قبل سقوط نظام البعث الفاشي بفترة، طرح الوطنيون العراقيون مشروع المصالحة ونشر روح التسامح والعمل على اجتثاث حزب البعث من المجتمع العراقي فكراً وتنظيماً لوضع حد لدورات العنف السياسي الذي عانى منه الشعب لفترة طويلة. وبعد سقوط النظام اشتدت الحاجة والمطالبة بتحقيق هذه الأهداف الوطنية والإنسانية النبيلة. ولكن يبدو أن هناك فئة تعمل عن قصد لتضليل الناس وخلق الالتباس حول هذه المفردات (المصالحة والمسامحة والاجتثاث).
فبعد إلقاء القبض على صدام حسين، وجه الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، كل على حدة، نداءً إلى الشعب العراقي، أكدا فيه، أنه حان الوقت لإجراء «الصلح بين اطراف المجتمع العراقي وإقامة دولة تتمتع بالاستقرار». وهذا بالضبط ما كان يدعو إليه المخلصون العراقيون منذ سنوات.
ولكن حاول أيتام النظام المقبور ومرتزقته من العرب، استثمار الموقف وتفسير المصالحة بين أطراف المجتمع العراقي أنه يعني المصالحة مع حزب البعث. بل راح البعض منهم إلى أبعد من ذلك، فطالبوا حتى بمشاركة البعث في الحكومة... وادعوا أن أغلب البعثيين غير مسؤولين عن جرائم صدام حسين. واستغل هؤلاء الفرصة فشنوا حملة ضارية ضد فكرة اجتثاث البعث وآيدولوجيته العنصرية الطائفية البغيضة وفسروها بشكل مضلل بأنها تعني قتل البعثيين. وفعلاً استلمت رسائل من أصدقاء قلقين من جراء ذلك، يستفسرون (هل صحيح أن اجتثاث البعث يعني قتل البعثيين؟.. وإذا كان كذلك، فمتى يتخلص العراقيون من دورات العنف والعنف المضاد؟). وعليه أرى من المفيد توضيح هذه المفردات.
من نافلة القول، أن المقصود بالمصالحة هنا هو المصالحة بين مختلف مكونات المجتمع العراقي، الأثنية والدينية والمذهبية وعلى الأحزاب والقوى السياسية الوطنية، أن تترك خلافاتها الفئوية والثانوية جانباً و تتآزر وتركز على الأولويات وعلى رأسها المصلحة الوطنية. بطبيعة الحال، هذا النداء لا يعني مطلقاً، تأهيل حزب البعث، المسؤول الأول والأخير، عن جميع الكوارث التي حلت بالشعب العراقي منذ إنقلاب 8 شباط 1963 الأسود وحتى سقوطه الأبدي في يوم 9 نيسان 2003 المجيد.
وتأتي حملة المصالحة مع البعث، تحت ستار مزعوم: "عدم عزل السنة العرب ولزوم إعطائهم دوراً أكبر في العراق الجديد."! والإدعاء بأن حزب البعث يمثل أهل السنة العرب (كذا). بطيعة الحال، إن هذا الإدعاء باطل ومضلل من أوله إلى آخره. فحزب البعث هو حزب علماني مشوه، قومي، عروبي، تبنى الآيدولوجية النازية الألمانية وطبقها بأبشع الأساليب الستالينية، ولم يسلم من جوره جميع مكونات الشعب العراقي وخاصة رجال الدين من مختلف المذاهب بمن فيهم أهل السنة. كذلك نعرف أن هناك قياديين في حزب البعث ينتمون إلى جميع الأعراق والأديان والمذاهب، ساهموا في جرائم النظام الساقط.
ويجب التوكيد على إن مشكلة العراق ليست صراعا سنيا وشيعيا بل هي صراع الغالبية من سنة وشيعة وعرب وكرد وتركمان وسريان وصايئة وغيرهم ضد أعداء الديمقراطية من فلول صدام والمتشبثين بأيديولوجية العنف البعثية الفاشية والأصولية الدينية المتطرفة. فالسنة العرب والاكراد وبقية الطوائف والشرائح الأخرى من الشعب العراقي, عانوا كثيراً من نظام البائد.
نعم، نحن ضد إعادة تنظيم حزب البعث و مشاركته في السلطة. لأن تاريخ هذا الحزب مليء بالعنف والغدر وحوادث القتل، منذ تأسيسه في أربعينات القرن الماضي ولحد الآن وحتى مع من تحالف معهم، سواءً كانوا في السلطة أو خارجها. وهذه السياسة هي نتاج للآيديولوجية البعثية التي هي نسخة متطرفة من النازية والفاشية. وصدام حسين صعد إلى قمة الحزب والدولة لأنه يتمتع بصفات شخصية عدوانية جعلته الشخص الأنسب والأكثر انسجاماً من غيره، مع آيديولوجية البعث العنصرية الطائفية المعادية للإنسان. لذلك فإذا ما سمح لهذا الحزب بحرية العمل السياسي، وحتى تحت إسم آخر، فسوف يعود كما كان في الماضي لأنه يمتلك عشرات المليارات من الدولارات حيث استقطع 5% من واردات النفط لمدة 34 عاماً وتنظيماته قد حافظت على هيكليتها وجاهزة تنتظر اللحظة المناسبة للوثوب إلى السلطة من جديد، والانقضاض على الآخرين، كما حدث في يوليو/تموز عام 1968 . لذلك فبمجرد الحديث عن السماح لحزب البعث بالعمل ومشاركته في الحكم، يثير الرعب والهلع في نفوس العراقيين ويعيد إلى ذاكرتهم المناظر المأساوية المروعة والشعور بالخيبة وبالتالي يجعل أغلبية العراقيين ضد التحولات الجارية وفشل دمقرطة العراق والعودة إلى نقطة الصفر وتكرار مسلسل العنف.
إذَنْ، ما العمل مع مليوني عراقي أرغمهم النظام بالإنتماء إلى حزبه؟ هؤلاء هم أبناؤنا وأخوتنا تعرض البعض منهم إلى عملية غسيل دماغ لتنفيذ الجرائم ومعظم المنتمين الآخرين تعرضوا للقهر والظلم وأجبروا على الإنتماء من أجل ضمان لقمة العيش أو مقعد دراسي في الجامعة.. الخ وأغلبهم أبرياء. ومن هنا تأتي أهمية المسامحة لأننا لسنا ضد تأهيل معظم البعثيين كأفراد من الذين انتموا إلى حزب البعث مضطرين ولم تتلوث أيديهم بالجرائم. فمن المصلحة الوطنية إعادة هؤلاء إلى الوظائف غير الحساسة في الدولة كمواطنين صالحين لا كحزب خاص بهم وبعد أن يتعهدوا للشعب بالتخلي عن حزب البعث ومبادئه الفاشية وإدانتهم للعنف والإرهاب وقبولهم الديمقراطية. أما الذين ارتكبوا الجرائم بحق الشعب، فسيحاسبون وفق القانون ويشكل هؤلاء نسبة ضئيلة جداً من المجموع الكلي للمحسوبين على البعث.
أما الاجتثاث فلا يعني مطلقاً قتل أحد، بل يعني تطهير المجتمع العراقي من فكر البعث الفاشي. وللتوضيح فقط، يمكن تشبيه الإنسان بالكومبيوتر. فالمواطن الذي تعرض إلى غسيل دماغ وتم شحنه بأفكار تدميرية وتحويله من إنسان مسالم يساهم في بناء وطنه والعيش بسلام مع الآخرين، تحوله الآيدويلوجية الفاشية (السوفتوير) إلى أداة عنف عدواني يرتكب أبشع الجرائم ضد شعبه بإسم إرادة الأمة معتقداً بأنه يخدم الشعب والأمة، وهو بذلك أشبه بالكومبيوتر الذي نصبت فيه برامج (سوفتوير) فاحشة ومنافية للإخلاق. فللتخلص من برامج ضارة لا نحتاج إلى تدمير الكومبيوتر، بل يكفي القيام بحذف البرامج الضارة منه ونصب برامج مفيدة مكانها. كذلك في حالة الإنسان الذي تم تشويه عقله بالأفكار الفاشية الضارة، لا يجب قتله بل العمل على تأهيله وإعادة تثقيفه وتخليصه من الأفكار الفاشية السيئة. الفرق هنا هو أن العملية سهلة وسريعة في حالة الكومبيوتر، ولكنها صعبة وتستغرق وقتاً في حالة الإنسان. ولكننا نعرف أن معظم الذين انتموا إلى البعث لم يكن عن قناعة فكرية.. ولذلك فالعمل على تأهيل هؤلاء ليس صعباً.
لذلك، فالعراق الجديد، يحتاج إلى حملة ثقافية مكثفة ومستمرة، يقوم بها المثقفون والسياسيون، من مختلف الإختصاصات، التربويون، والإعلاميون وعلماء النفس والاجتماع ورجال الدين... الخ ابتداءً من الأسرة ورياض الأطفال إلى الدراسات العليا، بهذه الحملة والتذكير المستمر بجرائم البعث في وسائل الإعلام دون انقطاع، تماماً كما تعاملت ومازالت، الدول الأوربية الديمقراطية مع الفاشية والنازية بعد الحرب العالمية الثانية، وشعارهم (لكي لا ننسى). فدائماً يعملون على تذكير شعوبهم بالمآسي والكوارث التي جلبتها عليهم هذه الآيديولوجيات المعادية للإنسان ولذلك نجحت عندهم الديمقراطية وحققت شعوبها قفزات هائلة في التقدم الإجتماعي والرفاه الإقتصادي والحرية الفكرية والتقدم العلمي والتكنولوجي، بينما بقيت الشعوب المحكومة بالأنظمة المستبدة متخلفة.
وعليه، لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي سليم في العراق الجديد، ما لم يتم اجتثاث جميع الآيديولوجيات التي تتبنى العنف وتعادي الديمقراطية، سواءً كانت علمانية أو دينية. فكما لا يمكن الجمع بين الصيف والشتاء في ذات الوقت على سطح واحد، كذلك لا يمكن الجمع بين الديمقراطية والآيدولوجيات الفاشية في بلد واحد.