أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل التاسع















المزيد.....



ميس إيجيبت الفصل التاسع


سهير المصادفة

الحوار المتمدن-العدد: 2300 - 2008 / 6 / 2 - 08:49
المحور: الادب والفن
    



قدر الملك أن يتحول تدريجياً إلى حوت أبيض ليس له أعداء على الإطلاق حيث تخافه كل الحيوانات البحرية حتى الحيتان القاتلة الأخرى .

تاج العريان
==============================================

الآن يرى أمامه المياه الزرقاء والأفق المفتوح على ال "مالا نهاية" ، منذ قليل تخلص تماماً من مشاعر فأر تسلل من مركب المحروسة ، وأعطى قائده التمام بأن تفتيش المركب قد انتهى، وها هو يقف على رصيف رأس التين يتأمل الملك ببزته البحرية البيضاء وقامته المهيبة ، ما الذي جعل بدنه يقشعر برغم أن الملك لم يعد ملكا ، سار أمام قرقول الشرف ، والبيرق يتم تنكيسه ببطء من الصاري ، تقدم إليه حاملاً البيرق فأخذه الملك ووضعه مطوياً على ذراعه ، والتقت أعينهم لثوان فابتلع نظرة ازدراء ذى الجسد الضخم حتى أخذ صوت المركب يعلو على صوت السلام الوطني ، كادت دموعه تطفر من عينيه وهو يستمع إلى موسيقى "فيردى" ، هيء له أنه يستمع لسلام بلاده لأول مرة ، لم يتصور أبداً إنه إلى هذا الحد رائع ويكاد لا ينتهي، ظل يتابع المركب وهو يصغر شيئا فشيئا حتى ابتلعته المياه الزرقاء ، ما الذي جعل عينيه تدمعان قليلاً ؟ ويعود وهو يجر قدميه جراً ، لقد كان يكره هذا الملك ويؤمن بأن " فاروق" هذا خمورجى ونسوانجى ومن أعوان الاستعمار وأنه حامى حمى الفساد ، تحسس جيبه ليهديء من مشاعره ، ربت على صورة من الإنذار الذي اصطحبه "الملك" بلا شك معه ، كان ينتظر إجازته بفارغ الصبر ليطلع أباه "العريان" عليه .. من الفريق أركان حرب " محمد نجيب " باسم ضباط الجيش ورجاله إلى جلالة الملك:

(( انه نظراً لما لاقته البلاد في العهد الأخير من فوضى شاملة عمت جميع المرافق نتيجة سوء تصرفكم وعبثكم بالدستور وامتهانكم لإرادة الشعب ، حتى أصبح كل فرد من أفراده لا يطمئن على حياته أو ماله أو كرامته ، وقد ساءت سمعة مصر بين شعوب العالم من تماديكم في هذا المسلك حتى أصبح الخونة والمرتشون يجدون في ظلكم الحماية والأمن والثراء الفاحش والإسراف الماجن على حساب الشعب الجائع الفقير،ولقد تجلت آية ذلك في حرب فلسطين وما تبعها من فضائح الأسلحة الفاسدة وما ترتب عليها من محاكمات تعرضت لتدخلكم السافر، مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة في العدالة وساعد الخونة على ترسم هذه الخطى فأثرى من أثرى وفجر من فجر ، وكيف لا والناس على دين ملوكهم ، لذلك فوضنى الجيش الممثل لقوة الشعب أن أطلب من جلالتكم التنازل عن العرش لسمو ولى عهدكم الأمير" أحمد فؤاد " على أن يتم ذلك في موعد غايته الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم السبت الموافق 26 يوليو سنة 1952 والرابع من ذي القعدة سنة 1371ومغادرة البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه ، والجيش يحمل جلالتكم كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج.))

يعرف أنه لم يمت بعد وأن العصاتين العاريتين أمامه هما ما كانا تسميان ساقاه ، وأن هذا المسخ السمين الذي يملأ ربع فراغ غرفته هو ابنه "تاج" ، وان رائحة بول الأطفال وبرازهم وعرقهم الخالي من الأطعمة هي رائحته التي فشلت جميع المعطرات التي ترشها " نسل شاه" في التخلص منها ، وأن الوجوه الحمراء العجوز التي تلتف حول سريره هي وجوه الباشاوات الحقيقيين أبناء وأحفاد عائلة الأباظية الذين ظل ابنه " تاج" يصادقهم طوال سنوات دون رغبته.

نحا بضعف وبيد ميتة تقريباً يد الممرضة ، واصطاد من أعين زواره سؤالاً .. كيف مازال هذا الرجل يعيش حتى الآن ؟!

أراد أن يصرخ فجأة، فخرج صوته متحشرجاً متداخلة مخارج ألفاظه ، ولأنه فقد سمعه منذ فترة، أتى صراخه عالياً كنهيق حمار تعثرت قدمه، وبالطبع لم يستطع فهم كلماته إلا " تاج العريان " :

- يا للا يا ولد أنت وهو .. يا للا يا حافى يا بن الحافية.

لم يستطع " تاج" منعهم من زيارته قالوا :

- ده واجب يا باشا ،حد ليه في نفسه حاجة ، يا عالم هاتكون نهايتنا إزاى ؟!

أوصلهم إلى الباب وهو يعتذر لهم عن حالة الباشا الكبير وهم يكررون جملتهم نفسها ، كان جسمه قد ثقل تماماً ، شعر بأنه لا يقوى على العودة إلى قصره مرة أخرى ، لماذا هو متأكد هكذا من أنه سوف يموت قبل أبيه وأن أباه هذا سيعيش إلى الأبد ؟!

هز رأسه رداً على تحيـة سائقه ، ولا يدرى لماذا جلـس متثاقلاً بدون أن يشعر في السيارة .. انتبه أخيراً بعد ما سأله السائق مراراً :

- أمر الباشـا . . تحـت أمرك يا افندم . . علـى فيــن يـا " باشا"؟

لا يوجد مكان يمكنه الذهاب إليه سوى عيادة الدكتور " عبد الرحمن" فنطق باسمه وراح في سبات ، رأى أباه يسقط من مكان عال، ممتلئا بحبال كثيرة متشابكة ، كما لو كان يلعب عليها .. وكأنه مثلاً لاعب سيرك ، ثم أنه عندما سقط ،كان تحته وعاء به زيت يغلى ويتصاعد منه بخار كثيف ، ولكن أباه خرج من هذا الوعاء سليماً وهو يضحك وينفض عن ملابسه قطرات الزيت ويقفز كبهلوان ، جسده صغير كما هو عليه الآن ولكنه بكامل صحته ولياقته كصبي في العاشرة ، ثم إن طيوراً عملاقة تشبه كثيراً طائر الرخ الذي رآه في الموسوعات المصورة ، أخذت تحلق في فضاء المكان ، وتتمايل بريش أحمر تتدلى منه شراشيب كثيرة من الساتان الذهبي ، وبعد أن صفق لها الجمهور ، فتحت مناقيرها الضخمة في اللحظة نفسها، واقتربت من أبيه المسجى على الأرض في المنتصف ، وأخذ كل منقار جزءاً منه ، حتى صارت أعضاؤه المقطعة مثل ندف قطن تتطاير حول كوكبة الطيور ، بينما يمطر السقف دماءه الغزيرة ، وفجأة توقفت الموسيقى ، فلملمت الطيور أعضاءه ، وظلت تدور حوله وهى تهز شراشيب أجنحتها ثم تفرقت واختفت في الفضاء من حيث أتت ، فخرج هو من تحتها كالعفريت ، وظل يقفز ويرقص حتى وصل إلى مقدمة المكان ، وأخرج لسانه الطويل في وجه الجمهور الذي كان يصفق بحرارة ، ثم أن رجلاً دخل وفى يده سلسلة بها أسد متوحش ، أخذ الرجل يقترب من أبيه ضامر الجسم بينما موسيقى صاخبة ومرعبة تصم الآذان وما أن وصل إلى أبيه الذي مازال واقفاً في مواجهة الجمهور ولسانه متدل منه كمشنوق ، حتى أطلق الأسد عليه ، ظل أبوه يجرى ويقفز خوفاً من الأسد ويدور حوله ولكن الأسد تحين الفرصة والتقطه كقطعة لحم صغيرة دون أن يمزقه ودونما دماء مراقة كما توقع الجمهور تأوه الجميع . وهدأت الموسيقى ، وأخذ الأسد يدور حول نفسه متباهياً وفجأة استدار معطياً مؤخرته للجمهور ، وضرط ضرطة قوية ، اندفع على أثرها أبوه طائراً فوق رؤوس الجالسين وهم يقهقهون في بلاهة ويصرخون ويصفقون من الإعجاب بجنون .

انتفض بشدة على صوت سائقه :

- حمد الله على السلامة يا "باشا".

فكر انه سينقض الآن على " عبد الرحمن " كالمصيبة بدون أن يتذكر حتى استئذانه ، وما أدراه أنه في العيادة الآن، ثم لو صعد قد يطرده كالعادة فهو لايقبل أن يزوره أحد حتى لو كان " تاج " بدون تليفون أو تحديد موعد .

خجل أن يتصل به من محموله أمام السائق ليخبره بأنه تحت عيادته ، خاف أن يحرجه "عبد الرحمن" برد من ردوده غير المتوقعة ، فقال لسائقه:

- زور الحاجة "كمالة "، شوفها عايزة حاجة ، واشترى لها شوية فاكهة ، وخليك عندها لحد ما اتصل بيك .

تباطأ في الصعود وهو يفكر .. إذا اعتذر " عبد الرحمن " أو أجل صعودي ساعة أو ساعتين حتى يتخلص من إحدى نسائه ، سأجلس على المقهى المقابل ثم أتصل بالسائق ليعود بى إلى البيت .

ظل واقفاً أمام المصعد حتى تأكد من مغادرة سائقه ، أخرج تليفونه المحمول ، ولكنه فجأة تسمر في مكانه... الآن فقط يتذكر أنه لديه ابنة ! ظل يردد دون توقف.. سلمى.. وهو يشعر بورطة رجل نبتت له ابنة تحت قدميه وهو سائر في طريقه . خرجت من سيارتها التي صفتها بمهارة أمام مدخل العمارة ، ،ارتفع " البودى ستوميك" وهى تنحني لتلتقط مفاتيح السيارة التي وقعت منها ، فظهر جزء كبير من ظهرها ، ترتدي سروالها الكتاني الأصفر ساقط الخصر.. كم مرة منعها من ارتداء هذه الملابس ؟!

اختفى خلف البارافان الذي يخفى حجرة البواب، أراد أن يكذب عينيه وهو يتابع شاشة المصعد ، ويطلبه للهبوط ، لماذا تصعد الآن إلى الدكتور " عبد الرحمن" دون أن تخبر أحدا ؟ منذ متى وهى تتردد على عيادته ؟ ! عيادته ! بل شقته. هل يعقل هذا ؟ هل تكون سلمى ابنته واحدة من نساء " عبد الرحمن " ؟ ولم لا ؟ أليس ذئباً مفترساً حيواناً ؟ ألا يغلق على نسائه الباب في وجوده ؟ ألا يتخلص منهن في وجوده ؟ ولكن سلمى .. طفلته .. كيف تطورت علاقتها به لحد زيارته في بيته ؟! وأين كان هو ؟ صعد السلم تاركا المصعد ، كان يتصبب عرقاً ، ترتعش يداه غضبا ولا يعرف كيف سيواجه الأمر مع ابنته وصديقه ، لماذا لم يخف من " عبد الرحمن " على ابنته من قبل وهو يعرفه جيداً ؟ لماذا تركه يرمح في بيته مثل ثور هائج وهو يحفظ دناءته مع النساء عن ظهر قلب؟

باب العيادة مفتوح . أخذ " تاج " نفساً عميقاً وتنهد قبل أن يدخل عليهما ...العيادة صامتة تماماً ، حرص على ألا يصدر صوتا من خطواته الثقيلة على الأرض الخشبية . كانا في غرفة الكشف ، بابها نصف مغلق ، اقترب منهما أكثر وهو يشعر بدمائه تفور في عروقه ... جعله هاتف ما يتسمر في مكانه ليستمع بعد لحظات إلى نشيج ابنته ، وصوته الهادئ الحنون وكأنه يلقى قصيدة :

- أكم من المكروبين والفقراء والمحرومين والمرضى ، ومن ليس لهم مكان في الحياة وليس لهم مخرج منها ، هل تعرفين يا سلمى لماذا لاينتحرون ؟ على الرغم من أن الانتحار أسهل حل لهم . لقد اكتشفوا عبر آلاف السنين انه حل مستحيل . فأنت ستطلقين على رأسك رصاصة مثلاً وسيسقط جسدك ، لا يوجد أسهل من ذلك . ولكن المأساة ستبدأ بعد سقوط الجسد كخرقة ، فأنت لن تصدقي أبداً أنك مت ، ستظلين باقية فوقه في المكان نفسه تطلقين على رأسك رصاصة ثانية ، وثالثة ، وهكذا إلى ما لا نهاية.. سيهيأ لك أنذاك أن الرصاص لم ينفد بعد .. ستطلقين الرصاصة في اللا زمن ...في اللا نهاية المرعبة .. إذا كانت هناك ثمة كاميرا تستطيع التقاط صورتك في الأبد ، فستلتقطها صورة واحدة .. من شدة وسرعة تكرارها ستكون ثابتة . لا توجد كارثة في الوجود يا "سلمى " تضاهى الصور الثابتة . ستلقين بنفسك مثلاً من فوق برج القاهرة ، وسيتمزق جسدك إلى أشلاء صغيرة ، ربما ، ولكنك لن تصدقي أبداً أنك مت فستظلين هناك للأبد ، تصعدين وتلقينه لعدد من المرات لا يمكن حصره حتى بعد آلاف السنين ، وبعد أن ينهار البرج ، ستكونين أنت الوحيدة التي ترى أسياخه وستكونين أنت الوحيدة المجبرة على الصعود في مصعده السريع للطابق الأخير ، لتلمسي صدأ الحديد الذي لم يعد موجوداً على الإطلاق ثم تلقين بنفسك .

وأضاف بضيق :

- ... وهكذا .

ألقى بسيجارته التي حرقت أصبعه في المطفأة، بلله وهو يغالب ارتعاشه صوته:

- أعلم يا سلمى الجميلة أنه ألم لا يطاق ، أعرف أنك في البداية ستشفقين على نفسك ، ستشعرين أنك مجرد حشرة حقيرة تخلص منها ابن" الجوهري " واستراح ، ستذكرين دائماً سعادتك وهو ممسك بيدك، وكلامه عن رقة صوتك في التليفون ، وعن جمالك ، ولكن صدقيني يا" سلمى " سينتهي ذلك كله في يوم ما، ستكونين أنت الأفضل والأجمل ، ستشف روحك وسيحاط جمالك بهالة مجهولة من النور سيحتار الآخرون من أين تأتيك ،سينصهر صوتك في نشيج راق سيؤثر فيما بعد على كل المخلوقات . فالمهزوم في الحب أفضل من المنتصر يا " سلمى".

كان يدور حول كرسيه وكأنه يملى كلماته على طلبته في المدرج، يشعل سجائره ويطفئها بالهدوء نفسه ، ولا ينظر على الإطلاق إلى دموع " سلمى " المنهمرة دونما رغبة منها حتى في تجفيفها :

- سنجلس يا " سلمى " بعد سنين من الآن ، وسيكون لديك طفل صغير رائع سيدعونني " جدو" فأقبله ، وابتسم لك ابتسامة لن يستطيع أحد فهمها سوانا . لا أريد أن أخدعك يا " سلمى" . ربما ستحبين رجلاً آخر فيما بعد بالإخلاص والحرقة نفسيهما، وربما لن تستطيعي الحب مرة ثانية ، ولكن في هذه الحالة هل تعرفين ماذا سيحدث ؟ ستمشين مع " عمر الجوهري" بعد هذه الحياة في طريق مشمس ، وسيكفر عن كل الآلام التي سببها لك ، ستكونين بعد الحياة مع من تحبين .أنا متأكد من ذلك وأراه كما أرى دموعك الآن.

أخذ نفساً عميقاً ، وكأنه عائد من رحلة مرهقة وقال بصوت أبوي آمر :

- فقط عديني الآن بألا تحاولي الاتصال به أبداً ،هو بالطبع ولأنه نطع لن يتصل ، ولكن إذا حدث واتصل لا تردى عليه .

هزت رأسها عدة مرات ومازالت دموعها تنهمر ، بينما جلس هو على كرسيه ، وكأنه هرم فجأة هتف بصوت عال نافد الصبر :

- ما تمشى بقى يا" سلمى " . أنا رفضت طول عمري أتجوز وأخلف عيال علشان الكلام الفارغ ده ، إيه مافيش ورايا إلا " تاج العريان" وعياله ؟ ده إيه القرف ده ! روحي إعملى أي حاجة مفيدة في حياتك غير الحب والغرام . أقول لك روحي انتحري وخلصيني .

وانفجرت ضحكته الحادة المجلجلة ، فضحكت معه" سلمى " ضحكة باكية ، تناولت حقيبتها ، ولأول مرة رفعت يدها لتجفف دموعها ، دارت حول مكتبه وهى تقول بصوت مبلل بالدموع :

- ها تصل بيك يا " عمو" أول ماأوصل البيت .

نهض من على كرسيه وقبلها على وجنتيها ومسح دموعها ومسد شعرها ، كان على " تاج العريان " أن يختبيء في حجرة نومه بسرعة حتى لاتراه وهى خارجة ، و" عبد الرحمن " يودعها صائحاً:

لو ما صورتيش كتاب " إريك فروم " من مكتبة الجامعة صباحاً، وذاكرتِ اللي قلت لك عليه ، هاقتلك بنفسي .

" تاج العريان " الذي لم يشعر من قبل أنه مجرد جثة مثلما يشعر الآن ، وأنه ليس أى جثة و إنما جثة حمار ظل يتفرج على صديقه وهو يقوم بدور أب ابنته أمامه .. لم يكن يدرى أبداً ً أن ابنته كبرت إلى حد التفكير في الموت عشقا ، ولكنه عرف أخيراً لماذا كان يحب" عبد الرحمن " طوال الوقت دون أن يفهمه.

دخل عليه بعد مرور ساعة ، و لأن "سلمى " أغلقت خلفها باب العيادة ، فقد قفز " عبد الرحمن " من على كرسيه وصرخ مرعوباً :

- يلعن أبوك يا" تاج" . انت دخلت هنا إزاى ؟

ثم جلس وقال بصوت متعب وهو يغلق أوراقه التي انهمك في كتابتها فور خروج" سلمى ":

- عارف يا " تاج" انت بقيت في حياتي زى عفريت العلبة ، والمصيبة انى مش عارف أتخلص منك زى ما باتخلص كل من النسوان .

أجاب على تليفونه بصوت فرح :

- حمد الله على السلامة . نامي كويس بقى . ماتنسيش انت عندك شغل بكره.

- لا . لا . نصف قرص بس . باى .

اطمأن " تاج" ان سلمى وصلت إلى البيت ، وقرر في تلك اللحظة ألا يصرح بشكره وعرفانه لـ " عبد الرحمن " ، وألا يشير من قريب أو بعيد أنه كان أمامهما طوال الوقت يتنصت على ابنته وصديقه ، من أين له أن يبدأ ... ؟ من شكوكه فيهما ؟ من سوء نيته المطلقة وفساد روحه المقيم أمام رجل يخذله كل يوم ويستعصى على الفهم . أفاق على صوته البرم وهو يسأله :

- أنت دخلت إزاى فعلاً يا" تاج" ؟ انت معاك مفتاح العيادة بتاعتى كمان . طبعاً مش ضابط بوليس .

قال " تاج" وهو يحاول تقليد صوته الساخر :

- والله يا شيخ المفروض أخذ مفتاحك ، علشان لما تموت وتروح في داهية ، اعرف أدفنك . أنت أهبل يا " عبدو " الباب كان مفتوح.

قال " عبد الرحمن" بشك :

- يمكن .. أنا كان عندي زبونة . وافتكر أنها قفلت الباب بعد ما مشيت .

- زبونة الساعة اثنين الظهر ، ولا زبونة لحاجات ثانية.

تبددت شكوك " عبد الرحمن " تماماً وقال بصوت حازم مطمئن :

- ابعد عن حياتي الخاصة يا " تاج" . مش معقولة أهرب طول عمري من الجواز ، وبعدين تيجى أنت تحقق معايا كل يوم والتاني .

- يا حمار أنا قلقان عليك . عاجبك حالتك دى قاعد مرعوب ووحيد زى العرسة في الجحر، أتجوز يا أخي أي واحدة حتى علشان نعرف إنك مت .

أراح " عبد الرحمن " رأسه على مسند كرسيه وقال وكأنه يملى على أحد رسالة ما:

- ستعرف يا" تاج" ستعرف . الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن الجثث تتعفن .

ثم نهض فجأة صارخاً :

- يا " تاج " حل عنى بقى . عندي ورقة عمل مفروض اكتبها للمؤتمر بكره..واليوم كله ضاع عشان...

ابتسم " تاج العريان " بحنان وغمز بعينه وهو يقول ببطء ليغيظه :

- عشان إيه ؟ هه ... ثم ما تتنيل تكتب ، وأنا ها عملك قهوة ، واشربها معاك لحد ما ييجى السواق وأمشي على طول .

بدهشة هز " عبد الرحمن "رأسه وهو يقول مبتسماً أيضا:

- الباشا هايعمل قهوة . عجايب.

ثم صاح ليسمعه " تاج " في المطبخ :

- وعلى فكرة يا " تاج" أنا مش موقف عربيات علشان تستنى سواقك عندي.

لم يعلق " تاج" وكأنه لم يسمعه ، ظلت يده اليمنى تبحث عن البن والسكر ، واليسرى عن اسم " حازم الصفتى" في ذاكرة المحمول ، وجده فطلبه ، وأشعل الغاز وقال بصوت منخفض ودود:

- حازم يا واطى ، أنت افتكرت انى عشان هاقدم استقالتى خلاص لا هاتخاف منى ولا تسأل عنى .

- طيب اسمع . أنت فين ؟.

- كويس قوى ، أنا كمان في المهندسين ، جنب بيتك انزل قابلني بعد خمس دقائق .

- أمال " باشا " يعنى إيه يا واد . طيب خليها ربع ساعة

- آه كويس في بيتزاهت . أنا على كل حال في جامعة الدول العربية .

- لا والله يا حازم . خير .

- لا رقبتك إيه يا رجل ؟ أنا عاوزك في خدمة أقل من رقبتك بكثير.

فارت أفكاره أكثر من مرة مع القهوة ، تساءل منذ متى يلهو " عمر الجوهري " بابنته ؟ كان موقنا أنه أغواها لينتقم منه ، ظلت تتقافز أمامه وجوه " سلمى " و" نسل شاه" و"عارف" و"كمالة" و" أبوه" و"لوسي" .. آه إنه يشبه " لوسي" هذه التي كانت نائمة على بعد جدار واحد بينما تقتل ابنتها ويمثل القاتل بأعضائها الأنثوية.

الذي لن يعرفه " تاج العريان " ولا أي مخلوق على وجه الأرض أبداً أن "لوسي" لم تكن نائمة في تلك اللحظة ، لقد ارتدت قبلها ملابسها وهى على شفا الجنون وقررت أن تخرج لتصرخ في مكان ما دون أن يراها أحد .

فتحت باب الكوافير ، وجدت " نهلة " تتحدث في التليفون فزجرتها :

- ارمي الزفت ده .

تمتمت نهلة مرتعبة:

- اطمنى يا مدام ، ونامي حضرتك ، الست " نفرت" فوق وأنا ها قفل المحل وننام حالاً.

تمنت " لوسي" لابنتها الموت وهى تسمع اسمها ، ونهلة اعتقدت أنها كانت عائدة من الخارج كما قالت في التحقيق بينما كانت " لوسي" خارجة.

أخذت فكرة واحدة تصفعها .. أنها عجوز .. هكذا يراها " أيمن بركات " هكذا .. كما كانت ترى الكثير من الرجال ، كانت في العشرينيات من عمرها لا تكل من تأمل كروشهم المستديرة وترهلات لحمهم ... أنفاسهم المتحشرجة اللاهثة أكثر ما كان يرعبها أن يموت أحدهم وهو فوقها .. لمعة صلعاتهم ، وأيديهم المرتعشة ، شعر صدرهم الأبيض ، تتأوه تحتهم حسب قواعد مهنتها لتشعرهم بفحولتهم وهم لا يدرون أنها تساعدهم للوصول إلى ذروات خافتة وكريهة حتى تتخلص منهم بأسرع ما يمكن لتظل رائحتهم الخاصة جداً وكأنها رائحة سترة قديمة نسيت فى سندرة مغلقة لسنين تطاردها لأيام . هي عجوز الآن. ظلت تصفعها الفكرة ولا بديل أمامها إلا الصراخ فلقد وصل الأمر ب"أيمن بركات " إلى إغلاق تليفونه في وجهها كلما لمح اسمها عليه أو رقمها بعدما حذف اسمها. لم تعد تدرى . الشارع خال تماماً ومؤهل لدخول الشتاء . يمكنها الصراخ الآن .. استدارت بسيارتها في اتجاه الأهرامات ، عيناها متورمان وحمراوان ..سارت ببطء حذاء الرصيف . يا لها من ليلة! حتى السيارات اختفت من الشارع.

حملقت في وجهه وهو يتطلع إليها بابتسامة بلهاء وعيون ميتة تشبه عيون السمك المجمدة.. كان يفترش الجزيرة الوسطى الخضراء بالشارع ..أمامه عدة عمله .. فأس ، قصعة ، معاول هدم . تجاوزته ولكنها توقفت وهى تسأل نفسها كيف سمعت كلمته المبحوحة الممطوطة الداعية المتسولة الفاجرة التي رنت في سكون الليل كقطعة معدنية ألقيت على أرضية من السيراميك .

- آجى.

عادت بالسيارة إلى الخلف، وبدلاً من رغبتها فى الصراخ ضحكت ساخرة وهى تسأله بصوت عال مهدد :

- تيجى ؟ هه؟!

وقف بجلبابه الذي صار بلا لون من كثرة اتساخه، وعلى مصباح الشارع أعطته نحو الثلاثين من العمر ، عينان واسعتان ميتتان ، كوفية يحيط بها رأسه وعنقه معاً – لاتعرف كيف - ، وجه أحالته شمس الهرم إلى خرقة كالحة ، جذع مستقيم يكاد الشباب أن يقفز منه.

زم شفتيه على الفور ، وتهته بجدية وخوف وتسول :

- يمكن الهانم عايزة تهد حيطة أو بلكونة أو ... أو... أى خدمة ياهانم .

استمعت هي نفسها إلى كلماتها باندهاش لم يخف عليه:

- وبتاخد كام لما تهد بلكونة؟

- على حسب البلكونة يا هانم. واللي تأمري بيه. والله أنا ما تعشيت النهارده .

كانت وكأن شخصا ما يضع الكلمات على لسانها :

- الوقت متأخر . لكن ممكن تشوفها دلوقت وبعدين تبقى تهدها بكره.

- تحت أمرك يا هانم.

- اركب .

وكأنها منومة تنويماً مغناطيسياً، فتحت له باب العمارة ثم باب الشقة وبلا مبالاة أدخلته ، أشارت له إلى البلكونة التي تود في الغد هدها وعمل نافذة بدلاً منها ،وعندما أراد فتحها نهرته قائلة :

- بكره. قلت لك بكره.

جلس على الأرض كما أمرته ودخلت إلى المطبخ، ألقت ملابسها على أرضيته وأحضرت طبقاً وضعت فيه كيفما اتفق ومن الثلاجة مباشرة نصف فرخه، أرز ، فاصوليا خضراء ، وخرجت له عارية تماماً ، فغر فاه فصرخت في وجهه :

- كل.

أشعلت سيجارتها وظلت تتأمله بهدوء وهو يلتهم الطبق وعينه فيه حتى لايشغله عريها ، شرب من دورق الماء مباشرة وظل ينظر فيه ، والدقائق تمر عليه بطيئة .. من يدرى من تكون هذه المجنونة ؟ لقد رأى مسدساً بجوار رف الباب وهو داخل ، أتكون زوجة ضابط مثلاً ؟ شعر أنها تقترب منه فازداد رعباً ولكن عينيه ظلتا في دورق الماء. أمسكت الدورق من يده ووضعته إلى جواره ، لكزته في كتفيه بيديها الاثنتين فاستلقى مرغما على ظهره ، رفعت جلبابه وغطت به رأسه وذراعيه ، وجلست عليه وهى مازالت ممسكة بطرفى الجلباب حتى لا يزيحه عن وجهه .

تململ بالفعل وأراد إزاحته فقالت له هامسة مهددة :

- ولا حركة .

ظلت تمتطيه حتى استطاع سماع رجفتها الممتدة الصاخبة وشعر بهمودها فوقه ، أراد أن يتملص منها ليعتليها فأبقته بالهمسة المتعبة نفسها:

- ولا حركة .

شعر أنها أشعلت سيجارتها الثانية ، ولكنها ظلت تتأرجح فوقه حتى جعلته ينخر بقوة ، سدت فمه بجلبابه حتى خفت صوته تماماً ، ونهضت ببطء من فوقه ، أنزل جلبابه الملوث ، مسح به بلله ، واستيقظت عيناه الميتتان ، وظلتا تنظران إلى ظهرها العاري ، ومؤخرتها وهى ترتج ، عادت عارية بثديين متهدلين قليلاً ، ألقت في وجهه خمسمائة جنيه ، وقالت بنبرات حادة مهددة :

اعتبر انك هديت البلكونة . انس كل حاجة عن الشقة دى، والعمارة دى ، والحته دى كلها.

وسددت إصبعها إلى صدرها وهى تقول بصوت عال :

- وطبعا الست دى .. وإلا.. فاهم. باب العمارة مفتوح ، اقفله بعد ما تغور.

فتح فاه لينطق ، فهتفت به :

- اخرس

وعندما ظل واقفاً ببلاهة ، وضعت في جيبه نقودها ،

وأمسكته من جلبابه ، كما تمسك فأراً من ذيله، وأخرجته ، وصفقت خلفه الباب .

هيء له أن آخر ما سمعه :

- جرب ألا تنسى ما حدث . جرب.

ما لن يعرفه "تاج العريان " ولا "لوسي " ولا أى مخلوق على وجه الأرض أبداً أن الرجل ، استسلم لمخاوفه منها فنفذ ما قالته بالحرف الواحد ، ركب إلى الفيوم وحدد حركته فيما لا يزيد عن فدان حكم على نفسه حتى نهاية عمره بألا يتجاوزه أبداً ، اشترى بنقود تلك الليلة سمكاً من الصيادين وباعه في سوق صغيرة ببلدته ، وظل يشترى ويبيع وعيناه ساهمتان في أعين السمك الميتة أمامه ، وسره الذي لن يستطيع البوح به لأي مخلوق ، السر نفسه الذي جعل " لوسي " تظل تتجول في ملابس سوداء رثة ، تتطلع إلى وجوه كل الرجال الجالسين لتأجير عضلاتهم ، والباعة الجائلين ، والمتسولين ، علها تجده بينهم ، قاتل ابنتها كما أقنعت نفسها دائماً ، على الرغم من أن ساعة الجريمة "العاشرة مساء" كما حددها " عمر الجوهري " كانت قبل وصولها وهذا الرجل إلى البيت، ربما فى اللحظة التى تحولت فيها صرختها إلى ضحكة ساخرة ، وربما فى اللحظة التى أزكمت فيها رائحته أنفها عند ركوبه السيارة إلى جوارها ، وربما فى لحظة شرودها وسؤالها وعيناها تتأملان شارع الهرم .. لماذا تبدو لها الحياة وكأنها توقفت فجأة ؟ ، هل احتفظت بسرها لكي يظل طيفها يجوب الشارع ؟ يجوبه إلى الأبد حتى بعد أن تتغير خريطة شارع الهرم ، وبعد ألا يكون للجزيرة الخضراء وجود . سيظل طيفها بتشمم العابرين عله يجد رجلاً له رائحة نجيل مبلول معبق بدخان عادم السيارات .

= يتبع =



#سهير_المصادفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميس إيجيبت الفصل الثامن
- ميس إيجيبت الفصل السابع
- ميس إيجيبت الفصل السادس
- ميس إيجيبت الفصل الخامس
- ميس إيجيبت الفصل الرابع
- ميس إيجيبت الفصل الثالث
- ميس إيجبت - الفصل الثاني
- ميس إيجيبت


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل التاسع