أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد السلطاني - تنويعات العمارة -القوسية-















المزيد.....



تنويعات العمارة -القوسية-


خالد السلطاني

الحوار المتمدن-العدد: 2302 - 2008 / 6 / 4 - 10:36
المحور: الادب والفن
    


في كتابه " المكان، الزمان، والعمارة"؛ نصه الذي اعُتبر دوماً، من النصوص الكلاسيكية التى تعاطت مع منجز عمارة الحداثة، يشير مؤلفه الناقد المعماري " سيغفريد غيديون" (1888-1968) Siegfried Giedion الى ظهور" الجيل الثالث" في مسار ذلك الحدث الابداعي الذي بدء في التشكـّل بالعشرينات من القرن الماضي وأعني به " عمارة الحداثة" . ومقراً بوجود فوارق مهنية بين تلك الاجيال الصانعة لذلك الحدث، فان غيديون يشير في الوقت ذاته، الى حضور"سمة اساسية إكتنفت مسار الحركة الحداثية المعمارية، وهي سمة التعاقب، التتابع او الاستخلاف بين تلك الاجيال. والتى، وفقاً لرؤيته كفلت استمرارية تطور العمارة" ((Space, Time & Architecture. . ومع هذا، فان ناقد عمارة الحداثة المعروف يميز اختلافات جوهرية اتسم بها "الجيل الثالث" عن سابقيه، اختلافات نابعة أساسا من تداعيات التطور الحاصل في تكنولوجيا البناء وتغيير الذائقة الجمالية وظهور قضايا مهنية جديدة تطلبت حلولا معمارية غير مسبوقة. ومن ضمن المفاهيم التى تناولها " الجيل الثالث" بالتقصي والبحث والممارسة، كما رصدها الناقد، الاهتمام المكثف بنماذج العمارة التاريخية، ورؤية ذلك الاهتمام ليس بكونه امراً شكلياً، بقدر ما ".. كان ينطوي على ادراك عميق لكنه العلاقات الجوانية الرابطة لما بين العصور؛ والتى امنّ حضورها في الخطاب المهني، التطور المستمر الذي صاحب مسار العمارة" (ص. 362).
وما يشير اليه "سيغفريد غيديون" من افكار في مستواها العالمي، يمكن بنجاح اسقاط مفاهيمها على الحالة الاقليمية او المحلية. واقصد بالاخيرة، طبعا، الحالة العراقية. بمعنى ان مسار حركة التحديث المعمارية العراقية، التى تأسست بمواكبة زمنية، مع بدء " اعلان" مبادئ الحداثة المعمارية، والتى باتت صيرورتها في وقت لاحق تمثيلاً لاشتغال موازٍ مع ما يمكن ان نسميه مقاربات منجز عمارة الحداثة العالمي، افرزت هي الاخرى " جيلها الثالث"؛ الجيل الذي عمل واجتهد تصميمياً ضمن إشتراطات المرحلة الزمنية وظروفها الموضوعية والذاتية معاً. وهذا كله سيمهد السبيل لقراءة جادة لمسار تطور الحداثة بالعراق، ويمنحنا إمكانية إجراء تقييم موضوعي له، عبر الاحساس بحضور عنصرالمجايلة وتحديد فتراتها المرحلية، من دون ان يعني ذلك رسم حدود قسرية تفصل بين اعمال تلك الاجيال.
وبما ان الحداثة المعمارية نشأت عندنا، في العراق، كما اسلفنا، في العشرينات، بتزامن طريف مع ظهور الحداثة المعمارية العالمية؛ فان فترة عمل "الجيل الثالث" الذي يتكلم عنه "غيديون"، انحصرت زمنياً بين منتصف الخمسينات وبدء الستينات ؛ وهي ذاتها الفترة التى تشكل بها عندنا ذلك الجيل المهني، الذي عوّل المسار التطوري للعمارة المحلية على منجزه امالا عريضة، لكن تلك الآمال ظلت، مع الاسف، مجرد آمال وتمنيات بعيدة عن التحقيق، وبالتالي لم يؤثر انتاج ذلك الجيل (المحدد المعالم والمتماثل في مرجعياته التصميمية) تأثيرا عميقاً في الممارسة المعمارية المحلية. وإذ اتسم منجز الجيل الثالث في مستواه العالمي على بلوغ تخوم ابداعية لم تكن معروفة او متداولة كثيرا في الخطاب المعماري يومذاك، كما يذكرّ غيديون بعضاَ منها، على سبيل المثال لا الحصر؛ فان ذلك المنجز قد تحقق في اجواء ثقافية معاضدة للابداع ، وبوجود فرص وإمكانات يسر حضورهما حُسن سير العملية الابداعية اياها. في حين كتُب على ممثلي "الجيل الثالث" العراقي ان يعملوا وينتجوا في "فضاء" احداث متقلبة جذرياً في مرجعياتها القيمية، وفي ظروف مستجدة ودائما طارئة، معظمها غير ملائمة اطلاقاً لتطلعاتهم وعملهم. لكن اعمال "معاذ الالوسي"(1938)، وهو احد معماري الجيل الثالث، وبخلاف معماري جيله، كانت مؤثرة وحاضرة بقوة في الممارسة المعمارية المحلية.. والاقليمية ايضاً؛ ومنجزه المعماري المتنوع والمستمر، هو الذي يضفي أهمية خاصة على عمارة ذلك الجيل، بعداً مضافاً يحمل دلالة التذكير باؤلئك الذين غيبوا على نحو قاسٍ وظالم؛ فعمارته في معنى ما، هي حضور في وجه الغياب.

صمم معاذ الالوسي مبانٍ عديدة ذات وظائف متنوعة، وبمقاسات مختلفة، كما ان "جغرافية" مواقع مبانيه شاسعة جدا؛ فهو وان بدء حياته المهنية في وطنه العراق وصمم له الكثير(والاجمل؟) ، لكنه ايضاً إشتغل للخليج ولافريقيا وبلاد الارمن بالاضافة الى قبرص ولبنان، ولايزال ينشط ويصمم في مقر إقامته القبرصية الحالية.
تشترك معظم تصاميم الالوسي بسمة تكوينية واضحة ، سمة قد تكون حاضرة في اكثرية مشاريعه المنفذة والمصممة وهي سمة "التماثلية" Symmetry ، ما يمنح غالباً تلك المشاريع نكهة كلاسيكية مفرطة، توحي الى ثبوتية انشائية ورصانة فورماتية عاليتين . وهو كثير ما يطوع اختلاف المادة الانشائية المستخدمة في مبانيه من اجل تكريس نزعة التماثل الذي يسعى اليها لتشكيل مساقط مبانيه وصياغة واجاهاتها. ويضحى قرار" التماثل" اياه بالنسبة اليه، وكأنه قرار تصميمي ملزم، بل وكأنه "مفروض" عليه، بيد انه لا ينفك يتعاطى معه بمودة "تشيها" اساليب تنوع المعالجات التكوينية الموظفة وفنيتها العالية. وتغدو مبانيه " اتحاد نقابات العمال" (1974) المنفذه في مناطق مختلفة بالعراق، و"مشروع المصرف المركزي (1975) في صلالة بعمان، والبنك العربي الافريقي (1977) و" مطبعة دار القبس" (1978) بالكويت العاصمة، و"البنك العربي"(1978) في مسقط، ، و" سفارة الامارات العربية المتحدة(1979) في عُمان، والسفارة القطرية (1976) في عمان، والسفارة الكويتية في البحرين، ومركز الدراسات المصرفية" (1980) الكويت العاصمة، فضلا على "مشروع مسجد الدولة الكبير"( 1982) بغداد / العراق، ومركزصلالة الثقافي (1982) في عمان، و"مستشفى البسمة الاهلي" (1989) بالوزيرية ببغداد/ العراق، ومبنى" كمال حمزة" (1979) بالخرطوم / السودان، ومشروع القصر الرئاسي(1995) في برازفيل / الكونغو، وحتى "معمل كندا دراي وسفن آب"( 1978) في دبي، و" خدمات مرسيدس بنز"(1999) في يرفان / ارمينا، وغيرها من المشاريع، تغدو جميعها تمثيلاً لحضور بليغ للتماثلية تلك السمة التكوينية القريبة الى قلب المعمار. لكن التماثلية وان كانت ذات اهمية كبيرة في تكوينات الحل التصميمي المقترح، فانها لم تكن السمة المحتكرة للاهمية كلها ، فالمعمار مهتم ايضاً بتكريس الهندسية: الهندسية المنتظمة، " المروضة" كما وودت ان ادعوها، والتى تحضر هي الاخرى حضورا فصيحاً ،بتوازٍ مع التماثلية، في التكوينات المبتدعة. ثمة اعتناء زائد ايضا في تكريس "النظام" Order في عمارته بالاضافة الى تأكيده للفعالية الوظيفية، والحسّ المنطقي في توزيع الفراغات؛ وان تراءى لنا عكس ذلك نظراً لولع المعمار في توظيف معالجات تعبيرية في واجهاته، قد لا تكون توظيفاتها مسوغة وظيفياً على نحو كامل.
ولئن تعاطى المعمار مع تلك المقومات Features التكوينية التى اشرنا اليها توا، بصورة قد تبدو دائمية في غالبية تصاميمه، فان مهام تنطيق تلك المقومات اختزلها المعمار في مفردة تصميمية واحدة، وهي مفردة شكل "القوس". و"القوس" لدى الالوسي ليس فقط سطحاً ببعدين، وإنما كتلة بثلاثة ابعاد ايضا. ويوظف المعمار تلك المفردة التكوينية في تكرار مدهش، لكن تنويعات ذلك التكرار لا تقل هي الاخرى إثارة للدهشة. وهو في هذه الحالة لايقصر استخدام شكل القوس الكامل لوحده بل نرى استعملات متنوعة لانصافه واحيانا ربعه. انه يشاهد جلياً في معالجات واجهات مبانيه المتنوعة وفي كتلها، لكنه ايضا يوحى اليه. فالمعمار حريص على تذكيرنا، حضوراً وغياباً، باهمية المفردة التصميمة التى يتعاطى معها. هل لي في حاجة لتذكير القارئ عن مواقع توظيفات تلك المفردة التكوينية في تصاميم المعمار؟ ذلك لان غالبية مشاريع الالوسي " تفيض" باستخدامات تلك المفردة، وهو امر يجعلنا ان نتوقف قليلا عندها لتقصي حيثيات ذلك "الاغراق" القوسي في تصاميمه!.
ثمة اسباب عديدة نرى في تواءم ظهورها بتزامن نادر، قد اسهمت في جعل استخدام القوس وتجلياته المكرره في عمارة الالوسي، استخداماً مغريا ...و"حداثيا" معا. وفي طبيعة ذلك الاستخدام المشوبة توصيفاته بالتعقيد والتناقض ،يضاف اليه ايضاً رغبة المعمار الجامحة في التقصي عن "ايقونة" بصرية لتأكيد ذاته المصممة؛ يمكن للمرء ان يستشف منهما (اي من طبيعة الاستخدام والرغبة الجامحة) بواعث تؤسس لاجوبة مقنعة لتلك التساؤلات المشروعة. ونرى ان هذه البواعث كمنت في طبيعة عمل المعمار في مكتب "الاستشاري العراقي"، وخصوصية فترة الستينات، وما رافقها من تغييرات فكرية اثرت على الخطاب المعماري، وانعكاس ذلك في الممارسة المعمارية العالمية ، ما افضى لظهور "نماذج" تصميمية Paradigm (بردمية، بلغة رفعة الجادرجي) في مناطق جغرافية محددة قابلة بسهولة للايحاء .. والاحتذاء ايضاً. وسنحاول إقتفاء، ولو باختصار شديد، أثر جميع تلك الاسباب ونتائجها النافذة، المؤثرة في تكريس ظاهرة حضور القوس بالحلول التصميمية في تجربة "معاذ" المعمارية.

معروف، ايضاً، ان فترة الستينات (او بالاصح نهابة الخمسينات- بداية الستينات) شهدت تحولات عميقة في الذائقة الجمالية ، ما اثرت كثيرا في مسار عمارة الحداثة، وما نجم عنه من إهتمام "مفاجئ" بنماذج العمارة التاريخية. ثمة نزعة بدت واضحة وقتها في الخطاب المعماري العالمي، نادت لاعادة الاعتبار الى "التاريخ"، بالضد من عقود التجاهل والنفي اللذين طبعا مسار عمارة الحداثة بطابع خاص. وهو ما دعى "غيديون" الى الاشارة اليه، كحدث ثقافي مهم، في الاقتباس الذي اوردناه في مطلع دراستنا. وتجلى هذا الاهتمام بظهور "نماذج تصميمية" تسعى وراء " تواشج" ممتع وحتى مقنع، لكنه في كثير من الاحوال مثيرا للاهتمام، بين اشكال المفردات التكوينية الماضوية مع قيم نهج عمارة الحداثة. وكان لافتاً الظهور القوي لمفردات الطرز التاريخية في صياغة عمارة مباني "مجمع مركز لنكولن " في بدء الستينات بنيويورك، والذي حظيت تصاميمه باهتمام مهني واسع جراء اشتراك احد اشهر معماري الحداثة، وهو "فيليب جونسون" (1906-2005) في تصميم احدى بناياته وهي "مسرح ولاية نيويورك" (1964) الحافلة لغتها التصميمية بمفردات تكوينات الطرز التاريخية. لكن الحدث الاكثر وقعا كان الحضور البليغ لمفردة "القوس" واستخدامها كموتيف اساسي في معالجة واجهة مبنى "دار اوبرا متروبولتين" (1962) في المجمع ذاته، المعمار: واليس هاريسون، اذ عّد ذلك الحضور من قبل نقاد كثر، تتويجا لمقاربات فكرية "جديدة" بدأتها دعوات خجولة لايلاء اهتمام اكثر للتاريخ في العملية التصميمية. وفي وقت متزامن مع "صدمة" لنكولن الماضوية ،او قبيلها بقليل، كان الخطاب المعماري البريطاني يرهص هو الاخر بحدث تصميمي "مميز" و"جديد" لواحد من اشهر معماريي الحداثة الانكليز وهو" السير باسيل سبنس" ( 1907-1976) Basil Spence في مشروعه "لجامعة ساسكس" (1959-63) Sussex في مقاطعة "بريتانيا" بانكلترة. والمفاجأة التصميمية، ايضا، ذاتها: الاستخدامات الواسعة لمفردة القوس التاريخي كموضوعة رئيسية في معالجات واجهات مباني الجامعة. (رغم ان كثر من النقاد ربط بين ظهور "ساسكس" ومحاولة "لوكوربوزيه" المفاجئة يومها، والمتعلقة في اسلوب معالجة عمارة "بيوت ياؤول" Jaoul Houses (1954-56)، في ضواحي العاصمة الفرنسية، حيث تظهر الجدران الاجرية عارية تماما من دون معالجة ما، مستخدما لتسقيف تلك البيوت اشكال أقبية خاصة تعرف "بالقبو الكتالوني" معمولة بصبات خرسانية ذات وجه خشن. وحينها لم يدرك البعض أهمية الحدث المجترح من قبل المعمار الشهير). وبوجود تجارب معمارية آخرى، اشتغلت على "ثيمة" القوس تصميمياً ، بضمنها بالطبع تجربة "فالتر غروبيوس" في "القوس" المهيب لمدخل جامعة بغداد (1957-61)، فقد اكتمل "تأثيث" المشهد المعماري العالمي بمفردات تكوينية "طازجة" مع تهيئته تماما لممارسات تناصية Intertextuality عديدة،سوف يجريها معماريون عديديون في منتصف الستينات، نشدوا التصادي مع جديد ذلك المشهد والاحتذاء به؛ إنطلاقاً من قناعات لرؤية شائعة لدى العديد من المصممين بأهمية "التثاقف" Acculturation مع الآخر، وتبنيهم مقاربات جمالية ذات حساسية جديدة، تجد إصول مرجعيتها دوماً في ثقافة وعمارة الغرب بامتياز. ولعل هذا ما يفسر لنا "موجة" توظيف شكل القوس، لدى مصممين عديدين عملوا في مناطق جغرافية واثنية متنوعة بضمنها منطقتنا العربية وجدوا في هذه المفردة طاقة تعبيرية كبيرة، بمقدورها ان تمزج النفعي مع الجمالي وان تستحضر بشكلها البسيط والمميّز معاً "طفولة" العمارة التى مارستها الانسانية وهي "تحبو" خطواتها الحضارية الاولى. ومثلما كان استخدام مفردة القوس شائعا في العمارة الاسلامية، كانت يوما ما تشكل "الموتيف" الرئيس في العمارة الرومانية، وفي العمارة البيزنطية ايضا، كما يمكن ان ُترى في عمارة الهند القديمة وفي الصين وطبعا في حضارة العراق القديم وبقية مناطق العالم الاخرى. انها باختصار وليدة الفكر الانشائي غير المحدد بمنطقة جغرافية، ولهذا فان شكلها يحمل رموزاً عديدة.

صمم معاذ في النصف الثاني من السبيعينات عددا من مباني السفارات التى تعود ملكيتها الى دول عربية ومخصص تشييدها في دول عربية ايضا. مثل السفارة الكويتية(1979) في البحرين، وسفارة قطر (1976) بسلطنة عمان، وسفارة الامارات (1979) في عُمان ايضا.
في عمارة تلك السفارات يسقط المعمار من اهتمامه التصميمي ضرورة تقصي سمات محلية لمبانيه المصممة، بسبب تشابه المرجعية الثقافية لتلك الدول وتماثل خصوصية المكان، ما حدا به ان يميل نحو ابراز المشترك، الجامع لمكونات تلك الثقافة. من هنا بدا اللجوء الى استخدام القوس وتجلياته الفورماتية حلاً مقنعاً وحكيما في آن. في سفارة الامارات بعمان، تظهر القوس وكأنها المفردة الناظمة "لنسيج" جميع احياز المبنى، والصائغة لموضوعة جماليات واجهاته. ثمة روقان معقودان بقبو Vaulted عاليان، وموقعان على جانبي كتلة السفارة، يحصران سبعة عقود اخرى اقل ارتفاعا، هي بالواقع كناية عن واجهة المبنى الرئيسية المتشكلة مفرداتها من حركة ايقاعية احتفالية، يتناوب فيها فراغ العقد مع سطوح الجدار الصماء. استطاع المعمار بمهارة ان يوزع جميع فراغاته في الكتلة الممتدة المحصورة بين ذينك الرواقين، الذينّ هما في الحقيقة ممران/ شارعان يوصلان الى جميع احياز السفارة. استعان المصمم، بصورة لافته، بمنظومة الفناءات الوسطية، لحل اشكالية الانارة والتهوية، واستخدمها ايضا بدافع ضرورات الفصل والوصل بين طبيعة وخصوصية فراغات السفارة المصممة ، فضلا عن توقه الشديد في تأكيد اهمية تلك المنظومة التكوينية لاستحضار"روح المكان" جراء حمولاتها الرمزية، كونها المفردة الشائعة والاثيرة في تطبيقات العمارة الاسلامية. وتعطي اللغة المعمارية المتقشفة المستخدمة في صياغة عمارة المبنى ومفرداتها القليلة المقننة، بالاضافة الى تفعيل التعارض الناشئ بين أفقية تجزئة الفراغات الوظيفية المتنوعة، مع المعالجة الرأسية المختزلة لسطوح الواجهات، تعطي مبناه مزيداً من الاحساس برصانة العمارة المصممة وتكسبها كثير من الصرحية.

تبدو عمارة مبنى (آيا) المتعدد الطوابق (1989-90) في البتاويين ببغداد، بخلوها الواضح من "لازمة" المعمار التصميمية: القوس ومشتقاته، وكأنها تمرين تصميمي شخصي، يراد منه اختبار مقدرة المعمار لنفسه في الاشتغال على تنويعات لغته التصميمية. ثمة شعور موارب، كنت احس به دائما عندما امرّ بجنب المبنى، مبعثه طبيعة الاشارات مزدوجة المعنى التى ترسلها عمارته، انها تجمع بين نزعة تكريس النظام والاخلال به، بين وضوح القرارات التصميمية وغموض تنطيقها، بين رصانة كتل المبنى والنزعة التهكمية في التفاصيل، بين توق تبيان الانتماء الى الحداثة وتقليدية المرئي المتحصل. كنت دائما اتساءل، كيف قدّر للمعمار ان يجمع مثل تلكم النقائض؟ النقائض، التى يتعين القول انها أغنت عمارة المبنى، وجعلت منه منشأً مثيرا للاهتمام، من الصعب تجاهله بصرياً، كما من غير السهل عدم ملاحظة اختلافه عن باقي شواهد سياق البيئة المبنية.
يتوق المعمار في اصطفائه لاسلوب معالجة كتلة مبناه الى تذكيرنا بقرار "التقسيمات الثلاثية" التى سادت يوما ما عمارة الابنية المتعددة الطوابق، والتى اشاعتها "مدرسة شيكاغو" المعمارية العقلانية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، وباتت منذاك، احدى "لوازم" العمارة الوظيفية. فـ"لويس سوليفان"، مبتكر تلك الثلاثية، يحضر ببلاغة في عمارة (ايا) ، ليس تمثيلا للوظيفية التى التحم عنوانها مع اسمه، وانما بصفته موحيا لقيمة جمالية ومصدرا لتنوع المعالجات الواجهية. إن إجراءات تنطيق قسم الطوابق الاولى، ومنطقة طوابق الجزء الوسطي، والنهايات الخاتمة للتكوين الواجهاتي والغالقة لها، تتم من قبل المعمار بنوع من التحديدات الواضحة المنفصلة عن جوارها بشكل مبالغ، حتى يضمن المعمار الاحساس بحضور التمثيل Representation ، او بالاحرى "وهم التمثيل" وفقا لاطروحة " بيتر ايزنمان". فليس المعيار الوظيفي هو "الحاكم" هنا؛ وانما النزوع نحو اكساب المبنى قيمة جمالية مؤثرة، متأسسة اصلا على مبتكرات المنظومة الثلاثية اياها. اي بعبارة آخرى تطمح عمارة المبنى الى تكريس "رسالة" التمثيل ، اكثر بكثير من ان تكون مهتمة "بمعناه". ومن هنا ايضا يمكن ايجاد تفسيرلتلك الازاحات Displacements المتقصدة في المفهوم الوظيفي لجميع عناصر الاقسام الثلاثة المشكلة لكتلة المبنى والصائغة لواجهاته؛ والتى سعى المعمار الى تمويه وظائفها النفعية، زيادة في تكريس قيمة التمثيل لديه. فتظهر الاعمدة الرافعة باشكال مميزة يوحي شكلها غير التقليدي الى انفصال تام عن استحقاقات عملها الانشائي . ولا ترمي فتحات النوافذ المبثوثة على سطح الجدار الآجري المشغول بعناية وحرفية عالية الى التدليل لوجود نظام صارم يهتم في توزيع الفراغات الواقعة خلفها، اذ ان نشرها بالصيغة الصدفوية المتقصدة يراد منها النأي بعيدا عن صرامة ترتيب التقسيمات الحيزية المعتادة في الابنية المتعددة الطوابق. في حين حرص المعمارعلى معالجة "افريز" الجزء العلوي من مبناه باشكال وحجوم ، تستحضر بها اشكال القفلات البنائية الشائعة في بيوت الثلاثينات البغدادية!.
ثمة اهتمام واضح لدى المعمار في إظهار اسلوب معالجاته التصميمية بصورة صادمة ومؤثرة. فجاءت واجهات المبنى باشكال غير تقليدية مع تفاصيل معمارية مغالية في نوعيتها وعددها، مركزاً على ما يكتنف عمارته من دلالات رمزية تشي لمرجعيات مختلفة؛ ما جعل من مقاربته تلك لتكون احدى المقاربات الجادة والهامة والمؤثرة في الخطاب المعماري الحداثي العراقي وحتى الاقليمي. ثمة مرح اضافي يضفيه المعمار على قرارته التصميمية التى تمكن بكفاءة ان يجعل من واقعة معايشة الاضداد حدثاً تكوينياً منح صنيعه المعماري مزيدا من التميّز والخصوصية. وفيما يتعلق بالنقطة الاخيرة الخاصة باجتراح قرارات مرحة، سنعود اليها والى تبيان اهميتها لاحقا في هذه الدراسة.
شارك مكتب معاذ الالوسي في المسابقة الدولية لتصميم " جامع الدولة الكبير" في بغداد/ العراق سنة 1982. ونال تصميمه حق المشاركة في المرحلة الاخيرة منها، والتى اقتصرت على عدد محدد من المشاريع التى صممها معماريون معروفون على نطاق واسع عالميا واقليميا بضمنهم روبرت فنتوري، وريكاردو بوفيل وقحطان المدفعي ومحمد مكية وغيرهم. لايسمح المجال هنا، بحكم طبيعة ومحدودية هذه الدراسة، إجراء تقييمات نقدية مطولة لهذا الحدث التصميمي الهام في مسار المعمار. لكن عدم الاشارة اليه والى لغته التصميمية ولو باختصار سيكون امراً مجحفا في حق المعمار، وتغييبا غير مبرر لتصميم اثارت عمارته كثيراً من النقاش.
اعتمد المعمار في مقاربته التصميمية للمشروع على تكثيف وحضور مفردات اللغة التقليدية في بناء المساجد التى درجت الاجيال المتعاقبة في الحفاظ على اسلوب توزيع فضاءتها والتمسك في استخدام اشكالها الشائعة، متخليا عن خيار حماسه التجديدي الذي لاحظناه في مشاريعه المتنوعة الآخرى. هل كانت خصوصية موضوعة التصميم باعثا لذلك؟ ام ان الرغبة في مسايرة الذائقة الجمعية المألوفة كانت سبباً لها؟ في كلتا الحالتين، ارى ،كقارئ لعمارة المسجد اياه، ثمة نزوعاً للتنصل عن الحداثة وقيمها. معتبرا ايضاً ان قراره ذاك لا ينسجم مع طروحاته التصميمية السابقة، كما اجده غير مقنع، لسبب بسيط لان تاريخ الابداع، والابداع المعماري على وجه الخصوص، قائم على القطيعة، التى هي اصلا اساس التغيير والتطورّ، ودونهما يبقى العمل الفني مكتفيا بتعبير الاستمرارية "الاليفة" التى تتحول الى رتابة مملة لا يمكن تحملها. يصعب عليّ كثيرا ان ارى معمارا مجتهداً كمعاذ، يجعل من اجتهاده حالة مرتهنة او تابعة للاخر، حتى ولو كان ذلك الآخر (تراثاً). فقد سأمنا حقا، تقييم فعل الاجتهاد التصميمي كفعل من الدرجة الثانية، مهمته تكمن فقط في الالتزام بتوليد عمارته من نصوص عمارة آخرى. واعيد هنا، ما تساءلت عنه قبل اكثر من ربع قرن، في مقالة تناولت فيها عمارة مسجد "معاذ" الكبير، هل حقا " ليس بالامكان احسن مما كان؟". إن إحتفائنا بالجديد وتقبلنا بشكل او بآخر، للقطيعة بمعناها الجمالي، ربما يجيبان عن ذلك التساؤل. واعتقد ان "معاذاً، قد أجاب بكفاءة عنه في مشروعين اجد ان لغتهما المعمارية وعناصرهما التكوينية تنضح يناعة وحداثة؛ وهما "مسجد عائلة السلطان" (1975)في عمان، و"مصلى العيد" في الامارات (1979).

يعرف الكثيرون "معاذا" ليس فقط معمارا متميزا حسب، وانما ايضا فنانا تشكيلياً، له رؤاه الجمالية الخاصة، كما انه مصور فوتوغرافي بارع، وهو بالاضافة الى ذلك محب للثقافة ويسعى الى نشرها ولاسيما الثقافة المعمارية، من خلال المؤتمرات المهنية او الثقافية التى ساهم ويساهم بها، او من خلال جهده التعليمي السابق في جامعات العراق. ويتعين القول بانه من اوائل الذين شجعوا وساهموا شخصيا في اصدار دوريات معمارية متخصصة رغم ان فترة صدورها لم تدم طويلاً.
نعلم ايضاً، ان منجز معاذ الالوسي المعماري متشعب، كما انه غزير، لكنه دائماً يثير قدراً واسعا من السجال حوله، لجهة لغته المعمارية غير العادية وعناصر اشكال تكويناته المترعة بحداثتها في آن، او الغارقة بتقليديتها في آن آخر؛ الموظفة كلتاهما بمهارة في حلوله التصميمية. ولهذا، وكما اشرنا في مطلع هذه الدراسة، فان عمارته كانت على الدوام حافلة بالتضادات، التى من خلالها استطاع المعمار ان يجدل فيما بينها ليقدم لنا منجزاً ابداعياً شديد الثراء ومشوباً بتعبيرية مؤثرة. احيانا يبدي المعمار ولعه في تكريس حضور التضادات اياها، بخلق معالجات تصميمية لم نجد مسوغاً وظيفيا مباشرا لها؛ وانما تدين بوجودها الى بواعث اخرى؛ بضمنها التهكم، المفضي لمرح مقصود، ما يستحضر الى الذاكرة معنى حكيم، لمقولة يابانية قديمة من"..ان الفنان الحقيقي قد يمّيز، باختلاف طفيف، اعماله المنتجة وقت انهماكه في فنه، عن تلك الاعمال التى يؤديها ابان استرخائه وقت فراغه. واذ يسعى وراء نظرته في تحقيق منجزه الابداعي، يتساءل الاخرون، عما اذا كان الفنان يعمل ام يلهو. بالنسبة اليه شخصيا: هو يجترح الاثنين معاً"!... اما بالنسبة لنا، نحن متلقي ومستخدمي عمارته، فهو فعلا يضعنا في موضع تساؤل دائم فيما اذا كان جاداً، حقا، بما فيه الكفاية؟!. ففي كثير من مشاريعه "تتعايش" جماليا قرارات تصميمية مبعثها الرصانة المهيبة تارة، مع تلك التى تشير الى مرح مسلٍ تارة آخرى.
ان عمارته التى تولي إكتراثا زائدا بالقيمة الجمالية، تظهر في نفس الوقت اهتماما عميقاً في تلبية احتياجات شاغلي تلك العمارة. انها بشكل وبآخر انعكاس لطبيعة شخصيته الودودة، الشخصية المحبة للغير، والمسكونة بالجديد، والجاهزة للتعلم من الاخرين. فكما ان عمارته، ولابأس من إشارة اخيرة، مترعة بالتضادات المثرية لمنجزه التصميمي، هو ايضا يحمل فيوض "اثارها"؛ فهو "كرخي" ، ولو انه ولد في الرصافة، وهو "بغدادي" قح، رغم ان لقبه ينتمي الى قرية آلوس، وكان عليه ان يدرس الزراعة ليتخرج معمارا!؛ وهو مصاب بـ "وطان" شديد، مفعم بنوستالجية الى عراقه، مع انه مابرح مقيم في قبرص. وهو مغيّب في بلده، لكنه حاضر بقوة في الحياة الثقافية المحلية في مكان سكناه، وهو يفهم التركية، مع انه مقيم في الجزء اليوناني من الجزيرة، ولا تشي قطعا "لحيته" الكثة الى اية مرجعية دينية، رغم مظهرها "الاكليريوسي" الوقور!. □□

د.خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون



#خالد_السلطاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العمارة الأسلامية، بصفتها مرجعية ابداعية
- كتاب (خالد القصاب: ذكريات فنية): -نصوص- على ضفاف النص الاساس
- نصف قرن على مشاريع - رايت - البغدادية: تصاميم العمارة المُتخ ...
- نصف قرن على مشاريع - رايت - البغدادية: تصاميم العمارة المُتخ ...
- العمارة، بصفتها رمزاً شعبوياً
- خاتمة كتاب - تناص معماري : تنويع على تطبيقات المفهوم- ؛ الصا ...
- ثمانينية قحطان المدفعي :التعقيد ... والتعبيرية في العمارة *
- عمارة قحطان عوني :المفهوم الخاص للمكان
- الطليعة المفقودة : عمارة الحداثة الروسية
- تداعيات ، في طريق الى معبر- ربيعة -
- عمارة دار الاوبرا في كوبنهاغن - نقد تطبيقي
- مسرحية الشاهد : الممثل ، حينما يتماهى مع نصه
- مسرح في لبنان :النظّارة والممثلون في - قفص - واحد
- تيارات عمارة ما بعد الحداثة : التفكيكية
- تيارات عمارة مابعد الحداثة : تيار - الهاي – تيك -
- فعل العمارة.. ونصها
- - رسالة خاصة جدا ..الى سعدي يوسف -
- العَلم العراقي : مرة اخرى
- العمارة الاسلامية : التناصية وفعاليات التأويل
- ثمانينية رفعة الجادرجي : الحداثة اولا ... الحداثة دائما


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد السلطاني - تنويعات العمارة -القوسية-