أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدو أبو يامن - كلنا يهرب















المزيد.....

كلنا يهرب


عبدو أبو يامن

الحوار المتمدن-العدد: 2311 - 2008 / 6 / 13 - 11:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



قال الحكيم : زودت الطبيعة كائناتها بجهاز إنذار فطري مبكر؛ فقبل هبوب الإعصار أو العاصفة ترى الطيور والحيوانات وقد فرت بعيدا من الموت والرعب والقلق إلى حيث الحياة والأمن والسكينة، وطالما استشعر الإنسان الخطر وتنبه له من خلال هذه الكائنات التي دونه في الرتبة، فكأنه إذن دونها في هذه الموهبة أعني موهبة توقي الخطر قبل وقوعه.. وفي مقابل هذا العجز الذي رافق الإنسان طوال فترات التاريخ، أخذ الإنسان يحسن من مقدرته ويحاول سد نقصه من هذه الجهة، وبالفعل تم له ما أراد مع تنامي معارفه وتوسع مداركه، إذ صنع الأدوات الدقيقة التي تتنبأ له بالعواصف والأعاصير قبل هبوبها والزلزال والبراكين قبل وقوعها فسبق بذلك الطبيعة خطوة أو خطوات كانت كفيلة له بتوخي حذره وحفظ نوعه، وكانت بالنسبة له – وهو المهم في الأمر- نوعا من إعلان السيادة والسيطرة على هذه القوى العمياء التي طالما تحكمت فيه طوال حياته على الأرض.. وإن كانت هذه السيطرة ليست تامة على كل حال بدليل ما نشهده في أيامنا من ضحايا بشرية سقطت تحت كوارث الطبيعة من زلازل وفيضانات وسيول وعواصف.
ولكن النقطة الجوهرية هنا هي : أن هذا الحفظ والتوقي مادي – إن صحت التسمية – يقف عند حدود الحياة الأولية التي يتشارك فيها الإنسان مع الكائنات الأخرى من حيوان ونبات، وهي بالنسبة لهما شيء فطري وطبيعي ويتمشى مع كينونتهما؛ فالحيوان يقف عند حدود الغريزة لا يكاد يجاوزها، فإذا أمن على نفسه وحياته، وأشبع حاجاته الأساسية من جوع وعطش وجنس، وإذا ما انضم إلى قطيع من بني جنسه فهو يتوقف عند هذه النقطة، لا يسأل عما قبل ولا عما بعد. والحيوان محق في هروبه حين هرب فغريزة البقاء تفعل فعلها في الأعماق، والإنسان كذلك على حق في هروبه حين هرب فهو من هذه الناحية كبقية الكائنات سواء بسواء..
ولكنه غير محق بل مبطل حين واصل الهروب وما زال يواصله بعد أن توافرت له كل أسباب الأمن الحياتي الأولي - إن صح التعبير- وظلم نفسه قبل أن يظلمه غيره؛ ذلك أن الهروب الذي يواصله هو نوع يميزه عن بقية الكائنات وبسببه بل من أجله كانت له الأفضلية في نظره على الأقل. وهذا الهروب سمه ما شئت أن تسميه هروبا روحيا أوجوديا أو نفسيا أو عقليا أو هروبا من تحقيق الكينونة وخلق الذات.. هذا الهروب يمارسه الإنسان منذ أن يعي وجوده كذات متفردة متميزة عن بقية الذوات الإنسانية، فهذا الوعي باهظ الكلفة متعب مؤرق مرهق، وهو يتطلب كدحا وقلقا مسترسلين إلى نهاية العمر..
فالإنسان يهرب من نفسه إذن، مفارقة لا شك في ذلك، وسخرية ليس بعدها سخرية أن يهرب الإنسان من نفسه، وهل هذا يعقل؟! أليس هذا سفسطة رخيصة ليس إلا؟! ربما سأل سائل!!
وحق له أن يسأل؛ أليس كل إنسان يسعى إلى إشباع نفسه، يحيطها بألوان الترف المادي التي تدفع عنه الملل والقلق وتسد حاجاته الأساسية، ويستكثر من المال والولد والجاه والسلطة؛ أليس هو في كل هذا مقبلا على نفسه مهتما لأمرها مشغولا بها؟! ربما أضاف آخر وحق له أن يفعل!!
ولكن السؤال الجوهري هو: على ماذا هو مقبل؛ على ذاته كلها أم على جسده؟ وهل هذا الجسد عتبة بوابة الذات الذي لا بد من ولوجه إلى جنة الذات أو جحيمها؟!
ولكن ما بال الإنسان وقف عند هذه العتبة لا يكاد يغادرها، لم لا يدق على البوابة؛ أم وقع في وهمه أن الأمر يسير وأن الطريق مفروشة بالورود، وأنه سيجد الأبواب مشرعة، ومتى كانت أبواب الجنة و الجحيم مشرعة؟!!
لم لا يدق؛ هل يخشى من مواجهة نفسه، أم تراه يخشى من مجابهة مصيره، أم لعله يخاف الحقيقة،( الحقيقة التي ستحرره ) كما يقول السيد المسيح، نعم تحرره ولكن متى؟ بعد أن ينغمس في ( المطهر ) !!
ما بال هذا الإنسان يمارس في حياته كل أنواع الهروب المادية والمعنوية، المتطرفة منها والمعتدل؛ فهو يهرب بأنواع المخدرات المختلفة وبالأشربة والخمور كتعبير متطرف عن أجبن أنواع الهروب ماديا على الإطلاق.. فالذي يمارس مثل هذا النوع من الهروب لا يقوى على مواجهة نفسه لحظة واحدة فهو ينشد الغيبوبة بأي ثمن، والمحزن في الأمر أن يتحول الأمر إلى نوع من الإدمان.
وهو يهرب منها – كذلك – بأنواع المسليات التافهة والألعاب السخيفة التي اخترعها الإنسان طوال تاريخه، التي لا تستدعي من الإنسان تعبا ولا بذلا للجهد حيث يكون الإنسان سلبيا ومتلقيا ومتفرجا متيقظا على أحسن تقدير، وحيث يكون مجرد وعاء يستقبل كل أنواع المرسلات السطحية والعميقة والسوية وغير السوية والعابثة والجادة ،وينصب كلامي هنا على التطرف في فعل كل ذلك.
وهو يهرب منها بالجري المحموم والسعي المجنون وراء مظاهر الترف المادي، هذا السعي الذي يستحيل إلى نوع من الهوس، والذي تنقلب فيه الوسائل إلى غايات، والذي لا يكاد يدع للإنسان- بعد ذلك - أية فرصة لكي يخلو إلى نفسه إلى أن تحل النهاية.
وهو يهرب منها بالكذب والتدليس عليها بأن يقول أو يفعل خلاف ما يمليه عليه ضميره الإنساني كأن ينافق أو يغش أو يزور وهو موقن تمام اليقين في قرارة نفسه أنما كل ما يقوله كذب ولا يمت إلى الحقيقة بصلة ولكن العرف والعادة والتربية والمواضعات الاجتماعية كل ذلك قمين بأن يهدئ من فزع نفسه إن كانت بقيت له بقية من إنسانية.
وهو يهرب منها بأنواع من التدين الزائف المشوه- لا أقول الدين الحقيقي – تحثه على الهروب والانسحاب من غمار الحياة وترحيل كل المشكلات وانتظار الحلول في عالم آخر، وتصور له الحياة الدنيا بصورة الظلال والوهم. والأدهى من ذلك أنها تلغي فيه كل ميزة إنسانية، فليس له إرادة ولا قوة ولا مشيئة ولا حرية ولا مسؤولية، فهو حشرة - في نظر نفسه وإن كان ذلك لا شعوريا في أكثر الأحيان فنادرا ما يعرف الإنسان حقيقة نفسه فضلا عن أن يعترف بها– في خضم هذا العالم.
وهو يهرب – كذلك – بالاندساس وسط القطيع البشري يسبح مع التيار أنى قاده، ( فالموت مع الجماعة رحمة ) كما يقول المثل الشعبي، مجرد ذرة من الذرات هائمة لا تعرف لها وجودا ولا ذاتا ولا كينونة؛ فالآخرون يفكرون عنه، ويقررون له ما فيه مصلحته، ويعرفون بدله ما فيه نفعه وضره، وكل المطلوب منه أن يقول ( نعم ) حين يراد منهم قولها، فهو منفعل ومفعول فيه وبه وله لا فاعل ولا ما يشبه الفاعل!!
وهو يهرب – أيضا – إلى العصور السلفية الماضية الذهبية – في نظره – يرى الخير فيها كله، والسعادة كلها، والصلاح كله، والنعيم كله، بل الجنة مجسدة هناك، كرد فعل عنيف يستحيل عقلا وواقعا.
والسؤال هو: لم كان هذا الهروب بكل أنواعه، لماذا كان بهذه القوة والعمق والشمولية التي لا يكاد يفلت منها أحد؟ّ
أهو نوع من الأمانة التي تبرأت منها الجبال وحملها الإنسان بجهله وظلمه كما يخبرنا القرآن؟
وهل كل أنواع الهروب ترتد في التحليل الأخير إلى نوع واحد هو الهروب من الحرية، الحرية التي لا تفهم إلا بحضور شقها الآخر المسؤولية، فلا حرية بلا مسؤولية، تكسبها معناها، وإلا كان المجانين أكثر الناس حرية بما أنهم يفعلون كل ما يحلو لهم؛ ولكن بما أنهم غير مسؤولين وبالتالي فاقدو الأهلية ( مرفوع عنهم القلم ) كما يقول التراث العربي، فحريتهم لا يعتد بها ولا تصنفهم في زمرة العقلاء بحال من الأحوال.
هل الحرية المسؤولة ؛ هذه الحرية المقيدة- لأن الحرية المرسلة فوضى لا معنى لها – التي تجعل الإنسان مسؤولا عن خياراته وتصرفاته هو ما يخافه الإنسان؟ّّّ!
ومن منا على استعداد لتحمل المسؤولية؟ إننا نفر من المسؤولية فراننا من الأمراض المعدية والكوارث الطبيعية؛ لأنها اقترنت في أذهاننا بالعقوبة، ولولا هذه العقوبة هل كان هناك مبرر لكل هذا الفزع؟؟
إنني أتحدث عن قرارات بسيطة وتافهة ولكن ماذا تعتقد بشأن قرارات مصيرية حاسمة تتعلق بالمنشأ والمسير والمصير، منشؤنا ومسيرنا ومصيرنا نحن الذي تركناه لغيرنا ( قوى مادية وغيبية وأسطورية، علمية وغير علمية ) تقرره شكله ومضمونه، واتجاهه ومنتهاه؟
ما نهرب منه - في النهاية – يمكن حصره في سؤالين جوهريين:
كيف نعيش؟ ومن أجل ماذا نعيش؟
وهذا ما نهرب منه في الحقيقة.. وآن الأوان لمواجهة الذات لمعرفة ماذا تريد لتحقيق كينونتها الخالدة المتفردة المتميزة الذي لا يشبهها شيء في هذا العالم.



#عبدو_أبو_يامن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى من سيضرم النار سريعا في هشيم العالم!!
- كليلة ودمنة في أراب ستان -7-
- ديكتاتور.. وغباء .. وقمر
- الظاهرة المحفوظية
- ومن العشق ما قتل!!
- ليس بالجبن وحده يحيا الإنسان
- متعلمون ولكن!!
- دلالة المقاطعة والبحث عن معنى
- فلسفة السؤال، والثقافة المفقودة
- فرنسا شيراك، والبحث عن دور
- متى أكتب؟!
- كليلة ودمنة في أراب ستان -6-
- كليلة ودمنة في أراب ستان -5-
- رسالة تداعي الحيوانات على الإنسان، الملحمة الإنسانية الخالدة
- قديس
- كليلة ودمنة في أراب ستان – 4 –
- كليلة ودمنة في أراب ستان – 3 –
- كليلة ودمنة في أراب استان -2-
- كليلة ودمنة في أراب ستان -1-
- هذا بوش أم هتلر.. لا أستطيع التمييز بينهما؟!! - 2-


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدو أبو يامن - كلنا يهرب