أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالآله السباهي - اللطلاطة (5) الأخيرة















المزيد.....



اللطلاطة (5) الأخيرة


عبدالآله السباهي

الحوار المتمدن-العدد: 2319 - 2008 / 6 / 21 - 07:04
المحور: الادب والفن
    


عندما بدأت أكتب عن لطلاطة سلمان أول مرة، ظل أسامة يزورني من فترة لأخرى فأستعين بذاكرته القوية، ولكنني في هذه المرة سافرت إليه خصيصا، مستفسرا عن بعض الأحداث والتواريخ التي تخصه شخصيا، وبالمناسبة فإن اسم أسامه هو اسم غير حقيقي، وكل الأسماء هنا هي كنية لأناس حقيقيين عاشوا تلك القصة.
أسامة اليوم، رجل في نهايات العمر، أبيض ما تبقى من شعر رأسه، كثير الجدال، لكنه لا يزال يحب الحياة ويحب المرح والنكتة.
عندما عرف أسامة بأنني أحاول الكتابة عن سيرته، أوقفني عن الكتابة وأصر بشدة، بأن يحدثكم هو عن نفسه. ربما خشي أن أبوح ببعض أسراره، وحق له ذلك، فأنا أنسى بعض الحدود عندما أسترسل بالحديث. ولم أجد مبررا آخرا لإصراره الذي اضطرني إلى الاستجابة لطلبه.
سأترككم مع أسامة ليصدع رأسكم بما يسطره لكم هنا، وأنصحكم بالكف عن المتابعة، إذا شعرتم بالتعب والإرهاق، فلا شيء أهم من راحة البال، وحديث أسامه لا ينتهي. وهكذا بدأ حديثه الذي أسجله هنا بأمانة، دون شطب أو إضافة، إلا ما ندر:
قال أسامه، لابد إنك نسيت البشتكة وصول الجعاب؟، فلم تحدث القراء عنها ؟
في آخر صف من بيوت اللطلاطة، والمجاورة للمقبرة، عاشت امرأة فقيرة مع أبنتها العرجاء، نادت عليّ تلك المرأة ذات يوم أثناء لعبنا أمام بيتها، و كنت حينها في الصف الأول الابتدائي، نادتني كي أكتب لها رسالة.
ركضت إلى البيت وجلبت قلم أو قل نصف قلم، وكان من نوع أبو المساحة، والذي دخل اللطلاطة لأول مرة قبل شهر تقريبا، جاء به خالي من أمريكا، وقد أهداني واحدا من تلك الأقلام، ولكن أبناءه غضبوا من أن يمتلك غيرهم مثل تلك التحفة، فهجموا على أخوك أسامه وكسروا القلم نصفين، احتفظت بالجزء الذي فيه المساحة للمناسبات المهمة، ورحت أستعمل الجزء الثاني، ولا أذكر أيهما استعملت في كتابة تلك الرسالة.
أخذت معي من البيت أيضا ورقة، وكان هذا كرما له ما يبرره، فقد وعدتني المرأة بصول جعاب لم يخلق مثله!.
جلسنا لنكتب، ولم يكن عندها في البيت ما يكتب عليه، فجاءت لي ببشتكه ملساء تختلف عن ما أعرفه، فمساميرها كانت أصغر من تلك التي تستعملها أمي، صفت مساميرها هنا بشكل متقارب وكأنها أسنان المشط. وعندما سألتها عن سبب ذلك، شرحت لي كيف أن خيوط الصوف الرفيعة جدا، والتي تغزل من شعرتين أو ثلاثة لا يمكن غزلها إلا بعد أن يسرح الصوف بمثل تلك البشتكة.
ولكن يا خالة، لماذا يجب أن تكون الخيوط رفيعة إلى هذا الحد، ألا تتعبك تلك الخيوط؟
العيشة يا ولدي، إنني أغزل خيوط الخاجيات الغالية الرفيعة الخيط،. أكتب وكفاك أسئلة.
لا أذكر محتوى الرسالة وكيف كتبتها، ولمن كتبت، وكيف أرسلت، ولكنني أذكر صول الجعاب الذي كان مكافأتي الأولى لقاء ما تعلمته في المدرسة.
جعلني صول الجعاب العجيب أتغلب على كل أقراني في تلك اللعبة، ولمدة طويلة، إلى أن انتزعه أحدهم مني ذات يوم ورماه في النهر. كان ذلك يوما كارثيا ظل محفورا في ذاكرة اللطلاطة ( أسامه ويضيع صول جعابه ) وحيهن موجودة؟
عزيزي أسامه، الرحمة واجبه، رفقا بنا، ودعك من هذه التفاصيل، حدثنا عن ما هو نافع.
طيب:
لقد قرأت ما كتبته أنت، ولم تبقي الكثير من أسرارنا و أسرار اللطلاطة لأحدثكم عنه، وعلى العموم، فلا أظن أن أحدا يستطيع تصور الحياة فيها، إن لم يكن قد عاش هناك فعلا.
كانت اللطلاطة وكأنها بيت كبير لعائلة كبيرة، بيوتها مثل غرف في دار كبيرة. الكل يحب الكل، يتقاسمون أغلب الأشياء فيما بينهم، يساعد بعضهم بعضا، وإن كانت بعض الحوادث والمشادات تحصل بين هذا وذاك من فترة لأخرى، ولكن السلام هو الميزة الأساسية لهذه القرية. أذكر كيف شدت إحداهن شعر أخرى (تمالخن من الروس)، عندما أراد زوج الأولى أن يقترن بالأخرى، فهجمت على الضرة المرتقبة في عقر دارها مرددة أهزوجة ارتجلتها:
"شنهو دويده وتشاركني ما من سكين أطر بطني"
هل أحدثكم عن العيد الصغير المندائي، وكيف كانوا يتزاورون صباح ذاك العيد ليأكلوا لقمة أو اثنتان من الطبيخ والروبة، ولهمة من المريس ، في كل بيت من بيوتها.
أو عن أهم الأعياد المندائية قاطبة، وهو عيد الكرصة، وكيف كانت تجتمع عائلات عدة في بيت أحدهم ، ثم يقفل الباب خلفهم لمدة 36 ساعة لا يفتحون الباب فيها لأي طارق مهما كانت الظروف يقضوا تلك الساعات، باللعب والفرح والغناء، والتمتع بالطعام الذي كان مجهزا قبل مغيب،الشمس، وكان جيرانهم الإسلام في القرية اللصيقة يفرحون أيضا بهذا العيد، فالمندائيون يودعون عندهم الأبقار طيلة تلك المدة فينتفعون بحليبها، لا بل كانوا يشترطون عليهم أن تجلب لهم البقرة مع غذائها من الحشيش، وبذلك يكون الحليب مجانا مئة في المائة. وكم كانت فرحة الكل بيوم الطلعة، أنه مهرجان حقيقي.وعلى ذكر المهرجان، هل أحدث القراء عن سفرتي مع أخي المرحوم ماجد إلى مهرجان الشباب في موسكو قبل خمسين سنة؟
لا دخيل الله، فهذا لا يخص اللطلاطة، أجبته برفق.
لماذا تصر على اللطلاطة وتعرف إنني قد غادرتها وأنا طفل؟ وهل اللطلاطة بيوت ونخيل؟ وما تكون، بعد أن غادرها أهلها وتركوا دورهم مأوى للفلاحين الفقراء ونخيلهم ثوابا لكل طارق؟
في تلك القرية كنا سعداء بكل معنى الكلمة. ففي مدينة قلعة صالح شاهدت السينما لأول مرة في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، عندما عرضوا لنا فلما لا أذكر موضوعه أظنه للتوعية الصحية، في الجهة الثانية من النهر، حيث تجمعنا جالسين على الأرض مساء يوم صيفي، وعرض هناك الفلم على شاشة مؤقتة وماكنة العرض كانت محمولة على سيارة.
قلعة صالح في أيام القائم مقام "الطوخي" زارنا الموسيقي العراقي سعيد شابو في الروضة، وعزف لنا على آلة الكمان، وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها تلك الآلة الرائعة.
كانت هناك روضة أطفال ومدارس للبنين وأخرى للبنات في تلك المدينة الصغيرة، كان العراق أكثر حضارة من اليوم، هل تدري بذلك؟
كفاك أسامه مو أخذك الواهس، دعك من السياسة وحدثنا عن حالة الناس في تلك الأيام.
كانت لأمي صديقة من سكنه الهور رغم كبر سنها فيها مسحة أخاذة من الجمال، لم تحدثنا أمي عن بداية تلك الصداقة، ولكنها بالتأكيد تمتد إلى أيام الوالد رحمه الله.
كانت تلك المرأة والتي أسمها ( شميعه) تزورنا بين آونة وأخرى، وكلما تأتي تجلب لنا عكيد وعنكر من الهور وتلك سيقان وجذور القصب الذي ينبت في الهور وهي حلوة المذاق، وكذلك كانت تجلب لنا الخريط المطبوخ بالتمر وهو من طلع البردي، ودائما كانت تجلب طير برهان مخصوصا لي ، حتى أنها في مرة جلب لنا هدهد، ودفع بعضهم مبلغا ليس بالقليل لأجل الحصول على الهدهد، يقال إنهم يستخدموا عظامه للسحر.
كانت شميعة تقابل قوري الشاي وتظل تشرب من الصباح إلى المغرب، إدمان! أذكر عصابة رأسها وكأنه تاير سيارة.
هل ترى يا صاحبي تلك الأشكال الفنية المعلقة على الجدار الذي أمامك، حكتها بيدي، أنها على شكل حيوانات وبشر من خوص النخيل، والذي أجلبه في كل مرة من اسبانيا. هل تعرف بدايات هذا الفن غير المطروق ؟ طيب سأحدثك عنه:
وقبل أن يسمع إجابتي راح يشرح مسترسلا، وكأنني لست موجودا أصلا:
في بستان النخل في بيتنا في اللطلاطة توجد أصناف من التمر، مثل البريم والجبجاب، تقص أعذاقه قبل نضوجها ( خلال) ، ثم تطبخ بقدور كبيرة، وعندما يغلي الماء مرة واحدة تخرج العذوق من القدر، وتجفف على السطح تحت الشمس، وفيه أنواع أخرى يترك التمر على الأشجار حتى يجف، مثل الديري، أما الباقيات فلكل صنف طعمه ووقت تناوله، منه يؤكل رطبا مثل الشكر والقنطار و الأستعمران ومنه يؤكل ناضجا مثل الحلاوي والدقله والخضراوي وغيرها الكثير، أما البرحي والبريم يؤكل بجميع مراحل النضوج وحتى قبل أن ينضج أي لازال مبسرا( جمري، طوش).
ما علاقة هذه النشرة المطولة بالأشكال التي تود أن تحدثني عنها؟
الصبر طيب يا أخي طول بالك ودعني أسترسل !
كنا نتابع نضوج التمر في ذلك البستان في اللطلاطة، وقبل أن ينتهي موسم كل نوع من تمر النخيل ، كنا نحوك (نسّف) حقائب صغيرة "هندال" لا تتعدى العشر سنتمترات من خوص النخيل، ونختار التمرات التي نشتهيها فنقطعها من عذوقها مباشرة ونصفها في تلك الحقائب، ثم نخيطها بالخوص أيضا ونعلقها على تلك النخلة، وبعد أن ينتهي موسم التمر، وينشغل الكبار بهموم الدنيا ، نكون نحن الصغار قد خزنا ما نريد من التمر فوق الأشجار للأيام القادمة ،وهناك التزام بيننا وبين الكبار بأن لن يمسوا ذلك المخزون من التمر تحت أي ظرف.
وهنا في غربتي وحنيني لهندال من التمر، رحت أجمع الخوص حيثما أجده وأصنع منه أشكالا فنية كما ترى من حيوانات وطيور وبشر وفي هيئات مختلفة، ورحت أقيم لها معارض في مدينتنا حازت على الإعجاب. ضيفي العزيز، لا تلحّ كثيرا على اللطلاطة، فتثير شجوني.
بعد أن انتقلنا إلى بغداد، تنقلت من عمل إلى آخر منذ الطفولة، وكل عمل ترك أو قل حفر في الوجدان ذكريات لا تمحى. تحدثت أنت عن "عربانة" التفاح وعن بيع" الحامض حلو" في شوارع الدوريين والمطابع وغيرها.
ولكن بعد الصدمة التي تلقيتها من منظر إعدام " فهد"، وجد لي ماجد "عملا" كما سماه لي،
وكان عمل من نوع خاص جدا.
أخذني لإحدى الدور في منطقة " الأزروملي" و التي تقع بعد مستشفى العزل ( مستشفى الكرامة اليوم)، وفي تلك الدار كانت تسكن إمرأة كردية كبيرة السن ومعها رجل كان طول الوقت جالسا في الغرفة الكبيرة لا يبرحها، أمامه كميات من الرسائل والورق ذكرني ببشتكة أم عريفه ووعاء فيه ماء تعلوا سطحه رغوة سوداء لم أتبين ماهيتها، ظننته أول مرة ساحرا.
كان عملي هو أن آخذ الرسائل التي يكتبها هذا الرجل، وأضعها في جيبي بكل حرص، وكأنها متفجرات قد تثور في أية لحظة، ثم أوصلها إلى رجال يحدد لي مكانهم وهيئاتهم ، وبعد أن يقولوا لي كلمة السر أعطيهم الرسالة وأستلم منهم بالمقابل رسائل، وتكون أيضا ملفوفة وكأنها حرز من الأحراز .لم يفرحني في ذلك العمل غير كلمة السر وطريقة تبادلها، والتي تتغير في كل مرة.
كان ماجد يوصيني محذرا وذلك الرجل أيضا بأن لا أدل على مكانه إذا ألقت الشرطة القبض عليّ مهما جرى ومهما عذبت.
كنت معتدا بنفسي وأنا أخوض تلك المغامرات والمطاردات مع الشرطة، التي أخذت قاسم منا، ثم إنني سوف لن أخذل ماجد مهما جرى، ولكن ظل هناك سؤال يثقل خاطري، ترى هل سوف يعتبرونني متخاذلا إذا عذبت ورحت أبكي فسألتهم هل يجوز لي أن أبكي إذا ضربتني الشرطة ؟
كان ذلك الرجل يستلم الرسائل مني، وبعد أن يقرأها يحرقها بعود ثقاب " أبو الثلاث نجوم" ثم يرميها في إناء الماء، وعندما سألته ذات مرة عن محتويات الإناء رد علي مازحا إنه " طبيخ"!
لم أصمد طويلا في هذا العمل، والذي لا أعرف كم هو أجره، فكان ماجد يتقاضاه كما قال لي.
وهكذا عملت مراسل لسكرتير الحزب الشيوعي في ذلك الوقت بهاء الدين نوري دون أن أعرف.
اشتغلت مرة صانع" جايجي " في شارع النهر، كان صاحب العمل يجبرني على غسل الصواني والمواعين والدلال والإستكانات، فجر كل يوم بالماء البار والرمل، حتى تشققت يداي.
أخذت مرة صينية شاي إلى صاحب معمل للمعكرونة قريب منا، وكان من أهلنا الأرمن، يدخن "الجروت" وتعلو أنفه نظارات سميكة ( جعب بطل ) كادت خدوده تنفجر من فرط السمنة، و كنت أتصور بأنه سوف يعطيني " بخشيشا" اكرامية. ولكنه طردني خارجا عندما نظر إلى يدي، فأخذت الشاي وجلست على السلمّ خارج مكتبه أبكي خوفا من أن يطردني" إستادي" من العمل، ولكن الجايجي جاء يبحث عني بعد أن كثرت عليه الطلبات، فوجدني أبكي، شرحت له الأمر فطيب خاطري ، وعالج المسألة على طريقته ، أخذ لهم صينية شاي جديد وأعتذر لهم على الأغلب. أما أنا فطز... كما يقال.
ومرة أوصلت صينية شاي إلى إحدى الغرف في الفندق المقابل وكان اسمه ، فندق جبهة النهر، وعند دخولي الغرفة المطلوبة، شاهدت مغنيا معروفا في ذلك الوقت، يعزف على العود وراقصة إيرانية ترقص أمامه بكل حماس على تلك الأنغام، وقفت مشدوها مثل الأبله، وأنا أرى تلك السيقان البيض وهي ترتجف طربا وإثارة، سال لها لعابي رغم صغر سني، أخذت الراقصة تردد" برو برو " وأنا لا أعي ما يدور حولي، حتى أنهم أوقفوا ذلك الطقس المرعب وقادوني من يدي إلى خارج الغرفة!
بعدها اشتغلت لدى بقال في محلة الأزروملي، وذات يوم وأنا أبيع البطيخ أمام المحل، وكنت وحدي ، جاءني ظهر ذلك اليوم بدوي شديد السمار (صلبي)، وراح يساومني على كوم البطيخ وكان صغار الحجم " شمام" ، عدده سبعة عشر بطيخة بالتمام والكمال، وبعد المساومة اشتراها وجلس يأكلها حتى أتى عليها كلها، ثم راح يحك القشور بأسنانه، وإلى الآن وأنا لا أصدق ما جرى ومنظر ذلك الرجل ماثل أمامي.
اشتغلت في المطابع وفي معامل الحدادة ولكنني عدت لمهنة أجدادي وأصبحت عاملا في ورشة لصياغة الذهب، وظلت تلك مهنتي إلى أن أكملت الدراسة الإعدادية في المدارس المسائية ، سافرت بعدها إلى موسكو بزمالة دراسية عدت بعدها إلى العراق مهندس بناء.
لن أكلمك عن حياتي في موسكو، أظن ذلك ليس موضوعنا وهو ذو شجون، والمستقبل أمامك إذا بقينا طيبين، ولكن إليك عينة من حياتنا هناك.
بعد وصولنا إلى موسكو، ولكوني أخا لقاسم وماجد اتصل بي المسؤول الحزبي للطلبة العراقيين هناك، ودعاني إلى حضور اجتماع تعارف، وبالمناسبة كان هو عراقي جاء إلى موسكو قبلنا بعام واحد، دفعني الفضول لمعرفة الحياة الجديدة وماذا سيقوله هذا الرفيق، فحضرت حسب الموعد وكان الاجتماع في غرفة الرجل الذي دعانا، وبعد استعراض سريع للحياة في موسكو، نصحنا بأن نكون عند حسن الظن، وأن نعمل على رفع سمعة الطلبة العراقيين ونصحنا أن نكون معتدلين في كل شي، وظلت نصيحته لا تفارق مخيلتي وتجعلني أبتسم كلما اقتربت من امرأة، وإليك نص نصيحته:
( على كيفكم يا رفاق بكل شي حتى لو عاشرتم رفيقاتنا السوفيتيات فعلى كيفكم أيضا!)
زين هاي شلون ترهم؟
عدت إلى بغداد كما قلت لك وأنا أحمل الشهادة الكبيرة، وكانت عودتي إلى العراق عن طريق الكويت، وهناك أحد الأصدقاء اشترى لي بنطلون جديد وقمصان جديدة تتلاءم مع وضع العراق وطقسه الحار، فالبنطلونات السوفيتية العريضة لا تصلح هناك كما قال لي. بعد أن ختم جواز سفري على الحدود في مركز المطلاع ففي ذلك الوقت كان المطلاع هو حدودنا مع دولة الكويت، ووصلت بغداد وكلي لهفة للقاء الأهل والحزن يملئ قلبي أيضا كونني قد فقدت ماجدا إلى الأبد.
في بغداد بدأت حياتي من جديد وكل شي أصبح غريبا بعد غياب سبع سنين متواصلة.
لم يكن العمل متوفرا في بغداد للمهندسين في تلك الفترة، فقد أعلنت وزارة النفط عن وجود عشرة وظائف مهندسين شاغرة، فتقدم لطلب العمل ثلاثمائة مهندس، وإذا وضعنا نظام الواسطة في المعادلة، فكم سيكون نصيبي منها؟ وهكذا رحت أناضل من أجل الحصول على أي عمل يسد الرمق دون جدوى، حتى إنني فكرت بالعودة إلى ورش الصياغة، ولكن حتى هذه لم أوفق فيها بعد أن تركتها كل تلك السنين.
وجدت وظيفة مترجم من الروسية في معمل لتجميع الساعات، فالتحقت بها دون مساومة، وعند نهاية الشهر حصلت على مصرف جيب بسيط وعدد من الساعات كراتب شهري وزعتها هدايا.
وأخيرا وبفضل جهود قاسم وعلاقاته وجدت وظيفة مهندس عند أحد المقاولين. وهكذا تنقلت في العمل من مقاول إلى آخر إلى أن جاءت الخطة الانفجارية في سبعينيات القرن الماضي، عندها رحت أمارس العمل لحسابي الخاص وأخذت مقاولات من الدولة شراكة مع بعض الممولين.
لم أذكر ذلك استعراضا لتفاصيل حياتي ولكن لها علاقة في اللطلاطة أيضا وسترى ذلك.
تعاقدت مع أحد المقاولين في العمارة على بناء بيوت في المجر، وهناك كونت علاقات واسعة مع المهندسين والمسؤولين، فطلبت من أحد المسؤولين الكبار أن يتوسط لي لأبحث في سجلات التسجيل العقاري في قلعة صالح عن سندات الملكية لقرية اللطلاطة.
حصلت على تلك التوصية ، واستقبلني مسؤول الطابو في قلعة صالح بكل احترام، ووضع أمامي كل السجلات ومعها استكان شاي. رحت أقلب فيها حتى عثرت على كل مراحل تملك اللطلاطة منذ أن كانت أرض حكومية (أميرية) ووجدت أن ملكيتها تعود لأصحابها ومسجلة بأسمائهم ومنهم أبي وأخي قاسم والذي سجل أبي البستان باسمه.
هممت أبدأ معاملة أستخراج سندات ملكية، ولكن الروتين طويل وكنت مشغولا جدا في انجاز المقاولة فتركت الموضوع لفرصة أخرى.
جعلني العمل في المجر أن أكون قريبا من ناس العمارة وقراها، كان يعمل عندي في البناء عدد كبير من العمال، وجلهم من سكنه القرى المجاورة، وكان واحدا منهم واسمه (رحيّم) من سكنة القرية التي أنشأت على أنقاض قرية أم عين، أحببت رحيّم هذا، فكان لمّاحا نشيطا، لا ينقطع عن الدوام في كل الظروف، وذات يوم جئت للعمل فلم أجد رحيّم، سألت عنه قالوا لي لقد تزوج اليوم، فرحت له وأسفت على تركه العمل عندي فكان يساعدني كثيرا. وفي اليوم التالي وإذا برحيّم مع العمال بانتظاري. ها ولك ما الذي أتى بك؟ وكيف تركت عروسك؟ أجابني والحسرة تملئ قلبه، العيشة يا أستاذ، عائلتنا كبيرة وأنا معيلها الوحيد. طيب رحيّم سوف أعطيك ثلاثة أيام مدفوعة الأجر إن حدثتني كيف وجدت عروسك. تململ قليلا ثم أنطلق بعنفوان:
أستاذ هي عمرها ستة عشر سنة وحلوه كلش أستاذ، وانه هل تشوفني صاير بارود ، نزلتلك عليها وجان أعضها من هناك وأشلع صم شعر بسنوني وظل أعلجّ بيه.
لم أتمالك نفسي من الضحك أعطيته هدية عرس بسيطة وأرسلته لعروسه كما وعدته لينجز ما بدأ.
عدت إلى بغداد بعد أن أنجزت المقاولة في وقتها، وهنك فتحت مكتبا للمقاولات، ورحت أتعاقد على تنفيذ الأعمال الفنية الصعبة، والتي لا يتنافس فيها المقاولون العاديون، وهم كثر في تلك الفترة بالمئات أن لم نقل بالآلاف.
الوقت أخذنه عزيزي أسامة وأنت " الواين " فتح قريحتك، أزورك مرة أخرى.
باوع إذا ما أخلصّ الحجّي اليوم، تره ماكو مرة أخرى، ها مو تكول.
بت ليلتي تلك عندهم مضطرا، وظل يحدثني طوال الليل، سوف لن أتعبكم بسرد كل حديثه ، ولكنني سأختار مقاطع منه، قد لا تكون مترابطة من الناحية القصصية المتعارف عليها، ولكنني أجدها مناسبة لننهي بها الحديث عن تلك العائلة التي بنت اللطلاطة وعاشت فيها.
انغمس أسامه في تنفيذ مشاريع ماء لحسابه بعقود مغرية مع الدولة، وراح يجمع المال، من أجل أن يبني لطلاطته الخاصة في بغداد.
مرة نفذ مشروعا في قرية صغيرة على مشارف هور العمارة، وهناك راح يبحث عن آثار لسلمان، ولكن دون جدوى طبعا ، فقد مرت عشرات السنين على زمن سلمان.
بعد استلامه موقع المشروع من مهندس الحكومة، أخذ ينقل مواد البناء، من حصى ورمل واسمنت وطابوق وغيرها إلى ذلك الموقع، وقد وظف حارسا بأجور شهرية ليحرس الموقع، أسمه جواد ويلقبونه أبو ناجيه، وبعد أيام قليلة سمع أسامة إطلاق رصاص بغزارة، يأتي من ناحية مركز الشرطة والذي يبعد عن موقع عمله بحوالي كيلومترين.
لم يجد الحارس الذي وظفه في موقعه، وبعد وقف الرصاص تبين أن حارسة ومجموعة من أخوته قد اشبكوا مع رجال الشرطة مستخدمين رشاشات أعطاها لهم تنظيم البعث لمهمات محددة.
ماذا يجري هناك؟ ذهب أسامة ليستعلم وليطمئن على مستقبل مشروعه، ولب الخبر كما يلي:
للحارس فتاة جميلة، أحبها شاب من منطقة قريبة وبادلته الحب، وعندما جاء لخطبتها من أبوها، طردوه أهلها، وأرادوا تزويجها لأبن عمها غصبا عنها.
وفي موعد زفافها هربت من دار أبيها والتجأت إلى مركز الشرطة، تبعها حبيبها إلى هناك وطلب أن يعقدوا له عليها في مركز الشرطة. عندما علم الأب جمع أخوته وأرادوا اقتحام المركز، فجرى تبادل بإطلاق النار بين الطرفين. وظل أبو ناجيه وأخوته يحاصرون مركز الشرطة لأكثر من يوم، جاءت لنجدة المركز قوات شرطة بسياراتها من مدينة العمارة، فسيطرت على الموقف، واعتقلوا أبو ناجية .
أخذت سيارة الشرطة الفتى والفتاة معهم إلى العمارة، وبعد عقد قرانهما غادروا العمارة إلى بغداد بعيدا عن مشاكل الثأر، فسكنوا في غرفة في مدينة الثورة.
أخذت الشرطة تعهدات من جواد وإخوته بعدم التعرض للعرسان طيلة حياتهم وأطلقوا سراحه.
لم يستطع أبو ناجية العيش في تلك المنطقة بعد العار الذي لحق به فأرسل أخوه إلى أسامة ليوظفه بدلا عنه، وأغلق داره وأخذ زوجته وسافر من العمارة إلى بغداد بعيدا عن العار، وككل النازحين من الجنوب إلى بغداد، قصد مدينة الثورة ليعيش فيها، وشاءت الصدف أن يستأجر غرفة في ذات الشارع الذي سكنت فيه ابنته وزوجها، فتدخل شيوخ العشيرة هناك وأصلحوا بينهم.
ومن مشاكل العمل التي مرّت بأسامة، والتي أراها تستحق الذكر:
تعاقد أسامه على بناء محطة تصفية لمياه الشرب في قرية تابعة لمحافظة الناصرية ( ذي قار).
وهذا بالأساس تخصصه وليس هناك ما هو جديد ولكن موقع العمل المخصص لتلك المحطة يثير الحيرة، فبعد أن تقطع خمسين كيلومترا، خارج الطريق العام، في شارع لم يكن معبدا، ستصل إلى مدينة الدوايه، ومن هناك تقطع عشرات الكيلومترات في أرض مالحة في صحراء سيد أحمد الرفاعي، وكما علق أسامة ، لو بال الحمار هناك لأنقطع الطريق لشدة الملوحة. وفي وسط هذه الصحراء المالحة، أرادت الدولة أن تبني مشروع لتصفية الماء؟
بعد أن استلم الموقع، عاد أسامة إلى بغداد، وفي ساعات الدوام الصباحية الأولى جلس ينتظر مدير الدائرة المختصة بهذا المشروع.
التقى بذلك المسؤول بعد طول انتظار، وراح يشرح له شكوكه حول الموقع المقترح للمشروع المتعاقد عليه (يدور طلايب)، وكان المسؤول من كبار حزب البعث.
رجع أسامة من تلك المقابلة منزعجا بعد أن تعرض إلى توبيخ شديد وتهديد بالحبس إن عاود الاعتراض على أمور تهم الدولة وحدها فقط !
أمور تخص الدولة فقط ! أليست هي أموال الناس تبدد عبثا؟ راح أسامه يدردم وحده وبصوت غير مسموع.
المهم أنجز المشروع، ولغرض فحص المضخات وصلاحية المشروع، اضطر إلى استئجار صهريجا من الماء، وراح يجرب المشروع أمام اللجنة المكلفة باستلام المشروع.
كل شيء على ما يرام، استلم المشروع من قبل الدولة وقبض أسامة المبالغ المتعاقد عليها، ولكنه لم يجد تفسيرا لبناء مشروع ماء في وسط الصحراء، ليس هناك أي مصدر مائي قريب منه، ولا أي تجمع سكاني على مد النظر؟
بعد سنة عاد إلى ذات المشروع ليجري الصيانة المطلوبة ولكي يستعيد المبالغ المالية، المحجوزة كتأمينات صيانة.
كانت سيارات اللاندكروز هبة من الصناعة اليابانية، استقل أسامة واحدة منها وقصد جزيرة سيد أحمد الرفاعي، فوجد المشروع كما تركه من العام المنصرم، عدى التراب الذي غطى كل نوافذه.
ظل هذا اللغز سرا وربما إلى يومنا، وإذا سافر اليوم واحد منكم إلى هناك، ربما سيجد مشروع تصفيه مياه صامدا في وسط الصحراء ينتظر المعجزة، هذا إذا لم يكن قد تحول إلى ضريح ومزار لإحدى بنات الحسن.
جمع أسامة مبالغ كبيرة من تنفيذ مشاريعه العديدة، وودع أيام الفقر وإلى الأبد. أخذ يبحث في بغداد عن أرض يبني بها لطلاطته، ووجد ضالته في قطعة أرض وسط بغداد معزولة عن صخبها وضجيج ناسها.
بعد أن استتب الحكم للبعث، وراح يغرف من سيل أموال النفط، استقطعت الحكومة العسكرية جزءاً من المطار القديم والذي أصبح يمثل وسط بغداد بعد أن توسعت المدينة بجنون، ووزعته بمساحات كبيرة على الضباط الكبار " ضباط القصر كما يطلق عليهم" كأراضي سكنية.
أغرى أسامه أحدهم بمبالغ كبيرة واشترى منه أرضا بلغت مساحتها ثمانمائة مترا، بنى فيها دارا صغيرة وراح يزرعها بكل ما لذ وطاب من أشجار الفاكهة.
وهكذا أصبح عنده بستان في وسط المدينة ومعزولا عنها، لا يعكر صفوه فيه سوى زقزقة العصافير ونوح الحمام. ولم يكتمل حلمه، فليس هناك بستانا حقيقيا بدون نخيل، لذا راح أسامة يبحث عن أندر أصناف النخيل في بلد النخيل.
هل سمعتم يوما بنخلة اسمها ( أم بلاليز) ؟ أو ( عوينة أيوب) أو الأزرق؟ المهم سافر صاحبنا إلى شثاثة وجاء بفسيلة من أم بلاليز وأخرى من عوينة أيوب وثالثة من الأزرق وزرعها جنب فسيلة أخرى من برحي جمال الدين جاءته هدية من بساتين مديرية الزراعة في مدينة الفاو.
وأم بلاليز نخلة نادرة جدا، لا تنضج ثمارها إلا بعد أن ينتهي موسم قطاف التمر. أما عوينة أيوب، فتمرها يجف وهو على الشجرة ويكون رقيق السمك فيتكسر تحت الأسنان أثناء قضمه" يقرقش" وأما الأزرق فهو تمر ينتقى فردة فرده، فليس كل ما في العذق هو من نفس الجودة، ويكون لين القضم كالعلكة أما جمال الدين ، فإنه نوع نادر وممتاز من تمر البرحي.
أختار أسامه أجود منطقة في حديقة الدار خلف نافذة غرفة نومه، ليتطلع إليها كل صباح. فحفر هناك إلى عمق كبير ووضع تربة خاصة وسماد طبيعي كوسادة تحت تلك الفسائل.
زرعها صباح يوم ربيعي مشمس بكل تأني. فراحت الفسائل تنمو بسرعة حتى أن سعفة من فسيلة الأزرق أخذت تنقر على زجاج نافذته كلما هب نسيم. وعندما كان يسافر يسأل عنها تلفونيا. وهنا تذكر نكتة بالمناسبة فجاءت عرضا في حديثه وكأنها جملة اعتراضية، تقول النكتة:
( كان عريف الشرطة " دويج" قد أتعب أهل العمارة ومراكز الشرطة فيها بمشاكله، كان مرتشيا ويخلق المشاكل بأية طريقة ليبتز الناس. وكان كلما عوقب أو طرد من الخدمة، يسافر إلى بغداد ثم يأتي برسالة من أعلى المراجع في وزارة الداخلية فيعيدونه إلى الخدمة من جديد ، أو يرفعون العقوبة عنه، حتى جاء مدير شرطة قوي الشخصية وراح ينظم العمارة بنزاهة وعدل، وأول عمل قام به هو، تعيين العريف دويج بستانيا في بيته وتحت رقابته وأشرافه مباشرة.
أوكل إليه مهمة واحدة، هي رعاية فسيلة نخل نادرة جاءته هدية وزرعها في حديقة داره. حذره أن يهمل رعايتها، وتوعده بأقسى أنواع العقاب إن ماتت الفسيلة.
فكان المسكين "دويج" يراقب الفسيلة لحظة بلحظه، يسقيها كلما عطش هو، وكل يوم يسأله رئيسه عن " فرخ النخل".
وذات يوم مرض ابن مدير الشرطة الوحيد مرضا شديدا، فظل مشغول الفكر أثناء دوامه وقلق على حياة ابنه.
جاء الشرطي صباح ذلك اليوم النحس إلى فرخ النخل، وهز السعف الذي في قلب الفسيلة ليتأكد منها فسقط السعف في يده، لقد تعفنت الفسيلة من كثرة السقي.
ذهب إلى مركز الشرطة وهو يلط خده باكيا، استقبله مدير الشرطة صارخا مات؟
أجابه الشرطي وهو يلطم ويبكي بكل حرقة، مات يا سيدي،
فراح الأب المنكوب يبكي ويصرخ مثله.
اجتمع ضباط الشرطة حوله وتجمهر الأنفار، وكل واحد منهم يزايد الآخر في إبداء حزنه وصراخه مشاركة لرئيسهم،
تجمع الناس حول مقر المديرية وكان يوما مشهودا في مدينة العمارة.
ولك دويج كيف مات صرخ الأب مستفسرا؟
فأجاب الشرطي هززت اللبة فجاءت في يدي ،
من الذي مات يا منكود؟
فرخ النخل يا سيدي
من؟
فرخ النخل يا سيدي،
وهنا تحول المنظر إلى مسرحية فكاهية وأصبحت حديث الناس مدة طويلة).
المهم، أخذت فسائل النخل في بستان أسامة تشب، وراحت تبشر بطلع قريب،
كان العراق قد دخل الحرب مع إيران، وكان القتال سجالا على الجبهات، حتى تطورت
الحرب إلى حرب مدن، فتارة تغير طائراتهم علينا، وتنطلق صفارات الإنذار بنذير الشؤم فيركض الجميع إلى إطفاء الأنوار، وتارة نغير عليهم ، فتهزج أناشيد "النصر"
ثم تطورت الحرب إلى حرب صواريخ أخذت تدك الدور على ساكنيها.
كانت موسكو قد علمت أسامه النوم عريانا في الليالي، وكان قد أطلق لحية فأضاعت معالم وجهه، وتماشيا مع المودة علق سلسالا من الذهب فوق صدره.
كانت زوجته وبناتها ينمن أثناء الحرب في غرفة أخرى مجاورة لغرفة أسامه ، خوفا على الطفلتين، أما ابنه الشاب فكان ينام في غرفة في الطابق الثاني من الدار لوحده.
كان الفصل خريفا، والوقت فجرا عندما اهتزت الدار أثر صوت انفجار مدوي وكان وكأنهم في مطب هوائي شديد في رحلة فوق المحيط.
شعر أسامه وكأنه يحوم فوق جسده الممدد فوق السرير، لا يستطيع تحريك أطرافه، أخذ يصرخ بصوت غير مسموع ربما، مناديا على زوجته والبنات، ولا من مجيب.كم استغرقت هذه الحالة ؟ لا يدري ولكن في النهاية استطاع أن يعود لوعيه ، وبعد أن لسعه هواء بارد نهض يبحث عن ملابسه التي تركها ليلة أمس فوق السرير، ولكن أين السرير، لقد وجد نفسه على الأرض مباشرة، فقد أنهد السرير به، وقف على طوله وراح يتلمس دولاب الملابس، ولكن هذا لم يعد في مكانه أيضا، سار في الظلمة حافي القدمين متحديا شظايا زجاج النافذة الذي غطى أرض الغرفة.
غير مباليا بوخز الشظايا وبالدم الذي راح يسيل من قدميه، وبالصدفة عثر على بدلة رسمية كان قد اشتراها حديثا من أسواق فرانكفورت الألمانية ذات "السراوين" لبسها مباشرة على جسمه العاري، وقد نكثت لحيته التي غطاها الغبار، ورائحة البارود تزكم أنفه إلى حد القيء فكان منظره وكأنه واحدا من شيوخ الجان، غريب ومرعب. .
تفقد أسرته على عجل فوجد الكل معافى، ولكن الشظايا كانت قد مزقت أغطيتهم الثقيلة.
راح يتفقد الدار فلم يجد بعض جدرانها، وكأن الغرف قد أصبحت امتدادا للحديقة أو العكس.
بعد أن اطمأن على أسرته, هب أسامه ، من نصف السلم، كون النصف الثاني من السلم جثم على الأرض تبعه ابنه بعد أن قفز راكضا لتفقد جيرانه والذين ربطتهم علاقة حميمة به .
كان المنظر مرعبا، فقد سقط صاروخ إيراني على الدار التي تحدهم من الخلف، فهدّ تلك الدار على ساكنيها وترك حفرة يصل قطرها عدة أمتار، ولم ينجو أحد من السكان.
أما في الدار التي على الجنب، فكان الموقف أكثر مأساوية ربما، وقف عبد الرزاق وفي يده عصا صغيرة ينبش بها أكداس من الكونكريت محاولا أخراج أطفاله من تحتها، ويا حسرتي على أطفاله ، كانوا ورود يانعة، لم يكن الرجل في تلك اللحظة في كامل قواه العقلية، فقد تبلد تفكيره وغارت عيونه وكأنه في عالم آخر. وهكذا كان حال الدور المجاورة الأخرى.
لم يهب أحدا لنجدة المنكوبين في البداية، غير عمال أجانب أظنهم من اليوغسلاف، كانوا يشيدون مباني في المطار لا يعرف أحد سرها.
جاء أحد هؤلاء يسوق حفارة وراح يفتح طريقا لنجدة الضحايا وليرفع أكداس الجدران والسقوف المهدمة.
لم يكن هناك طريقا غير بستان أسامة للوصول إلى البيوت المهدمة، وبعد أن أزاحوا السياج الذي يفصل البيوت عن المطار، أخذوا يزيحون الأشجار عن الطريق، كان في بستان أسامه سبعون شجرة مثمرة من تفاح وأجاص ورمان وتين وغيرها.
لم يأبه أسامه لذلك، بل كان يساعدهم، ولكن عندما جاء دور النخيل راح يبكي ويلطم مع من يلطم على صغاره. بعد أن شاهدها مرمية مع أكداس الكونكريت.
ارتفعت الشمس في السماء، عندها جاءت فرق من الدفاع المدني والشرطة لتطوق المكان، وأسامه وغيره من الأحياء يبحثون بين الأنقاض عن كل ما هو عزيز.
وبينما كان أسامه يفكر في عظم المصيبة التي حلت بهم، حانقا على من جر العراق لهذه الحرب العبثية، اقترب منه مسؤول أمن المنطقة" والأمن في العراق يعني الشرطة السرية سيئة الصيت" اقترب منه سائلا عن أخبار قاسم الذي غادر العراق منذ سنين عدة، مذكرا إياه بوجوب الحضور لدائرة الأمن لرفع تقريرا عن قاسم!
لم يتمالك أسامه أعصابه فهرع إلى قنينة من الغاز كانت تزن ربما عشرين كيلوغراما، كان الانفجار قد ألقى بها من المطبخ إلى وسط الحديقة.
رفع أسامه تلك القنينة إلى الأعلى دون أن يشعر بثقل وزنها، وأراد أن يهوي بها على رأس ذلك الوغد الذي لم يهزه منظر الأطفال القتلى تحت الأنقاض ولا البيوت المهدمة ، فراح يمارس إرهابه للناس حتى في أسوأ المواقف، لكنه وفي اللحظة الأخيرة زاغ من قنينة الغاز قبل أن تحطم رأسه .
بعد أن فقد أسامه بيته وبستانه وأمنه، وبعد أن قتلوا نخلاته وقتلوا معها أحلامه، قرر الرحيل عن وطن حاول جاهدا أن يبنيه ويزرع به الخير، وراح يبحث عن وطن جديد قد تصان فيه كرامة الإنسان قبل كل شيء.
ففي عام 1996 قصد اللطلاطة مودعا وتلك كانت آخر زيارة، لم يجد في ملاعب الطفولة غير أرض منبسطة تناثرت فوقها ظلال النخيل، تعرف إلى كل نخلة في بستان سلمان، ولم يجد الدور والمندي وغيرها، فالطايح رايح كما يقول المثل. لم يجد سوى قبر خاله، رجل الدين الوقور، ربما عصي على السارق هدمه، أو ربما خافوا من أن يصيبهم سوء من ذلك.صور تلك الآثار وودعتها كما ودعت قبور المندائيين في مقبرة أبو غريب.
وها أنت تراه ينوح على وطن ضاع، وضاع معه حلم العودة لأيام الصبا، واللطلاطة ضاعت وظل نخيلها يبحث عن من يلقح طلعه، وضاعت أيضا لطلاطته في بغداد فلا يعرف ماذا حلّ ببستانه ومن يسكن داره اليوم، وأية مليشيا تحتله.

الدنمارك





#عبدالآله_السباهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللطلاطة (4)
- اللطلاطة (3)
- اللطلاطة (2)
- اللطلاطة (1)


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالآله السباهي - اللطلاطة (5) الأخيرة