أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - صـدام عـمـيــلاً تـمـحــيـص الـمــصطلـح















المزيد.....


صـدام عـمـيــلاً تـمـحــيـص الـمــصطلـح


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 705 - 2004 / 1 / 6 - 04:23
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


"العمالة" و"العميل" مصطلحان شائعان في الثقافة الحزبية والسياسية العراقية، استخدمهما الجميع ضد الجميع في حروبهم السابقة. وهما يشيران الى ارتباط فرد او جماعة بجهات عدوة او اجنبية وائتمارهم بأوامرها. ولما كانت مصالح القوى السياسية وارتباطاتها وصلاتها مختلفة ومتعارضة اضحى فحوى هذه المصطلحات غائما، يخلو في احوال كثيرة من الاسس المنطقية. وبدقة اكبر، اصبحت هذه المصطلحات تعبيرات فارغة، تفتقر الى القواعد القانونية والحقوقية، ناهيك بالابعاد الاخلاقية.

 

في ظل التسابق المحموم من اجل كسب ود القوى الاجنبية، اضحى مصطلح العمالة مهملا، بل غدا محذوفا من صفحات القواميس السياسية. فاذا كان العراقيون ادمنوا سابقا استخدام هذه المصطلحات، لفرض التشهير السياسي، فافرطوا في ذلك، فإننا نراهم اليوم، في ظل ضياع المقاييس الوطنية، ينسون او يتناسون عمدا اي مسؤولية شخصية او جماعية تلزم الافراد والجماعات قانونيا بعض الاعتبارات الوطنية المتعلقة بالسيادة الوطنية والامن الوطني والمصالح الوطنية العامة. فاذا كان العراقي قد عانى سابقا شدة ابتذال مصطلح العمالة من طريق الافراط في استخدامه، فإن العراقيين اليوم يفرّطون علنا في المسؤوليات الشخصية والجماعية المتعلقة بالمصالح الوطنية وما يترتب عليها من أسس قانونية وحقوقية. فالمناخ السياسي ينتقل عقليا من مرحلة المركزية الشديدة الى مرحلة الفوضى العارمة، وربما يكون هذا مظهرا من مظاهر ضياع المقاييس الوطنية. ولجعل الصورة اكثر نقاء سنقوم بتطبيق مصطلحَي العميل والعمالة على الرجل الاكثر مثارا للجدل عراقيا وعالميا: صدام حسين، في اعتباره الشرير الاكبر، لنبيّن كيف تطور استخدام هذه المصطلحات، من حدودها المبتذلة الى صيغتها الفوضوية الراهنة، التي اسفّت بالمفاهيم وانحدرت بها الى مستوى نفعي عبثي، كاد يجعل عتاة المجرمين وطنيين اطهارا، وكاد يساوي بين الجريمة والحرية يساوي بين الاخلال المتعمد بالمبادىء الوطنية والمسؤولية القانونية الفردية. ان فوضى استخدام المصطلح تعكس الفوضى الداخلية، التي تتحكم بمقاييس المنطق، كما تعكس شدة الاضطراب الروحي والاخلاقي للمجتمع في مرحلة تاريخية معينة.

من المفيد ان نشير الى امر بحثي بحت، هو ان الكتّاب الحزبيين استخدموا التاريخ كمادة لتثبيت التهم، وليس كموضوع للدراسة. وما زالت آثار هذا الميل قائمة بعمق لدى الكتّاب السياسيين، رغم سقوط كثير من افكار اولئك الكتاب واحزابهم وتغيّر مواقفهم وعلاقاتهم بخصومهم السابقين، محليين ودوليين. كما ان تحوّل بعض الكتّاب من الكتابة الخطابية والانشائية والشعارية السياسية الى البحث العلمي - وهي ظاهرة ايجابية - لم يلغ انشداد هؤلاء الى الميل القديم نفسه، القائم على الاستخدام الفارغ، التشهيري. فقد ظل كثيرون اسرى مناخ "الخلية الحزبية" عقليا. فهم يوزعون تهم العمالة يمينا ويسارا من دون ان يفكروا في مغزى استخدامها. ولذا، يغدو البحث العلمي لديهم، في احوال كثيرة، محض توثيق لوجهات نظر عامية، شائعة، ويغدو البحث التاريخي السياسي ضربا من الرطانة. وهذا ما نجده مثلا في دراسة كاظم حبيب القيّمة المسمّاة "المؤتمر القومي وقراراته الاخيرة"، الحلقة 18 بشكل خاص، وعلى وجه التحديد الاجزاء المتعلقة بـ"العمالة" والاتصال بأجهزة المخابرات الاجنبية، حيث يضطرب المنطق العلمي التحليلي للكاتب، حالما يقترب من موضوع العمالة، ويرتد النقد لديه الى شكل سافر من احكام الادانة الحزبية. فالعادة تتغلب احيانا على المهارة، حتى في مجال التفكير والبحث العلمي.

 

تمحيص التاريخ

لم يجمع العراقيون، طوال تاريخهم المديد، على امر كإجماعهم على ان صدام حسين لم يكن سوى ديكتاتور من صنع الاميركان. فالعراقيون كافة، من اليسار الى اليمين، من عرب وغير عرب، من أمميين وقوميين وقطريين، من تقليديين ومجددين، يجمعون على ان صدام حسين طُبخ، كديكتاتور، في مطابخ السياسة الاميركية. اما الادلة على ذلك فكثيرة ومتعددة.

أقدم شهادة إثبات عراقية على اميركية صدام هي اعتراف علي صالح السعدي، امين سر حزب البعث في العراق، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في حكومة ،1963 بأن البعث جاء الى الحكم "بقطار اميركي". ورغم ان هذه التهمة الشائعة، لدى اليساريين خاصة، لا تتعلق بصدام شخصيا، بقدر تعلقها بحزب البعث، الا انها استخدمت كدليل اثبات ضد صدام، في اعتباره جزءا من كل.

وبصرف النظر عن هذا، فكثيرون يصرون على جعل صدام اميركيا.

وتشير كثير من المصادر، التي تتهم صدام بالعمالة للاميركان - اعتمادا على رأي لأحد قياديي البعث السابقين، هاني الفكيكي، في كتابه "أوكار الهزيمة" (ص150) - الى الصلة التي ربطت بين صالح مهدي عماش (وزير الدفاع عام ،1963 ووزير الداخلية عام 1968) والسفير الاميركي في بيروت.

اما اكثر المصادر اثارة فهو السر - يصر الجميع على بقائه سرا حتى اليوم - الذي باح به الملك حسين الى رئيس تحرير صحيفة "الاهرام" محمد حسنين هيكل في 27 ايلول ،1963 والذي يقول فيه: "اسمح لي ان اقول لك ان ما جرى في العراق في 8 شباط  قد حظي بدعم الاستخبارات الاميركية. ولا يعرف بعض الذين يحكمون بغداد اليوم هذا الامر، ولكني اعرف الحقيقة. لقد عقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الاميركية، وعقد أهمها في الكويت".

ويورد حنا بطاطو في كتابه "العراق" (ج3 ص 300) نقلا عن "عضو في قيادة البعث العراقي 1963 طلب عدم ذكر اسمه" ان السفارة اليوغوسلافية في بيروت حذرت قيادة البعث من "أن بعض البعثيين العراقيين يقيمون اتصالات خفية مع ممثلين للسلطة الاميركية".

وهناك من يجد ادلة أكثر مباشرة ودقة تؤكد ارتباط صدام الشخصي بجهاز السي اي أي. ومن هذه الادلة، وهي مثبتة على لسان قياديين بعثيين عرب، ما يؤكد واقعة تجنيد صدام في جهاز المخابرات الاميركية حينما كان لاجئا في مصر.

واذا كانت تلك الآراء منسوبة الى قياديين بعثيين، فإن هناك اطرافا غير بعثيين لهم رأي خاص في مسألة عمالة صدام، منهم الكاتب رفعت سيد احمد، الذي يرى في كتابه "آيات شيطانية" أن "صدام حسين مهما حسنت فيه النيات، لا يعدو في تقديرنا ان يكون سوى صنيعة للغرب وأداة له منذ جاء الى السلطة في العراق مع حزب البعث عام 1968 حتى يومنا هذا، ربما قبل ذلك، حيث يقال انه في طفولته تعلم على يد خاله الحاج خيرالله طلفاح، وهو عميل قديم للانكليز، ثم دخل عام 1960 معهد شملان البريطاني، واتصل في بيروت برجال المخابرات البريطانية، وتعلم على ايديهم اشياء عديدة" (من مقدمة الطبعة الثالثة). وهنا نرى ان صداما كان عميلا بريطانيا.

اما كون كولاج فيؤكد في الفصل الاول من كتابه "صدام... الحياة السرية" أن طلفاح كان "نازي الهوى وسجن لمدة خمس سنوات بسبب تأييده للثورة ضد البريطانيين"، ان فصل طلفاح من الجيش تحت تأثير حركة رشيد عالي الكيلاني امر معروف للجميع، رغم اختلاف تفسيرات الحدث. ان ذلك يقودنا الى اضافة عنصر جديد من عناصر مكوّنات صدام الداخلية، هو المانيا الهتلرية. لقد اوردنا رأي الكاتب رفعت سيد احمد من باب الطرافة. رغم ان هذا المصدر لم يكن وحيدا في اتهامه صداما بالعمالة للبريطانيين، فمثل هذا الاتهام ورد ايضا على لسان ابرهيم الداوود (وزير الدفاع عام 1968)، الذي يقول عن صدام وصلاح عمر العلي "أنا اعتقد ان السفارة البريطانية كانت تحركهما" ("الحياة" ،9 ،10 ،11 12/6/2003).

 

كتّاب ام حاطبو ليل؟

من هذا كله نرى ان صدام حسين كان "الماني الهوى" بسبب تأثير خاله "النازي الهوى"، كما كان عميلا بريطانيا، بعدما كان اميركيا، في نظر كتّاب المذكرات البعثيين، الذين تعارضت مصالحهم مع مصالح صدام في اوقات مختلفة. وهو من دون شك عميل روسي، وذلك امر لا يحتاج الى اثبات، في نظر الدعاية الاعلامية الغربية سابقا!

اما الزعيم الركن عبد الغني الراوي فيخلط الحابل النابل حينما يتطرق الى موضوع العمالة للاميركان، فيشير في مذكراته التي عرضها في "الحياة" 7/7/،2003 بعد ثلاثة عقود من وقوعها، الى ان ما قيل عن تزعمه محاولة انقلابية بالتعاون مع ايران كان صحيحا، وان السافاك والمخابرات الاميركية كانوا يسعون لاعادة السلطة الى محور النايف بالتعاون مع الراوي وسعد صالح جبر، الذي كان همزة الوصل مع المخابرات الاميركية.

والراوي شخصية عسكرية دموية معروفة بحبها للقسوة والتسلط. ورغم انه لم يكن بعثيا، الا انه كان مقربا جدا من البعث والقوميين، بسبب ميوله الاسلامية الاصولية ومواهبه الانقلابية وتعطشه للدم. شغل الراوي مناصب عسكرية عديدة في حكومة البعث الاولى، منها قيادة الفرقة المدرعة الثالثة وقيادة قوات الرمادي، وينسب الى نفسه اوامر اعدام عبد الكريم قاسم ورفاقه واعدام مجاميع من الشيوعيين. ويؤكد الراوي ان البعث جاء الى الحكم بناء على رغبة اميركية، ويشرك في هذا الرأي زميلا له هو ابرهيم الداوود، الذي أسرّ له "أنهم (الاميركان) هم الذين جابونا الى الحكم وهم الذين اخرجونا منه". ويعني ان الاميركان هم الذين سلّموا  البعثيين السلطة. بيد ان دراسة مذكرات الراوي جيدا، بعد تخليصها من تناقضاتها الكثيرة ومن سذاجاتها العقلية، توصلنا الى نقاط مهمة، منها اولا: صلة انقلاب 17 تموز 1968 بالاميركان من خلال مجموعة النايف - ثانيا: ان محاولة كانون الثاني 1970 الانقلابية ما هي الا مخطط جرى رسمه على يد السافاك بالتعاون مع المخابرات الاميركية والبريطانية. وهذان الامران يؤكدان الرأي القائل أن التقارب الاميركي "الجدي" مع الحكومة العراقية البعثية نما بشكل سريع ومتعجل مباشرة منذ الايام الاولى لقيام الثورة الايرانية، مع احتمالات كبيرة تؤكد ان الطرفين اقاما جسورا سابقة.

لقد توقفنا قليلا عند شخصية عبد الغني الراوي، لأن الراوي احد المفاتيح الاساسية المهمة في اي محاولة لفهم شخصية صدام حسين. فالراوي احد العسكريين الولوعين الى حد الهوس بالخوض في غمرات الدم. وهو الى جانب عدد من العسكريين العراقيين من امثال عبد السلام عارف والبكر وعماش وعبد الرزاق النايف طراز معروف وشائع من القيادات العسكرية العراقية الفارغة عقليا الا من حب السلطة والبحث المرضي الجنوني عن سبل الوصول اليها. وقد كوّنت هذه الشخصيات لصدام "المدني" الصورة النموذجية للعسكري العراقي، ومنحته دفعة تشجيع اخلاقية وسياسية ونفسية اعانته في تطوير دوافعه وميوله القيادية، وجعلته يبزهم جميعا، باضافة مواهبه الشخصية الى مواهبهم.

وبما اننا نتحدث عن العمالة للاميركان، فلا بد  ان نتوقف عند رأي الاميركان انفسهم. رغم اننا واثقون انهم لن يبيحوا في الوقت الراهن بما هو ضار للسياسة الاميركية الحالية، وربما يكون جيمس وولسي اكثر المؤهلين في هذا المجال لالقاء الضوء على موضوع عمالة صدام حسين. فهو المدير السابق لوكالة المخابرات الاميركية في الفترة 1993 - .1995

يقول وولسي: "صدام لم يكن عميلا للمخابرات الاميركية ابدا. ونحن بالتأكيد لن نقوم بزرع عميل للمخابرات الاميركية ليكون رئيسا للعراق". وهو يعني هنا انهم لن يزرعوا عميلا جديدا في مجلس الحكم الانتقالي او الحكومة العراقية المقبلة بدلا من صدام!

بيد ان وولسي لا يستطيع انكار الصلة بين الاميركان وحكومة البعث الثانية من خلال صدام نفسه، فيقول مبررا هذه العلاقة: "لم يكن صدام حسين يعمل لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية، لكنه تسلّم معلومات استخباراتية من المخابرات الاميركية لمساعدته ضد النظام الايراني. والسبب  ان شعور ادارة الرئيس ريغان في ذلك الوقت كان سلبيا جدا حيال ايران بسبب اعتقال موظفي السفارة الاميركية في طهران عام ،1979 وايضا نتيجة دعم ايران "حزب الله" الذي قام بعملية تفجير احد المواقع العسكرية الاميركية في بيروت. الحكومة الاميركية شعرت انه بالرغم من ان النظام البعثي في العراق لا يلبي طموحات الادارة الاميركية للشعب العراقي الا انها فضلت ان يكون المنتصر في الحرب هو نظام صدام. اذن صحيح. نحن قمنا بتقديم مساعدة محدودة لنظام صدام من منتصف الثمانينات الى نهاية الثمانينات خلال الحرب العراقية الايرانية" (نقلا عن نشرة "راديو سوا" المكتوبة، وهذا الحديث أعده برنامج تلفزيوني اميركي "العراق والعالم" بتاريخ 2/5/2003).

لقد عمدت الى إيراد تلك الآراء المختلفة لأثبت امرا واحدا، ان الوثائق الحقيقية التي تؤكد صحة ما حدث اصبحت الآن، جميعها، في حوزة الاميركان، الذين حرصوا على جمعها وترحيلها الى بلادهم بعناية خيالية، مقارنة بمقدار عنايتهم بالمتحف الوطني العراقي او بأمن  الشعب وممتلكاته. ومن المؤكد انهم سيتولون مهمة "منتجتها"، وربما اعادة بعضها الينا، لفرض صناعة تاريخ يلائم متطلبات مرحلة الاحتلال. ومن المعروف ان بريطانيا واميركا قامتا، كجزء من خطة احتلال العراق، وفق ما عرف بقانون تحرير العراق، بإنشاء هيئات خاصة تحت واجهات اكاديمية وبحثية لهذا الغرض، نذكر منها "مؤسسة الخوئي" في بريطانيا، و"مركز الوثائق العراقية" الذي يديره كنعان مكية من خلال جامعة هارفرد في اميركا، اضافة الى مؤسسة "الذاكرة العراقية"، التي جرى إنشاؤها بعد الاستيلاء على وثائق البعث والدولة العراقية، وبشكل خاص الوثائق المتعلقة بالصفقات السياسية السرية، وصفقات السلاح، والصفقات الاقليمية وما رافقها من مغامرات عسكرية كارثية. وبذلك حكم على الباحثين المستقلين ان يكونوا محض حاطبي ليل. فلم يُبق الاميركيون من الوثائق الا تلك التي تتعلق بصغار السياسيين والموظفين، اضافة الى الوثائق المتعلقة بكميات ورق المراحيض (الكلينكس) المخصصة للقصور الرئاسية، التي جعلت بعض الصحافيين العرب ينشغلون بها ردحا، مستمتعين بتحليل ابعادها الفلسفية! كما فعلت مجلة "الوسط" في عددها 598 - 14 تموز .2003

 

العمالة هواية ام ضرورة؟

بصرف النظر عن صحة او عدم صحة تلك الادلة، فان فريقا من الناس يرى ان المقصود بارتباط صدام باميركا، هو ان صدام حسين ساير المشروع السياسي الاميركي مسايرة مثيرة للعجب، رغم تناقضه الظاهر مع هذا المشروع. فصدام هو الذي ملأ الفراغ الذي أعقب سقوط الشاه، والذي لم تبد السعودية، كدولة اقليمية ذات نفوذ، حماسة خاصة لشغله. وهو الذي ادار الطريق التقليدي المؤدي الى القدس بتحويل مجراه الى جهة الشرق في اتجاه ايران، في حرب فشلت اميركا في خوضها ضد ايران بشكل مباشر. وهو الذي اعطى القوات الاجنبية مشروعية الوجود "علنا" كقوات احتلال، مدفوعة الأجر، على ارض الخليج تحت مظلة تحرير الكويت، وهو الذي اعطى الاميركان وحلفاءهم حق تقسيم العراق مناطق نفوذ باسم الشرعية الدولية. وبذلك وسّع احلام المتطرفين القوميين والطائفيين الرامية الى تمزيق وحدة العراق. وهو المسؤول بشكل مباشر عن قيام الدول - المدن الكردية، وما رافق ذلك من تقسيم عرقي وطائفي: كردي - عربي، وسني - شيعي وفق ما عرف بخطوط حظر الطيران، التي هي في الاصل تمهيد نفسي لعملية التقسيم العرقي والطائفي الجارية الآن على الارض. وهو الذي جوّع العراقيين وأفقرهم وأهانهم الى الحد الذي جعل بعضهم يكونون مستعدين لقبول فكرة الحرب، حتى على حساب مصالحهم الوطنية، وهذا امر لم يكن ممكنا من قبل. والاهم من ذلك هو الذي جعل المشروع الاميركي، القاضي باحتلال العراق تحديدا، يكون مسوغا من جزء من العراقيين. في وقت يعرف الجميع ان العراق لم يكن منطقة نفوذ اميركية قط، ولم يكن في مقدور الاميركان بسط نفوذهم على العراق بهذه السهولة والرخص.

لذلك، سواء كان صدام عميلا بالادلة، ام انه وصل الى ما وصل اليه بنزاهة من تهمة العمالة، فإنه قدم للاميركان ما لم تحلم بتقديمه كتيبة كاملة من العملاء. فقد كان صدام وفيا الى حد الاعجاز للمشروع الاميركي، الذي ظل يقاومه علنا، ويحفر سرا بارادته او من دون ارادته من اجل ان يغدو محققا على الارض.

 

العمالة خير ام شر؟

بيد ان ما يستلفت النظر هو ان تهم صدام بالعمالة للاميركان والبريطانيين اضحت شهادات شرف لدى متهمي صدام بالعمالة. فالسياسيون العراقيون المؤيدون للاميركان اضحوا يحلمون علنا بمصافحة اي يد اميركية تمتد اليهم. اما الصحافيون والكتاب والمثقفون العراقيون المحبذون للاحتلال فراحوا يشيدون بأفضال  السي اي اي جهارا.

لذلك، يسعى متهمو صدام بالعمالة للاميركان الى ايجاد حجج تبرر اتهامهم السابق وتحفظ لهم في الوقت نفسه حق التمتع بهذه التهم: "العمالة". فحتى في نصوص الاتجاه المؤيد للحرب والاحتلال الاميركي ما زلنا نجد من ينسب صداما الى الاميركان، خاصة في نصوص الشيوعيين السابقين. وهم يعنون نسبته الى الاميركان "المضللين"، الذين صنعوا احداث هيروشيما وفيتنام وانقلابات اميركا اللاتينية ومؤامرات  شرق آسيا والشرق الاوسط وحروبهما، ويرى هذا الفريق ان تورط الاميركان في صناعة صدام حدث، ككل الاحداث المأسوية، قبل صحوة 11 سبتمبر! مثل هذا نجده في كتابات الكتّاب العاملين في خدمة جهاز الاعلام الاميركي كابرهيم احمد داود، او السياسيين الباحثين عن عقد للعمل في هذا الجهاز كعزيز الحاج وغيرهما.

ترى هل يخطو العقل العراقي من الاستبداد المفرط الى الابتذال المفرط؟

ان تضييع مفهوم السيادة، يلقي بظلاله القاتمة لا على الخطاب الصحافي الدعائي فحسب، بل يمتد الى محتوى التشريع العراقي، ويفرض نفسه حتى على صياغة القوانين المتعلقة بالحقوق والواجبات. فمشرّعو الدستور العراقي يواجهون معضلات جدية عويصة. فهم يكتبون دستورا وطنيا بإيعاز من وزير خارجية دولة اجنبية، وهم يكتبون دستورا لدولة مستقلة في ظل وجود ربع مليون جندي، ينتسبون الى عدد كبير من الدول الاجنبية. والاهم من هذا كله انهم يكتبون دستورا يتوجب ان تنص مادته الاولى على ان العراق "دولة مستقلة"، "ذات سيادة"، في وقت  يعرف المشرّع ان العراق دولة غير مستقلة، لا تملك السيادة. كما ان المشرّع يدرك ان النص الذي يقول بان الشعب هو مالك الثروات الطبيعية يتعارض مع قوانين التملك والاستثمار الاجنبي وسياسة الاحتكار التي تفرضها الدولة الغازية، وان المادة التي تنص على ان المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات تتعارض بشكل مطلق مع "الحق المطلق" الذي يملكه مواطنون من الدرجة الاولى اسمهم جهاز  الاحتلال وجنوده، الذين يحق لهم معاقبة  كل من يتعارض مع مصالحهم المباشرة، وقتله وحبسه وتدميره، ولا تملك اي جهة سياسية او قانونية عراقية "حق" الاعتراض على ذلك. ان المشرّع العراقي في ورطة مهلكة، وحتى اولئك "الحاذقون"، الذين يمنحون التعاون مع المحتل او مع الاحتلال مشروعية موقتة باسم الضرورة او الامر الواقع، يسقطون في فخ "العمالة". وربما وصل الامر الى ما هو ابعد من هذا لدى بعض القوى السياسية، التي عاشت طوال عمرها المديد على سياسة تخوين الآخرين واتهامهم بـ"العمالة"، والتباهي بالنظافة الوطنية، باعتبارهم قدوة تاريخية في مجال الدفاع عن السيادة والاستقلال.

فعلى سبيل المثال آثر وزير الثقافة العراقي ان يرسم صورة عظيمة التفاؤل لمستقبل شعبه، حينما صرح لصحيفة "الشرق الاوسط" في 30/11/:2003 "نحن نواجه القوى العسكرية الكبرى في العالم، وبالتأكيد فهي لن تهزم او تجبر على الرحيل لمجرد ان هناك عمليات مسلحة هنا وهناك". الا يدمغ مثل هذا التفسير الشعب العراقي بالكساح المزمن والاذلال والخضوع الابدي؟ فالوزير يعني ان الشعب لم يستطع اسقاط صدام فاستعان بغاز اجنبي، وها هو يعجز عن اخراج الغازي "القوي". فعليه ان يقبل به كضرورة!

هل سيكون الامر الواقع مصدرا للتشريع وللحق ام سيكون التشريع والحق مصدرا لرسم حدود الواقع السياسي؟ فبعض مؤيدي الاحتلال لا يكتفون بالغاء المنطق فحسب، بل يلغون معه ايضا تاريخ الحركة الوطنية بأسرها، بما في ذلك الجزء الوحيد المشرق من تاريخ احزابهم: النضال من اجل الاستقلال. بيد ان مؤيدي الاحتلال يدركون انه اذا كانت الضرورة هي التي جعلت الاحتلال والتعاون مع الاحتلال قضية "شرعية"!، فإن هذه الشرعية - اذا كانت حقا كذلك - ليست حكرا على اعضاء مجلس الحكم وأنصاره، بل هي طبقا للديموقراطية الاميركية ذاتها، "حق" يشمل العراقيين عامة، يشمل الجماعات السياسية كافة. لأن الناس متساوون كأسنان المشط في الحقوق والواجبات. ألا يقود، مثل هذا المفهوم الشاذ الى اشاعة  "العمالة" ودمقرطتها؟ ألا يجوز هذا المفهوم، لأي فريق يعجز عن الوصول الى السلطة، حق استخدام "العمالة"، كمطلب شرعي، باسم الضرورة والامر الواقع، فيغدو حق الحماية الاجنبية والاتصال بالقوى الاجنبية وحق بيع  الاسرار والمصالح الوطنية  وشرائها امرا مشاعا وقانونيا؟

الا يقود هذا المنطق الى ظهور التساؤل الاخلاقي والقانوني القائل: هل "العمالة" حق خاص ممنوح لهذه الفئة دون غيرها وهذا الفرد دون غيره، ام انها حق عام يتمتع به مواطنو هذا البلد الاحرار كافة، بالتساوي؟

اين المعايير القانونية والاخلاقية والمنطقية التي تحكم الظواهر السياسية؟

هل الوطن والسيادة الوطنية مادة للمماحكات اللغوية وللصفقات "التحالفية"؟

هل الخروج من "عمالة" صدام يبيح لنا إعطاء صفة الشرعية لأي "عمالة" اخرى، يعرضها علينا ا ول عابر سبيل، او غاز قوي؟

ألا يشير هذا  التحول العقلي الى ان البعض يسعى - لكي يتلاءم مع ارادة الاحتلال ومع ورطته السياسية - الى مسخ الجوانب المشرقة من تاريخنا ا لوطني ومن ثقافتنا الوطنية وتلطيخ جزئها ا لحي، المتعلق بالسيادة وبالبحث عن ارادة وطنية حرة، مستقلة؟

ألا يؤكد هذا التحول في المفاهيم والتقويمات الى ان عسكرة العراق دوليا، ونهبه عالميا، تشترط وجود غطاء عقلي يسندها، غطاء يلغي المنطق باسم النفعية السياسية، ويلغي الاسس القانونية والحقوقية المتعلقة بالمصالح الوطنية ويستعيض عنها بحرية وهمية: حرية ان نكون عملاء سافرين باسم الضرورة!.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منابع الديكتاتورية.. صدام نموذجاً هل صنعته الطفولة أم صنعه ح ...
- عــلّــوكــي
- ظاهرة مقتدى الصدر: الجذور, الأسباب, النتائج
- مـن الـثــــورة الـى الـدولـــة
- يـوميات عربـيـة في أسـوج مـن الثورة الـمؤدبة الى الثورة الخج ...
- الـشــاعـرة الأســـوجـيــة اديـث ســودرغــران تـكـســر جــلـ ...
- مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـ ...
- إعــادة إعـمـــار الـثــقـــافـــة فـي الـعــــراق الـبــعــ ...
- الـمــــوت يـمـشـــي فـي نــومـــه
- أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود
- هل استقر مهد الحضارات في بطون الدبابات؟
- ســقـط الـديـكــتـاتـور صـعـد الـيـانـكـي: تهـانـيـنـا
- المسألة العراقية بين خيار أسوأ الاحتمالات و خيار المبدئية ال ...
- الرهينة - من القصة القصيرة الى الرواية-


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - صـدام عـمـيــلاً تـمـحــيـص الـمــصطلـح