في الفترة الأخيرة صدر كتاب ((اميركا التوتاليتارية)) للكاتب ميشال بوغنون موردان. وهناك في صفوف التجمعات المناهضة للعولمة من يستسهل الكلام عن ((توتاليتارية الاسواق)) وحتى عن توتاليتارية ((وسائل الاعلام الجديد)). وهذه الامور هي موضع مناقشة ومراجعة، فالكثيرون يستعملون مصطلح التوتاليتارية في غير موضع، ولا يعودون الى فحوى مضمونها في كتابات المختصين في الكتابة عنها، وهذا يطرح السؤال: هل يمكن وصف الولايات المتحدة، والوسائل الاعلامية بمصطلح التوتاليتارية؟!
بيار سالينجر في تقديمه كتاب ((اميركا التوتاليتارية))، يجد ان عنوان هذا الكتاب ((يصدم الاميركيين، فمفهوم التوتاليتارية يرتبط عموما بمفهوم الدكتاتورية، ولم تكن الولايات المتحدة، يوما، دكتاتورية. وأرى ان تفسير الكاتب للمصطلح المستخدم هو في غير موضعه)). لكن صاحب الكتاب بوغنون موردان يجد ان التوتاليتارية الاميركية محكومة بهاجس السيطرة على العالم وأمركته، وتصنيف الامم الاخرى بين محوري الخير والشر او الثنائية المانوية. وهذا التصنيف ديني في حد ذاته، وكل صاحب ((دين)) يولي لنفسه الخير، وعلى هذا الموال يتجلى الخطاب ال((بوشي)) وقبله الخطاب ال((ريغاني))، وما تسعى اليه السياسة الاميركية من خلال ((مركزيتها الأثنية)) هو قولبة ثقافات الشعوب والعمل على تجويفها وأمركتها، والحق ان ((اذعان)) الشعوب لمثل هذه التدابير المضمرة والمعلنة، هو ((الضعف)) في الاوصال والأوردة في مقابل ((القوة)) الاميركية بالطبع، فهذه ((الامبراطورية)) تتحكم ب75% من دفق المعلومات في الكون وأفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية تشيع عبر القارات الخمس المفهوم الاميركي عن الحياة، وما تضفيه الوسائط السينمائية خاصة، هو انها تساهم في ((اختراع الحياة)) وفرض الذوق واللغة، وهذا بالطبع من سمات كل الامبراطوريات عبر التاريخ، وكل امبراطورية تمارس عجرفتها وتسلطها على الشعوب المحيطة بها، وكل اقلية تنظر بكراهية او ريبة الى الاكثرية، وهذا هو حال الامم الصغيرة التي تكره اميركا الكبيرة.
والحق ان كراهية الشعوب للسياسة الاميركية يقابله افتتان هذه الشعوب بالذوق الاميركي، وهذا ما حدا بكاتب فرنسي لوضع كتاب ((حرب الذوق)) سنة 1995، يبين فيه مدى تشويه الليبرالية والامركة لحضارتنا. فهو حين قارن عصر الانوار بالعصر الراهن، اظهر اهتمام الانوار الثابت بعدم صدم الحس الجمالي، سواء في طريقة التعبير واللباس ام في طريقة الأكل، وانحلال العصر الراهن الذي يتهمه بأنه تخلى عن مسؤولية تعريف الذوق واخراجه، لوضعه في خدمة دراسات السوق ويلاحظ فيليب سولرز كيف ان التلفزيون الاميركي يروج المشاعر والحياة العاطفية والنرجسية، فتنضم الى موجة مذهلة من الأمية والتعصب العقيدي (الاقتصادي، الديني.. الخ) لتشكل بنية عالمية، توتاليتارية وشائعة في آن.
يبدو بوغنون متحمسا لما يقول فيليب سولرز، وما تقوله الاصوات المعارضة للسيطرة الاميركية، ويجد ان التوتاليتارية، في تعريفها الاوسط، هي قوة احتوائية، بمعنى انها تنوي امتلاك مجمل مكونات الكيان الذين تعيش فيه، ولا يذهب بوغنون الى استعارة بطاقة هوية التوتاليتارية التي تتسم بعدد من الثوابت والعلامات الفارقة: الحزب الواحد، الدور المركزي للايديولوجيا، الغاء الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، تقديم دور السلطة على سلطة الدولة، تضخم اجهزة القمع والارهاب، نفي مشروعية الصراعات الداخلية وتقديس مبدأ الوحدة الانصهارية، وبالاستناد الى اطروحات حنه ارندت وجورج اورويل وكلود لوفور، يلاحظ ان التوتاليتارية كما تجسدت في التجربتين الشيوعية والنازية غير قابلة لاعادة التوظيف برسم نقد الرأسمالية. لكن بوغنون يستعير تعريف كلود بولان لمصطلح التوتاليتارية الذي يجد انها تنطوي على رجل واحد، مع شرطة تلجأ الى الارهاب، واحتكار القوة المسلحة، مع احتكار لوسائل الاتصال الجماهيري واقتصاد ممركز... وكل من هذه العناصر بحسب بوغنون يتراءى انه مكنون اساسي للولايات المتحدة في جوهرها المكون لها كدولة، وفي موقفها وفي اسقاطاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية بالنسبة الى بقية العالم.
وما يكتبه بوغنون عن ((اميركا التوتاليتارية))، يتقاطع كثيرا مع الايديولوجيا النقدية الاكثر شيوعا اليوم وهي الايديولوجيا المضادة للعولمة و((دكتاتورية السوق)) التي باتت تضم تحت رايتها جميع تيارات اليسار المتطرف وغيرها.
مناهضو العولمة اليوم يرسمون صورة للعالم، تظهره محكوما بالرأسمال المالي والتجاري، ويذهب بيار بورديو الى القول ان التوتاليتارية لم تعد صفة الدولة، بل صفة الاقتصاد، والتوتاليتارية الاقتصادية بعكس التوتاليتارية السياسية هي ((لا منظورة)) ((لا مرئية)) فقد اصبحت ((احتمالية)) حيث ((الافتراضي هو افق الواقع)) بحسب مقولة بودريار. والحق ان الايديولوجيا الليبرالية في ظل العولمة، تتسلل بسهولة اكثر الى الاذهان بلا مقاومة، وتحديدا من خلال وسائل الاعلام، وهذه الوسائل تكون قادرة على التحكم بثقافات ورموز ولغات ((الآخر)) وصهرها وتذويبها. وهذا الفعل هو في رأي مناهضي العولمة ومنهم قائد الزباتيين ماركوس، ((توتاليتارية جديدة))، لكن جورج طرابيشي في عرضه كتاب جان بيار لوغوف ((الديموقراطية ما بعد التوتاليتارية)) يلاحظ ان الايحاء بقيام توتاليتارية جديدة لا يستقيم بقدر ما يتعمد ان يمارس عملية ((ابلسة)) للاسواق ولوسائط الاعلام.
توتاليتارية قديمة وتبقى، وتوتاليتارية جديدة (لم لا؟!)، لكن الحرب هي الاساس، والسلام هو هامش الهامش.
©2002 جريدة السفير