أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بنعيسى احسينات - فلسفة التربية وعلوم التربية؛ أية علاقة؟















المزيد.....


فلسفة التربية وعلوم التربية؛ أية علاقة؟


بنعيسى احسينات

الحوار المتمدن-العدد: 2294 - 2008 / 5 / 27 - 09:40
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


" إن علوم الإنسان تدرس غرض التربية، وخاصة الطفل من ناحية طبيعته وبيئته وتطوره. ويدرس علم التربية طرائق التربية، أما الفلسفة، فتفكر في غاياتها : لم نربي؟ وما معيار تربية ناجحة؟ وعندما يصرح أب لابنه: " هذا من أجل صالحك"، فإن ذلك اللجوء إلى "الصالح" هو، مسبقا، اختيار فلسفي يتعذر على أي علم أن يبنيه، وكل ما تجب معرفته هو ما ينطوي عليه ذلك الاختيار، فهل نستطيع أن "نعمل صالح" أحد بالرغم منه؟ وعندما يتساءل مربي عن غايات مشروعة، فإنما يتساءل كفيلسوف، والأولى أن يكون ذلك عن خبرة ".
أوليفي ربول: فلسفة التربية
ترجمة جهان نعمان (أنظر المراجع)

مدخـــــــل
تعتبر علوم التربية من أحدث العلوم الإنسانية بالرغم من أن بعض مرتكزاتها المعرفية كالفلسفة، هي أقدم من أن تعتبر كذلك. إن استعمال علوم التربية بالجمع واحد من العوامل التي أدت إلى إشكالية على مستوى هويتها، إذ من الصعب أن نجد تحديدا موحدا لهذه العلوم، بل من الصعب العثور على اتفاق على مستوى تصنيفها. وأمام هذا الإشكال الذي يجعل من علوم التربية لدى البعض علوما قائمة مستقلة فارضة ذاتها على التربية، محددة هويتها، ولدى البعض الآخر مجرد طفيليات. أمام كل هذا تأني فلسفة التربية بإشكالات أخرى باعتبار أن إدماجها ضمن أسرة علوم التربية لم يكن بالأمر الهين والمستساغ من طرف جميع الدارسين، لما يطرحه هذا الاندماج من مفارقات إبستمولوجية. فلماذا فلسفة التربية إذن؟

فرغم التساؤل حول قيمة وأهمية حضور الفلسفة في ميدان التربية في وقت يبدو فيه أن العلوم عامة والعلوم الإنسانية خاصة، قادرة وحدها على أن تمد الفعل التربوي بكل ما يحتاجه من أدوات منهجية ووسائل عمل ضرورية، فإن فلسفة التربية تستمد أساسها من طبيعة الموضوع الذي تهتم به التربية ذاتها، وهو الإنسان في علاقته بالمجتمع. ومن المعروف أن العلاقة بين هذين القطبين: الفرد والمجتمع، ظلت عبر تطور الفكر البشري موضوعا فلسفيا محض، لا يمكن مقاربته إلا من منظور فلسفي خالص.

I ـ الإنسان والتربية
إن ضعف الإنسان الجسدي قد جعله في حاجة أكثر من حيوان آخر إلى الحياة في المجتمع. ولعل النزعة الاجتماعية لديه ليست في أصولها الخوف والقلق اللذين نعمل على التخفيف منهما، ولكن بظهور الحياة في المجتمع تظهر الحاجة إلى التربية، وليس ثمة تربية حيوانية، إذا فهمنا كلمة التربية على حقيقتها، لأن الحيوان ما يلبث سريعا حتى يكتفي بذاته ولا يحتاج إلى عون غيره. أما لدى الإنسان، فالتربية ضرورية للفرد، فبواسطتها يحقق أنسنته. وكذلك ضرورية للمجتمع نفسه، وذلك لكي يتيح لكليهما أن يستخلص الفائدة اللازمة من تلك الممتلكات الجمعية، كالصناعة اليدوية، واللغة والمعرفة العقلية والفنية وغيرها من الصفات الروحية التي يعوض بها النوع الإنساني عن نقائصه البيولوجية الجسدية. لذا، فإن وضع مذهب في التربية ليس ممكنا إلا بمقدار ما يستند إلى فلسفة للإنسان ضمن الوجود.

إن معطيات العلوم التجريبية تؤكد هذا المبدأ. فلقد علمتنا البيولوجية أن الإنسان ليس إنسانا بفضل مادته التي هي مادة عضوية جسدية. ولا بفضل صورته الخاصة بجنسه. ولا بفضل التداخل الخلاق بين المادة والصورة، متجاوزا الوراثة الخَلْقية النوعية، لتؤكد تفرده، على أن هذا لا يحول دون القول في الوقت نفسه، بأن هذا الإنسان مرسوم ضمن تتابع الأشكال الحية وخاضع لقوانين تطورها. ومن هنا، وجب أن نقر أن القوى التي تعمل على خلقه هي نفسها التي تعمل على خلق الكائنات الأخرى.

ثم إن علم الاجتماع قد علمنا أنه ليس ثمة مجتمع دون تربية، وليس ثمة تربية دون مجتمع. غير أن وظيفة المذاهب كانت دوما استخلاص رسالة الإنسان بغية وضعه غاية لتلك التربية.

وأخيرا، علمنا علم النفس أن النمو النفسي لدى الإنسان يقوده من حالة نفسية غير متميزة إلى توكيد شخصيته أمام الكون عن طريق تقوية وظيفة إدراك الواقع لديه. تلك الوظيفة التي تمكنه من إدراك ذلك الكون والتكيف معه، واتخاذ موقف منه. وهذا لا يتم إلا عن طريق التربية.

فالبيولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، تتضافر جهودها إذن من أجل أن تجعلنا ندرك تدرج المستويات التي ينتشر وفقها الوجود :
1 ـ المستوى المادي الذي هو مستوى الجسد ( المستوى البيولوجي ).
2 ـ المستوى الاجتماعي الذي هو مستوى الزمرة الاجتماعية في واقعه العملي أولا، ثم في وجوده التاريخي الثقافي. وأخيرا، في إسهامه في الثروات الروحية للحضارة.
3 ـ المستوى النفسي الذي هو مستوى الوعي الذي يتم فيه تركيب الكل، ذلك أن السبيل الوحيد للعثور على الإنسان هو بالبداهة، أن تفترض أن الجسد ليس سوى انعكاس للوعي في العالم، وأن الكائن الاجتماعي ليس سوى انعكاس للوعي في الزمرة الاجتماعية، وأن الوعي نفسه، أخيرا، ليس سوى عودة الإنسان إلى ذاته.

فمن هو الإنسان إذن؟ وما هي منازعه؟ تلك في الواقع مشكلة التربية الأولى والأخيرة، أي المشكلة التي تشكل ما نسميه فلسفة التربية، والتي هي قبل كل شيء فلسفة الإنسان. وعلى هذا الأساس، تستطيع التربية أن تؤدي رسالتها، أي طبع الإنسان بطابع الوعي، بأن تمنحه الاستقلال الذي تتوقف عليه سيطرته على ذاته، وبالتالي على الأشياء، طبيعية كانت أو اجتماعية.

IIـ علاقة الفلسفة بالتربية
أ ـ الفلسفة وأهميتها
إن الفلسفة ، بصفة عامة، أسلوب منهجي في التفكير في كل ما هو موجود، يسعى إلى معرفة الأشياء، حية وغير حية، من حيث هي كل، معتمدا في ذلك التحليل والتركيب والنقد والتأمل.

وعلى هذا، فالفلسفة طبيعية وضرورية معا للإنسان. فنحن نبحث دوما عن هيكل شامل، تحض فيه مكتشفاتنا المتفرقة، بمغزى كلي عام. وليست الفلسفة فرعا من فروع المعرفة فحسب، شأنها شأن الفن والعلم والتاريخ...، بل إنها تضم أيضا وبالفعل تلك الفروع في أبعادها النظرية والمعرفية والمنهجية، وتسعى إلى إنشاء صلات فيما بينها. ومرة أخرى نقول : إن الفلسفة تحاول أن تقيم التماسك في مجموع مجال الخبرة الإنسانية بأسره (فلسفة العلوم).

ب ـ فلسفة التربية
إلى جانب اهتماماتها الخاصة، تنظر الفلسفة في الافتراضات الأساسية لمروع المعرفة الأخرى؛ فعندما توجه الفلسفة اهتمامها إلى العلوم، نحصل على فلسفة العلوم، وعندما تفحص أو تمتحن الفلسفة المفهومات الأساسية للقانون، نحصل على فلسفة القانون... وعندما تتناول الفلسفة التربية، نحصل على فلسفة التربية، وعلى نحو ما تحاول الفلسفة أن تفهم الواقع ككل، بتفسيره بأعم أسلوب وأشده منهجية، كذلك تسعى فلسفة التربية إلى فهم التربية في كليتها الإجمالية، وتفسيرها بواسطة مفهومات عامة تتولى اختيارنا للغايات والسياسات التربوية.

وعلى هذا المنوال نفسه الذي به تنسق الفلسفة العامة بين مكتشفات العلوم المختلفة، نجد فلسفة التربية، باعتبارها أيضا إبستيمولوجيا épistémologieبالنسبة لعلوم التربية (فلسفة العلوم)، تفسر هذه المكتشفات من حيث أثرها في التربية. فالنظريات العلمية ليست لها متضمنات أو مقتضيات تربوية مباشرة، ولا يمكن أن تطبيقها على الممارسة التربوية، من غير أن تفحص أولا فحصا فلسفيا وتمتحن امتحانا فلسفيا كذلك.

وهكذا تعتمد فلسفة التربية على الفلسفة العامة، إلى حد أن مشكلات التربية ذات طابع فلسفي عام، ولا نستطيع أن ننقد السياسات التربوية القائمة، أو أن نقترح سياسات جديدة بدون النظر في المشكلات الفلسفية العامة من قبيل :
1ـ طبيعة الحياة التي ينبغي أن تفضي إليها التربية.
2ـ طبيعة الإنسان نفسه، لأننا إنما نربي الإنسان.
3ـ طبيعة المجتمع، لأن التربية عملية اجتماعية.
4ـ طبيعة الحقيقة التي تسعى كل معرفة إلى النفاذ إليها.

ففلسفة التربية إذن، تتضمن تطبيق التفكير الفلسفي على ميدان التربية، في مجال الخبرة الإنسانية. وبذلك تصبح الفلسفة، كما يقول جون ديوي : " النظرة العامة للتربية ". وهكذا تكون فلسفة التربية هي النشاط الفكري المنظم الذي يتخذ الفلسفة وسيلة لتنظيم العملية التربوية وتنسيقها والعمل على انسجامها، وتوضيح القيم والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.

وعلى هذا تكون الفلسفة وفلسفة التربية والخبرة الإنسانية، مكونات ثلاث لكل واحد متكامل. ونتيجة لذلك، أننا إذا نظرنا إلى ما أصاب المجتمعات الحاضرة والحياة الإنسانية من تغيرات كثيرة، بعيدة المدى، عميقة الأثر، فإننا نجد أن التيارات الفكرية، اجتماعية و سياسية و اقتصادية أو ثقافية، لا يمكن أن ينتج عنها تغير جذري أساسي حقيقي ما لم تكن التربية الوسيلة لذلك، متصلة بالخبرة الإنسانية الممتدة النواحي والمتشعبة الاتجاهات...

وإذا كانت الخبرة الإنسانية في أوسع معانيها هي الميدان الذي تلتقي فيه الفلسفة والتربية، فإن هذا الميدان يؤدي أيضا إلى مزج بين الفلسفة والتربية، تنتج عنه فلسفة التربية التي تعتمد على هذا المزج للوصول إلى نظريات تربوية وتفسيرات أساسية للعملية التربوية.

وهكذا نخلص إلى القول، إن الفلسفة، بصفة عامة، تتجه نحو تعريف الإنسان نفسه، أما فلسفة التربية، فموضوعها أن تكشف للطفل كشفا تدريجيا عن الكائن الذي يدعي لأن يكونه. ولذا سيتم التركيز على محورين بارزين من المحاور الكبرى التي تهتم بها فلسفة التربية، وهما : إشكالية تعريف التربية وغاياتها وأهدافها، وكذا قيمتها وإمكاناتها وحدودها.

1ـ إشكالية تعريف التربية : لقد مارس الإنسان التربية منذ القدم، مما جعل مفهومها يشيع ويتداول بين الجميع، إلى درجة أن تعريفها يبدو سهل المنال. ولكن ، سرعان ما يتبدد هذا الاعتقاد، ويدرك المرء أن تعريف التربية هو من قبيل السهل الممتنع. ولذا نجد أدبيات التربية تزخر بتعارف كثيرة ومختلفة، تعود إلى مقاربات عدة ومتباينة، منها:

ا _ المقاربة المعجمية الاشتقاقية
ـ يعرف معجم روبير Robert التربية بأنها : " مجموع الوسائل التي بواسطتها نوجه نمو وتكوين الكائن الإنساني، وكذا النتائج المحصلة بواسطة هذه الوسائل "
ـ يوضح المعجم الاشتقاقيDictionnaire étymologique لدوزاتDouzat أن كلمة التربيةéducation لها مصدر مزدوج لاتيني، تشير لفظة Educare إلى فعل "غذى ".أما لفظةEducere فتدل على : أخرج من، قاد إلى، رافق إلى، كما تدل على رفع أو رقى.

إن تعريف روبير، يبين الطابع الإشكالي المعقد للتربية، فهي عملية من ناحية ونتيجة من ناحية أخرى، إلى جانب طغيان طابع السلطة والتسيير.

فالمقاربة الاشتقاقية هذه تحدد لنا هنا التربية كغذاء مادي(طعام، تمرينات رياضية..) ومعنوي(معرفي أخلاقي..) يقود الفرد إلى السمو والنمو، أي "غذاء" ينمي.

ب _ مقاربة الاتجاه الفردي
تندرج في إطار هذا الاتجاه تعارف عدة، بحيث تركز جميعها على أهمية الفرد، كما تحصر مهمة التربية وغاياتها في خدمة الفرد كفرد ومساعدته على النمو. وهذا ما بينه هاربارت Herbart في تعريفه للتربية حين يرى ن هدفها هو " تكوين الفرد لذاته بأن نثير لديه تعددية الاهتمامات".

أهمية هذا التعريف، تكمن في إيمانه بحرية الفرد ومحاولة تثقيف قدراته وإمكاناته، وبالتالي احترام خصوصيته الفردية. غير أن قصوره يبدو في أن هذه الخصوصية تنحصر في خدمة الفرد فقط دون أن تطال المجتمع.

ج _ مقاربة الاتجاه الاجتماعي
يعتبر إميل دوركهايمE.Durkheim من أبرز ممثلي هذا الاتجاه، بحيث يعرف التربية بقوله : "إنها العملية التي تمارسها الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تنضج بعد النضج اللازم للحياة الاجتماعية". أما موضوعها فيحدده في أنه " إثارة عدد من الحالات الجسمية والفكرية والأخلاقية التي يتطلبها منه المجتمع السياسي في مجمله، والوسط الاجتماعي الذي يهيأ له بوجه خاص ".

من إيجابيات هذا التعريف الواقعي ربطه لتربية الفرد بالمجتمع، سواء في بعده العام السياسي، أو في بعده الخاص المرتبط بالجماعة التي ينتمي إليها الفرد. أما مآخذه فهي كالتالي :
ـ حصر التربية في الأجيال غير الراشدة، وإقصاء التربية المستمرة.
ـ التربية عملية أحادية الجانب، مشبعة بالسلطة التي يمارسها الراشد .
ـ تقزيم الفرد، فهو آلة لخدمة المجتمع.

ه _ مقاربة الاتجاه الإنساني
إن التربية حسب هذا الاتجاه ترتبط بالإنسان، متجاوزة ثنائية الفرد ـ المجتمع. أي أن التربية هي: "أنسنة الإنسان".

يقترح ربول O.Reboul التعريف التالي: إن التربية هي العملية التي تسمح للكائن الإنساني بتنمية قدراته الجسمية والعقلية، وكذلك عواطفه الاجتماعية والجمالية والأخلاقية، بهدف تحقيق مهمته كإنسان... إنها كذلك (التربية) نتيجة هذه العملية".

يؤكد هذا التعريف، مرة أخرى، أن التربية هي عملية وفي نفس الوقت نتيجة هذه العملية. أما الجديد في هذا التعريف هو إبرازه للبعد الإنساني للتربية كمحاولة لإعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان. لكن ما يؤخذ عليه، هو أن إنسانية الإنسان ليست معلقة بين السماء والأرض، ذلك أن مفهوم الإنسانية مرتبط بسياقه التاريخي والاجتماعي وبتقدم العلوم وبتصوراتنا حول الإنسان.

و _ تعريف الرابطة العالمية للتربية الجديدة
في الوقت الذي أصبحت فيه التربية في عصرنا الحالي مرتبطة بحقوق الإنسان وبالتنمية الاجتماعية الشاملة، تقدم الرابطة العالمية للتربية الجديدة التعريف التالي : " تقوم التربية بإتاحة نمو قدرات كل شخص بصورة متكاملة قدر الإمكان كفرد، وفي الوقت نفسه، كعضو داخل مجتمع يحكمه التضامن. إن التربية غير منفصلة عن التطور الاجتماعي، إنها تشكل بالتالي إحدى ركائزه وقواه المحددة له ".

هذا التعريف يضيف ضرورة مراجعة هدف التربية وطرائقها باستمرار في ضوء العدالة الاجتماعية، وفي ضوء ما يقدمه لنا العلم والتجربة من معرفة حول الطفل والإنسان والمجتمع.
هذا التعريف يحاول إقامة تفاعل بين الفرد والمجتمع، هذا مع تأكيده على نسبية مفهوم التربية، لارتباطه بتطور الوعي الاجتماعي ـ التربوي وبتقدم المعرفة العلمية.

2 ـ غايات التربية وأهدافها :
إن غايات التربية وأهدافها المراد تحقيقها تطرح علينا الإشكالية التالية : هل نجعل غايتنا وهدفنا في التربية تكوين الفرد لذات الفرد، أي تنمية فرديته بجميع قواها الطبيعية بغض النظر عن مطالب المجتمع ونظمه وغاياته وأهدافه، كما يقول روسو؟ أم تربية الفرد ليحقق غايات وأهداف المجتمع، ويتقبل نظمه قبولا أعمى ويلبي مطالبه على حساب فرديته، كما يذهب إلى ذلك دركهايم؟

هذه الإشكالية أو هذه القضية تمثل طرفين متناقضين، يبدو أن أحدهما لا يثبت إلا بزوال الآخر. فنحن حين ننظر إلى الفرد، لا يمكن أن نجرده من المجتمع البشري، وينمو النمو البشري الصحيح، بل لابد أن يعيش في مجتمع، وأن يتأثر بكل ما في هذا المجتمع من مؤثرات، كما لا يمكن أن نتصور إنسانا مجردا من القوى الطبيعية العقلية والجسمية التي تكوٌن فرديته المتميزة له والتي تستجيب للمؤثرات المختلفة التي تحيط به. إذن فالإنسان، في نموه، خاضع لهذا التفاعل المستمر بين المجتمع والبيئة المادية من ناحية، وبين قواه ومواهبه الطبيعية الفطرية من ناحية أخرى. غير أن عوامل أو أطر التربية المقصودة (الأسرة والمدرسة)، يمكن توجيهها، بحيث تهدف، في تربية الطفل، إلى أغراض معينة، هي من وضع المجتمع ولمصلحته وخدمته، بغض النظر عن ميول الفرد ورغباته ونموه الطبيعي التلقائي الحر. وهذا يأتي بإشراف المجتمع على التربية عن طريق مؤسساته، وقد حدث هذا في الماضي ولا يزال قائما الآن في بعض الأمم.

أما أنصار الغايات والأهداف الفردية، منهم كانط الفيلسوف الألماني الذي يقول :" إن مهمة الحكومة هي مساعدة الفرد على النمو، لا أن تستبد به وتستعبده وتستغله. واحترام كل فرد واجب باعتباره غاية مطلقة في حد ذاته ". وكان نيتشه الفيلسوف الألماني أيضا، يؤمن بالإٌنسان كهدف نهائي للتربية، حيث يقول: " إن غاية الإنسان هي تحقيق الإنسان الأعلى (سوبيرمان) لا الجنس البشري بأسره، وآخر ما ينبغي للمفكرين أن يهتموا به هو تحسين الإنسانية وإصلاحها، فلا صلاح للإنسانية، بل ليس للإنسانية وجود على الإطلاق، وكل ما يوجد هو العناية بقواه حتى يصل إلى أقصى ما يمكن من الكمال".

ومن الدعاة لمذهب الفردية جان جاك روسو، الذي جعل الطفل مركز عنايته ورعايته، ووجه كل اهتمام المربي إلى تنمية ما في هذا الطفل من قوى ومواهب. وقد اختار العوامل الطبيعية، التي تحيط بالطفل، هي التي تنمي ما عنده من قوة، وهدفه في التربية في مرحلة الطفولة الأولى " هو إعداد الطفل ليصبح قادرا على ضبط حريته وعلى استعمال قوته في التعلم، وتكوين عاداته الطبيعية ليصير قادرا على ضبط نفسه عندما يقوم بعمل من الأعمال التي يأتيها بحرية من إرادته ".

فإذا رجعنا إلى رأي روسو، وجدنا أنه نتيجة لما وصل إليه الفرد في عهده، من إهمال، ولى استبداد الملوك وتحكمهم في الرعية، وإلى سلطان الكنيسة الجاهلة التي كانت تدعي لنفسها حق إنقاذ الناس وتطهيرهم من آثامهم التي ولدوا بها.

فهذه الظروف السياسية والدينية هي التي جعلت روسو ينادي بحق الفرد في حرية التربية، ويجعل هدف التربية تنمية ما عند الفرد من قوى الطبيعية. ويمكن أن نلتمس الظروف السياسية والاجتماعية التي أدت إلى جعل أهداف التربية خدمة الجماعة لا تنمية الفرد، في كل أمة عنيت بهذا المذهب، كما ذهب إلى ذلك دوركهايم.

إن الفرد لا يمكن أن يستكمل نمو فرديته إلا بحياته مع غيره، فهو عضو في جماعة لا يستغني في نموه عنها، ولا عن غاياتها وأهدافها. لذلك، يجب أن نترك لقواه ومواهبه أن تنمو النمو الكامل، حتى يتخذ مكانه في هذه الجماعة. فالتربية الصحيحة إذن هي تلك التي تجمع بين الهدفين، الفردي والاجتماعي، وهي التي تنمي الفرد حتى يقوي من غايات وأهداف الجماعة الصالحة، ويعمل على تحقيقها. وكما يقال : "إن الحذاء يستعمل لحماية القدمين لا ليمنعهما من النمو ". كذلك، يجب أن تكون التربية. ولقد وفى جون ديوي هذا الموضوع حقه في كتابه " تربية اليوم "، فهو يعتقد أن التربية المجدية الحق، هي نتيجة إثارة قوى الطفل عن طريق مطالب الظروف الاجتماعية التي يعيش فيها، وأن لعملية التربية ناحيتان؛ ناحية نفسية تتصل بالفرد، وناحية اجتماعية تتصل بالمجتمع، فليس أحدهما تابعة للأخرى أو خاضعة لها أو مهملة بالنسبة لها.

فالناحية النفسية هي الأساس، وغرائز الطفل وقواه تعطي المادة الضرورية للتربية، ومعرفة الظروف الاجتماعية لازمة لتفسير قوى الطفل وجعلها تعبر عن نفسها في الحياة العملية. فلكي نعرف معنى قوة من القوى، يجب أن نمكنها من أداء وظيفتها، ولا يتأتى هذا إلا إذا اعتبرنا الفرد عضوا عاملا في الحياة الاجتماعية، ومكناه من استخدام جميع قواه، وأطلقنا له الحرية في التصرف. فتربيته إذن فردية من حيث هو فرد، واجتماعية إذا نظرنا إليه في ضوء المجتمع. فكل تقدم ورقي يصيب الأفراد عن طريق التربية، يكون له أثره في تقدم المجتمع ورقيه.

فالتربية السليمة إذن، يجب أن تكون فردية اجتماعية معا، إلا أن روني أوبيرR. Hubert يذهب أبعد من هذا، حيث أنه بنزعته المثالية الإنسانية، يرتد ويعود إلى الذات نفسها، متجاوزا لامتداداتها الطبيعية والاجتماعية، ليجعل التربية الإنسانية بديلا مقترحا لهذا التناقض بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي. إن هذا القول لا يعني أن "أوبير" يرفض التربية الطبيعية والاجتماعية، بل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن كلا النوعين للتربية ليس سوى مرحلتين ضروريتين لتحقيق أنسنة الإنسان.

3 ـ قيمة التربية وإمكاناتها وحدودها :
إن المقاربات البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية، تؤكد مجتمعة على قيمة التربية وأهميتها في بناء شخصية الإنسانية وتطويرها. فالإنسان، كما يؤكد العديد من المفكرين لا يولد إنسانا، وإنما يصير كذلك بفعل التربية. إن مثل هذا التأكيد، يبرز إذن، وبما لا يدع مجالا للشك، قيمة التربية ودورها في تشكيل أنسنة الإنسان عبر جملة من التفاعلات والممارسات التي هي ضرورية في إكساب كل صفة إنسانية للطفل الناشئ، ولكن التساؤل الفلسفي الذي يمكن طرحه الآن هو هل بمقدور التربية، بعدما تبينا قيمتها وأهميتها، أن تذهب بعيدا في هذه الأنسنة؟ أي هل بإمكانها أن تجعل من الإنسان (موضوع التربية) ما تريد، بغض النظر عن طبيعته واستعداداته وقدراته؟ بمعنى هل تمتلك التربية ما يجعلها قادرة دائما على تخطي الحدود التي تعترض طريقها؟ فلا زال التباين حول إمكانات التربية وحدودها، يمثل إشكالا فلسفيا تعبر عنه بوضوح بالأسئلة الفلسفية من قبيل : هل للتربية إمكانات، تجعلها تمارس فعلها بصورة مطلقة، أم للتربية حدود ترتبط بطبيعة المربي أو غيرها، يصعب تخطيها؟

إن التربية رغم إمكاناتها التي ترمي إلى تفتيح ما هو كامن بالقوة في الإنسان بالوسائل المتاحة والممكنة، ومدى قابلية هذه التربية للتشكيل، وعلاقتها بنموذج المثال الذي تسعى إلى رسم معالمه وإلى تحقيقه، أي تحقيق أنسنة الإنسان وكمالاته الممكنة. فهناك حدود هذه الكمالات كموضوع وهدف التربية، إذ أنها (التربية) لا يدخل في مجال فاعليتها أن تصيٌر البليد ذكيا.. فكل ما تستطيعه هو أن تصير الإنسان من هو على نحو ما هو مرسوم في طبيعته أصلا. هنا تتجلى حدود التربية.

فعلى الرغم من التباين بين إمكانات التربية وحدودها، وعدم القدرة على الحسم في التساؤلات حولها كموضوع يمثل أهم اهتمامات فلسفة التربية، فإن هذا لا يحول دون الإقرار، وبشكل عام، بأن للتربية دورا كبيرا في تكوين شخصية الفرد الناشئ. فاتجاهات التربية الحديثة، ترفض أن تكون التنشئة الاجتماعية للطفل، عملية سلبية، تقتصر على ما تمارسه الأسرة والمدرسة ومختلف المؤسسات التربوية التي توكل إليها مهمة تربية الطفل والاعتراف، بدل ذلك، بأنها عملية تتضمن مشاركة فعالة من جانب الطفل الذي يتدخل هو نفسه في إشكالية حياته. ولعل هذا ما يضفي المشروعية على فعل التربية، وفي نفس الوقت، المشروعية على ضرورة أخذ طاقات الفرد وإمكاناته بعين الاعتبار، في كل ممارسة تربوية فاعلة وهادفة، تقوم على أسس علمية ومنهجية سليمة.

ـــــــــــــــ

المراجــــــــــع :

ـ التربية العامة. روني وبير، ترجمة عبد الله عبد الدايم. دار العلم للملايين، بيروت. ط. 3. 1977.
ـ تطور النظريات والأفكار التربوية. التومي الشيباني. دار الثقافة، بيروت، ط.2. 1975.
ـ أصول التربية الثقافية والفلسفية. منير مورسي. عالم الكتب، القاهرة. 1977.
ـ فلسفة التربية. أوليفي ربول، ترجمة جهاد نعمان. منشورات عويدات، بيروت/باريس. 1978.
ـ مقدمة في فلسفة التربية. محمد لبيب النجيحي. دار النهضة العربية. 1981.
- Philosophie de l’éducation. J. Leif et A. Blancheri. Délagrave. tome 3
- Introduction aux sciences de l’éducation. G. Mialaret. UNESCO. Delachaux et Niestlé. 1985.



#بنعيسى_احسينات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل الطود الشامخ
- صرخة مهاجر
- لماذا علوم التربية؟
- شعر: لا.. وألف لا.. وكفى..
- غزة.. في محنة.. يا للعار
- الطفولة والمراهقة وإشكالية التربية في الوطن العربي
- شعر: في ظل فتنة الردة
- أسلوب التربية وحاجات الطفل في المجتمع العربي
- النمو وحاجاته في مرحلتي الطفولة والمراهقة
- غدا إن لم نفق من إرث سباتنا
- المجال التربوي وأخلاقيات المهنة
- كفانا كلمات؟؟
- كفانا كلمات..؟؟
- الموارد المالية للدول المنتجة للبترول وإمكانية التكامل الاقت ...
- تاريخ اليهود من ما قبل الشتات إلى الحركة الصهيونية وقيام الد ...


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - بنعيسى احسينات - فلسفة التربية وعلوم التربية؛ أية علاقة؟