رحل بهدوء عن الساحة الفنية التشكيلية العربية والعالمية الفنان العربي السوري المولد ، والفلسطيني العربي الانتماء، برهان الدين كاركوتلي المتميز بعطائه وإخلاصه ، وهو في منفاه بمدينة بون الألمانية يوم الجمعة الموافق 26 كانون الأول- ديسمبر 2003.
ولد الراحل عام 1932 ، درس فن الرسم في القاهرة وفي مدريد باسبانيا وفي برلين بألمانيا ، وعاش في كل من سوريا والمغرب ، واستقر من بعد في ألمانيا منذ أكثر من ثلاثين عاماً .
نظم لأعماله الفنية معارض في عدد من العواصم العربية ، وفي معظم مدن وبلدات ألمانيا ، وفي دول أوروبية كثيرة، وفي بعض دول أمريكا اللاتينية.
عاش حياة نشطة وهادئة معاً ، نشطه من حيث إنتاجه الفني ومعارضه التي نظمت وأقيمت في أماكن كثيرة خلال الفترة ما بين أواخر الستينيات وأوائل التسعينيات ، كان غزير الانتاج وكثير التحرك فكان يحمل رسوماته ولوحاته من مدينة لأخرى ومن بلدة هنا إلى أخرى هناك ، عرض في قاعات عروض فنية وفي صالات الجامعات والمدارس ، في الأزقة والشوارع وزوايا الحارات الشعبية .
وكانت حركته في الحياة هادئة ، لم يسع إلى الشهرة ، بل سعت إليه . كان يفضل الانزواء بمفرده ليتأمل في مسرى الحياة ومغزاها، لا يسعى للآخرين بل كانوا هم يسعون إليه . ذو حس إنساني مرهف ، حريص على أن لا يصيب غيره بأية إساءة غير مقصودة ، خدوم ومحب إلى درجة قصوى ضمن حدود إمكانياته.
كان ، يرحمه الله ، شديد التمسك بمبادئه ولا يحيد عنها مهما يكلفه الأمر، هو مؤمن بفلسطين ، كل فلسطين ، وبحق الفلسطينيين بوطنهم ، كل وطنهم .........
رعته منظمة التحرير الفلسطينية من خلال مكتبها أو ممثليتها في ألمانيا ، وقدمت له عونا متواضعا أمن له الاحتياجات الضرورية في الحياة .
عندما أعلنت اتفاقية "أوسلو" الشهيرة تأمل فيها كثيراً ، لم تقنعه ، فأعلن موقفه الرافض لها، كلفه ذلك كثيراً . أحس بخيبة أمل ، ليس لأسباب مادية ، بل لأسباب سياسية ، فدفعه ذلك إلى هجر الرسم إلاّ قليلاً . تحول برهان بعد أسلو من رسام إلى "حكواتي" على خشبات مسارح شعبية ألمانية ، يحكي لهم حكاياته الشعبية بالألمانية فيرسم من خلالها الابتسامة على وجوه الناس البسطاء ويطرح فيها قضايا أمته العربية وعلى رأسها قضية فلسطين عبر تلك الحكايات الرمزية الساخرة التي كان يبتكرها .
قابلته للمرة الأولى عام 1970 في ألمانيا ، وكنا نشترك سوية في تنظيم معرض لفلسطين في مدينة :توبنغن" بألمانيا، صحبته وصاحبني على مدى أيام المعرض السبعة ، فاكتسب كل منا مودة الأخر واحترامه ، واستمرت العلاقة الوطيدة ممتدة عبر العقود الثلاثة الماضية .
والتقينا من بعد في لبنان وفي دولة الإمارات وفي تونس أثناء نشاطات فنية أخرى كالمعارض أو اجتماعات إتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ، حيث كان عضوا عاملاً فيه ، وكانت أعماله الفنية من أهم الأعمال التي شاركت في المعارض التي كان ينظمها إتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في شتى أنحاء العالمين العربي والعالمي.
حدث أن أقمت في ألمانيا لمدة عامين في مدينة "كولون"( 1992-1994) التي لم تكن تبعد كثيراً عن مدينة "بون" (العاصمة الألمانية في ذلك الوقت) والتي كان يقيم فيها برهان ، واستمر يقيم فيها إلى أن وافته المنية قبل أيام .
تلاقينا كثيرا خلال تلك الفترة ، نتبادل الزيارات والخبرات والقصص والحكايات الخاصة والعامة ، وكان محدثاً يشد السامع إليه بشغف شديد ، لذلك لم يكن اختياره مهنة الحكواتي غريبة عليه أوعليّ ، فهو خير من يتقن التحدث إلى الناس .
أما عن أنتاجه الفني التشكيليّ ، فإنني لا اظنني مبالغا إن قلت أن العين العربية وليس الفلسطينية فحسب ، متعودة عليه ومحبة له وعلى علاقة حميمة مع رسومات ولوحات هذا الفنان الرائع برهان كاركوتلي دون أن تعرف الفنان الذي أبدعها . كانت فلسطين دائمة الحضور في رسومه ولوحاته ، وكانت تشكل معظم انتاجه خلال فترة السبعينيات والثمانينيات . ومن لا يذكر لوحة "القدس لنا والنصر لنا" من انتاجه عام 1975 .
برهان كاركوتلي فنان تشكيلي اختص بفن الغرافيك (أي الرسم بالحبر الأسود ومجالات تنوعاته) كان يلون بعض ما رسـم بالأبيض والأسود بألوان شعبية مباشرة . رســم بضع لوحات بالزيت ، لكن جل انتاجه ينتمي إلى الرسم الغرافيكي بالأبيض والأسود.
بعد تبلور شخصية برهان في مجال الرسم تناول مواضيع مستوحاة من الحكايات الشعبية وصور الحياة العربية ، السورية منها بشكل خاص ، في أواخر الستينيات أصبحت القضية الفلسطينية هاجسه الأول وموضوعه الرئيسيّ دون أن يتخلي عن تصوير ورسم صور الحياة الشعبية في بلاد الشام . كان مولعا برسم الصبايا العربيات والفلسطينيات بشكل خاص ، بعيونهن الجميلة وقوامهن الرشيق ، وكذا صور الأفراح الشعبية بما في ذلك الأعراس . كما رسم شخصيات عربية وفلسطينية مناضلة كالشيخ عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني .
وهو يستخدم الخط العربي (وأحيانا الأجنبيّ) بأسلوب زخرفي في معظم أعماله كعنصر جمالي هام في تكويناته الفنية ووسيلة لتأكيد ما يريد إيصاله ، ويأتي ذلك عبر كلمات أو زجل أو شعر أو موال .
يميل في أسلوبه إلى الأسلوب الفطري المهذب ، البسيط المباشر ، الزخرفي الأنيق ، حنون في تناوله حكايات الفرح الشعبي ، لكنه يصبح عنيفا وشرساً عندما يتناول العدوّ ، صهيونياً أو امبرياليأً ، نازياً أو دكتاتوريأً .
في احد المعارض بمدينة في ألمانيا كان يعرض مع رفاق له ، كم جرت عادته ، مجموعة رسوم ، منها ما كان مطبوعاً أو مستنسخا على شكل بطاقات وبروشورات وملصقات ، واحدة من تلك الرسوم كانت تمثل وجهي هتلر الدكتاتوري النازي وبيغن الصهيوني كوجهي قطعة عملة واحدة.
احتجت زمر الصهيونيين في تلك البلدة على عرض مثل هذه اللوحة ، ورفعت الأمر إلى الشرطة متهمة برهان بأنه يحرّض المشاهدين ضد السامية واليهودية . قدمت الشرطة إلى مكان العرض ، واتخذت قراراً يقضي بأن لا تعرض هذه اللوحة ، انها القوانين الألمانية ، غير أن برهان بذكائه المعهود أبقى اللوحة معلقة في مكانها وغطاها بورقة مثبتة من أعلى ، كتب عليها (تحت هذه الورقة توجد اللوحة التي منعتتي السلطات الألمانية من عرضها بفعل الضغط الصيوني) أثار ذلك فضول الزائرين ، وصار كل واحد منهم يتقدم من اللوحة المغطاة ويكشف غطائها لمشاهدتها ، ولم يكن ذلك ممنوعا حسب القوانين المرعية في هذا الشأن ، بذلك تضاعف عدد مشاهدي اللوحة وذاع صيتها.
مقالات وأبحاث كثيرة كتبت ونشرت في كثير من بلدان العالم ، أهمها كتاب صدر عام 1981 بالألمانية بعنوان "غرافيك الثورة للفنان الفلسطيني برهان كاركوتلي"
رحم الله الفنان الفذّ ، الإنسان ، الزميل ، الصديق ، المحبّ ، الكبير برهان كاركوتلي .
عمان 30 كانون أول (ديسمبر) 2003
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
