أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رمضان مهلهل سدخان - ليس للأم مَن تنتظره















المزيد.....

ليس للأم مَن تنتظره


رمضان مهلهل سدخان

الحوار المتمدن-العدد: 2321 - 2008 / 6 / 23 - 05:57
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

إلى شهداء الجامعة المستنصرية

قبيل انتصاف النهار، ووسط زحمة المارّة الجادين صوب بيوتاتهم، حاملين حاجياتهم إلى أهليهم، لاح رجل ستيني، محني الظهر، متسخ الثياب، تجمع أسارير وجهه، الذي علته لحية كثة، بين الحزن والألم والحسرة، جاء بخطى وئيدة إلى محل لبيع الخبز.. وناول البائع ورقة نقدية فئة 250 ديناراً وقال له بنبرة تنم عن انكسار شديد، " رغيف خبز من فضلك".. وما أسرع أن أعطاه البائع رغيف الخبز وأعاد له الورقة النقدية، لكن صاحبنا رفض بكبرياء بالغ وأعاد الرغيف وأصرّ على أن يأخذ الثمن.. انصاع بائع الخبز، الذي بدا متعاطفاً جداً مع هذا الرجل، وأخذ الثمن على مضض وأعطاه الرغيف الذي أخذه الرجل على عجل وبدأ يقتطع منه لقماً غير متساوية بينما كان يقذ خطاه راجعاً مرة أخرى إلى محل عمله الذي انزل بابه وأغلقه عليه وتمدد داخله غائب الوعي، مطرق الرأس، خائر القوى، وكأنه أضاع شيئاً أثيراً على نفسه.

كانت الزوجة قد فرغت لتوها من إعداد المائدة، وكالعادة، لأربعة أشخاص، وجعلت تنتظر قدوم زوجها وولديها الذََََََََََََين ما تزال تخالهما يدرسان في الجامعة. ليس هذا فقط، بل أمعنت في الدعاء لهما بأن يحفظهما الله من مخاطر الطريق ليعودا إليها ويتناولا الطعام معها حتى لو تأخرا كثيراً.. بل انها في كل صلاة تنقطع إلى الله وترفع كفيها شاخصة ببصرها نحو الأعلى تدعو لهما بالنجاح وهي تقول بصوت مسموع وواضح، "يا الهي يامَََن أرجعت يوسف إلى يعقوب أرجع ولديّ واستجب دعاء أمٍّ كابدت كثيراً وصابرت من اجلهما.. يا الهي بحق دموعي التي اذرفها سخية في غيبتهما إلاّ أن تكلل مساعيهما بالظفر والنجاح...".

يفتح الزوج الباب ويدخل فيتناهى إلى سمعه دعاء زوجته.. حاول الزوج حبس دموعه، التي نزلت سخية ساعة جاءه خبر ولديه، وأبصر زوجته تلملم سجادة صلاتها بعد أن انتهت للتو من دعائها اليومي الذي يدخل الأسى والمرارة في روع ذلك الزوج الهائم في طرق الحياة ودروبها الوعرة يتقرّى الوجوه عله يفوز، ولو من باب الحلم، بوجهٍ يذكّر بولديه.. دلف مباشرة إلى الداخل يستبدل ثيابه فوقع بصره على كتب تناثرت بين زوايا الغرفة، تناول احدها وشمّه كثيراً وأخذ يتفحص الخربشات التي خطها ولداه على هذا الكتاب، قرّبه كثيراً وجعل يقلّب أوراقه بسرعة، فشاهد صور ولديه منطبعة على كل صفحة من صفحاته، فوضعه، اثر ذلك، باحترام بالغ في مكانه.. رفع بصره فإذا به بملابس بدت له دامية، فعمد إلى تلطيخ وجهه بها وصرخ عالياً، “ لااااااااااااااااا ".. فزت الزوجة مرعوبة على صراخ زوجها وأسرعت نحوه فأبصرته متلفعاً بملابس ولديه مسترسلاً في بكاء حار لم يتوقف حتى بعد أن أزاحت الزوجة تلك الثياب من على وجهه وأعادتها إلى مكانها.

مشهد الغداء هذا كان يتكرر يومياً وبإصرار غريب: سُفرة عامرة، وأربعة أطباق، وانتظار طويل، ومن ثم ترك كل شيء من دون أن يأكل احدٌ شيئاً.. فترفع الزوجة تلك السُفرة بعد أن يطول الانتظار لولدين لبسا البياض منذ فترة وامتطيا مهر المنية ورحلا بعيداً.. وتعيد الكرّة في المساء مضيفة لها أصنافاً أخرى لأن ولديها ربما يعودان متعبين من فرط المحاضرات التي تلقياها.. لذلك، فضّل الزوج عدم المجيء إلى بيته ظهراً والاكتفاء برغيف خبز يبتاعه ويأكله داخل محل عمله ويبقى هناك حتى ساعة متأخرة من الليل لكي لا يرى منظر زوجته التي تصرّ على انتظار ولديها وعودتهما وكأنهما في سفر.

لكن حتى هذا المجيء الليلي المتأخر لم ينجه من معاناة أصبحت الخبز اليومي لهذه العائلة.. فقبل أن يخلد إلى النوم، اعتادت زوجته أن تفزعه وهي تصيح بصوت عال باسمَي ولديها تدعوهما إلى النوم لينهضا باكرين إلى دوامهما في الصباح.. ترتب لهما فراشهما.. وملابسهما.. وكتبهما التي ما عادت تفتح منذ زمن.. تنهض باكرة، وتطرق الباب عليهما وتدعوهما باسميهما أيضاً، " استعجلا.. هيا انهضا.. كفى تأخراً...". تغيب لحظات في غرفتها ثم تبادر مسرعة إلى غرفتهما مرة أخرى وتفتح الباب فيصافحها سريران فارغان مرتبان جداً.. فترجع مكسورة الخاطر تغلق الباب وتطرق مفكرة، " لماذا يا ولدَيّ .. لماذا تركتما كل شيء على حاله.. هذا فطوركما لم يمسسه احد.. هذه كتبكما لم تعبث بهما أناملكما الرقيقة منذ حين.. لماذا خرجتما هكذا دون وداعي ...". وتبقى تسلّي نفسها، بعد أن يخرج زوجها إلى عمله دون إفطار، بأمل عودتهما عند الظهر الذي ينقضي هو الآخر ليأتي المساء وهي وحيدة تحادث الجدران.

لم يتحمل هذا الزوج المسكين، الذي هدّه العمل والألم والفقدان، صور الانتظار، فيبادر إلى قضاء بعض الليالي مفترشاً الأرصفة بين علب الكارتون ومخلفات السوق بعد انقضاء النهار وعودة الجميع إلى بيوتاتهم.. لكنه ما ان يعود إلى بيته، تتشبث الزوجة به تمطره بأسئلة اللوعة واللهفة: " ها.. لقد كنت تبحث عن ولديّ في الليالي السابقة.. قل لي هل عثرت عليهما؟" وبدون جواب ينسلّ إلى غرفته دامي القلب مجروح الفؤاد ويرمي بنفسه المتعبة ويحاول الاستسلام للكرى فتؤرقه صورة أمٍّ تخال مبيته خارج البيت هو للبحث والسؤال عن ولديهما.. لذا ينهض باكراً لئلا يسمع نداء الأم لولديها بالنهوض وتناول الإفطار والذهاب إلى الجامعة. وهكذا تبقى الزوجة دائرة في فلك ابنيها وزوجها.. باقية تتأمل صورهما وحاجياتهما..

عند نهاية العام الدراسي وبعد انقضاء الامتحانات تجلب الأم كل شيء: الشموع، الزهور، البالونات الملونة والحلوى استعداداً للإحتفاء بولديها الذَين لابد أن يأتيا حاملَين بشرى النجاح لها.. لكن.. تذوب الشموع .. وتجف الزهور.. وتتفسخ الحلوى ويهدّ هذه الأم التعب وملل الانتظار.. وبانبلاج الصبح تبادر إلى الخروج، غير يائسة، لجلب نتيجة ابنيها بنفسها.. ترتدي أجمل ما عندها وتحمل النثار بإحدى يديها وتتوجه صوب الجامعة حيث يدرس ولداها، وبعد أن تجتاز بعض الأسوار الإسمنتية تلوح لها جدارية كبيرة تطرّزها صور ملونة.. تقترب منها على مهل وتقف قبالتها وتتفرّس في الوجوه فيقع بصرها على صورتي ولديها، باسمين يتوسطان أصدقاء لهما في لوحة جمعتهم في عالم الأبدية الخالد. ودون وعي منها تنهال ترمي النثار على هذه اللوحة وهي تطلق الهلاهل آناً، والعويل آناً أخرى.. وتنطلق من شفتيها ضحكات هستيرية عالية ما تلبث أن تتحول بشكل عجيب إلى نواح مر.. فينثال، إذ ذاك، حشد من الطلبة صوب تلك الأم التي كانت منهمكة بحوارها مع تلكم الصور وهي تسائلها: " هل نجحتم يا أولادي؟!" فتردد الصور صدى سؤالها.. تعيد السؤال تارة أخرى وترجع الصور نفس الصدى.. ومرة ثالثة ورابعة و ... ، لكن دون جدوى. وإذ أيقنت بأن ولديها أصبحا مجرد رقمين في لوحة الشهداء، انتبذت لها مكاناً على يمين تلك الجدارية وتوسدتها، لا يراودها شيء في هذه اللحظة سوى انها غدت أكثر قرباً من ولديها واصحابهما.
إثناء إحدى عوداته المتباعدة، رجع الأب إلى بيته بعدما جرّب المبيت في الشوارع والأزقة هرباً من الأم التي لم يغادر محياها مرأى ولديها. كان البيت موحشاً، مقفراً، علت الأتربة أجزاء كثيرة منه.. مضى يتفحص غرفه، واحدة واحدة، فوجدها أكثر وحشة مما كان يتصور.. هام على وجهه مرة أخرى، وداوم على المبيت في الشوارع بعدما هجر عمله وأصدقاءه وناسه وأدمن الأرصفة والساحات العامة التي أصبحت ملاذاته الآمنة.. ذات مرة عندما لسعته أشعة الشمس وهو نائم في العراء، نهض منزعجاً يدعك كلتا عينيه كي يبصر ما حوله، فإذا به مع طلبة متوجهين صوب جامعتهم.. حفّز هذا المنظر كل حواسه بأن يسارع في النهوض ويسير معهم، ربما لتكتحل عيناه بأي شيء من شأنه أن يعيد ذكرى ولديه. كان سيره بطيئاً مترنحاً وعيناه تمسحان وجوه المارة إلى أن اعترضت بصره تلك الجدارية التي ضمّت، بصمت كبير، ولديه ومَن قضى معهما في ذلك اليوم الدامي. وقف طويلاً أمامها.. متأملاً صورتي ولديه وأحس بأنهما يرحبان به ويعتذران له عن غيابهما الطويل عنه.. اطرق ببصره فإذا به بجسم امرأة متمددة إلى اليمين، بادر إلى الكشف عن حقيقتها، لكنه آثر عدم إزعاجها وإيقاظها من رقدتها.. شجّعه هذا الموقف على أن يستقلّ هو الآخر مكاناً له إلى يسار تلك اللوحة ويتمدد ليكمل سرياليةََََََََََََََََََََََََ مشهد ينمّ عن أشياء كثيرة..



#رمضان_مهلهل_سدخان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأملات في البطاقة التموينية
- هل التلفزيون صديق ام عدو؟
- الصحافة في العالم العربي : 100 عام من الحرية المكبوتة


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رمضان مهلهل سدخان - ليس للأم مَن تنتظره