أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أقاليمٌ مُنجّمة 9















المزيد.....


أقاليمٌ مُنجّمة 9


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2281 - 2008 / 5 / 14 - 11:26
المحور: الادب والفن
    



ـ " لن أذهبَ مرة اخرى إلى البيت ، ذاكَ "
قالها " بشير " ، مُشدداً على المفردة الأخيرة . ما كانَ لي إلا أن أقرّع نفسي ، بسببٍ من هَفوةٍ ـ أو سوء تقدير بالأصح ـ وضعَ صديقي في موقفٍ بغاية الإحراج . ففي صباح اليوم نفسه ، كانت " فريدة " ، لدى دخولها الصالون ، مرتدية ً غلالة شفيفة ، صارخة اللون ـ كما سروالها المُخرّم النسُج ، المُتبدّي تحتها . لحظتها إذاً كيفَ تسمّرت ثمة ، بمدخل الردهة ، وقد فجأها حضورُ أخيها ، حدّ أنها تبدّت غيرَ مُصدقة عينيها . تسنى لي ، بطبيعة الحال ، أن أعاين التعبير المدهوش ، المُرتسِم على وجه " بشير " ، وما تبع ذلك من إطراقته ، المتطاولة ، إثرَ فرارها إلى حجرة النوم . ثمّ عادتْ ، على كلّ حال ، بعدما تداركتْ الأمرَ بملبس آخر ، أكثرَ حِشمَة ، لتأخذ بين يديها ، الملهوفتين ، ذلك الشقيق القريب لقلبها . كنتُ الملومُ ، الوحيد ، في هذا الموقف ؛ طالما شئتُ تدبيره بنيّة حسَنة ، مُفترضة المفاجأة السارّة لكلا الأخوَيْن . لم أدر عندئذٍ أنّ " نظير بك " كان في غرفة المتعة ، تلك ؛ هوَ الذي ما عتمَ أن ظهرَ بدوره ، مرتدياً الروب دي شامبر ، ليفتتح فصلاً مأسوياً ، جديداً ، من يومنا هذا .

ما إستقبَلنا في بيتنا يومئذٍ ، لم يكن ليُبشر بخير ، أيضاً . إذ عادَ أخي " جيان " ، للمنزل مباشرة ً بُعيدَ إجازة إمتحاناتي ، الأخيرة . شاءَ الحلول في عليّتي ، بحجة أنها توفرُ له مجالاً للفرار ، عبرَ الأسطح ، ما لو داهمه المطاردون من أفراد الأمن ، العسكريّ . هكذا قضيتُ وضيفي الليلة في حجرة المطبخ القديم ، فيما صخبٌ مُدمنٌ يكاد يقطع علينا متعة الإسترسال في أحاديثنا ، الحميمة . وها هيَ " صافية " تأتي للسلام على الشاب ، بعدما إطمأنتْ لإنصراف رجلها مع زبانيته . وكان مني أن صعدتُ معها إلى العليّة ، تاركاً الضيف في رعاية أحلامه . من النظرة الأولى ، أرعبني أنّ غرفتي ، المُفتقدة ، قد أمسَتْ أشبه بإحدى مسارب العالم الأسفل . على الشرفة ، قالت لي إمرأة أخي بحذر :
ـ " إستاء حينما أخبرته عن صديقكَ ، وأنه ربما يقيم هنا فترة حتى يتدبّر مسكناً "
ـ " ما شأنه بضيفي ؛ وهوَ من يصطحب أصحابَ السوء لمنزلنا ، كلّ ليلة ؟ " ، ندّتْ عني بسخط . صمتت قليلاً ، ثمّ تكلمتْ من ثمّ مومئة ً ناحية شرفة البيت ، المُقابل :
ـ " قال أنه يكفي العائلة ذلك العار ، الذي جلبته قريبتكم بعملها في المسرح .. "
ـ " المأفون ! وكأنما جعلَ لسمعة آلنا ، أجنحة ً ملائكيّة " ، عدتُ أغلي غضباً . وراحتْ هيَ ، على الأثر ، تقصّ عليّ ما إستجدّ من خبر " مريم " ، وأنّ شقيقها ، العتيّ ، قد تهددها وزوجها قبيل إختفائه من الحارَة بعدما شُددتْ الإجراءات الأمنيّة ، مؤخراً . ما رغبتُ بسماع المزيد . تركتها على الشرفة مع سيكارتها ، الخالدة الجذوة ، ثمّ هبطتُ الدّرج متفكراً بدورة النجوم ، المُتكررة حدّ الضجَر .

رأيتني أنساقُ نحوَ " المزرعة " ، وكأنني مَسحورٌ بعطر الغريبة .
بدَتْ الشقة ، في ساعة متأخرة كهذه ، كهفَ أشباح ، مهجور . خطرَ لي الإنسحاب والعودة إلى رحمة الشوارع ، الخالية ، لحظة إبتدهني نداءُ " فريدة " . ما لبثَ سرير المتعة أنْ ضمّنا ، ثانية . سألتني بعدئذٍ عن شقيقها :
ـ " هل أمكنه تأمينَ مسكن ٍ للإيجار ؟ "
ـ " ليسَ بعد . ولكنه يقيم الآن في " مزة جبل " ، عند أصدقاء له "
ـ " أريدكَ أن تخبره ، مؤكداً ، برغبتي لقياه "
ـ " أين .. ؟ "
ـ " في مكانه ذاكَ ، مثلاً "
ـ " هوَ ذلك . فهذا المكان غير مناسبٍ ، كما تعلمين "
ـ " كيف ؟ "
ـ " أعني ، أنّ شخصاً بحساسيّة " بشير " ، لا يُمكن أن يَصْلحَ أنيساً لـ " نظير بك " .. "
ـ " ولا لغيره ، على ما أعتقد ! " ، أجابتني ونظرة حانقة تغشى عينيها الحزينتين ، العميقتيْ السواد . أخلدتُ للصمت ، ولم أشأ إضفاءَ مزيدٍ من الكدَر على ليلتنا هذه ، المؤرقة . من جهتها ، فإنها عادتْ للإسترخاء والسيكارة في يدها . ومن خلل السحُب الرماديّة ، بدا لي أنها عبرَتْ إلى غابة سحريّة من أغراس نافرة ، غريبة الأشكال ، محاولة ً الإهتداء إلى فرعها المُفتقد ، البتول .

***
في الطريق إلى الصحبَة ، الطلابيّة ، إنشغلتُ بإستحضار صورة العقيد .
مناوباتي الليلية ، في قطعتي الجديدة ، أضحتْ أكثرَ إنتظاماً . إذ راحتْ إلى غير رجعة الليالي تلك ، القديمة ، الهاربة من وحشة الهضبة ، المُطلة على غفوة البحر . ها هوَ طريق " الأوتوستراد " ، الواسع ـ كفم حوتٍ ، يتلقفني في العطفة المأهولة ، المتحدّرة من سفح " قاسيون " . كنتُ بصدد الإطلالة ، المألوفة ، على " بشير " وأصدقائه ، المقيمين في جادّة مستظلة بالصخور الواطئة . ثمة ، توغلتُ وعيني على المقام الأعلى ، فيما خطوي يتأثر خطى النبي " الياس " ، الحافية ، الهاربة تواً من مصحّ الجزام . رأيتني بعد قليل في حجرة الإيجار ، المتواضعة ، أجتلسُ على الأريكة العتيقة ، المُفترشة ببطانياتٍ خلِقة ، تفصلني عن صديقي طاولة من حديدٍ ، فظ الصدأ . ثمّ ما عتم أن توالى حضور أصحاب " بشير " ، والذين كنتُ على معرفة ببعضهم . ها هيَ صديقة فتانا هنا ، أيضاً ، وكان فيما مضى قد حدّثني عنها ، مطوّلاً . ما كادتْ تقدّم لي نفسها ، بإسم " سهيلة " ، حتى أفاقتْ بلمحةٍ ذاكرتي .

كانت الحافلة ، المُتجهة إلى " أوغاريت " ، قد توقفت يومئذٍ في مدخل المدينة ، عند نقطة تفتيش ، أمنيّة . رأيتُ خلل النافذة ، المغسولة بالمطر ، أحد رجال المفرزة وهوَ يُغادر البراكيّة ، الكئيبة المظهر ، متجهاً إلينا . وكانت جارتي في المقعد ، الفتيّة ، قد إستلفتها على ما يبدو المشهدَ نفسه . على أنها سرعان ما تبدّت ضجرة ً ، مُستنفرة الأعصاب ، بسبب بطء رجل الأمن في حركة تدقيقه للبطاقات الشخصية . قالت له ، أخيراً ، بعدما إنتهى من مهمّته :
ـ " هلا تتكرّم ، مُتفضلاً ، وتدعنا نمضي في طريقنا ؟ "
ـ " هذا ليسَ شغلكِ ! " ، هدرَ صوتُ الرجل ، فيما هوَ يتأمل بعينين ، متفحّصتين ، هيئة مواطنته هذه ، الأنيقة . ولكنّ الطائشة ، على أيّ حال ، لم تأبه بوعيده : " وهل شغلكم هنا ، مجرّد تعطيل الخلق ؟ " . دقيقة ، على الأثر ، وغادر رجلنا الحافلة مغضباً ، بعدما رفضت الفتاة مرافقته إلى نقطة الحاجز تلك . ثمّ آب بعدئذٍ رفقة عددٍ من الأفراد ، المدججين بالأسلحة الاتوماتيكية . برز أحدهم إلينا ، فأمرَ بإخلاء الحافلة فوراً . خارجاً ، كان ثمة مساء شباطيّ ، عابس ، شاءَ تحيّتنا بصبّ من مطره ، المُشبع برطوبة أبيه ، البحر . ساعة من الزمن ، بقينا على هذه الحالة . حتى إذا إطمأن من ثمّ أحدهم على رثاثة حالنا ، فإنه أشار للسائق بأمر الإنطلاق .

تصافحتُ إذاً و " سهيلة " ـ كصديقين قديمين . وعقبتْ هيَ ، مازحة ً ، على ما سرَدْته من حكاية لقائنا تلك :
ـ " الدنيا صغيرة ، وقد يلتقي جبلان أحياناً "
ـ " لم أدر ، يومئذٍ ، أنني أجلس قربَ صبيّةٍ تملك قلباً جسوراً "
ـ " المهم ، في هذه الليلة ، ألا تكون مُجبراً على الوقوف ، بسببي ، تحت المطر ! "
ـ " ألم يؤنبكِ ضميرك ، عندئذٍ ؟ " ، ساءلتها وأنا في مزاج طيّب . صمتت الفتاة لبرهة ، وراحتْ بسمتها تتلاشى رويداً . أجابتني أخيراً وتعبيرٌ آخر ، قاس ، يعتري ملمحَها وصوتها في آن : " لم نشهَدَ ، في تلك الليلة ، سوى مداعبة طفيفة حسب . الفلتان المرعب للآلة الأمنيّة ، الجهنميّة ، بدأ الآن للتوّ . والقادمُ أعظم " . قلتُ لنفسي ، إنها متطرفة ـ كالآخرين . وأسرّ لي " زكرَوَيه " ، أنّ إحدى بنات جنسها قد حملتْ راية الدعوة ؛ وأنّ فرقتيْ " الخرّمية " و " الراوندية " ، تقولان بإمامتها .

***
أنهيتها أخيراً ، بسلام ، الحقبة المعلومة ، المنذورة لخدمة الوطن .
وكان صديق العمر ، " نورو " ، قد طوّحَ به خارج ملاك الكلية الجوية ، ولسببٍ بقيَ لغزاً . أحاديث حجرة الجلوس ، في بيتنا ، كانت تتناثر أحياناً في سمعي ؛ وأنّ " ماما دنيا " ، صارت توصد بحرص نوافذ منزلها ، المُستضيف ثرثرتها وقريباتها . ما كان الأمرُ هناك مرهوناً للريح الشتويّة ، بل للخبر الجديد ، المُتعلق بتسريح الإبن ، الأثير .
ـ " كثرت أحاديثهنّ ، بهذه المناسبة ، وأفضنَ لأول مرة بذكر صاحبك ، العقيد . ليسَ لتعداد مآثره وأوسمته ، ومناهبه حسب ؛ وإنما للتذكير خصوصاً بحذف إسمه من قائمة المستحقين للمعاش التقاعدي " ، علق " نورو " على ذلك بسخرية مريرة . تناوله بإستخفاف سيرة مُلهمي ، المرحوم العقيد ، كان له أن يسيئني وكاد أن يخرجني عن طوري . بيْدَ أنني راعيتُ حالته النفسية ، المُحبطة ، مُلتزماً من ثمّ الصمت . وعلى كل حال ، فإنّ إتفاق تسريح كلّ منا كانَ ، ولا غرو ، مناسبة ً تشدّ من جديد أصرة َ صداقتنا ، القديمة . ما قدرّ لأخي الرضاع ، إذاً ، أن يتغيّر إلا شكلاً حسب . قامته الفارعة أضحَتْ أكثرَ إمتلاء ، وما عادتْ بشرته ، البرونزية ، منسجمة مع رواء عينيه وإزدهارهما . بالمقابل ، لم يشأ هوَ تأكيد ما أشيعَ في العائلة ، عن إستعداده للهجرة إلى الولايات المتحدة ، بمعونة صهره الغنيّ . من جهتي ، أيضاً ، إحتفظتُ لنفسي بما كان من زعم " زين " ( صاحب الألقاب ، القدسيّة ! ) ، عن معرفته للعصبة البائدة ، الكوكشيّة ، عن طريق قريبي هذا : إنّ تجنب ذكر " فريدة " ، عندئذٍ ، سيكون من المُحال ؛ وقد تبدو أسئلتي ، والحالة هكذا ، كما لو أنها بدافع الغيرة .

ها هيَ " عايدة " لدينا . تناهى لي أنها صارت تلازم أمّي كثيراً ، بعدما بَرمَ الآخرون بشكواها . تأتيها منذ الصباح ، لتروي خلل الدموع ، الذليلة ، ما إستجدّ من حالها مع إمرأة إبنها ، " محمد علي " ؛ هذا العائد مؤخراً من مصر ، بعد إقامته فيها زمناً . كانت أمّي ، بحساسيتها المُفرطة ، لا تحبّذ أن يقطع أحد خلوتهما . مُتجاهلاً هذا الإعتبار ، مضيتُ مساءً إلى حجرة الجلوس ، كيما أرى فِعلَ الزمن بآخر إمرأة في الحريم ، القادريكيْ . لدهشتي الكبيرة ، بدَتْ " آموجنيْ " شائخة ، مُتهدّمة ـ كأنني أنا من فارقها دهراً . مطوّلاً تملتْ فيّ ، لتخاطبني على الأثر بصوتٍ مُرجف : " لتكن بارّاً بأمّك ، بني . إنها راعية آلنا ، فإرعَ شيخوختها في قادم الأيام " . وقالت لها والدتي بنبرة حزينة ، متهدّجة :
ـ " أستغفر الله ، " آموجني " . إنكِ أنت راعيتنا ، والكل يعرف قدْرَك "
ـ " لا قدر لي عندَ أحدٍ ، غيركِ .. " ، أكدتْ العجوز المسكينة . جازَ لي حينئذٍ ، في معاينة حدقتيْ المرأة ، المشدوهتيْن ، أن أذكرَ ربيبتها ، البائسة ، المختلة العقل . وكأنما الفكرة نفسها قد برقتْ ، أيضاً ، في رأس العجوز . إذ عادتْ للإستطراد قائلة ً : " يا للمنكوبة ، " قمر " ! إمرأة إبني ، الذئبة ، تتهددني ، أنا الغريبة ، بحجز الفتاة في " إبن سينا " . وكأنما هيَ ليستْ إبنة عمّها " . مُنتهزاً فرصة الصمت ، المديد ، رحتُ أستعيد ما وصلني أخيراً عن حالة قريبتنا تلك ، المعتوهة ، وأنّ صراخها الليليّ ، الدائب ، صارَ يثير تذمّر الجيران . على الأثر ، تناهضتُ للتوجّه إلى عليّتي لإعداد ما يلزم للسهرة صحبة " نورو " ، مراوحاً قدميّ على العتبة ، فيما " عايدة " تسترسلُ بنفض غبار القهر عن داخلها : " ولو أنّ عمّكم ، المسكين ، كان بصحته ، لما تجرأ كائناً من كان على مُجرّد التنفس في دارنا . إنما هيبته ضاعتْ في الحارَة ، حينما قتلوا " عيسى " ، الذي كان مشمولاً بحمايته ؛ وحينما راحتْ " مريم " تدور على حلّ شعرها وبقوادة رجلها . فكأنما نحن في الزمن ذاته ، المُنذر بظهور الأعور الدجّال " . وهوَ ذا " زكرويه " ، غامزاً إياي بعينه ، الوحيدة ، يُبشرني أنّ الهيكل الذي بناه " الضحّاك " ، سيكون له في المستقبل من الزمان شأنٌ جليل ، ويَعقدُ فيه مَلِكٌ عظيمٌ مُمتطٍ بقرة .

***
أثناء صحبتنا للعَرَق ، راح " نورو " ، مُنكسراً ، يحدّثني لأول مرة عن مشروعه للهجرة إلى أمريكة . وقال ، أنه يرغب بالإستقرار فيها نهائياً . لهجته معي المُعتادة ، الساخرة ، لم تريحني . هذا ، وبالرغم من تقديري لصدق معاناته وكربه . وبالنبرة ذاتها ، أخذ يستعيد ما أسماه " حبّنا الأول ، المُشترك ، لإمرأة واحدة " . كان يُشير ، المرة تلو الاخرى ، إلى جهة " البرج " . ثمّ آبَ من بعد إلى موضوع تسريحه ، المُفاجيء ، من الجيش . لحظتُ مدى تأثره بكلمات " الميدانيّ " ؛ مُنشد حاضرتنا : " الشام ، لولا المظالم ، كانت فوق المدن جنة " . حينما آذنت الساعة الثانية ، بعيدَ منتصف الليل ، بدا صديقي كما لو أنه يتهيأ للإنصراف . ولكنه ، منطفئاً وبائساً ، إلتفتَ إليّ عند باب الحجرة ، قائلاً : " تعالَ ، كي نقتل الطاغية .. ! " . ما إهتممتُ لقوله ذاك ، ولا لخروجه إلى الشرفة . " سيبقى ثمة برهة ، يتأمل نجمَ نحسه " ، فكرتُ في سرّي . على أنّ صوت إرتطام قدميه على السطح المُجاور ، المُفضي لحديقة كبير آلنا ، كان لا بدّ له أن يُخرجني من لا مبالاتي . صدمني مشهده ؛ هوَ المترنح في العتمة ، الغافية . هكذا رأيتني أسارع إلى موقفه هناك ، المُشرف على الدار الكبيرة ؛ أين غرفة العمّ ما فتأت مُضاءة . تشبثتُ بالصديق الثمل ، مُحاولاً إقناعه همساً بالكفّ عن تصرفه الصبيانيّ ، الأخرق . فما كان منه إلا دفعي في صدري بعنف ، وهوَ يلتفتُ ناحية الغرفة تلك ، هاتفاً بقوة : " قادريكي ي ي .. ! " .

هبوب الهواء ، ، إشتدّ عندئذٍ وراحَ يخترق صدري ـ كمسمار . أرعشني الخلاءُ وظهور سيّده ، المُحتمل ، أكثرَ مما فعله البرد . ولكن هيَ ذي دقيقة اخرى مرّتْ ، وما من جلبَة ثمة ، تحتنا . على أنّ " نورو " بدا هادئاً نوعاً ، حينما أخذ طريق العودة إلى جهة عليّتي . الضوءُ الأرجوانيّ ، السهاريّ ، المُتناهي خافتاً من حجرة " البرج " ، إستوقفه ملياً . بسمة غريبة ، شيطانيّة السِمة ، أنارتْ بدورها سحنة صديقي : " الكلّ موتى . وحده ، الممرض ، من يُجري عمليّة تشريح ! " ، قالها فيما يلوّح بإشارة من يده ، بذيئة . عليّ كان أن أنتهره بعدئذٍ ، مُعنفاً ، حينما شرعَ بقطف ليمونة من الفرع المتطامن إلى السطح ، وفي نيّته رميها إلى تلك الناحية ، المُضاءة بمصباح حالم . في حجرتي ، إستجمَعَ شتاتَ نفسه ، مخلداً لصمتٍ متطاول . رفع رأسه من ثمّ ، ليقول متهكماً : " إسمعْ ، يا عقيد ! أترغب بسماعي ؟ حسنٌ . حينما إستغربتَ أنتَ من قراري التطوّع بالكلية الجويّة ، قلتُ لكَ : " إنني أفكر بقصف قصر كبيرنا " . نعم ، تلك كانت مزحة . وأنتَ لم تش بي ! " . ثمّ أضاف ، ولهجته الساخرة تتفاقم رويداً : " أمّي ، ما غيرها ، تتكلم الآن بالسياسة والتقارير الأمنيّة . ما شاء الله ! الحق ، فما تهيأ لها ان تعلمَ بعدد المرات ، التي مكثتُ فيها في السجن ، مُعاقباً . يبدو أنني موهوبٌ ! " . بالمقابل ، كنتُ محتفظاً بلساني في مكانه المألوف ، منصتاً بحزن لتجديفات صديقي . وهو ذا يختتمُ القول ، المرّ ، مُستفزاً إيايَ بلا هوادة : " وهذا العمّ ، العظيم ! أنتَ تقدّسه ، أليسَ كذلك ؟ مُقدّس ـ كالربّ : كنْ ، فيكون ! ولكن جاء دوره ، أخيراً ؛ جاءَ من سيحجر عليه ، جنباً لجنب مع ربيبته ، التي أضاع ظلمُه عقلها .. "
ـ " دعكَ من هذا الهراء ! "
قاطعته بصوتٍ ، مُصمّ ، أعماه الحنق . مدهوشاً ، تساءل " نورو " وكأنما أفاق للحظته : " علامَ تثور أنتَ ؟ " . ثمّ أردفَ هادئاً ، والبسمة نفسها ، الهازئة ، تتأثره :
ـ " أم أنّ إشارتي للحبيبة ، القديمة ، قد ضايقتكَ ؟ "
ـ " أنتَ سكرانٌ .. "
ـ " لا تنسَ ، يا عقيد ! ، أنها أختي أيضاً "
ـ " دعكَ من هكذا تهريف ، لأنه لا يليق بكَ "
ـ " سكرانٌ ومهرّفٌ ؟ وداعاً ، إذاً ! " ، قالها بلا مبالاة . ثمّ خرجَ خلل الباب ، المُؤدي للشرفة ؛ أينَ السماء المتجهّمة والمنجّمة ، في آن .

***
زهرة اخرى ، هيَ ذي ، تذروها الريح الشتائيّة ، فتذوي رماداً في مهبّها .
إستحال عليّ ، هذه المرة ، أن أهتديَ لمستقرّ " فريدة " ، الجديد ، ما فتأ رجلها الأول ، صاحبُ العلامة ، مختفٍ بدوره . حينما عدتُ لشقة " المزرعة " ، كيما ألاقي صديقتها ، المتخلفة ثمة ، إذا بي أفاجأ بمرأى صبيّة ، غريبة . وإذاً هناك عند الباب ، رأيتني أمامَ غادة ، مُزوّقة ، تتطلع إليّ بفضول وحيرة ، وما لبثتْ أن إستفهمت مني عن مرادي . ما أن شرعتُ بمساءلتها عن قاطني الشقة ، القدامى ، حتى إنبعثَ من الداخل صوتٌ ذكوريّ ، مائع النبرة : " أغلقي البابَ ، يا حاجّة ! هذا ليسَ مكتب إستعلامات .. " .

ثمّ شاءت المصادفة ، أخيراً ، أن ألتقيَ " سهيلة " ، في صباح تال ، وكانت خارجة ً من كافيتريا الكليّة ، الجامعية . ومنها علمتُ بخبر إعتقال " بشير " ، حينما كان في زيارة لأهله . وعلى ذلك ، تكوّنت لديّ صورة ما ، مُحتملة ، عن مسألة إختفاء الغريبة . الحق ، فصديقتها تلك ، التي كانت تشاركها الشقة ، قد سبق وحدثتني عن إنصراف " نظير بك " إلى متعةٍ اخرى ، أكثرَ جدّة ، إثرَ عودته من " بولندة " . في إيابه من ذلك البلد ، كان قد إصطحبَ فتاة شابّة ، تمتلك فضلاً عن ميزة جمالها ، السلافيّ ، معرفة اللغة العربيّة ـ كونها خريجة معهدٍ ، عال ، للآداب الإستشراقية . إلى شقة الغراميات ، المفتوح حسابها على رصيده المُتخم ، كان " الجملُ " يأتي بسكرتيرته تلك ، الجديدة ، ودونما نأمة إعتراض من " فريدة " ؛ هذه المحكومة بالفوز ، ما فتأت متغرّبة عن طبعها ، العنيد . أمّا وقد سقط الشقيق ، الأثير ، في براثن الكمين ، الأمنيّ ، فلا بدّ أنّ أمراً ، مختلفاً ، قد إعتملَ في العلاقة بين المليونير وعشيقته ، العتيقة : ربما قدّر جملنا ، وهوَ يتحسس جلده ، الرهيف ، أنّ ذلك " الماضي النضالي " ، الذي يا ما إفتخرَ هوَ به ، قد يؤخذ بعين الإعتبار ، ما لو توسّع رجالُ الأمن في تحرياتهم عن شقيق " فريدة " ، المعتقل ؟

* الحلقة القادمة : مختتم الجزء الأول ، من رواية " برج الحلول وتواريخ اخرى "

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غربُ المَوت ، للشاعر الكردي دانا صوفي
- أقاليمٌ مُنجّمة 8
- عزلة المبدع ، قدَر أم إختيار ؟
- مسْرىً لمَغاورها
- أقاليمٌ مُنجّمة 7
- قراصنة في بحر الإنترنيت
- أقاليمٌ مُنجّمة 6
- النصّ والسينما : - كرنك - علي بدرخان
- أقاليمٌ مُنجّمة 5
- أقاليمٌ مُنجّمة 4
- كما كبريتكِ الأحمَر ، كما سَيفكِ الرومانيّ
- أقاليمٌ مُنجّمة 3
- أقاليمٌ مُنجّمة 2
- آية إشراق لنبيّ غارب ٍ
- أقاليمٌ مُنجّمة *
- مَناسكٌ نرجسيّة 6
- سطوٌ على المنزل الأول
- مَناسكً نرجسيّة 5
- القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
- مَناسكٌ نرجسيّة 4


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أقاليمٌ مُنجّمة 9