أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل الثامن















المزيد.....


ميس إيجيبت الفصل الثامن


سهير المصادفة

الحوار المتمدن-العدد: 2298 - 2008 / 5 / 31 - 09:47
المحور: الادب والفن
    



كلما اعتلت مجموعة من البشر ذروة الدرج تحاول القضاء على من يحاولون الصعود خلفها حتى لا يزاحموها فوق القمة أو يزعجوها من القاع.

عبد الرحمن الكاشف
==============================================

تمعن في وجهه بنظرة طويلة باردة :

- أنت ما نمتش كويس يا "عارف".

أراد " عارف" أن يخبر الدكتور " عبد الرحمن " بأنه بالفعل أصبح مثل الدولفين لا ينام مطلقاً ، أو أن نصف مخه ينام والآخر يبقى يقظاً في انتظار قتيلة تنام على صدره وتمنحه من صنوف الحب ما لم يخطر على بال بشر ، ما لم ير مثله على شاشة السينما ولم يطالعه في أية قصة حب ، ولا يستطيع الخلاص منه ، ولا يستطيع أن يجهر به لأحد ، فالجهر به لا يعنى إلا أنه هو القاتل .

اكتفى بان تمتم وهو يهز رأسه يأساً :

- أنا ما بانامشي خالص يا" عمو "

همهم " عبد الرحمن " بصوته الساخر الحنون :

- آه حب ، وحاجات من دي ؟

- أنا عارف بقى ؟

- ما أنا عارف إنك "عارف" .

وضحك ضحكته الحادة المجلجلة، كانا يتجهان إلى ميدان الجيزة حيث ترك "عارف " سيارته ، وعليه الآن أن يعيد الدكتور إلى عيادته لأن سيارته في الصيانة ، لم يقل له شيئاً، لم يستطع أن يحكى له قصة كابوسه ، فلقد أصبح يشك الآن فى كونه كابوساً ، لا يدرى لماذا أراد التخلص منه بسرعة ، ولكن الدكتور " عبد الرحمن " هتف فجأة كطفل نزق:

- " عارف" ماتعزمنى على الغداء .

أجابه " عارف بدهشة وضيق ونظرة علها تثنيه عن عزمه هنا!!
ولكن الد كتور " عبد الرحمن " جره جراً :

- آه في المطعم ده.

لم يكن مطعماً ،كان دكان سمك رائحته زنخة ، به ثلاث مناضد فقط لا غير مغطاة بمفارش من المشمع القذر المنقوش بورود زرقاء ،جلسا وطلب له " عارف " ( بلطي مشوي ) ، التهمه وهـو يهش الذبـاب من حولـه ، وسأل هـو بمخارج ألفاظه الواضحة والمميزة :

- فيه شوية جمبري ؟

وبرغم انه أراد أن يكون شعبياً إلا ان الواقفين نظروا إليه جميعاً فى اللحظة نفسها ، يبدو أنه نطق كلمة " جمبري " بلكنة أمريكية ،فضحك العامل على الأورمة وقال مقلداً راءه في كلمة جمبري :

- لا والله الجمبري خلص، ولم ينس أن يتأمله من نظارتيه حتى حذائه اللامع ، بينما تهتز شفته السفلى السمينة طرباً واستغرابا.

دفع " عارف " الحساب وهو يتحاشى نظرات الواقفين العدوانية الساخرة ، بينما خرج الدكتور "عبد الرحمن " مفرود الظهر كعادته ، رافعاً رأسه وهو يقول بصوت عال :

- السمك كان لذيذ جداً. . شكراً ياريس . سلام عليكم .

وما أن استدارا حتى هاجمتهما من الخلف عاصفة من الضحك العالي البذيء النبرات.

سارا في ميدان الجيزة ،توقف الدكتور مرة أخرى عند عربة أى شيء فيها بجنيه ، وكأنه لم يكفه ما حدث في دكان السمك ، أخذ يهز رأسه ويبتسم للبائع ويقول :

- ما شاء الله ، يا سلام كل حاجة بجنيه بس.. يا سلام ..!

نظر إليه الرجل بفتور وغيظ وتنهد بغلظة :

- آه .

انتقى علبة كبريت غطاؤها قذر مسود من كثرة الأيدي التي قلبتها طوال اليوم ، وشريط أسبرين،وبكرة خيط بيضاء استحالت إلى لون أشيب فريد ، و" عارف " يلكزه :

- يللا يا دكتور .

ولكنه ببطء وهدوء قال له :

- ادفع خمسة جنيه يا" عارف " أنا ما عنديش غير الفيزا كارد.

دفع " عارف " ، والبائع الذي يتميز غيظاً قال بنفاد صبر وهو يضرب ذبابة على وجهه :

- خد حاجتين كمان .

أجاب الد كتور " عبد الرحمن " بثقة وأدب زائد

- لا ، شكراً .. كفاية كده .. أنا أخدت اللي محتاجه.

نهض الرجل من على فرشته وكأنه سيضربه ونهره آمراً:

- باقي لك اثنين جنيه خد بيهم حاجتين بأقول لك ما فيش فكة.

- طيب ممكن ميه ، علشان الأسبرين .

وفتح بالفعل حبتين من شريط الأسبرين وابتلعهما وهو مازال مبتسماً .

قال الرجل بعداء وسخرية:

- مفيش ميه ، اشترى قزازة من أى كشك ، وبعدين الأسبرين ده خطر .. هيلزق في معدتك ويموتك .

ضحك الدكتور " عبد الرحمن " بود وهز رأسه موافقاً

- فعلاً.. فعلاً.. كلامك كله صحيح .. ولا الدكاترة والله .

زفر الرجل بالعدوانية نفسها والغلظة وهو يشيح بيده :

- بلا دكاترة بلا زفت .

ظل "عارف " يتأمل الرجل الغاضب وهو يودعهما بعينين ساخرتين ويبصق بغل خلفهما ، بينما خلع الدكتور " عبد الرحمن " معطفه الخريفي ،ووضعه على ذراعه ، ثم وضع يديه في جيبى بنطلونه وسبقه بخطوات وهو يصفر وكأنه فتى في الثامنة عشرة من عمره وقال بعد فترة بهدوء وهو يتأمل كلماته كما لو كان يجيب عن سؤال طالب في إحدى محاضراته :

- الناس يا "عارف" تكاد أن تضرب بعضها البعض في الشوارع ، وخلف عجلات القيادة ،وفى الحافلات ، وعند مداخل البيوت ، وفيما تبقى من مصانع ومكاتب وفى أثناء الرقص ، وعند الزواج والطلاق ، وعند الولادة والمضاجعة. الناس غير مستريحة يا " عارف" ليس من الفقر والقذارة والزحام فقط .. لا، هناك شيء أعمق من كل ذلك، ربما كان اختباؤهم خلف حجاب وقفزهم من قطار الزمن قبل ألف عام إلى لحظة مجهولة لا يريحهم تماماً ..ربما كان اختيارهم للكسل والعمل من أجل الموت وتسليمهم بأنهم سيعيشون حياة أفضل في الجنة لا يريحهم تماماًعندما أسافر إلى أمريكا وأعود أشعر أنني لا اركب طائرة وإنما عربة زمن تعود بي أكثر من عشرة قرون إلى الوراء دفعة واحدة .

ثم ارتفع صوته غاضباً وبدا وكأنه يخطب فوق منبر ، وبدأ الناس يتطلعون إليه وكأنه مجنون:

- ميدان الجيزة هذا.. منذ عشرات السنين لم تفلح حكومة ..أية حكومة في تنظيمه، لم يلق فيه شخص ما نافورة تهديء من غيظ الناس ، لم ينحت فيه فنان تمثالاً بديعاً يجعل الناس تخجل من أسمالها وقذارتها ، ثم هؤلاء الناس الذين يسيرون مفرشحين على غير هدى يأكلون ويشربون ويتناكحون ويتخيلون أنهم يعلمون أولادهم ، وهم أبداً لا يتوقفون ليتساءلوا إلى أين هم ذاهبون ؟!
فجأة أمسكه من رسغه وقال هامساً :

- أنا أعرف من قتل " ميس إيجيبت"

شحب " عارف " تماماً وكأن دماءه كلها هربت منه ، مسح حبات عرق ظلت تهطل في عز الخريف ، وفتح عينيه على آخرهما ، وتوقف عن السير ، بينما استمر الدكتور" عبد الرحمن " يهمس وكأنه بالفعل قد جن :

- قتلها هذا القبح .. انظر حولك .. إن الجميع يتسابقون لتحقيق أكبر قدر ممكن من القبح . لا ، ووصلت بهم الصفاقة إلى أنهم يغنون بأصواتهم النشاز عن جمالهم وجمال بلادهم ، يا أخي أنت فنان ، فتأمل هذه الوجوه المريضة الصفراء أو الزرقاء ، تأمل المباني المنفرة القذرة التي لم تدهن ولم تغسل منذ سنوات ، تأمل أكوام القمامة التي تحتل كل الشوارع على حد سواء، تأمل الهلاهيل التي تحيط بك من كل جانب، يا أخي مستحيل أن يخرج من كل هذا رمز واحد للجمال ، فما بالك بملكة جمال!

تخيل " عارف " تنفيذ الفكرة سينمائياً كنهاية لفيلمه ، تتجول الكاميرا بين كل مظاهرالقبح والبلادة ، تطوف على النوافذ المفتوحة في بيوت قبيحة التصميم ، على الكباري المتربة التي يحتلها المتسولون والباعة الجائلون ، وأطفال الشوارع وبأيديهم علب الكُلة ، على عذراوات يملأن إشارات المرور وفى أيديهن علب المناديل الورقية وعلى رءوسهن إيشاربات قذرة ، على الشباب الواقفين على النواصي ،والرجال الواقفين في المقاهي وأيديهم تلعب في أعضائهم التناسلية ، ثم تبتعد الكاميرا والأصوات تتداخل .. نحيب امرأة ثكلى .. عراك رجال .. صراخ طفل يولد .. ضحكات مومسات .. أناشيد مدرسية حمقاء .. مقدمات نشرات الأخبار .. موسيقى راقصة، أى خيار هذا يا " نفرت جاد ".. أن يكون قاتلك كل هؤلاء أو لا يظهر أبداً ؟!

ثم هز رأسه طارداً الفكرة كلها وهو يتذكر أن "محمد خان" نفذها في نهاية أحد أفلامه .

فتح باب سيارته وهو لا يصدق أنه نجا بأعجوبة من علقة مؤكدة كان سينالها هو والدكتور" عبد الرحمن " في الميدان الذي يشبه السوق ، كان الناس يتطلعون إليهما لبرهة بأعين يطير منها الشرر ثم يمصمصون بشفاههم وهم يرددون :

- اللهم اخزيك يا شيطان ، ثم يواصلون السير .
انطلق بسيارته وقال وهو لا يزال يفكر في نجاتهما :

- يعنى يا "عمو" الشعب هو اللي عمل في نفسه كده ؟ يعنى هو عاجبه اللي هو فيه؟

أمسك " عبد الرحمن " رسغه من جديد بقوة هذه المرة مما أجبره على التوقف إلى جانب الطريق .. بينما ظل الدكتور يصرخ في وجهه وينظر إليه بيأس وكأنه فقد الأمل كلياً: هو ده يا " عارف" هو ده اللي مخلينا قاعدين نتفرج على العالم .. هو ده .. طريقة الكلام دي ، إيه السبب ومين
كان السبب؟

ويبدو أن صوته تعب من الصراخ ، فترك ذراعه وأسند رأسه إلى الكرسي وتهيأ للنوم ، واصل " عارف " قيادته وهو يستمع إلى صوته الهامس الحزين:

- لم تخرج " لوسى " من بطن أمها عاهرة ، ومصر لم تولد من بطن التاريخ دولة متخلفة ، كانت أم الحضارات وبداية البدايات ، نعم كل الناس – إذا أحببت أن تفكر بهذه الطريقة – ساهموا في تخلفها ابتداء بالهكسوس ومروراً بالمماليك والعثمانيين . وانتهاء بتعلم العسكر قيادة البلاد ، ولكن ما الذي يعنيه هذا .. هه .. هراء ، أنت تقول هراء ، هراء لا يعنى أحدا سماعه ستتحمل " لوسى " كونها عاهرة، وسنتحمل نحن كوننا متخلفين .

نظر إليه " عارف " فوجده يغالب النعاس ، أخذ يسلى نفسه بإيجاد صفة للدكتور " عبد الرحمن" وابتسم حين وجدها فأخذ يتمتم :طفل عجوز .. يا له من طفل عجوز ! انتفض وهو يهتف به .

- " عارف " أنا مش ها روح العيادة النهارده ، خدني أشوف "تاج " وبعدين السواق بتاعه يوصلني بالليل .

- والله يا"عمو " أنا كان عندي ميعاد الأول مع " عمر الجوهري "

-" عمر الجوهري " يا سلام .. كويس ، أنا كمان عايز أشوف النطع ده .. ها روح معاك .

أخذ " عارف" يضحك بصوت عال، بينما سقطت رأس الدكتور فوراً على المسند ونام كطفل أنهكه اللعب.

زادت عصبية وحدة " عمر الجوهري " كثيراً بعد أن خرج من تحت سيطرة " تاج العريان"اكتسبت ملامحه في الآونة الأخيرة ملامح كلب جائع اكتشف حفرة ممتلئة بالجيف ، ولا يجد طريقة للنزول إليها ، فظل ينبح ويدور حول ذيله.

بصوت مبحوح وفاتر رد على تحية الدكتور " عبد الرحمن " المرحة ، وبنظرة شماتة لم يستطع " عارف تاج " الوصول لأسبابها أخبره بأنه يخاف أن يموت ابن الدائخة " أحمد عواد" من التعذيب بدون أن يعترف بقتل " ميس إيجيبت "، أما العاهرة أمها فالدكتور " عبد الرحمن " يعرف انها أقنعت نفسها أن تعيش فقط لكي تنتقم من قاتل ابنتها، وابن الكلب عشيقها " أيمن بركات " برأته النيابة كما عرفت ..هاتجنن يا "عارف" كان نفسي أطلع عين أمهم الاثنين .

استرجع " عارف" ملامح " "أحمد عواد " الرقيقة وطوله الفارع وسمرته المحببة وسنينه العشرين ، وقال بصوت كما لو كان يحلم :

- أنا أصدقه ، هذا شاب محب وليس هو القاتل ، وأنت تعرف هذا يا" عمر".

قهقه " عمر" بصوته المبحوح :

- أنا .. أنا مين يا حبيبي، وبعدين عارف واللا مش عارف ، فيه يا بنى أكثر من خمسة وسبعين مليون عايزين قاتل لـ" ميس إيجيبت" ، وفيه صفحة حوادث في عشرات الجرائد والمجلات ها يفضلوا يلتوا ويعجنوا ويسبوا دين أم الداخلية ويطلعونا ما بنعرفش نشتغل ، إيه أنت فاكر العملية سهلة كده!؟

قال " عارف بنفاد صبر ويأس وهو يشيح بيده :

- بس مش بالتعذيب ، ده احنا في القرن الحادي والعشرين .

- يا سلام أمال بإيه يا فنان ؟ أقوله اعترف يا أسطى " أحمد" انت كنت فين وقت وقوع الجريمة ؟ يقول لي : كنت تحت شباك " ليلى طوسون " بيحب يعنى، أقول له طيب روح على بيتك يا روميو يا حبيبي .

- لا .. طبعاً، لكن لازم تتطور إمكانيات البوليس وأداوات بحثه مع تطور الجريمة ، يا أخى ده المجرمين بيستفيدوا من أخطائهم وبيطوروا أنفسهم من جريمة لأخرى ، ولازم انت تكون أعلى منهم ،ثم انت بتقدر تعذب إنسان إزاى يا " عمر" حتى لـو كـان هو ده القاتـل أنـا مستغـرب فعــلاً ؟ إزاى أنت
بتتحمل ده ؟

- لا لحظة يا " عارف " " عمر الجوهري " يؤدى عمله .

وتنحنح الدكتور" عبد الرحمن " وكأنه سيحاضر من جديد وقال بصوت متألم :

- كلنا مؤهلون أن نكون مثله إذا عملنا ضباط مباحث ، إنها طبيعة البشر يا"عارف" هل تعلم ان عالم النفس " ستانلي ميلجرام " قام باختبار طريف للغاية في هذا الصدد ، فلقد اختار مجموعة من الرجال العاديين قسمهم إلى فريقين ووضع بينهم زجاجا عازلا ، وطلب من الفريق الأول أن يضغط على مفاتيح تحت أيديهم تحدث صدمات كهربائية إذا ما سألوا الفريق الثانى أسئلة ولم يستطيعوا الإجابة عنها . وأعطاهم أسئلة وحذرهم من أن زيادة الفولت في حالة تكرار خطأ الفريق الثاني وعدم تمكنه من التوصل لأجوبة يمكنها أن تقتله ، ولكنه طمأنهم، بأنهم حتى إذا قتلوا الفريق الثاني كله فلن يتحملوا أية مسؤولية جنائية ، هل تعرف ماذا كانت نتيجة بحثه يا " عارف" ؟ لقد وصل 65% من رجال الفريق الأول إلى قتل الفريق الثاني صعقاً بالكهرباء لأنهم ضمنوا – على ما يبدو – النجاة من العقوبة الجنائية .

ونهض الدكتور" عبد الرحمن " وقال بصوت مرح :

- الحمد لله ان "ستانلي ميلجرام" لم يكن جاداً في إيصال الكهرباء بالمفاتيح ، أروح أنا الحمام بقى .

وما أن استدار معطياً ظهره لهما حتى ابتسم " عمر الجوهري لـ" عارف " متهكماً وأدار يده بالقرب من أذنه علامة على جنون الدكتور ، ما من شك في أن الدكتور" عبد الرحمن " رآه من ظهره ، فالتفت إليه وكأنه يسأل طالباً في صفه :

- ولكن هل تجد يا " عمر " بعد فترة من تعذيبك لأحدهم لذة جنسية ما؟!

وهز رأسه بحيرة وأضاف بصوت متعب :

- إن مقدار هذه اللذة هو ما يجب أن يتوصل إليه الطب النفسي الآن .

ثم قال بصوت آمر وهو يفتح الباب:

- ها نمشى بقى يا " عارف ، أكيد الحمامات هنا قذرة .

تركوا " عمر الجوهري " والسؤال يفتح عينيه دهشة ويرخى شفته السفلى ببلاهة.

وعندما رن محمول " عارف تاج" على سلم مبنى المباحث قال له الدكتور " عبد الرحمن " وهو يبتسم :

- النطع فاق دلوقتى .. هايقولك مش عايز يشوفني تانى.

أجاب " عارف " بآلية وهو يبتسم بدوره ويحاول ألا ينفجر ضاحكاً:

- طيب يا " عمر" .. طيب .. خلاص يا رجل ، والله ما يقصد ده .. قلت لك طيب.

صفر الدكتور " عبد الرحمن " وكأنه أنهى عملاً مهماً وتأبط ذراع "عارف " وهو يقول بدهشة حقيقية:

- شفت قفاه طويل إزاى!

وبينما يقهقه " عارف " بصوت عال، والناس تلتفت إليهما من كل ناحية، أضاف الدكتور " عبد الرحمن " بصوت هامس وكأنه يحدث نفسه:

- ما يحيرني فعلاً هو لماذا تحب بنت صغيرة جميلة رجلاً كهذا وتكاد تنتحر من هجره لها؟

غامت عيناه في عينيها اللوزيتين وشعرها المموج الكثيف الذي غطى نصف جدار غرفته ، كاد يجهش بالبكاء وهو يضع يده على رأسه من صداع كأنه ناتج عن مطاردة أغنية واحدة له بإلحاح طوال الوقت ... لا خلاص لي إذن ؟ ستظل تطاردني ليلاً ونهاراً ، وسأفترض أننى قاتلها كي لا أجن ، وسأفترض أن الحفرة التي ألقوها فيها عارية إلا من كفنها باتت خالية ، وأنها خدعت الجميع وسكنت غرفتي ورأسي . سأفترض أنها شاردة من جحيم ما أو فردوس ما إلى حين ، وبلا شك ستعود في يوم ما إلى أحدهما لأستريح ، ألا يشبه هذا كارثة الحب الحقيقي الذي يولد في لحظة ويحتضر في سنين ؟ ! علىّ إذن أن أعترف بأنني لا أتذكر أين كنت يوم الإثنين بعد الساعة الثامنة وحتى صباح يوم الثلاثاء ، علىّ أن أحكى للدكتور " عبد الرحمن" عن كابوس أو ما شابه ذلك يزداد مشهد جديد عليه كل يوم ، تؤكد صحته تحقيقات "عمر الجوهري " .. ببساطة ، على الاعتراف بأنني القاتل.

استعاد هذيان " عمر الجوهري " وهو يجز على أسنانه .. أمها العاهرة تدور الآن في شارع الهرم بملابسها الرثة السوداء ، زادت الهالات السوداء حول عينيها كثيراً ، تأكل كسرة خبز وتتجول هنا وهناك كالمتسولين ، تفزع الناس في جلساتهم ،فيحوقلون ويحمدون الله على ثبات عقولهم ، لاشيء يتغير في تفاصيل يومها منذ ارتكاب الجريمة وحتى الآن ، لا زوار ، لا اتصالات ، ولا خيط واحد يجعلنا نصل لأي شيء، رمت تليفونها المحمول في الشارع وعندما أعاده لها الجيران تركته كقطعة خردة في المنزل لا تستخدمه على الإطلاق ، ولا تفتح الكوافير حتى بعد إعطاء الأوامر بإزالة الشمع الأحمر عنهم ... كان لدينا أمل أن يجعلنا فتحه من جديد نتوصل لشيء ، تنام على سجادة خلف باب شقتها مباشرة ، لتصحو مشعثة الشعر تواصل تجوالها في الشارع ، يقول صديقك المخبول دكتور المجانين إن هذه أفضل حالة نفسية يمكنها الوصول إليها الآن، حتى "نهلة" الخادمة الصغيرة التي كان من الممكن أن تكون الشاهدة الوحيدة - بنت العاهرة- لم تقرر أن تمنح نفسها لعامل المقلة المجاورة إلا في هذه الليلة ، وكأن كل الدنيا تريد إخفاء قاتلها يا" عارف" حتى طقس يوم الإثنين هذا الذي هاجم الناس منذ السادسة بيوم شتوي شديد الصقيع في عز الخريف ، فهربوا بملابسهم الخفيفة ولاذوا ببيوتهم وأغلقوا الأبواب الزجاجية لمتاجرهم ، هل سمعت أبداً أن شارع الهرم تخفت فيه الحركة فجأة ويختفي منه الجميع لفترة تقارب الليلة ...لا راقصات ، ولا سياس للكباريهات والكازينوهات ، ولا عساكر أمن مركزي ، ولا سيارات مارة ، ولا عمال تراحيل ، ولا ممسوسين ، ولا متسولين ،ولا أجانب، ولا خرتية ؟

وأنا ما الذي على تصديقه الآن يا"نفرت جاد " ما الذي على عمله ؟ هل أطير بك مثلاً إلى الهند وأحط في مدينة بومباي ثم أقذفك في بئر حجري هذا الذي تسميه طائفة "البارسيز" – أبراج الصمت ، فتأكلك النسور والغربان وتتخلص روحك بذلك من جسدك الجميل فأطير بها لتظل معي إلى الأبد ؟!

أغلق عليها حجرته وهى تتطلع إليه بدلال وفتور ، وذهب ليبحث عن الدكتور "عبد الرحمن " وعن أبيه ، وجد أمه وأخته غارقتين في الضحك بصوت عال، كانتا تتأملان صورة كبيرة طبعتها " سلمى " من ذاكرة كاميرا الدكتور " عبد الرحمن " ، فتح عارف عينيه على اتساعهما وهو يتساءل متى التقط له الدكتور هذه الصورة؟ لقد كان معه ثانية بثانية ، تماماً كما كان .. يجلس على كرسي صغير فوق عربته الخشبية ، واضعاً ساقا على ساق ، ويده تلعب في أظافر قدمه غير المقلمة السوداء القذرة ، ولكن جذعه مفرود ، وملامحه متهكمة ساخرة ساخطة في آن واحد، وعلى وجهه تقطيبة ملك لا يعجبه أداء رعيته ، عمامة رأسه البيضاء المتسخة تعطى إيحاء بأنها تاج ما ، أنفه الكبير يكاد يتجه للسماء ، وعيناه تلمعان بقدر هائل من العدوانية والكراهية.

لم يبتسم حتى على تعليق الدكتور عبد الرحمن المكتوب أسفل الصورة:

- حزر من أي عصر هذا الملك ؟. كان هو نفسه بائع أي حاجة بجنيه .

دخل حجرة مكتب أبيه عله يجدهما ، لا يوجد على مكتبه إلا القصاصات التي قطعتها " نفرت جاد " من الصحف .. قرأ عن ظهور نتيجة مسابقة " ملكة جمال الإبل" المقامة في حفر الباطن بالسعودية والتي شارك فيها عشرات من أصحاب الإبل أملاًُ في أن تكون ناقتهم هي الأجمل ، وقد فازت بها ذات السيقان الطويلة الملفوفة المدملجة الرائعة ، والعنق الرشيق .. الناقة " نور " .

وقرأ عن مشاركة ملكات الجمال على مدى عدة سنين فائتة في زيارات لبيوت المسنين والمعاقين ذهنياً والمكفوفين ، وتأمل صور احتفالاتهن بتدشين مساهماتهن في الأبحاث الخاصة لمواجهة الإيدز والسرطان .

مرت عيناه على قصاصة تذكر بأن مسابقة ملكة الجمال أنشأها " اريك مورلى " عام 1951 للدعاية لمهرجان كان يعقد بهدف دفع الكآبة التى أصابت الشعب الإنجليزى بسبب حياة التقشف التى عاشها بعد الحرب العالمية الثانية ،كاد أن يلمح أصابعها التى قصت وقلبت القصاصات مراراً، وحدق فى عينيها اللوزيتين المندهشتين وهى تقرأ تحقيقاً عن إلى متى ستستمر مسابقات ملكات الجمال؟ وهل سيأتى وقت تتوقف فيه ؟ وصفها البعض بأنها سوق للجنس والآخر بأنها سوق للحيوانات . كان التحقيق ينتهى عند سرد محاولة عقد المسابقة فى نيجيريا عام 2003 ، وقيام ضجة هائلة ومظاهرات أسفرت عن مقتل أكثر من مائتى شخص مما اضطر اللجنـة المنظمـة للمسابقة لنقلها إلى لندن مسقط رأس المسابقة ، حرصاً على سلامة المتسابقات الجميلات ودرءاً لإراقة الدماء.

تأمل بعض الكتيبات سيئة الطباعة والتجليد ، صاخبة الألوان ، وابتسم ... " تاج العريان " لا يقرأ في الآونة الأخيرة إلا كتباً على شاكلة .. " أمل جديد لمرضى الضعف الجنسي " ،" ثورة في علم الذكورة "، " اقض على عجزك بكبسولة واحدة ، " الطب البديل والعجز الجنسي" ظل يبحث عنهما لا يدرى لماذا ، وتوقف مندهشاً وهو يرى أباه واقفاً فى الدهليز الخافت الإضاءة يتلصص على حجرة جده، ولكنه لم يستطع منع نفسه من الاقتراب بحذر منه ليشاركه الاستماع إلى صوت الدكتور " عبد الرحمن" الهادىء واثق النبرات :

- لماذا أنت غاضب يا " باشا " ؟ ألا تحب الحوار؟ لماذا ترد على دائماً بالسباب والطرد يا " باشا" أنا فقط أسألك .. لماذا لم ترجعوا إلى ثكناتكم العسكرية بعد الثورة؟ تاركين السلطة لأصحابها الحقيقيين من قوى الشعب ،أنتم لصوص يا " باشا" ، لقد سرقتم البلد في يوم وليلة وكان يجدر بكم تسليمه إلى أصحابه ، هل رأيتم وقتها أنهم مثلا مجرد حفاة أغبياء لن يستطيعوا إدارة البلاد ؟!انظر إلينا الآن يا " باشا" لقد صرنا أقل علماً وفنا وحضارة ونظافة وأشد فقرا، وما كنتم تودون القضاء عليه ، ها نحن نرزح تحته من جديد ، لا تمت الآن يا" باشا" قبل أن تحقق نصف أهدافك الستة، لا تمت الآن يا" باشا" ، لا تمت حتى تخبرنا كيف يمكننا التخلص من عشرات الملوك ، لا من ملك واحد.

" تاج العريان " مشغول بنشيج أبيه وهو يصرخ بحروفه الممضوغة :

- صاحبك الوسخ يا " تاج" الحافي ابن الحافية، لولا الثورة لا كان اتعلم ولا بقى دكتور ، صاحبك أبو مناخير يا " تاج " هايموتنى ، اقبض عليه يا مرة ، ده جاسوس لإسرائيل وأمريكا.

يزم " تاج " شفتيه يأساً وينظر حوله ، يحمد الله أنه لم تدخل ممرضة ولا خادمة ، يخبره بصوت متعب بأن رمضان على الأبواب ، وأنه سينهى إجراءات سفر الحاجة "كمالة " وستسافر معها هذا العام " نسل شاه " وستقيمان في الأراضي المقدسة حتى الحج -إن شاء الله ، ثم أضاف بصوت عال أن الحاجة كمالة ستزوره في الأيام القليلة المقبلة لتسلم عليه قبل سفرها .

انبسطت أسارير " محمد العريان " وسقطت رأسه على صدره ، وراح في غفوة من غفواته، وانتظمت أنفاسه المتحشرجة المحملة بنهنهة رضيع .

= يتبع =



#سهير_المصادفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميس إيجيبت الفصل السابع
- ميس إيجيبت الفصل السادس
- ميس إيجيبت الفصل الخامس
- ميس إيجيبت الفصل الرابع
- ميس إيجيبت الفصل الثالث
- ميس إيجبت - الفصل الثاني
- ميس إيجيبت


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل الثامن