أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل صالح الزبيدي - عبر النفق قصة للكاتبة البريطانية دوريس ليسنغ















المزيد.....


عبر النفق قصة للكاتبة البريطانية دوريس ليسنغ


عادل صالح الزبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2311 - 2008 / 6 / 13 - 10:18
المحور: الادب والفن
    



ترجمة: د. عادل صالح الزبيدي
كاتبة بريطانية من مواليد كرمنشاه بإيران عام 1919. انتقلت عائلتها فيما بعد إلى جنوب أفريقيا عام 1925 لتبقى هناك حتى عام 1949 حيث عادت إلى انكلترة لتبدأ مسيرتها الروائية برواية ((العشب يغني)) 1950 . خلال خمسينيات القرن الماضي نشرت خمس روايات ضمن سلسلة بعنوان ((أطفال العنف)). ذاع صيتها عالميا عام 1962 بعد ظهور روايتها ((المفكرة الذهبية)) التي تعد أشهر وأفضل أعمالها. كتبت العديد من المجموعات القصصية وروايات الخيال العلمي والنقد الأدبي وغيرها. نالت لسنغ جائزة نوبل للآداب لعام 2007. القصة التي نترجمها هنا هي من بواكير أعمالها.

عند ذهابه إلى الشاطئ في صبيحة أول أيام العطلة، توقف الفتى الانكليزي الصغير عند منعطف طريق ونظر نحو الأسفل إلى خليج صخري هائج ثم نحو الشاطئ الرملي المزدحم الذي كان يعرفه جيدا من عطل أخرى. واصلت أمه سيرها أمامه وهي تحمل حقيبة مقلمة زاهية الألوان في إحدى يديها. ذراعها الأخرى المتدلية الطليقة بدت بيضاء جدا في الشمس. نظر الفتى إلى تلك الذراع البيضاء العارية، وأدار عينين تخفيان تقطيبة نحو الخليج ثم نحو أمه. عندما أحست انه لم يكن بصحبتها استدارت— "أوه، أنت هنا يا جيري!". لاح على وجهها شعور بالتبرم ثم ابتسمت قائلة: "لماذا يا عزيزي لا تريد المجيء معي؟ هل تفضل ....". قطبت جبينها بشعور من القلق الموخز للضمير عما يمكن أن يتوق إليه سراً من أنواع اللهو التي لم تخطر ببالها بسبب انشغالها وعدم اهتمامها. كان معتادا جدا على تلك الابتسامة التي تنم عن قلق واعتذار. حفزه شعور بالندم على الجري وراءها. إلا انه نظر وهو يركض من فوق كتفه إلى الخلف نحو الخليج الهائج؛ وظل طوال الصباح يفكر فيه وهو يلعب على الشاطئ الآمن.
في الصباح التالي ، وعندما حان وقت السباحة والتشمس الروتيني، قالت أمه: "هل سأمت الشاطئ المعتاد يا جيري؟ أتريد الذهاب إلى مكان آخر؟".
"أوه، كلا" قال الفتى بسرعة، مبتسما لها بدافع صادق من الشعور بالندم ـ نوع من الشهامة. إلا انه قال ـ كاشفا دواخله دون تفكير ـ وهو يسير بصحبتها على الطريق : "أريد الذهاب لألقي نظرة على تلك الصخور هناك".
انتبهت للفكرة. بدا المكان مقفراً، ولم يكن ثمة احد هناك؛ لكنها قالت: "بالطبع يا جيري، عندما تشعر بالاكتفاء تعال إلى الشاطئ الرملي. أو عد مباشرة إلى الفيللا إن شئت". وأخذت تسير مبتعدة ، تتدلى ذراعها العارية التي احمرت قليلا من شمس يوم الأمس. وكاد أن يركض خلفها ثانية وهو يشعر إن ذهابها لوحدها أمر لا يستطيع احتماله، ولكنه لم يفعل.
فكرت— بالطبع انه كبير بما يكفي لكي يكون بمأمن من دوني. هل قرّبته إلي أكثر من اللازم؟ يجب أن لا يشعر إن عليه أن يكون بصحبتي . عليّ أن أكون حذرة.
كان طفلها الوحيد ، في الحادية عشر من العمر . وهي أرملة. وكانت عازمة على أن لا تكون ذات نزعة تملكية ولا أن تفتقر إلى الحنان. ذهبت نحو وجهتها من الشاطئ وهي تحاول طرد القلق عن ذهنها.
أما بالنسبة لجيري فانه ما أن رأى أمه قد بلغت الشاطئ حتى بدأ ينحدر هابطا نحو الخليج. ، كان ثمة تجويف من الخضرة المتحركة المائلة إلى الزرقة يوشيها البياض من حيث كان يقف جيري وبينه وبين الصخور الحمراء الداكنة إلى أعلى. وإذ انحدر أكثر شاهدها تنتشر بين نتوءات جبلية وخلجان صغيرة من الصخور الوعرة والحادة، و تظهر على سطح الماء المتموج والمرتطم بالصخور بقع أرجوانية وزرقاء داكنة. أخيرا، وهو يركض قاطعا ما تبقى له من مسافة قصيرة، متزحلقا أو كاشطا الأرض برجليه، شاهد حافة من الأمواج المتكسرة البيضاء وحركة المياه الضحلة المتوهجة على الرمال البيضاء، وفيما وراء ذلك زرقة السماء متصلة وعميقة.
ركض نحو الماء وقفز فيه وأخذ يسبح. كان سباحا ماهراً. ثم خرج من الماء بسرعة إلى الرمل المتوهج والى منطقة وسطى توجد فيها صخور تشبه وحوشا مخيفة بهتت ألوانها وتغيرت تحت سطح الماء. ثم وصل البحر الحقيقي ـ بحر دافئ صدمت تياراته الباردة غير المنتظمة والآتية من الأعماق أعضاء جسمه. عندما أصبح على بعد لا يستطيع منه النظر خلفه ليرى الخليج الصغير ولا النتوءات الجبلية الواقعة بين الخليج الصغير والشاطئ الرملي، راح يعوم مطوّفا على السطح باحثا عن أمه. لاحت أمه من بعيد بقعة صفراء تحت مظلة بدت كأنها قشر برتقالة. عاد سباحةً إلى الساحل شاعراً بالارتياح لتأكده من وجودها هناك إلا انه فجأة شعر بالوحدة.
على حافة الرأس الأرضي الصغير الذي يظهر انحدار الخليج بعيدا عن النتوء الصخري كان ثمة صخور متناثرة متفرقة. فوق تلك الصخور كان بعض الأولاد يخلعون ملابسهم. نزلوا راكضين عراة نحو الصخور. سبح الصبي الانكليزي نحوهم لكنه حافظ على مسافة رمية حجر بينه وبينهم. كانوا ينتمون إلى ذلك الساحل، وجميعهم ذوو سحنة سمراء داكنة وملساء لفحتها الشمس ويتكلمون لغة لم يفهمها. كان يتوق لأن يكون معهم، أن يكون واحدا منهم، توقا شديدا ملأ كيانه كله. سبح مقتربا قليلا؛ استداروا ونظروا إليه بعيون سوداء حذرة متفحصة. ثم ابتسم احدهم ولوح بيده. كان ذلك كافيا. في الحال أخذ يسبح ليصبح فوق الصخور بجانبهم، مبتسما ابتسامة توسل مرتبكة يائسة. صاحوا بمرح لتحيته، ثم عندما كبت ابتسامته المرتبكة غير القادرة على الفهم أدركوا انه أجنبي ضل طريقه إلى وجهته من الشاطئ الرملي، ثم واصلوا انشغالهم لينسوا أمره. لكنه كان سعيدا. فقد كان بصحبتهم.
شرعوا يقفزون من مكان عالٍ نحو موضع مستدير كالبئر في البحر الأزرق بين الصخور الناتئة الوعرة. بعد أن يغطسوا يخرجون ثم يقومون بالسباحة حوالي المكان، ثم يصعدون وينتظرون دورهم في القفز مرة ثانية. كانوا أولادا كبارا بالنسبة لجيري. قفز هو وراحوا ينظرون إليه، وعندما انعطف سابحا ليأخذ مكانه بينهم ، أفسحوا له المجال. شعر بأنه كان مقبولا وقفز ثانية بحذر وبزهو. وفي لحظة وقف اكبر الأولاد ليوازن جسمه، نط نحو الماء ولم يخرج. وقف الآخرون يرقبون. انتظر جيري ظهور الرأس الأسمر الصقيل ثم صرخ صرخة منذر ومحذر. نظروا إليه نظرة إهمال ثم عاودوا النظر إلى الماء. مضى وقت طويل قبل أن يخرج من الجانب الآخر لصخرة كبيرة داكنة وهو ينفث الهواء من رئتيه ويلهث قاذفاً الماء من فمه ومطلقاً صيحة انتصار. قفز الآخرون في الحال، وفي لحظة بدا صباح ذلك النهار مليئا بالصبية الضاجّين، وفي اللحظة التالية كان الفضاء وسطح الماء خلوا منهم. ولكن عبر الزرقة العميقة كان يمكن رؤية أشكال معتمة تتحرك شاقة طريقها.
قفز جيري، أنطلق مجتازا مجموعة السباحين تحت السطح، شاهد جداراً من الصخر يلوح من فوق السطح وكأنه يوشك أن يسقط عليه، لمسه ثم وثب صاعدا إلى السطح بسرعة نحو الجدار الذي شكل حاجزا واطئا يمكنه أن يرى من فوقه. لم يكن ثمة احد يمكنه رؤيته. تحته في الماء، كانت أشكال السابحين المعتمة قد اختفت. ثم ظهر واحد من الصبية، ثم آخر، على الجانب البعيد من الحاجز الصخري، حينها أدرك أنهم سبحوا مخترقين فجوة أو ثقبا فيه. غاص نحو الأسفل مرة أخرى ولم يستطع أن يرى شيئاً سوى الصخر المصمت في الماء الموخز الملوحة. وعندما خرج إلى السطح كان الأولاد جميعا واقفين على صخرة القفز، يتهيئون للمحاولة البطولية ثانية. صاح قائلا بالانكليزية في الحال، مرتعبا من احتمالات الفشل: "انظروا اليَّ! انظروا" وشرع يرش الماء ويرفس فيه مثل كلب أحمق.
أخفضوا بصرهم بوقار وتجهم. كان يعرف مسحة التجهم تلك. ففي لحظات الفشل، وعندما كان يقوم بحركات بهلوانية لإثارة انتباه أمه، كانت هي تقابله بتلك بالنظرة المتفحصة المرتبكة الوقورة ذاتها. وبدافع من الإحساس بالعار وكذلك الإحساس بان ابتسامته العريضة المتوسلة إليهم كانت كأنها ندبة في وجهه لا يستطيع إزالتها، رفع بصره إلى مجموعة الأولاد السمر الكبار الواقفين على الصخرة وصرخ بالفرنسية: "بونجور! ميرسي! اورفوار! مسيو، مسيو!" وهو يشبك أصابعه حول أذنيه مثل كلابتين ويهزهما.
تدفق الماء إلى فمه. اختنق... غطس...ثم ظهر على السطح. الصخرة التي كانت فيما مضى مثقلة بالأولاد بدت الآن كأنها تعلو على سطح الماء بعد أن زال ثقلهم عنها. كانوا في هذه اللحظة محلقين أمامه باتجاه الماء، والهواء يمتلئ بالأجساد المتهاوية. ثم أصبحت الصخرة خالية تحت ضوء الشمس الحارة. أخذ يعد: واحد، اثنان ، ثلاثة...
عندما وصل إلى الخمسين تملكه الهلع—لا بد أنهم غرقوا كلهم الآن في الماء تحته، في الكهوف المائية للصخرة ! وعند المائة حدق حواليه نحو جانب التل الخالي متسائلا إن كان عليه الصراخ طلبا للنجدة. أخذ يعد أسرع وأسرع لكي يستعجل ظهورهم من الماء، أو ليخرجهم إلى السطح بسرعة، أو ليغرقهم بسرعة ـ أي شيء غير هلع أن يظل يعد ويعد في القفر الأزرق لذلك الصباح. ثم عندما وصل المائة والستين أضحى ماء البحر خلف الصخرة مليئا بالأولاد وهم ينفثون الماء مثل حيتان سمراء. ثم سبحوا عائدين إلى الجرف دون أن ينظروا إليه.
تسلق عائدا إلى صخرة القفز وجلس وهو يشعر بوعورتها الساخنة تحت فخذيه. كان الأولاد يلملمون قطع ملابسهم ويركضون على طول الساحل باتجاه نتوء جبلي آخر. كانوا يغادرون بقصد الابتعاد عنه. بكى بلا تحفظ واضعا قبضتيه على عينيه. لم يكن ثمة احد ليراه، فبكى بكاءً مريراً.
بدا له إن وقتا طويلا قد مضى. واصل السباحة حتى وصل إلى حيث يستطيع رؤية أمه. أجل، ها هي، كانت ما تزال هناك، بقعة صفراء تحت المظلة البرتقالية. ثم سبح راجعا إلى الصخرة الكبيرة، تسلقها، وقفز إلى البركة الزرقاء بين الصخور المدببة الغاضبة. هبط حتى لمس جدار الصخر ثانية. لكن الملوحة كانت مؤلمة لعينيه إلى درجة انه لم يستطع الرؤية.
خرج إلى السطح، ثم سبح نحو الجرف وعاد إلى الفيللا لينتظر أمه. ظهرت تسير ببطء على الطريق تتدلى من يدها حقيبتها المقلمة وتتدلى ذراعها العارية على جنبها. "أريد منظار غطس"، قال ذلك لاهثا بتحد وتوسل. رمقته بنظرة متسائلة صبورة وهي تقول عرضا: "حسناً، طبعاً يا عزيزي".
ولكن الآن، الآن، الآن، لا بد أن يحصل عليه هذه اللحظة وليس في وقت آخر. ما انفك يلح عليها ويضايقها حتى اصطحبته إلى متجر. وما أن اشترت له المنظار حتى خطفه من يدها وكأنها ستحتفظ به لنفسها، وانطلق راكضا على الطريق المنحدرة باتجاه الخليج.
واصل جيري السباحة حتى وصل إلى الحاجز الصخري الكبير، وضع المنظار على عينيه وقفز. حطم اصطدامه بالماء المثبت المطاطي للمنظار فأصبح مرتخيا. أدرك إن عليه السباحة إلى قاعدة الصخرة من سطح الماء. ثبت المنظار على عينيه بقوة، ملأ رئتيه بالهواء وشرع بالعوم على السطح ووجهه إلى الأسفل. كان بإمكانه الرؤية الآن وكأن لديه عينين مختلفتين ـ عيني سمكة ـ ترى كل شيء واضحاً ومترقرقا في الماء الرائق.
أسفله، نحو ستة أقدام أو سبعة، كان القعر نظيفا تماما والرمل ابيض لامعا متموجا تموجا منتظما وصلبا من اثر المد. ثمة جسمان رماديان يعومان هناك مثل لوحين طويلين مستديرين من الخشب أو الصخر، كانتا سمكتين، شاهدهما وهما تتدافعان بخطميهما، تتوازيان ساكنتين، تندفعان إلى الأمام، تنحرفان متباعدتين ثم تلتقيان ثانية. كان ذلك مثل رقصة في الماء. فوقهما قليلا كان الماء يتلألأ كأن شررا يتساقط من خلاله. ثم ظهر السمك ثانية— عدد هائل من الأسماك الصغيرة جدا، بحجم أظافره، تتدفق في الماء وسرعان ما بدأ يشعر بلمساتها الصغيرة التي لا حصر لها على أعضاء جسمه. شعر كأنه يعوم في رقائق ناعمة من الفضة. برزت الصخرة العظيمة التي كان الأولاد الكبار قد اخترقوها سباحة، صلدة مطبقة على المكان فوق الرمل الأبيض— سوداء متشحة بالأعشاب البحرية الخضراء. استطاع أن يرى الفجوة فيها. ثم سبح هابطا نحو قاعدتها.
كان يصعد سابحا مرة بعد أخرى ليملأ صدره بالهواء ثم يهبط، ومرة بعد مرة يتلمس سطح الصخرة، يتحسسها، يكاد يعانقها، تتملكه حاجة يائسة لأن يعثر على المدخل، ثم فجأة، وبينما كان ملتصقا بجسمه على الجدار الأسود، ارتفعت ركبتاه ودفع بقدميه إلى الأمام فلم تصطدما بأي عائق. لقد وجد الثقب.
وصل إلى السطح، تسلق متشبثاً بالأحجار المتناثرة على الحاجز الصخري حتى وجد حجرا كبيرا فامسك به وحمله بين ذراعيه وجعل جسمه يتدلى على جانب الصخرة الكبيرة ثم قذف بنفسه مع ثقل الحجر ليسقط عموديا ويغوص نحو القاع الرملي. تمدد على جانبه محتضناً الحجر المرساة بقوة ونظر أسفل الجرف الصخري إلى المكان الذي كانت قدماه قد دخلتا فيه دون أن تصطدما بشيء. تمكن من رؤية الثقب. كان فجوة مظلمة وعرة لكنه لم يستطع رؤية عمقها. أطلق مرساته من بين ذراعيه وامسك بحافات الثقب وحاول أن يدفع جسمه إلى داخله.
ادخل رأسه لكن كتفيه علقتا، حركهما إلى الجانبين ليحشرهما ودخل حتى خصره. لم يرَ شيئا أمامه. لامس فمه شيء رخو ودبق وشاهد رقاقة سوداء تتحرك مقابل الصخرة الرمادية فتملكه الرعب. تخيل الإخطبوطات والأعشاب البحرية اللاصقة. سحب جسمه خارجا ولمح عند ارتداده مجسا نباتيا غير مؤذٍ عائما في مدخل النفق. لكن ذلك كان كافيا. تناول ضوء الشمس، سبح نحو الجرف وتمدد فوق صخرة القفز. أخفض بصره نحو بئر الماء الأزرق. عرف انه يتوجب عليه أن يجد طريقه إلى ذلك الكهف، أو الثقب، أو النفق ويخرج من الجانب الآخر.
فكر أولا إن عليه أن يتعلم كيف يسيطر على تنفسه. ترك جسمه ينزل في الماء بحجر كبير آخر بين يديه لكي يتمكن من الاستلقاء على قاع البحر دون جهد. أخذ يعدّ واحد، اثنان، ثلاثة. عدّ بانتظام. استطاع أن يسمع حركة الدم في صدره. واحد وخمسون، اثنان وخمسون... آلمه صدره. ترك الصخرة وصعد إلى الهواء. رأى الشمس هابطة. أسرع إلى الفيللا فوجد أمه جالسة على مائدة العشاء.لم تقل إلا: "هل استمتعت؟" فقال: "نعم".
حلم الفتى طوال الليل بالكهف الذي يملؤه الماء في تلك الصخرة، وحالما انتهى من فطوره ذهب إلى الخليج.
تلك الليلة نزف انفه نزفا شديدا، لقد أمضى ساعات تحت الماء يتدرب كيف يحبس نفسه، والآن شعر بالوهن والدوار. قالت أمه: "ما كنت لأذهب في الأمور بعيدا لو كنت مكانك".
في ذلك اليوم وفي اليوم الذي يليه، درّب جيري رئتيه وكأن كل شيء، كل حياته، وكل مستقبله وما سيكون عليه متوقف على ذلك. مرة أخرى نزف انفه ليلا، أصرت أمه على أن يصطحبها في اليوم التالي. كان يعذبه أن يضيّع يوما من تمرين الذات الدقيق، لكنه بقي معها على ذلك الشاطئ الرملي الآخر، الذي بدا له الآن مكانا للأطفال الصغار، مكانا حيث يمكن لأمه أن تستلقي بأمان في الشمس. لم يكن شاطئه.
في اليوم التالي لم يطلب الأذن للذهاب إلى الشاطئ الرملي. لقد ذهب قبل أن تتمكن أمه من إمعان النظر في مسائل الخطأ والصواب المعقدة. لقد اكتشف إن استراحة يوم قد طورت حسابه عشرة أضعاف. كان الأولاد الكبار قد أنجزوا العبور بينما كان يعد مائة وستين. لقد كان يعد بسرعة وهو خائف. ربما بإمكانه الآن، لو حاول، عبور ذلك النفق الطويل، لكنه لن يحاول ذلك.إن إصرارا فضوليا غير طفولي، نفاذ صبر مسيطر عليه، هو ما جعله ينتظر. في غضون ذلك كان يستلقي تحت الماء على الرمل الأبيض الذي تتناثر عليه الآن الأحجار التي كان قد جلبها معه من فوق ويتفحص مدخل النفق. عرف كل نتوء وكل زاوية فيه، في حدود ما وقعت عليه عيناه، وبدا الأمر وكأنه كان قبل الآن يشعر بوعورتها توخز كتفيه.
كان يجلس قرب الساعة في الفيللا عندما لا تكون أمه بقربه ويوقت لنفسه. لم يصدق في البدء ، ثم شعر بالزهو عندما اكتشف انه يستطيع حبس نفسه دون إجهاد لدقيقتين.
كلمة ((دقيقتين))، التي أقرت الساعة بحقيقتها، قرّبته من المغامرة التي أضحت ضرورة قصوى بالنسبة إليه.
بعد انقضاء أربعة أيام أخر، قالت أمه في صباح احد الأيام بشكل عرضي إن عليهم العودة إلى الديار. سيفعلها في اليوم الذي يسبق رحيلهما. سيفعلها حتى لو قتلته، قال ذلك مع نفسه بتحدٍ. ولكن قبل أن يغادرا بيومين ـ احدهما يوم انتصار استطاع فيه زيادة العد بمقدار خمسة عشر ـ نزف انفه نزفا شديدا حتى أصيب على أثره بدوار واضطر أن يستلقي منهكا على الصخرة الكبيرة مثل قطعة من الطحلب البحري، يراقب الدم الأحمر الكثيف ينساب ويسقط على الصخرة ثم يقطر ببطء في البحر. كان خائفاً، ماذا لو أصيب بدوار في النفق؟ ماذا لو مات هناك وهو عالق؟ ماذا لو دار رأسه في الشمس الحارة— وكاد أن يستسلم. فكر انه سيعود إلى البيت ويضطجع، وربما في الصيف القادم ، عندما يكون قد كبر سنة أخرى ـ حينئذ سيعبر النفق.
إلا انه حتى بعد أن اتخذ القرار، أو ظن انه اتخذه، وجد نفسه جالسا على الصخرة خافضا بصره باتجاه مياه البحر. وعرف ذلك الآن، في هذه اللحظة، في اللحظة التي توقف فيها انفه عن النزف، وكان رأسه ما يزال يؤلمه وصدغاه ينبضان بقوة ـ تلك هي اللحظة التي سيقدم على محاولته فيها. إن لم يفعلها الآن فلن يفعلها أبدا. كان يرتعد من خشيته أن لا يذهب، وكان يرتعد من رعب ذلك النفق الطويل، الطويل تحت تلك الصخرة، تحت البحر. فحتى في الجو المشمس المكشوف كانت الصخرة تبدو هائلة ووعرة جدا. أطنان من الصخر تتراكم على المكان الذي سيذهب إليه. لو مات هناك سيظل ممددا حتى يأتي يوم ـ ربما ليس قبل العام القادم ـ سيصطدم به أولئك الأولاد الكبار وهم يسبحون وسيجدونه متخشباً.
لبس منظاره وثبته جيدا ليفحصه . كانت يداه ترتجفان. ثم اختار اكبر حجر يستطيع حمله ونزل إلى حافة الصخرة حتى أصبح نصفه في الماء البارد المطبق ونصفه في الشمس الساخنة. رفع بصره ليلقي نظرة إلى السماء الخالية ملأ رئتيه بالهواء مرة، مرتين ثم غطس بسرعة نحو القاع ومعه الحجر. أطلقه وبدأ يعد. امسك حافات الثقب بيديه ودفع بنفسه إلى داخله، محركا كتفيه حركة لولبية، مذكرا نفسه إن عليه أن يفعل ذلك، رافسا جسمه بقدميه.
وبسرعة أصبح في الداخل، أصبح داخل ثقب صغير محاط بالصخر ومملوء بالماء الرمادي المصفر. كان الماء يدفعه إلى الأعلى نحو السقف والسقف حاد يؤلم ظهره. سحب جسمه بيديه ـ بسرعة، بسرعة ـ واستعمل ساقيه كعتلتين. ارتطم رأسه بشيء. ألم حاد سبب له دوارا. خمسون، واحد وخمسون، اثنان وخمسون... ليس ثمة إجهاد على رئتيه، شعر كأنه بالون منفوخ ورئتيه خفيفتان ولينتان، ولكن صدغيه ينبضان بشدة. كان ينضغط بشكل متواصل على السقف الحاد فيشعر بلزوجته ووخزه معا. وفكر مرة أخرى بالإخطبوطات وتساءل إن كان النفق ممتلئاً ربما بالطحالب البحرية التي قد تعلق به وتقيده. رفس جسمه رفسة مذعورة متشنجة إلى الأمام، اغطس رأسه في الماء وراح يعوم. تحركت قدماه ويداه كما في المياه المكشوفة. لا بد إن الثقب قد اتسع. فكر إن عليه أن يسبح بسرعة خشية أن يضرب رأسه إذا ما أصبح النفق ضيقاً.
مائة، مائة وواحد... بدأ لون الماء يبهت. ملأه الإحساس بالنصر. بدأت رئتاه تؤلمانه. ضربات كف قليلة إضافية وسيخرج. اخذ يعد بهياج. قال: مائة وخمسة عشر، ثم بعد مضي وقت طويل مائة وخمسة عشر مرة ثانية: كان الماء من حوله بلون جوهرة خضراء صافية. ثم رأى فوق رأسه تصدعا يمتد على طول الصخرة. كان ضوء الشمس يسقط من خلاله مظهراً الصخر الداكن الأملس للنفق، وصدفة لبلحة بحر وحيدة، والظلمة الممتدة أمامه.
لقد بلغ منتهى ما يستطيع فعله. رفع بصره إلى الصدع وكأنه ممتلئ بالهواء وليس بالماء، وكأن بإمكانه أن يدس فمه فيه ويستنشق الهواء. سمع صوته يقول من داخل رأسه مائة وخمسة عشر ـ لكنه كان قد قال ذلك منذ وقت طويل. عليه أن يستمر حتى يصل إلى العتمة أمامه، أو يغرق. اخذ رأسه ينتفخ ورئتاه تتصدعان. مائة وخمسة عشر، مائة وخمسة عشر–كانت تدق في رأسه. ثم قبض على الصخر الذي يلفه الظلام قبضة واهنة، ساحبا جسمه إلى الأمام، تاركا خلفه فسحة صغيرة من المياه منارة بضوء الشمس.
شعر انه يحتضر. لم يعد في كامل وعيه. كان يتصارع في الظلام مع نوبات من فقدان الوعي. ملأ رأسه الم منتفخ رهيب، ثم انبلج الظلام عن انفجار شعلة من الضوء الأخضر. لم ترتطم يداه بشيء وهو يتلمس الطريق أمامه، ودفعته قدماه نحو البحر المكشوف وهو يرفسهما إلى الخلف.
اندفع إلى السطح، رافعا وجهه نحو الهواء. كان يلهث مثل سمكة. شعر انه سيغطس الآن ويغرق، لم يستطع السباحة هذه المسافة القليلة عائدا إلى الصخرة. بعد لحظة كان ممسكا بها ساحبا جسمه نحوها. استلقى لاهثا ووجهه على الأرض. لم ير إلا ظلاما متخثرا محتقن العروق. لا بد أن عينيه انفجرتا. كانتا ممتلئتين بالدم. خلع منظاره فانسابت نفثة من الدم إلى البحر. كان انفه ينزف، والدم ملأ المنظار.
غرف بضعة غرفات بيديه من ماء البحر البارد والمالح ليرشها على وجهه ولم يعرف ان كان ما تذوقه دم أم ملح . بعد فترة سكن قلبه واتضحت الرؤية في عينيه فجلس. استطاع ان يرى الأولاد المحليين يقفزون ويلعبون على مبعدة نصف ميل منه. لم يُردهم. لم يرد الا ان يعود إلى البيت ويستلقي.
بعد برهة اخذ جيري يسبح نحو الشاطئ وسلك الطريق إلى الفيللا. رمى بنفسه على الفراش ونام، واستيقظ على وقع أقدام على الممر الخارجي. كانت أمه عائدة. أسرع نحو الحمام وهو يفكر: يجب أن لا ترى وجهه ملطخا بالدم أو الدموع. خرج من الحمام وقابلها بينما كانت تدخل إلى الفيللا باسمة وعيناها مشرقتان. سألته: "هل قضيت صباحا جميلا؟" وهي تضع يدها على كتفه الأسمر الدافئ للحظة.
قال: "أوه، اجل، شكرا"
قالت: "تبدو شاحبا قليلا" ثم أردفت بلهجة حادة مصحوبة بالقلق: "كيف ضربت راسك؟"
قال لها: "أوه، ضربته"
نظرت اليه نظرة متفحصة. كان متوترا وعيناه تعلوهما غشاوة شبه زجاجية. شعرت بالقلق ثم قالت لنفسها، أوه، لا تحدثي ضجة. لا يمكن ان يحدث شيء. انه يستطيع العوم مثل سمكة.
جلسا لتناول الغداء معا.
قال: "ماما. استطيع ان أبقى تحت الماء دقيقتين ـ ثلاث دقائق على الأقل" وخرجت الكلمات من فمه مفاجئة وعنيفة.
قالت: "هل تستطيع يا عزيزي؟ عليّ أن لا أبالغ في الأمر. أظن أنه ينبغي عليك أن لا تسبح أكثر اليوم".
كانت مستعدة لمعركة إرادات، لكنه استسلم في الحال. لم يعد ذهابه إلى الخليج على أدنى قدر من الأهمية.



#عادل_صالح_الزبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بانتوم الكساد الأكبر للشاعر الأمريكي دونالد جاستس (1925 - 20 ...
- الزواج من الجلاد لمارغريت آتوود
- هايكوهات مختارة للشاعر الأميركي ريتشارد رايت (1908 – 1960)
- مقدمة في الشعر للشاعر الأمريكي بيلي كولينز
- الشعر والعلم
- قصيدة البكاء للشاعر الأميركي جيمي سنتياغو باكا
- اذ كنت وحيدا أتجول ..للشاعر الانجليزي وليم ويردزويرث (1770 – ...
- المواطن المجهول
- المجنون تمسك به الدنيا
- حمى البحر
- الرجل البالون
- اليوم ممل جدا للشاعر الأميركي جاك برلوتسكي
- متشحا بالأخضر
- اعادة صياغة - روي فيشر
- من الشعرالانكليزي الساخر
- من الشعر الأسترالي الحدبث
- على هامش المؤتمر العالمي للتعليم العالي في العراق
- من الشعر الأسكتلندي الحديث


المزيد.....




- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...
- حديث عن الاندماج والانصهار والذوبان اللغوي… والترياق المطلوب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل صالح الزبيدي - عبر النفق قصة للكاتبة البريطانية دوريس ليسنغ