تاريخنا العراقي، حتى يومنا هذا وإن بنسب متفاوتة.. وهي ظاهرة فاجعية ومؤسفة بالتأكيد تتحمل وزرها الحكومات وسياساتها والمثقف المتقاعس عن أخذ دوره..
وما هذه الكوارث التي مرت بنا خلال الحقب الماضية إلا نتيجة لهذا الغياب الفاجع للمثقف، وتسلط العسكري ورجل الدين والاقطاعي والتاجر والسياسي..
لذا إذا اردنا أن ننهض بعراق جديد فلا بد أن يكون للمثقف مكانته ودوره الطبيعي في القيادة والتأثير والتأسيس.. وبغير ذلك فستبقى قرقعة السلاح والبيانات العسكرية هي الأقوى، وفتاوى التكفير هي الأقوى، وسوق السلع الإستهلاكية هي الأقوى.
لقد قامت الثورة الفرنسية يتقدمها رجال فكر عظام من أمثال جان شارل مونتسكيو صاحب كتاب "روح القوانين"، فرانسوا فولتير، كوندياك، جاك جاك روسو صاحب كتاب "العقد الاجتماعي" الذي يرى أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي هي في ضمان الحرية والمساواة المطلقة أمام القانون، وديني ديدرو الذي كان يؤمن أن الطريق إلى الخلاص من عيوب أشكال الحكم القائم لا يمر عبر الثورة بل من خلال إشاعة التنوير في المجتمع، وديدرو الذي آمن دوماً بحتمية الانتصار النهائي للحقيقة والتنوير وميرابو خطيب الثورة وصوتها اللاذع..
لكن ها هي ثوراتنا تقوم وتخمد، وصوت المثقف لا يُسمع أبداً.


* ملحمة "نشيد أوروك"التي كتبها الشاعر عدنان الصائغ ماذا تشكل له.. وهل هناك انجاز مشابه لتلك الملحمة يعمل عليه الصائغ؟

- هذا النشيد عاصر أهم وأفجع سنوات حياتي وسطر سنيناً منها ومن تاريخ العراق.
في تلك السنوات الكارثية من الحرب العراقية الايرانية ومن بعدها حرب الخليج ومن ثم الانتفاضة الشعبية العظيمة وإخمادها ثم هجرة الملايين وتشتتهم في أصقاع المنافي.
بدأت كتابتها عام 1984 ابان الحرب العراقية الايرانية، في اسطبل مهجور للحيوانات، في قرية شيخ اوصال، في مدينة السليمانية، عندما كنت جندياً معاقباً، رماني النقيب ضابط التوجيه السياسي فيه بسبب وشاية وعثور حضيرة الأمن على كتب متنوعة تحت يطقي العسكري: أراغون، أدونيس، المعري، الجواهري، أريك ماريا ريمارك، السياب وغيرها.. التبس الأمر عليه وأمر بحجزي في هذا الإسطبل وكان معي أربع جنود محتجزين أيضاً، أحدهم كان مصاباً بالشيزوفرينيا أسمه "سيد حرز" ذكرته في النشيد كثيراً.
وقد عشت في هذا الاسطبل حوالي عامين بين رائحة الروث المتيبس ودوي القذائف ودبيب العقارب السامة، وحكايات الجنود.. ثم نقلوا لنا صناديق عتاد لخزنها ملأت أرضية الأسطبل،
فكنا ننام عليها، ونأكل ونحلم ونغني ونستمني ونتشاجر ونتسامر ، ونتطلع عبر الكوى الصغيرة إلى الغيوم السابحة ونطلق تأوهاتنا وحسراتنا الحبيسة
وكان سيد حرز يشعل طباخه الصغير "الجولة" فوق هذه الصناديق وعبثاً كنا نترجاه أن يحمل طاوته و"جولته" إلى خارج الاسطبل، لكنه كان يعاند ويزبد ويهددنا برفسها.. أي رعب يا الهي.
في أحد الأيام حمل أحد الجنود صحيفة وجدها قرب مزبلة الفوج شاهد فيها صورتي ومقالة كتبها الناقد عبد الجبار داود البصري عن ديواني الأول "انتظريني تحت نصب الحرية" الذي كان قد صدر في بغداد... تصور أية فرحة مشوبة بغصة طويلة وشعور بالمهانة. إن يُحتفى بديواني هناك وأن أعيش هنا، في هذا الاسطبل.. أن يعيش بين الأضواء وأن أعيش في العتمة. مستذكراً السياب وهو يخاطب ديوانه بلوعة
يا ليتني أصبحت ديواني لأفر من صدر إلى ثاني
ألك الكؤوس ولي ثمالتها ولك الخلود وأنني فاني؟
ألقيت الجريدة جانباً وسط دهشة أصدقائي من الجنود الذين دهشوا لرؤية جندي بينهم تتصدر صورته إحدى صفحات الجريدة، وخرجتُ هائماً لوحدي.. ولم أنم تلك الليلة وعلى ضوء الفانوس المدخّن، وفي نوبات الحراسة، بدأت أبياتها الأولى:
"في المحافلِ..
أو في المزابلْ
في الأغاني التي كرّزتها الاذاعاتُ
في حجر القحط يجرشُ ضحك السنابلْ
في دروب الصحافةِ، في اللادروب، الغروب الذي سالَ
... أو مالَ
مَنْ قالَ إن القصيدة لا تنتهي في جيوب المقاولْ
في مقصِ الرقيبِ [ سينسى عويناتِهِ القزحيةَ،
فوق سرير البغيِّ ]
فيشطبُ - فى الصبحِ - نصفَ القصيدةِ
كي تستقيمَ مع الميلان الأخير
لوزن الوظيفةِ"
وقد وجدتها متنفّساً لي وأنا أسطر الصفحة تلو الصفحة على شكل هذيانات غير مترابطة مندفعاً بروح غامضة لتسجيل تاريخ الحرب السري وما عشناه من ذل وألم وموت مجاني..
لم أكن أخطط لها شكلاً أو لغةً أو محتوى أو نهاية. تركتها تسيح وتهذي وتسجل بصدق حرارة التجربة نفسها بكل مراراتها ودفقها وسرياليتها والسحرية الواقعية التي تكتنزها، ثم وجدتني أغوص في أعماق التاريخ الإنساني لاستكناه معنى أو تفسيراً لما وصلنا إليه.
ومن رحم تلك المعاناة، وفي تلك الأجواء الكابوسية التي كدتُ اختنق فيها،.. كنتُ أكتب وأكتب وأكتب...
بعد سنوات سيطلع عليها صديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي فيشجعني كثيراً، ويطلع الناقد جبرا إبراهيم جبرا على بعض صفحاتها فيتحمس لها وينبهني إلى إنني أضع أصابعي على ملحمة عراقية معاصرة سيكون لها صدى ويطلع عليها خالي الشاعر والناقد د. عبد الآله الصائغ ليشجعني كثيراً ويسميها القصيدة المنجمة ويكتب لي على غلاف مسودتها الأولى: "أنت لا تدري بأنك أنجزت رواية شعرية مبتكرة اختلجت فصولها واختلطت شخوصها واختبلت أخيلتها.."
ولم استطع أن أنشر أي شيء منها داخل العراق زمنذاك.
لكن مخرجاً جريئاً (غانم حميد) ومعه معد رائع (احسان التلال) استطاع تقديم بعضها بعملين مسرحيين هما: "هذيانات الذاكرة المر" عام 1989 على مسرح أكاديمية الفنون الجميلة، و"الذي ظل في هذيانه يقظاً" عام 1993 على مسرح الرشيد، لكن السلطة انتبهت له بواسطة مخبريها، فقامت منعه بعد العرض الأول ولم يسمح للمخرج بتقديمها إلا بعد حذف مقاطع كثيرة منها، ومع ذلك منعوه مرة أخرى وقادونا جميعاً الى التحقيق: شاعراً ومخرجاً ومعداً وممثلين. لكننا تخلصنا من قبضتهم باعجوبة، وعلى أثر ذلك غادرتُ الوطن في العام نفسه إلى عمان، وواصلت الكتابة فيه بأمان وبحرية أكثر حيث وجدتُ لكتابتي ولنفسي فضاءً رحباً، منحتني دفقاً آخر، مختلفاً، وصارخاً، وكان علي أن أواصل الكتابة فيها مدفوعاً بشهوة صراخ سجين يرى الشمس لأول مرة.. ثم ليتنقل معي في طوافي وتشردي عبر صنعاء، عدن، الخرطوم، دمشق، حتى وصولي إلى بيروت عام 1996 ليكتمل وأقدمه إلى إحدى المطابع هناك.
وما أن صدر حتى شن النظام البائد وزبانيته حملة شرسة ضدي ووصفتني صحيفة "بابل" التي كان يملكها عدي صدام حسين (13 تشرين الأول 1996) بـ "المرتد" في قائمة ضمت 12 كاتباً وأديباً وفناناً عراقياً. ووضعتني صحيفة "الزوراء" (2 آذار 2000) التي كان يشرف عليها عدي أيضاً، على رأس قائمة ضمت أسماء 32 أديباً وصفتهم بالكتاب المعادين الذين خرجوا في التسعينات من الوطن.
وهكذا وجدتني محاصراً من جميع الجهات. لكن موقف أصحاب الرأي الشجاع والكلمة الحرة كان لي سنداً لا ينسى، وهم دائماً كذلك، أمام رياح التخلف وخفافيش الليل.
أعمل الآن على نص كنت قد بدأته منتصف عام 1996 في بيروت ولم أنتهِ منه لليوم. ومن المؤمل أن يكون أطول من النشيد بكثير، لكن بشكل مختلف ومغاير تماماً.. هذا النص سميته "نرد النص" فيه استقراء لتراثنا التاريخي والديني المسكوت عنه ومساءلته بجرأة وحرية مطلقة لا تعرف حداً، لنفهم كيف ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.


* آخر ما كتبت؟

- "عندما الأرضُ، كوّرها الربُّ، بين يديه
وقسّمَ فيها:
اللغات
النبات
الطغاةَ
الغزاةَ
الحروبَ
الطيوبَ
الخطوطَ
الحظوظَ
اللقا...
والفراقْ
ووزّعَ فيها:
العبادَ
السوادَ
الوصايا
البلايا
الحواسَ
الجناسَ
الطباقْ

اعتصرتْ روحَهُ غصّةٌ
فكان....
العراقْ"..


* بصفتك شاعراً ربما استمد شاعريته من خلال ايديولوجية محركة للتاريخ؟

- الايديولوجيا – على مر التاريخ – محركٌ دائب، تدفع بقوى الانسان وفق منظورها وتنظيراتها نحو الخير أو الشر. أو تمنحه أحياناً قراءة صحية، وأحياناً أخرى خاطئة لمجرى التاريخ والحضارة والوقائع والواقع، فيتصرف المرء على ضوئها بمقدار درجة ايمانه التي قد تحجب عن عينيه كل شيء باستثناء ما يعتقد.. وهكذا جرّت بعض الايديولوجيات الكثير من شعوبها نحو الدمار والانسحاق.. وأمامك تاريخ الشعوب تصفحه لترى فيه العجب العجاب..
لكن هذا لا يعني أن التوصيف يشمل الجميع، هناك حركات وايديولوجيات كثيرة غيرت مسار البشرية نحو الأفضل.. لكن ربما لأن المشهد الطاحن والقاتم المخيّم على كاهل وطننا منذ عقود جعلنا بهذه النظرة السوداوية..
قد يتأثر الشاعر بفكرة ما، بايديولوجيا ما، تحرك فيه نوازع شتى او تثير لديه مشاعر مختلفة ورؤى ملونة. لكن الإنتماء بمعناه الحزبي هو جمود، يقين ساكن..
هذه نظرتي وموقفي من الايديولوجيا السياسية أو الدينية وغيرها.. قبلاً والآن.
لهذا لمْ أنتمِ في حياتي لأية ايديولوجيا، ربما لإيماني بأن الشعر أكبر من الايديولوجيا. فهو يتسع الوجود كله، الحياة كلها، والأفكار كلها، بينما الايديولوجيا قد تنحصر ببؤرة صغيرة لا تخرج منها.. وقد تضيق بالفكرة المختلفة الجديدة، فتحاربها أو تمسحها..
تأثرت بالحركات الثورية: ببعض من ثورة الزنج، الحسين، الغفاري، زيد بن علي، الحلاج، جيفارا، دعبل الخزاعي، المسيح، غاندي، غيلان الدمشقي.. مثلما تأثرت بالحركات الفنية: ببعض من السريالية، الواقعية السحرية، مفاهيم الحداثة..
وأجد أن لا فرق بينهما.. فهما يسعيان إلى التغيير والتمرد على القبح والرداءة، نحو اشاعة الجمال والخير والحرية والحب.. وهذه المفاهيم كثيراً ما ترفعها بعض الايدولجيات شعارات عريضة لها.. لكن في ممارساتها أو عندما تستلم السلطة تبدأ بالتنكر لها ومحاربتها أحياناً..
هذا التناقض أو هذه المفارقة هي ما يلتقطه الشاعر أحياناً ليؤسس عليها نصه المحتج..
من هنا يكون الشعر – الشاعر هو المحرك الأعمق والأصدق لحركة تاريخ الإنسان..


* ماهي مواصفات الشاعر والاديب بعد التغيير الذي حصل في العراق وخاصة بعد اختلاط الاوراق عند بعض الأدباء؟

- الشاعر الحقيقي المتبصر لحركة التاريخ والواقع، نادراً ما تختلط لديه الأوراق.. ذلك لأن له عيناً ترى الأشياء أعمق وأصفى مما يراها الآخرون. أليس هو الرائي "الذي رآى كل شيء" كما تصفه ملحمة كلكامش..
من هنا يمكنني القول أن الكثير من مبدعي العراق لم ينخرطوا في تلك اللعبة السياسية، لإدراكهم أن التغييرات الكبرى في الحضارات والشعوب، لا تأتي من فراغ وشعارات فضفاضة، وانما من خلال تمخضات حقيقية في الرأي والروح، وكدح وتعلم وتضحيات وصدق وبناء ومراجعات ودراسات و.. و..
يستغرب الكثيرون صمت المثقف العراقي.. انه ليس صامتاً أبداً بل هو مذهول أو مستلب أو مقموع..أو لا أحد يسمع صوته وسط دوي المخخات والشعارات الطنانة..
وفي الجانب الآخر من المشهد يمكنك ان ترى بوضوح: المثقف البوق أو البهلوان أو التاجر أو السمسار أو.. أو..
من هنا تختلط عند المشاهد العابر أو القاريء العابر صورة هذا المثقف بذاك، أكثر مما أختلطت لديه في تلك السنوات الماضية..


* يخضع في كثير من الأحيان المثقف ويرضخ للسياسي وبذلك يبتعد عن مشاعر وهموم الشعب ليعبر عن مشاعر السلطة والحكام؟

- هذه هي الطامة الكبيرة التي أوقع فيها بعض المثقفين أنفسهم، أو أُوقعوا فيها.. فغدوا مجرد أبواق للتسبيح والتهليل، أو كتاب عرائض مدفوعة الأجر..
بينما المثقف – كما قلتُ في جوابي السابق – هو محرك التاريخ، والرائي، والواعي، والمؤسس، وهو أيضاً ذلك الوهج الذي ينير الكثير من مفازات الظلمة..
فكيف يغدو أو يرتضي لنفسه أن يكون تابعاً أو ظلاً للسياسي مهما كان ذلك السياسي.. بل وكيف يرتضي السياسي الحقيقي لنفسه أن يحول هذا الوهج إلى مجرد رماد متطاير..
المسألة أكثر تعقيدأ مما نتصور.. وقد ساهمت الأوضاع الكابوسية التي يمر بها البلد سابقاً والآن بتهميش دور المثقف الحقيقي أو اسكاته..
فلم يعد يسمع الحاكم إلا نفسه، كذلك السياسي ورجل الدين وغيرهم.. فاتسعت الهوة بين دائرة الشعب وبين دائرة السلطة باختفاء العنصر المثقف بينهما..
وبالغاء دور المثقف فقد الوطن والمواطن عنصراً مهما، هو المرآة الحقيقة التي تعكس همومهما وتطلعاتهما وآمالهما وآلامهما.. وضعفت الصحافة، وتقهقر الفن، وشحب الأدب، وانتكس المواطن، وضعف الوطن، وتضخمت بدائها السلطة.


* تميز الشعر العراقي بتفرداته الإبداعية. من أين يستمد الشاعر العراقي هذا التمايز؟

- الشعر العراقي ضاج بموضوعاته المتفردة واجتراحاته البكر.. فبالإضافة إلى الواقع اليومي الملتهب والتراث الشعري المتجذر عميقاً في الأرض والتاريخ، هناك عنصر المفارقة المدهش الذي يكتنز به واقع الحياة العراقية فيصادفك في الشارع وفي حكايات الناس ورائحة البساتين وعذوبة الأبوذية والسكر النواسي ونواح أيام عاشوراء ومآسي الحروب والحصارات والفيضانات والخ.. والخ..
فعلى هذه الأرض ولدت أول وأعظم الملاحم في تاريخ الشعر الإنساني (ملحمة كلكامش)، وتبلورت أول حركة للشعر الحر في تاريخ القصيدة العربية.. وبين هذين الزمنين نمى ونشأ فطاحل الشعر الأموي والعباسي والفترة المظلمة والقائمة تطول...
لقد قال المفكر الفرنسي جاك بيرك يوماً: "العراق بلد شعري"..
وتساءل الشاعر نزار قباني : "لماذا تمطر سماء النجف خمسمئة شاعر في الدقيقة، ولا تمطر سماء جنيف سوى ساعات اوميكا وحليب نيدو سريع الذوبان"..
نعم.. لقد تناول الشيخ علي الخاقاني شعراء النجف من القرن العاشر الهجري حتى الرابع عشر، فجاءت موسوعته "شعراء الغري" في أثني عشر مجلداً..
والخ.. والخ..


* كثير من المثقفين والأدباء والفنانين عادوا إلى الوطن بعد التغير لكن الواقع صدمهم ورجعوا إلى منافيهن خائبين.. وخير نموذج هو الشاعر عدنان الصائغ ما تعليقك على ذلك؟

- نهاية عام 1996 وكنت أعيش منفياً قريباً من القطب الشمالي، أطل من نافذتي على أشجار وشوارع من ثلج، حيث درجة الحرارة تصل إلى 36 تحت الصفر، وأنا أتذكر شمس بلادي، حالماً بسقوط الطاغية لنعود إلى بلدنا الحبيب ننفض عن أرواحنا الصقيع والغربة. وقتذاك وجدتني أجلس إلى طاولتي وأكتب قصيدتي"حنين" التي ضمها ديواني "تأبط منفى". أقول فيها:
"لي بظلِّ النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق
كيف الوصولُ إليها
وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ
وكيف أرى الصحبَ
مَنْ غُيّبوا في الزنازين
أو كرّشوا في الموازين
أو سُلّموا للترابْ
انها محنةٌ - بعد عشرين -
أنْ تبصرَ الجسرَ غيرَ الذي قد عبرتَ
السماواتِ غيرَ السماواتِ
والناسَ مسكونةً بالغيابْ"
لم أتوقع أبداً وأنا أعود إلى بلدي ضيفاً على مهرجان المربد، لعام 2006 ، أن يحدث لي ما حدث، لأطوي حقائبي وخيبتي وأنسلُّ عبر الحدود لأعود إلى منفاي..
فبعد أن أنتهيتُ من قراءة "نصوص مشاكسة جداً"، والتي استقبلها الجمهور بحماس وتصفيق فاق تصوري، وما أن نزلتُ من المنصة عائداً إلى مقعدي حتى تقدم مني أحد عناصر الميشيات، ليهددني علناً وبوقاحة سافرة أنه متوعداً سيقطع لساني لأنني أسأت في نصوصي للدين الحنيف..
لم أصدق أو لم أستوعب كلامه.. تصورته أحد الحضور المستمعين ساءه شيء مما قلته، وأردتُ أن أخرج معه من القاعة، بعيدأ عن جو المهرجان، لأناقشه واصحح له تفسيره الخاطيء، لكن أصدقائي الشعراء الرائعين الذين خبروا أساليبهم المميتة وفكرهم الظلامي حذروني وأحاطوني برعايتهم وحمايتهم بعد أن وصلهم تهديده وعرفوا موقعه الحزبي في أحدى مليشيات الموت، ومن ثم أخذوني من القاعة وحملوا حقيبتي وكتبي من الفندق، لأبيت الليل وسط حماية مشددة عند أحد القادة العسكرين، خوفاً من الهجوم عليَّ ليلاً أو اختطافي من قبل عناصر تلك المليشية الظلامية.. ثم ليخرجوني في الصباح الباكر عبر الحدود إلى الكويت، ومنها أطير إلى منفاي..
عندما وصلتُ إلى لندن، انهالت علي الاتصالات فقد انتشر حادث الإعتداء من قبل بعض وسائل الإعلام التي كانت حاضرة لتغطية فعاليات المربد وشهدت الواقعة، كما تتناقلتها الصحف والقنوات الفضائية ومواقع الانترنيت بالصور والنصوص.
لقد حاولتُ في نصوصي تلك أن ألقي ضوءاً كاشفاً وفاضحاً على خلاف تاريخي ديني قديم يمتد إلى حوالي 14 قرناً، أخرجه المتحزبون المتعصبون – من كلا الطرفين - من كهوف التاريخ، وفرشوه على أرضنا وواقعنا وعقولنا، وراحو يذبحون بعضهم بعضاً، ويذبحوننا بإسمه ولأجله...
لقد عانى وطني من بطش الدكتاتورية على مدار عقود طويلة، حالماً بزوال الكابوس ومتطلعاً إلى الحرية والسلام والأمان والبناء.
وبعد سقوط الصنم اشرأبت عيوننا للنور والحرية والبناء، لكن القتلة والظلاميين وسياسة المحتل وأطماع دول الجوار والميليشيات وفلول النظام لم يمهلونا كثيراً فسرعان ما أمسكوا بخناق الوطن وقادوه إلى هذه المجزرة الطاحنة..
وما تعرضتُ له ويتعرض له غيري بالمئات يومياً، إلا نتيجة حتمية لهذا الفلتان المقصود.


* ماهى مشاريعك الثقافية غير المنجزة؟

- لي في النثر، أربع كتب لم تطبع بعد هي:
* في حديقة النص.
* اشتراطات النص الجديد.
* المثقف والاغتيال.
* القراءة والتوماهوك.
وفي الشعر، لي ديوان جديد، لم يطبع، أيضاً، يتكون عنوانه من حرف واحد هو [ و.. ].
كما أشتغل منذ عام 1996 على نص طويل مفتوح يحمل عنوان [نرد النص] وهو تجربة جديدة بالنسبة لي، مغايرة ومختلفة عن مناخ تجاربي السابقة..


* * *



حاوره: مازن لطيف علي – بغداد/لندن







#مازن_لطيف_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تركت حركة المسرح العراقي أثرها البالغ في كل عقد من العقود فا ...
- البغاء على شاشة السينما المصرية
- الباحثة امل بورتر : قابلت عبد الكريم قاسم وحزنت لمقتله
- الفنانة شوقية العطار:كانت أغنياتنا سلاحا بوجه النظام القمعي ...
- عن الزمان .. أبعاده وبنيته
- التربية على المواطنية
- من يصنع الدكتاتور ؟ .. في خصوصيات الواقع الصعب
- الإعلام العراقي بين الحرية والانفلات
- إنقذوا زهير أحمد القيسي
- الروائي محمود سعيد: المؤسسات الدستورية هي من تتيح ازدهار الث ...
- المخرج العراقي جميل النفس: بعد فيلم (ابو غريب) سأوثّق جريمة ...
- مؤسسة الحوار المتمدن تصدر كتابها الرابع في العراق.. واقع الم ...
- الشاعر عبد الكريم هداد: المتغيرات الجديدة في العراق لن ينجح ...
- القارئ بين الكتاب المطبوع والإلكتروني
- راسم الجميلي.. ذكريات وانطباعات من شارع المتنبي
- بوابة التكوين الذاتي
- الهامشيون وثقافة الحرية
- اقليم كردستان وقانون النفط والغاز
- عرس الماي
- فاتن نور: الهوية الإنسانية هاجسي الأهم،اريدها ان تتصدر إنتما ...


المزيد.....




- اخترقت غازاته طبقة الغلاف الجوي.. علماء يراقبون مدى تأثير بر ...
- البنتاغون.. بناء رصيف مؤقت سينفذ قريبا جدا في غزة
- نائب وزير الخارجية الروسي يبحث مع وفد سوري التسوية في البلاد ...
- تونس وليبيا والجزائر في قمة ثلاثية.. لماذا غاب كل من المغرب ...
- بالفيديو.. حصانان طليقان في وسط لندن
- الجيش الإسرائيلي يعلن استعداد لواءي احتياط جديدين للعمل في غ ...
- الخارجية الإيرانية تعلق على أحداث جامعة كولومبيا الأمريكية
- روسيا تخطط لبناء منشآت لإطلاق صواريخ -كورونا- في مطار -فوستو ...
- ما علاقة ضعف البصر بالميول الانتحارية؟
- -صاروخ سري روسي- يدمّر برج التلفزيون في خاركوف الأوكرانية (ف ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مازن لطيف علي - عدنان الصائغ : الشعر يستوعب الوجود كله