أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - حياة قاسية















المزيد.....



حياة قاسية


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2265 - 2008 / 4 / 28 - 09:45
المحور: الادب والفن
    



مجموعة قصص

الطبعة الأولى 1959

ملاحظة:كتبت قصص المجموعة فيما بين 1952 و 1954
حياة قاسية
1 - يوم آخر
-حلّومة . حلّومة عيني . قومي صار الصبح .
هل يظل هذا الصوت يلاحقها طوال حياتها؟ إلى أن تموت ؟ إلى أن تدفن في القبر؟ فليقبض عزرائيل روح حليمة . لم لا يدعونها يوماً تشبع من النوم ؟ لم لا يدعونها يوماً بدون عمل ؟! إنهم ألقوا عليها أعباء المنزل منذ بلغت الثالثة عشرة ، وسوف تحمل هذه الأعباء إلى أن تموت . إنها تجري على قدميها من مطلع الشمس حتى مغيبها . وليس من أحد يشفق عليها . ليس من أحد يشعر بأسف لحالها . إن كل شخص في هذا البيت يرغب في بقائها حتى ينحني ظهرها ويتخدّد وجهها . وما يدريها ؟! لعلهم يتآمرون عليها ويحولون دون زواجها . لعلهم يطردون الخطّابة دون علمها . لعلهم يبثّون إشاعات بأنهم لا يرغبون في تزويجها . إنهم جميعاً يتآمرون على إبقائها في البيت لتخدمهم .. " كل من تسوى ولا تسوى تزوجت وبقيت أنا أم حظ النائم " . وفي مساء أمس زفّت صبرية آخر قريناتها العذارى . وكم كانت فرحة سعيدة وهي تزيّن استعداداً لملاقاة العريس . ولقد شعرت وهي تتأمل وجهها الفرح أن قلبها ينّوء بهم ثقيل . وعبثاً حاولت أن تغتصب الضحكات لتشارك في السرور الذي يعجّ به البيت . وتخيلت نفسها جالسة على الكرسي مكان صبرية وبنات الجيران يزيّنها ليلة الدخلة ، لكن ستاراً كثيفاً كان يحجب هذه الصورة عن عين خيالها . إنها لن ترى ذلك اليوم 00 لن تراه أبداً . صحيح أن الدنيا حظوظ ، وأن الله هو الذي يقسم الحظوظ ، ولكن صبرية ليست أحلى منها . فلم تتزوج وتبقى هي ؟!
وزفرت حليمة زفرة حرّى وهمست : أوف ربّي .. لٍمَ ؟! لم ؟!
_حلّومة عيني . تأخر الوقت . قومي حضّري الشاي .
صاحت حليمة بغضب : راح أقوم .
وركلت اللحاف بعنف واستوت في فراشها . بقيت جامدة دقائق كالتمثال وذكريات ليلة أمس تنثال على ذهنها ، ووجه صبرية الضاحك يتشبث بخيالها . ثم تنهدت ونهضت ببطء وغادرت فراشها .
وقفت في وسط الغرفة وأدارت عينيها في أركانها تفتش عن عباءتها . وتجنبت النظر إلى جدتها لئلا تفضحها عيناها . إنها لم تعد تحب جدتها . لم تعد تحب أي واحد من سكنة هذه الدار .
عثرت على العباءة فالتفّت بها وخرجت إلى فناء الدار . كان ثمة هواء قارص يلسع الوجه كالسياط . وارتجف جسدها واصطكت أسنانها . أفرغت رماد اليوم السابق من " المنقلة " في صفيحة الزبالة وهيأتها للنار . ثم صعدت إلى السطح وانتقت حزمة من خشب النخيل ، وعادت تحملها على ذراعيها ، ووضعتها في المنقلة , . إن هذا الخشب رطب ، وعليها أن تنفخ فيه طويلاً حتى يشتعل ، والدخان يعمي عينيها ، والهواء يهب عليها بارداً كالزمهرير. اشتعلت النار وتعالى منها ثعبان هائل من الدخان . وضعت فوقها الكتلي ، وانصرفت إلى إعداد الشاي .
كان الأب قد استيقظ وارتدى ملابسه وتربع على حصيرة في الغرفة محنيّ الظهر تائه النظرات . أطلت عليه حليمة بوجه عابس وتساءلت : ماذا نشتري اليوم يابه ؟
رفع عينيه الشاردتين وغمغم : اشتري لنا اليوم جبنا يا حليمة .
دسّ يده في جيب جلبابه وأخرج كيسه الحائل اللون . تفرست حليمة في وجهه الذابل وعينيه الكليلتين وجبينه المغضن00 أيحبها حقاً ؟ الجميع الآن يغطّون في نومهم ، وسيظلون يغطّون حتى الضحى ، وعليها أن تكسّر الخشب ، تشعل " المنقلة " ، تجهز الشاي ، ثم تخرج إلى السوق لتشتري الفطور . فكيف يرضى بذلك ؟!
كانت الدربونة صامتة 0 لم يكن قد خرج الأطفال بعد ، عدا سلومي ابن زهرة الذي كان يتغوّط بجوار باب الجامع كعادته كل صباح . وكان الكناّس منهمكاً في عمله على بعد أمتار منه . خطر لحليمة أن تقف قليلاً لترى ماذا سيقول الكنّاس لسلّومي . ولم يكن قد مضى أسبوع على المعركة التي قامت بينه وبين زهرة أم سلّومي لاعتراضه على تغوّط ابنها في الدربونة . وخرج الكنّاس من تلك المعركة بجروح في وجهه ورأسه ، وخرجت أم سلّومي بريئة من الاعتداء . ويقال إنها ادّعت بأن الكنّاس اتخذ ذلك عذراً لمغازلتها والتحرش بها .
وقفت حليمة قرب الجامع وترقبت بلهفة وصول الكنّاس إلى موضع سلّومي . لكن الكنّاس تجاوز موضع سلّومي ولم يقل شيئاً ، واكتفى بنظرات شزراء رماه بها . فاستأنفت سيرها وهي تحس أنها تكره هذه الدربونة وتكره كناسها الجبان . وقبل أن تجتاز بيت " أبوالتبن " رفعت رأسها نحو السطح فلمحت رأس حسن المجنون يتوارى خلف السياج بسرعة ، وسقطت أمامها حصاة صغيرة . وكان حسن المجنون يبكر كل صباح بالاختباء وراء سياج السطح ليرمي المارين بالنوى والحصى. وتفلت حليمة في الهواء محنقة .
كانت الحياة قد دبّت في " سوق الفضل " ، وكانت أصوات الباعة تختلط بجدال المشترين . وكانت بائعات الخبز يجلسن في صف طويل وهنّ يتسابقن في دعوة العابرين. والتفّت حليمة بعباءتها . ترسبت مرارة في أعماقها وهي تتصفح وجوه الناس . ليتها كانت إحدى بائعات القيمر أو الخبز ، تمضي في السوق ما تشاء من الوقت ، وتعود إلى البيت متى راقت لها العودة. ولكن الله كتب عليها ألاّ ترى السوق إلاّ لكي تشتري الفطور من دكان الحاج مهدي البقال ثم تسرع في العودة إلى البيت .
بلغت حليمة دكان الحاج مهدي ووقفت تنتظر دورها . كان رجل مسنّ وصبية يقفان لشراء بعض الحاجيات ، وكان فتّاح مشغولاً بخدمتهما . إن فتّاح ابن الحاج مهدي يشبه عمر في نظراته القاسية ووجهه المتهجم . تُرى ألديه أخت يسيء معاملتها كما يفعل عمر معها ؟!
انصرف الرجل والصبية والتفت إليها فتّاح متسائلاً بعينيه فقالت : اعطني ربع جبن .
فأكب فتّاح على كتلة الجبن يعمل فيها السكين بصمت فلم يأبه له الذباب المعشش عليها . سألته حليمة فجأة في سخط مكتوم : هل تزن كلماتك بميزان الذهب ؟
فتطلّع إليها فتاح مدهشا وهو يرفع قطعة الجبن ويضعها في الميزان . واستمرت حليمة تقول بلهجتها الجافة : أنت لا تكلَم الزبائن وكأن كلماتك تساوي ذهباً.
تأملها فتّاح لحظة ثم ابتسم ابتسامة ضئيلة وقال : نحن البقَالين لا نتكلم كثيراً . الحلاّقون هم الذين يتكلمون كثيراً .
فقالت حليمة وهي تناوله النقود : ليس كل البقّالين مثلك .
ألقى فتّاح النقود في طاسة ومضى ينبش فيها باحثاً عن خردة وهو ما يزال يبتسم . وهبّت نسمة باردة فأرتجف جسد حليمة ، والتفت بعباءتها بقوة . رفع فتّاح إليها عينيه وحدّجها بنظرات جريئة وقال وهو يناولها بقية النقود : الدنيا باردة جداً اليوم .
فقالت بدون وعي وهي تزداد انكماشاً في عباءتها : موت برد .
رجعت حليمة إلى الدار ونار " المنقلة " تتمثل في ذهنها فتحثّ قدميها على الإسراع . وتخيّلت فراشها الدافئ ، وأمها الغارقة في النوم ، وعمر الذي يصحو عند الضحى ، واستعر الألم في قلبها . ستعدّ الفطور ، ثم تغسل الصحون في الماء البارد ، ثم تستعد لتهيئة الغداء ، فتقطع اللحم ، وتقشرّ الخضر و ...
وتذكرت فجأة وهي تدخل الدربونة أن فتّاح ابن الحاج مهدي قال لها شيئاً00 أصحيح أنه تحدث معها ؟ هذا الإنسان الذي يزن كلماته بميزان الذهب ؟! وألحّت عليها الرغبة في تذكر ما قال ، لكنها عجزت عن أن تتذكر . واعتراها الأسف على ضياع مثل هذه الفرصة .
2- جحيم لا يطاق
تعالى أذان الظهر في جامع الدربونة وأزاحت حليمة الغطاء عن قدر المرق وتشمّمت الطعام . كانت هناك فقاعات تختفي وتظهر في غمضة عين . وغمست الملعقة في القدر وصبّت ماء المرق في راحة يدها ولعقته . إنه بحاجة إلى القليل من الملح ، والفاصوليا ما تزال بيضاء اللون. كم تكره الفاصوليا ! إن طبخها يقتضي وقتاً طويلاً ، وسيقدم الصبيّ بعد قليل ليحمل الغداء إلى أبيها في السوق ، ولن تمضي نصف ساعة حتى يحضر عمر . وإذا لم يجد عمر الطعام جاهزاً فلن ينقذها شئ من لسانه الحاد .
- صار الغدا يا حليمة ؟
تساءلت أمها وهي عاكفة على قميص من بين يديها ترتّق فتوقه ، فأجابتها بخشونة: لا.
قالت الأم دون أن تحوَل عينيها عن القميص : متى سنتغذى ؟ سأموت من الجوع .
فهتفت حليمة في حنق : وماذا أعمل لك ؟ أأنا أسرع من النار ؟
كفّت الأم عن عملها وطالعتها بعينين ساخرتين وقالت : تعالي كليني. أأنت بنت السلطان لا يقدر أحد أن يكلّمك ؟!
- نعم أنا بنت السلطان ، فبنت السلطان تشتغل من الصبح حتى الليل!
_ وماذا تريدين؟ أننصب لك كرسياً تقعدين عليه من الصبح حتى الليل ؟!
_ أنا لا أريد كرسياً أقعد عليه من الصبح حتى الليل . أنت في حاجة إلى الكرسي.
_ الله لا يمهّلك على هذا التعدي . تردّ عليّ كلمة بكلمة .
وكانت الجدّة متربعة على سجادتها وهي متلفعة بردائها الأبيض وقد فرغت لتوّها من صلاة الظهر . قالت دون أن تحوّل عينيها عن سبحتها : أنت تتحرشين بها ثم تلومينها على ما تقول : هذا ليس إنصافاً .
فغمغمت الأم في استهجان : ألا يجوز لي أن أكلم يوماً ابنتي من دون تدخّل أحد ؟!
_ اتّقي الله . الطفلة تشتغل من الصباح حتى المساء ولا تنجو من لسانك .
- وأنت ألا تخافين الله ؟! تردّين عليّ الكلمة بعشر كلمات كلما قلت لها شيئاً وأنا أمّها ولي عليها حق الأم . تتكلمين عن الإنصاف وأنت لا تعرفين الإنصاف .
_ الله يعلم إن كنت أعرف الإنصاف أو لا أعرفه . أنت تعرفين الإنصاف أحسن مني .
- أنا !! لا عيني ، لا . أنت أمّ الإنصاف .
صاحت حليمة فجأة : بسّ . لخاطر النبي بسّ .
ران على الليوان صمت عميق لم يكن يعكّره سوى قرقرة القدر . ثم بدأت الأم تنوح وتندب حظها. وشعرت حليمة أن قلبها المثقل بالحزن يغوص إلى أعماق سحيقة.. " أنا التي يجب أن تنوح لا أنت "0 وخيّل إليها أن في إمكانها أن تبكي يوماً كاملاً دون تجفّ دموعها . وعج رأسها بالخواطر وهي تقعد القرفصاء بجوار الموقد محدّقة في لهيب النار . واختلط نواح أمها الخافت ببسملة جدتها وتناهى إلى سمعها كأنه نشيد آت من عالم بعيد . إن الحياة مع أمها وجدتها لم تعد تطاق . وكان عليها أن تفرّ من وجهيهما منذ زمن بعيد .. تهيم إلى حيث تقودها قدماها . فليس في البيت من يعاني من خصامهما الدائم ما تعانيه هي .. خصام لم ينقطع أبداً . وإنها لتتذكر جيداً تلك المعركة التي شبّت بينهما يوم كانت طفلة ولا يمكن أن تنساها. وكانت منكمشة في حجر جدّتها تصغي بشوق إلى حكاياتها . وكانت أمها عاكفة على قميص بين يديها . وبدأتا تتجادلان بهدوء أولاً ، ثم علا صراخهما . وفجأة قفزت إحداهما نحو الأخرى والتحمتا في معركة ضارية . وتشبثت كل منهما بشعر الثانية وراحتا تتدحرجان على الأرض . وسالت الدماء على خدودهما وتشعث شعرهما وبدا منظرهما مرعباً . ثم تمزق قميص أمها وبدت بطنها البيضاء الرجراجة .. فافترسها رعب ساحق . واهتز جسدها كالريشة في مهب الريح . وتملكتها نوبة بكاء حادة ظلت أسيرة لها وقتاً طويلاً.
صر باب الدار صريره الغليظ . وحولت حليمة أنظارها نحوه فلاح لها السروال الأزرق المبقّع بالزيت . صاح عمر حالما دخل : الغدا حاضر ؟
نهضت حليمة وكشفت عن القدْر فانبعثت رائحة الطعام الناضج . تذوقت ماء المرق ثم قالت : الغدا حاضر .
قال عمر وهو يترامى على الحصيرة بجوار الأم : يا الله صبّي الأكل بسرعة .
وشبك يديه تحت رأسه ورمق أمه من زاويتي عينيه فبدا له وجهها كئيباً ، فتساءل : ما بك؟
فلم تجب الأم . فعاد يتساءل : ما بك ؟
قالت الأم في انكسار : ما بي ؟ ذليلة في بيتي . لا أقدر أن أقول كلمة واحدة .
فقطعت الجدة بسملتها وهتفت : خلّي في قلبك قليلاً من الرحمة والإنصاف . اتقي الله.
فتجاهلتها الأم واستمرت تقول : لا أقدر أن أقول كلمة واحدة في بيتي . سألت حليمة عن الغداء فانتهرتني وكأنني خادمة .
فالتفت عمر إلى حليمة قائلاً : أنت يا صاحبة الخِلقة الوسخة ، ألا تصيرين آدمية إلا إذا سحقت رأسك ؟!
صاحت الجدة : تسحق رأسها ؟ لماذا ؟ أمّك هي المذنبة .
فاعتدل عمر مادا ساقية أمامه وقال : أنا لا يهمني من هو المذنب ، وإذا شكت منها أمي مرة أخرى عرفت شغلي معها .
فقالت الأم : ومتى كنت مذنبة ؟ أنتما تكرهاني .
خزر عمر حليمة بنظرات شزرة وقال : ماذا كنت تفعلين لو خلق الله لك وجهاً كوجوه البشر يا خلقة البوجي ؟! تحرّشي بأمي مرة أخرى وسأريك .
لازمت حليمة الصمت وهي عاكفة على تهيئة الغداء ، ثم حملت صينية الطعام إلى عمر وانسحبت إلى ركنها الدائم بجوار الموقد .. "متى أخلص من إهانات عمر يا ربّي ؟ " 00 أهذا هو جزاء حبّها له ؟ كانت تحبه أكثر من أي إنسان في الوجود . كان ولدها وأخاها . وكانت تبني له في أحلامها مستقبلاً عظيماً . ولعل ذلك سرّ غضب الله عليها ، فهو الذي يوزع الحظوظ ، وما كان من حقها أن تتدخل في شئونه . كانت تريده ان يصير رجلاً خطيراً يتحدث عنه سكان محلّة الفضل جمعياً . لعلّه يصبح طبيباً مشهورا ًيتزاحم أهل المحلّة على عيادته أو مهندساً كبيراً يبني قصوراً فخمة كالقصور على جانبي شارع الإمام الأعظم . لكنه خيّب أمالها. وشبت عداوة بينه وبين المدرسة . كان يهرب من المدرسة ليلعب في الطريق . وبذلت كل جهد لتحّبب إليه المدرسة . كانت تقتطع من المصروف اليومي لتمنحه مكافآت على ذهابه إلى المدرسة . فكان يخدعها ويوهمها أنه ذاهب إلى المدرسة ويقضي الوقت كله في الطريق . فأخذت تقسو عليه وتضربه فازداد عناداً وتمرداً . وبينما كانت تحاول يوماً الإمساك به لتعاقبه على تغيّبه عن المدرسة هجم عليها وسدد إلى وجهها لكمة أصابتها في أنفها فسالت منه الدماء . وفرّ من المنزل وبات ليلته في بيت حامد الفترجي ذي السمعة السيئة فأدركت أنها فقدته نهائيا. وقال الجيران آسفين : " حرام 00 عمر بن عبد الستار العبد فسد " .
زفرت حليمة زفرة حرّى وهمهمت : أوف ربي 00 لم ؟ لم ؟
ثم أجهشت فجأة بالبكاء ، واهتز جسدها بشدة . حاولت أن تكبت بكاءها ، لكن صوتها تعالى في نهنهة متصلة . وتملّكتها نوبة لا تقاوم . صاحت الجدة في حنق : الله ينتقم من الظالم . ما الذي جنته هذه الطفلة حتى يسلّط الله عذابكما عليها؟!
قال عمر : موت. أي والله موت . كان يجب أن أسحق عظامك حتى يكون لبكائك سبب .
قامت حليمة وهي تحاول عبثاً كبت بكائها وانسلّت إلى غرفتها وأغلقت الباب . وظل صوت بكائها يُسمع طويلاً من وراء الباب .
3- بصيص من الأمل
لم تكن سوق الفضل قد ازدحمت بزبائنها بعد . وحينما جاورت حليمة دكان الحاج مهدي لم تر أي زبون . كان فتّاح يستوي وراء الدكة الخشبية وشعره الأسود الطويل ينسدل إلى الوراء ويكاد يلامس أذنيه0 قالت وهي تناوله صحنها : ربع ونصف قيمر .
وضع فتاح الصحن في الميزان وتريّث دقيقة مفكراً ، ثم تساءل : ألا تحبين أن تأخذي جبناً بدل القيمر؟
قالت حليمة : لماذا؟ أنا أريد قيمراً .
ففكر فتاح مرة أخرى ، ثم رفع الصحن عن الميزان وأعاده إليها قائلاً : الأحسن أن تأخذي شيئاً آخر . القيمر هذا الصباح لا يسوى .
تساءلت حليمة : لماذا تعرضه للبيع إذن ؟
فقال وهو يحدّق في وجهها بنظرات جريئة : أنا لا أحب أن أبيع من هذا القيمر لزبونة مثلك.
فغضّت حليمة أنظارها وقد تضرّجت وجنتاها وخفق قلبها وتمتمت : أعطني بيضاً بدله .
وعجزت عن النظر في وجه فتّاح . كانت موجة من الاضطراب قد عصفت بها لم تعرف لها مثيلاً . تناولت البيض وانصرفت مسرعة وهي تتعثر بخطواتها .. " لم العجلة ؟ أبي لم يصحُ بعد ، والشاي على النار " . كان ثمة رغبة طاغية تشدّ قدميها إلى الدكان ، لكنها أسرعت في سيرها حتى كادت تهرول . وكانت تتخيّل أن عينيّ فتّاح تطاردانها . فلماّ أشرفت على الدربونة تلفتت وراءها فلم تر سوى الكناّس. وتمهلت في سيرها ثم توقفت لحظة . خطر لها أن تعود إلى الدكان وتشتري حاجة أخرى. ومكثت في موضعها لحظات وهي تهمّ بالعودة من حيث أتت وقد استبدت بها الحيرة . ثم هرعت نحو المنزل وكأنها تفرّ من خواطرها .
كان الأب قد أفاق وتربّع على الحصيرة مترقباً الفطور . وانسلت حليمة عبر باب غرفته . كان قلبها يخفق في عنف وكأنه يصفق لخبر سار . وكان ثمة شعور لذيذ غامض يتسرب إلى كل عضو في جسدها . ولم تفارق صورة فتاح مخيلتها .. أكان القيمر رديئاً حقاً فرفض أن يبيعها منه ؟! كلا ، هذا لا يصدق ، فهو وأبوه لا يباليان ان كانت البضاعة جيدة أم رديئة ، ولا يعرفان حرمة لأي زبون . وكم باعها الحاج مهدي ، بل كم باعها فتّاح نفسه قيمراً حامضاً وبيضاً فاسداً وجبناً تالفاً0 " لولا غشه للناس ما أستطاع الحاج مهدي أن يجمع ثروة وأن يحج بيت الله". لكن فتاح أحسن من أبيه وقلّما غشَها . "قال لا أحب أن أبيع من هذا القيمر لزبونة مثلك . فلماذا يمتنع عن بيعه لي بينما يبيعه للزبائن الآخرين ؟! " 0تجاوبت بين جوانحها أصداء ضحكة سعيدة 0 وكادت تلك الضحكة تفلت من بين شفتيها لكنها كتمتها فتخايلت على شفتيها بسمة سعيدة .
قدّمت حليمة الفطور لأبيها وهي باسمة الوجه . وانتهى الفطور فغسلت الصحون وأقداح الشاي ، وكان الماء بارداً مثلجاً . ثم شرعت في تنظيف المنزل . وتنقلت من غرفة إلى أخرى وهي تقاوم رغبة في أن ترقص كرقص العبدة التي حضرت في عرس صبرية . وتشبثت رقصات تلك العبدة في مخيلتها بإلحاح ، وترددت أغنية " خدري الشاي خدري " في سمعها . وما أن دخلت غرفة عمر حتى انقبضت نفسها . وقفت في وسط الغرفة تردد أنظارها في أثاثها المبعثر وفي قطع الملابس الملقاة هنا وهناك . ثم اجتذبت عينيها صور النساء الملصقة على الجدران ، فرمت المكنسة على الأرض ودنت منها وأخذت تتأملها بإمعان . ولم تكن تسمح لنفسها من قبل أن تطيل النظر إليها00 "لو لم يكنّ فاسقات ما كشفن عن صدورهن وظهورهن " 0لكنَ حليمة لم تشعر الآن بازدراء نحوهن. تمنّت أن تفعل مثلهن لتظفر بمظهرهن الفتّان . " لو ارتديت ملابسهن وتزينت بزينتهن لخبّلت الرجال" لاحت منها التفاتة إلى المرآة الصغيرة المعلّقة في جانب من الجدار فطالعها وجهها الطويل بذقنه المدبب وجبهته الضيقة . صحيح أن أنفها الغليظ الطرف ليس كأنوفهن الدقيقة ، ووجهها الطويل لا يضارع وجوههن الصغيرة ، لكن عينيها السوداويين جميلتان جداً . وشعرها الأسود الناعم بديع للغاية . ولو أنها قصّت شعرها وتخلصت من هاتين الذؤابتين الكريهتين لفتنت الرجال . انحدرت أنظارها إلى صدرها المتوثب وتأملته في إعجاب . حقاً إن جمال صدرها لا يبدو في هذا الثوب الطويل المزرر حتى العنق. " لو كشفت عن صدري وظهري مثلهن لخبّلت الرجال " .
تحولت حليمة عن الصور وانصرفت إلى عملها وسحابة من الكدر تعكر وجهها . أيمكنها يوماً أن تتمتع بحريتها ؟! وأنّى لها ذلك وعمر كالسيف المصلت على رأسها ؟ إنه حرم عليها حتى النزهات التي كانت تقوم بها إلى ضريح الشيخ عبد القادر و " الكاظم " و "السدة" . وكم تشتهي أن تأخذ معها صرة الطعام لتتناول غداءها في جامع " الشيخ " أو في " الحضرة " أو على " السدة . كلا 00 إنها لن تخضع له إلى الأبد 0 ستثور في وجهه يوما. أجل ، أجل ، لا بد ان تثور في وجهه . أي حق يخولّ له السيادة على البيت؟! إنه لا يصرف عليه فلساً واحداً . وكل ما يكسبه من أسطى حامد " الفيترجي" ينفقه على نفسه . والحمد لله أن أباها لا يزال هو المسؤول عن الإنفاق على البيت .. لكن ماذا لو خسرت معركتها معه فرفض الموافقة على زواجها إذا تقدم فتاح لخطبتها ؟!
افترسها الذعر ، وتوقفت عن الكنس . وظلت جالسة القرفصاء وهي واجمة والمكنسة مرفوعة في يدها . ثم تبدد وجومها وعادت تكنس الأرض بتراخٍ .. ربما تذكر حبها القديم له . ربما تذكر كيف كانت تحمله على كتفها وهي تكنس المنزل فيأبى أن يهبط إلى الأرض .. لكأنه كان يمتطي كتفها بالأمس فقط ! وتشبثت بسمة خجولة بثغرها .
فرغت حليمة من تنظيف البيت فحان ميعاد إعداد الغداء . وانتابتها رغبة في طهي لون يحبه الجميع . قالت لجدتها : ألا تشتهين أكلة يا بيبي ؟
أجابت الجدة وهي ترنو إليها بحنان : كل ما تطبخه يدك شهي يا حلّومة.
قالت حليمة بإلحاح : قولي إذا كنت تشتهين أكلة لأطبخها لك يا بيبي ؟
قالت الجدة : عيني حلّومة ، لا أريد تعبك . كل ما تطبخه يدك شهي .كل
ما أتمناه في دنياي أن أراك مثل اليوم ضاحكة الوجه .. اللهم صلً على محمد وآل محمد.
قالت حليمة وهي تسارق أمها النظر : سأطبخ لكم اليوم "كبة حامض".
وكانت الأم تقتعد تختة في الليوان وهي ترتق قميصا بين يديها . وكانت تتظاهر بعدم الالتفات إلى ما يدور حولها من حوار . لكن الاهتمام لاح على وجهّها حينما طرقت كلمة " الكبة " سمعها ، وتطلعت إلى حليمة مدهشة . وكان الكلام قد انقطع بينهما منذ خصام أمس . وعجزّت عن مقاومة رغبتها في التعليق ، فقالت دون أن ترفع أنظارها عن القميص : والله صار لنا زمان عن الأكلات الشهية .
وسكتت لحظة ثم أضافت قائلة : والواحد يقول الحق أنت تطبخين كبة الحامض أحسن من كل واحدة 0
قالت حليمة وهي تتجنب النظر إلى أمها: إذا كنت تحبين أن تأكلي كبة حامض فلا تلوميني ، فسيتأخر الغداء .
فهتفت الأم : لا ، لن ألومك حتى لو صار الغداء عشاء .
ثم لاح التردد على وجهها وهي تتطلع إلى حليمة بنظرات وجلة وتمتمت :
أمّ عيشة تحب " كبة الحامض " ، ومنذ مدة لم تطبخها .. وسيكون مكانها خالياً .
فأسرعت الجدة تدمدم : هل تريدين أن تجعلي غداءنا سماً بدعوة أم عيشة ؟ والله ما صارت .
وعكرّ ذكر أمّ عيشة على حليمة هناءها وهمّت برفض اقتراح الأم ، لكن قلبها كان متفتحاً للبهجة . وودت أن تغمر كل من حولها بفيض سعادتها . فتمتمت : اذهبي إليها وادعيها للغداء .
فهتفت الأمّ فرحة : فديتك يا عيني حلّومة .
حين أوت حليمة إلى فراشها لم تحس بالتعب شأنها كل مساء . كان ثمة راحة عميقة تنبع من أعماق فؤادها . ورقد قلبها الجريح بين ضلوعها في اطمئنان لأول مرة منذ زمن طويل . أغمضت عينيَّها فمرّت في خيالها صور النهار سريعة خاطفة . واختلط وجه فتّاح بوجوه جدتها وأمها وأبيها وأم عيشة وعمر 0 وغمرتها عواطف تفيض بالشوق و الحب والحنين.
فتحت عينيها وهي تبتسم ابتسامة سعيدة ، ثم أغمضتهما ثانية حينما طرق سمعها خفق قدميّ جدتها ، ولذ لها أن تتظاهر بالنوم . وبدا لها مطلع الصبح حلماً سعيداً . ثم تذكرت عمر وصور النساء الجميلات وتمثلت لها صورتها في المرآة . سألت جدتها فجأة : لماذا سخط الله علي يا بيبي وحرمني من الحسن ؟
هتفت الجدة بجزع : أستغفر الله العلي العظيم 00 لا تكفري يا حلومة فالله لا يسخط إلاّ على الظالمين0
بدا لحليمة بوضوح أن الحظوظ لا توزع بعدالة على البشر . فهناك نساء جميلات يتنافس الرجال على محبتهن ، وهناك نساء غير جميلات لا يحبهن أحد ولا يهتم لهن أحد0 تمتمت وكأنها تحدّث نفسها : أنا غير جميلة ، لذلك لم يفكر أحد بخطبتي0 أنا مظلومة 0 أوف ربي .. لِمَ ؟ لِمَ ؟
قالت الجدة بانزعاج : أستغفر الله وأسألك التوبة . ماذا جرى لك يا حليمة؟ كيف تفكرين هكذا؟ والله لم يمتنع الخطّابة عنك إلا لخوفهم من الرفض .
ازدحمت في ذهن حليمة أحاديث جدتها عن عريس المستقبل . تذكرت كيف كانت تتحدث من وقت طويل عن ابن الحلال الذي سينتزعها من هذا البيت ويحملها إلى بيتها فيترك الجدة وحيدة مستوحشة . وكانت تحسّ لتلك الأحاديث نشوة عميقة ، لكنها فقدت عذوبتها سنة بعد أخرى 0 وتراءت لها الآن سخيفة مضللة . قالت بمرارة ويأس لاذع يدمي قلبها : أنا لست طفلة فلا تخدعيني بمثل هذا الكلام يا بيبي .
قالت الجدة بضراعة : لماذا تكسحين نعمة الله بهذا الكلام يا حلّومة ؟! ماذا يشينك؟ أأنت عرجاء أم خرساء أم عوراء ؟! من له مثل شعرك الطويل الذي يصل إلى ركبتك ؟ ومن له مثل عينيك اللتين كحّلهما الله سبحانه وتعالى ؟ قسماً بالله ونبيّه العربيّ أن من يتزوجك صاحب حظ . فأنت أحسن أم بيت في محلة الفضل كلها . من تقدر أن تطبخ مثل طبخك ؟ ومن تقدر أن تخبز مثل خبزك ؟ من يدير البيت مثلك ؟
تبددت كآبة حليمة وعاودها الرضا ، وبدا لها كلام جدتها صادقاً . "من التي تضاهيني من بنات المحلة في شطارتي ؟ مقبولة أم نزيهة أم صبرية ؟ " 0 والرجل لا يبغي سوى زوجة تعد له أحسن الطعام ، وتحافظ على ملبسه نظيفاً ، وتوقف حياتها على خدمته . صدقت جدّتها . إن من يتزوجها محظوظ ، فستكون طوع أمره ، وستجعل حياته سعيدة هانئة . وسيدرك أن بين حناياها قلباً من ذهب فيحبها أعظم الحب .
واجتاح حليمة اشتياق عميق إلى الزوج المحب ، إلى جسده الدافئ ، إلى ذراعيه القويتين ، وأغمضت عينيها بسعادة وتخيّلته وهو يهصرها ويغمر وجهها بالقبلات . وطوّفت بها الأحلام في دنيا المستقبل 00 سيكون لها بيت صغير لا تسرح فيه الفئران والصراصير . وستكنسه وتغسله كل يوم حتى تجعل أرضه كالمرآة . وستطبخ طعاماً لا تطبخ مثله امرأة . وستنتظر كل ليلة زوجها إلى أن يعود من سهرته حتى لو رجع مع الصباح . وستعدّ له جلباب النوم ، وستخلع له ملابسه بنفسها ، وسيكون لها أطفال محبوبون كعُمَر في صغره 00
وترامت إلى أذنيها تسابيح جدَتها المنغومة وكأنها غناء بعيد . وطافت في مخيلتها صور مشوشة من طفولتها 0 تخيلت نفسها راقدة في سريرها وجدتها تغني لها . وكان ثمة شعور مبهج يطفو فوق هذه الذكريات السعيدة .. شعور بتوقع لذيذ لمطلع الصباح ولتلك الساعة التي ستخرج فيها لشراء الفطور . وتسلل النوم إلى عينيها فظلتا مغمضتين ، وتواصلت الأحلام السعيدة في أفق خيالها ..
- حلومة عيني . حلّومة . قومي صار الصبح .
وبدأ يوم جديد .
4- رجل الأحلام
نهضت حليمة نشيطة فرحة ، ولمّت فراشها مسرعة . وارتدت عباءتها وهمّت بالخروج . ألقت نظرة على وجه جدتها الأسمر المغضّن وقد تدلت سوالفها البيض من تحت عصابتها السوداء وشعرت أنها تكن لها حباً عظيماً .." كيف أحتمل البيت لو فقدت جدتي؟ "0 واستعاذت بالشيطان وغادرت الغرفة عجلة وهي تلتف بعباءتها . كان البرد قارصا ينفذ إلى العظم . صعدت حليمة إلى السطح مرحة ، خفيفة ، وهي تتذكر فرحها بيوم العيد حينما كانت طفلة . وكسرت الأخشاب وأشعلت النار فتصاعد الدخان كالثعبان .
صحا الأب وخرج إلى الليوان وهو يتدثر بفروة ويعتمر بطاقية صوفية . واتجه إلى صنبور الماء ليغسل وجهه فقالت حليمة : سخنت لك ماءّ حاراً يابه .
قال وهو يشمرّ عن ذراعيه ويجلس القرفصاء بجوار البالوعة : جازاك الله خيراً يا حليمة .
صبّت حليمة الماء في إبريق من النحاس على يديه وهي تتأمل وجهه . كان وجهه الذابل الشديد الغضون بأنفه المقوّس الكبير وعينيه الغائرتين صورة ممسوخة طمسها الزمن .
نهض الأب صامتاً ومشى نحو غرفته في هيئته الذاهلة . واقتعدت حليمة الأرض بجوار المنقلة وعيناها مغرورقتان بالدمع 00 " آخ يابه ، من يصدق أنك ذلك الأسد الذي كانت الأرض تهتز تحت قدميه ؟ " 0 كان ذا شارب كثّ غزير . وكانت نظرات عينيه البراقتين تبث الهيبة في القلوب . ولكن أمها قتلته . إنها لم ترحمه أبداً . لم يكن في قلبها ذرة من الرحمة . وكأن الله أودع في قلبها من القسوة بقدر ما أودع في وجهها من الجمال . لم تكن تستقر في البيت ساعة واحدة . كانت تأخذ زينتها كاملة وتنطلق إلى بيت أم عيشة أو إلى منزل من منازل باجياتها الكثيرات . وكلما حضر إلى البيت لم يجدها . وفي معظم الليالي كان الشجار يشب بينهما . وكان صوته الجهوري يلعلع في سكون الليل وهو يهتف :" أنت لست امرأة .. أنت مخلوقة من حجر " . وكانت تخفي رأسها بين طيات اللحاف وجسدها يرتعد فرقاً . وما أكثر ما سألت جدتها عن سبب عراكه مع أمها فردت عليها حزينة : " إنه حظ أبيك المسكين"0 ثم خفتت حدة عراكهما شيئاً فشيئاً حتى انطفأت ، وانطفأ معها البريق في عينيه . وبات كالغريب في الدار . لم يعد يحضر إلى المنزل إلا قليلاً . كان يتناول فطوره ويخرج إلى سوق الشورجة قبل أن يصحو أحد . وكان يتناول غداءه في الدكان حيث يحمله إليه الصبي ولا يرجع إلى البيت إلا في منتصف الليل وهو مسطول ، وقد يرجع مع الفجر .. " باجياتك يا أمي وفضيحة عمر كسرا ظهره" .
مسحت حليمة دموعها بكمّها وهمست : أوف ربي ، لِمَ ؟ لِمَ ؟
ثم نهضت وآثار الدموع ما تزال في عينيها ، وقصدت إلى غرفة أبيها. كان قد ارتدى ملابسه وتربع على الحصيرة . كان مطرقاً وقد أطلت من عينيه نظرة شاردة . خالجتها الرغبة في أن تلقي بنفسها على كتفيه وتبكي طويلاً . كانت مصيبتها تهون عليها كلما فكرت بمصيبة أبيها. كبحت عواطفها الحزينة وتساءلت برقة : ماذا تحب أن أشتري لك اليوم يابه؟
قال دون أن يرفع إليها أنظاره : اشتري لنا قيمراً ياحليمة .
أخرج كيسه وناولها النقود ، فقالت وهي ترنو إليه بحنان : تؤمر يابه.
نسيت حليمة أحزانها حالما غادرت الدار . مثلت في ذهنها صورة فتّاح خلابة ساحرة ، وفاض قلبها ببهجة عارمة . وخيّل إليها وهي تجتاز الدربونة أنها لن تعدل بها أجمل مكان في الدنيا. وشعرت أن سلّومي ابن زهرة والكناس وحسن المجنون أشخاص أعزاء على قلبها . وأحست وهي تدخل السوق أن أصحاب الدكاكين والزبائن وبائعات الخبر جميعاًً قريبون إلى قلبها . وكانت صورة فتاّح تطفو في مخيلتها فوق هذه الصور جميعاً . وكانت سرعة قدميها تزداد كلما قصرت المسافة بينها وبين دكان الحاج مهدي . وكان خفق قلبها يشتد لحظة بعد أخرى . وعندما لاح لها فتّاح من بعيد وهو يستوي وراء الدكة دوت ضربات قلبها دويّاً عالياً . وتلفتت حواليها وهي تحسب أن السابلة قد فطنوا لأمرها.
استقبلها فتّاح ببسمة ترحيب ، فقالت بصوت خافت دون أن تجرؤ على النظر في وجهه : صباح الخير .
فرد عليها بمودة : صباح النور والسرور .
قالت وهي تنقل أنظارها بسرعة بين وجهه وإناء القيمر : أتبيع من القيمر اليوم ؟
فقال وهو يرميها بنظرات جريئة : القيمر هذا اليوم زبد .
قالت وهي تحاول عبثاً مقاومة خجلها : زِنْ لي ربع قيمر .
تناول فتاّح الصحن وانشغل في عمله . واختلست حليمة نظرات فاحصة من وجهه فاجتذبها شعره الأسود اللامع ، وبدا جبينه العريض مشرقاً وضّاء . " إنه أجمل شاب في محلة الفضل .. إنه أجمل حتى من عمر" . قالت وهي تلاحظه يزيد لها في الكيل : والله عيارك بركة .
قال فتاح وهو يحدجها بنظراته الجريئة : هذا واجبنا .
خفق قلبها بشدة ، وتساءلت وهي تتلفت حواليها بقلق : أهكذا تعامل جميع زبائنك ؟
قال فتّاح ونظراته الجريئة لا تحيد عن وجهها : لا يوجد زبائن مثلك .
فتسارعت ضربات قلبها واستحال لونها الأسمر الغامق إلى أحمر قان . وطافت على شفتيها بسمة حائرة . وصمتت لا تدري ماذا تقول . وجف ريقها والتاثت أفكارها . ثم تناولت الصحن وتحركت مسرعة وهي توشك أن تهرول . ولماّ انعطفت في الزقاق تباطأت قدماها ومشت متمهلة. كان قلبها يفيض بفرح غامر . استعادت صورة فتّاح في مخيلتها وعجبت كيف غاب عنها غرامه بها . واعتراها الأسف على ضياع الأيام الماضية من عمرها دون أن تستمتع بحبه . لاشك أنها غبية ، بليدة ، مغمضة العينين . فلقد أحبها فتّاح منذ زمن بعيد من دون أن تفطن إلى ذلك . ومن يدري ؟ لعله ليس الوحيد المغرم بها ، فكثيراً ما التهمها شبان السوق بنظراتهم. لكنها لن تفضل أحداً منهم على فتاّح . لن تفضل عليه أي رجل في الوجود .
اشتبكت الخواطر في رأسها فلم تعد تميز شيئاً . لكن خاطرة واحدة طفت فوق خواطرها المائجة وتبدت كحلم باسم .. لقد عثرت على رجلها .

5- السر يفتضح
كان الشتاء قد أشرف على الانتهاء ، وكانت نسمات الربيع تهب عذبة هادئة . تربعت الجدّة على سجادة الصلاة وهي متلفعة بردائها الأبيض وانهمكت في ترديد تعاويذها . ومدت الأم ساقيها على الحصيرة وأسندت ظهرها إلى الجدار وبدا في نظراتها الانشغال .و كان طعام العشاء على وشك النضوج . وكانت حليمة تراقب القدر وذهنها يجترّ لقاءها الأخير مع فتّاح وابتسامة سعيدة ترف على ثغرها . وفجأة صفق باب الدار وارتطم بالجدار واندفع منه عمر كالعاصفة . كان وجهه مربدّا وعيناه مزورتَين . هجم على حليمة من دون أن ينطق كلمة وانهال عليها لكماً ورفساً وصفعاً . تلقت حليمة ضرباته باستسلام وكأنها قدر لا يرد . قفزت إليه الجدة مرعوبة تتعثر برداء الصلاة وتشبثت بتلابيبه وصرخت : ستقتل الطفلة يا كافر.ستميتها ، الله لا يغفر لك .
وهرعت الأم إليه وهي تردد متضرعة : عيني عمّوري لخاطر رأسي .. عيني عمّوري لخاطر رأسي .
ومضى عمر يصرخ كالمحموم وهو يسدد اللكمات والركلات إلى حليمة : دعوني أقتلها . دعوني أسحق رأسها . والله لا أتركها حيّة اليوم .
واحتقن وجهه الناصع البياض وتهدلت خصلات شعره الأسود الغزير ، ونضح العرق من وجهه ، وبدا كالثور الذبيح . وتمزق رداء الجدة وأعيتها المقاومة فهوت على الأرض . واستسلم عمر أخيراً لمقاومة الأم فجرته بعيداً عن الموقد . وكانت حليمة قد تسمرت في موضعها بجوار الموقد . وكان شعرها قد تشعث وبدت في وجهها بقع حمر . وما أن أفلتها عمر حتى انسلت إلى غرفتها . تساءلت الأم أخيراً في رفق : ما الذي فوّر دمك يا عموّري ؟
هتف عمر في سخرية غاضبة : ما الذي فوّر دمي ؟ حضرة صاحبة الخلقة الوسخة تصادق الرجال .
فصاحت الجدة : سوّد الله وجهك يا كافر . حليمة تاج الملوك .
هتف عمر بخشونة : اسكتي يا بيبي ، ماذا تعرفين أنت ، رأيتها عصر اليوم تتمشى مع فتّاح ابن الحاج مهدي البقال في الوزيرية .
فصاحت الجدة : لعن الله الكاذب . أنت تكرهها . أنت تريد أن تتحمل خطيئتها في الآخرة .
قالت الأم برفق : ربما كنت متوهماً يا عمّوري .
فصاح عمر مهتاجاً : رأيتها بعيني ، فكيف أكون متوهماً ! كيف أكذب عيني؟
هتفت الجدة : أي أنت متوهم . إنها شبّهت لك لأنك تكرهها ، يا من لا يخشى عقاب الله يوم القيامة .
التفت إليها عمر وقال حانقاً : أسكتي يا بيبي 00 ماذا تعرفين أنت ؟
فاستمرت الجدة تدمدم حانقة : يا من يخشى الله . يا من لم يتوجّه إلى القبلة يوماً . الكافر. ما ذنب الطفلة حتى ابتلاها الله بك ؟
قامت الجدة وهي تدمدم ساخطة ومضت إلى الغرفة . كانت الغرفة غارقة في الظلام إلا شعاعاً ضئيلا من النور ينعكس على السقف من كوّة في أعلى الجدار . وكانت حليمة راقدة على فراشها وقد تسمرت عيناها في السقف . فتحت الجدة الباب بهدوء وهي تتلمس طريقها نحو الفراش وتساءلت : عيني حلّومة ، أنت نائمة أم صاحية ؟
فلم تردّ حليمة 0 لم تكن تحسّ برغبة في التحدث مع أي إنسان . كانت حالة من الذهول والرعب والحيرة تبتلع كيانها 00 هل انكشف سرّها حقاً ؟ وماذا في نيّة عمر أن يفعل؟ وأي تدبير تتخذ كي لا تحرم من رؤية فتّاح؟ كانت الأسئلة تنثال على ذهنها وهي عاجزة عن الإجابة عليها . ولم يتحرك جسمها كما لو أنه شد إلى الفراش ، ولم تزور عيناها عن السقف. وبدا الظل المنعكس على السقف كحيوان غريب ذي وجه كوجوه البشر . تسمّرت أنظارها على ذلك الظل وهي لا تفكر بشي. ثم خيّل إليها أن الأصوات الخافتة التي تتناهى من الليوان تتآمر على سعادتها . وتصاعدت الأصوات رويدا رويداً وانبعثت من كل الجهات . وانتابها رعب شديد ، وارتعد جسمها ، فدفنت رأسها في الوسادة وأغمضت عينيها . وكادت صرخات الرعب تفلت من بين شفتيها لولا أنها عضت الوسادة بشدة . ثم انقطعت الأصوات دفعة واحدة ، ففتحت عينيها وقد استقر في قلبها عزم مكين .. كلا ، لن تسمح لأحد أن يهدَّم سعادتها ، عمر أو غيره . وأي حق لعمر في أن يحطم حياتها ؟.. " إنني تحملت أذاه كثيراً ، ولن أتحمله بعد اليوم " . يكفيها أنها ظلت تخشاه طوال هذه السنين . وقد يقتلها يوماً إن بقيت تعيش في هذا البيت تحت رحمته . كلا ، إنها لن تطيق العيش في هذا البيت بعد الآن ، ولابدّ لها أن تفرّ منه0 فلن تقدر بعد أن تستمع إلى إهانات عمر،لا تقدر أن تحتمل خصام جدتها وأمها الدائم ، لا تستطيع أن تكنس وتنظف وتطبخ كل يوم . ستسأل فتّاح أن ينقذها من هذا الجحيم ، وسيفعل . إنها واثقة أنه سينقذها من هذا الجحيم فهو يحبها بكل قلبه .
6- أين المفر ؟
سارت حليمة مسرعة وهي متلفعة بعباءتها لا يبين منها سوى نصف وجهها. وتلفتت وجلة وهي تتخيل عمر متوارياً وراء كل عطفة أو شجرة 00 إنه لن يفلح في التفريق بينهما . ليتخذ ما يشاء من التدابير لاعتقالها في البيت فلن ينجح في مسعاه . وستخرج لملاقاة فتّاح مهما ضرب حولها من سدود . وكيف يمكنها التخلي عن فتّاح وهو كل أملها في الحياة ؟!
بلغت المكان المعتاد فبرز فتّاح من وراء شجرة وسار بجوارها وهو عابس الوجه . تساءل بامتعاض من دون ان ينظر إليها : لماذا تأخرت؟
قالت وهي تتلفت حواليها عجلة : سأخبرك فيما بعد . لنذهب إلى مكان آمن بالوزيرية غير مأمونة.
فتساءل فتّاح بقلق : لماذا ؟ هذا المكان آمن من غيره .
قالت حليمة وهي ما تنفك تتلفت حواليها : سأخبرك فيما بعد ، ولنذهب إلى مكان آخر الآن.
حكّ فتّاح جبينه مفكراً ثم قال : أعرف مكاناً آمنا .. تعالى معي .
سارا مسرعين نحو جسر الصرافية .و استقلا الباص قرب كلية الحقوق ثم تركاه في أول محطة بعد الجسر . مشياً قليلاً مع السكة المهجورة ثم انعطفا وراء مقبرة صغيرة . ولم يتبادلا الكلام طوال الوقت . وما أن جلسا على صخرتين متجاورتين وراء سور المقبرة حتى قال فتاّح بامتعاض : أنا اعتقد أن مكاننا الأول أحسن وآمن . لماذا بدّلته ؟
قالت حليمة : اكتشف عمر سرّنا : رآنا نمشي معاً في الوزيرية عصر أمس .
ظل فتاّح صامتاً دقائق خيل لحليمة أنها ساعات0 ثم تساءل بلهجة جامدة : وماذا قال ؟
قالت بعدم اكتراث : ضربني ضرباً شديداً وتوعدني بالقتل إن خرجت معك مرة أخرى .
هتف فتاح بانزعاج : القتل !
التفتت إليه حليمة وقد شعت عيناها بالحب وقالت بعزم : إنه لن يفرّق بيننا يا فتاّح . لن يفرق بيننا . ليقتلني إذا شاء ، لكنه لن يفرّق بيننا .
قال فتاّح متردداً : هذا كلام مجانين يا حليمة.
تساءلت حليمة وهي تنظر إلى المصابيح البعيدة الخابية : وما العمل إذن؟
فلبث فتّاح صامتاً 0 وهيمن على المكان صمت لم تكن تعكره سوى أصوات أبواق السيارات البعيدة وصرير الجنادب . وأسرعت دقات قلب حليمة وتوقعت أن يقول فتّاح ما يجول في ذهنها ، لكنه لبث مستمسكاً بالصمت وهو يعبث بالأرض بإصبعه . قالت حليمة أخيراً بصوت مضطرب وهي تحدق في المصابيح البعيدة : هناك طريقة سهلة تخلصنا من هذا التعب يا فتاّح .
تساءل فتاح دون أن يلتفت إليها : ما هي ؟
قالت وهي تلتقط أنفاسها اللاهثة : تخطبني من أهلي.
فلم يرد عليها فتّاح . وخفق قلب حليمة بعنف حتى حسبت أن فتّاح يسمع خفقانه . كانت اللهفة المحرقة والقلق الحاد يصطرعان بين جوانحها . وبدا لها في غموض أن جوابه سيغيرّ حياتها . وطال صمت فتاّح لكن حليمة لم تجسر على الكلام . وتلاشت مشاعر اللهفة في صدرها وداخلها اليأس . وأخيراً التفت فتّاح إليها وقد انبسط وجهه وقال وهو يبتسم ابتسامة صغيرة : أتدرين بماذا كنت أفكر يا حليمة ؟
خفق قلب حليمة وداعبتها الآمال من جديد . تساءلت بلهفة : بم ؟
قال والابتسامة لا تفارق وجهه: بترتيبات الخطبة . كنت أقلب في ذهني أسماء الرجال الذين يجب أن يصحبوا أبي عند قدومه إلى بيتكم ليخطبك .
هتفت حليمة في سرور غامر : عيني فتاّح ، والله لن تندم أبداً . سأكون لك أحسن زوجة ، وسأطيعك لحدّ الموت .
مال عليها فتاح وقبلها في فمها فلم تمانع . استسلمت حليمة إليه وقد غمرتها نشوة أنستها نفسها . وطافت الأحلام في مخيلتها ، وتخليت نفسها وهي تروح وتجئ في بيتها الصغير سيدة آمرة لا يهينها أحد . وابتعد فتاّح فجأة عنها وأخذ يتطلع إليها صامتاً وكأنه يهم بقول شيء . فتعلقت عيناها بعينيه وترقبت بلهفة كلامه . تساءل فتاح ببطء وهو يحدق في وجهها بنظرات غامضة : أتطيعينني إلى حد الموت حقاً ؟
قالت حليمة بحرارة : مرني أن أرمي نفسي في الشط أفعل .
فصمت برهة وهو يحدجها بنظراته الغامضة ثم قال ببطء : إذا طلبت منك الآن طلباً أسهل من الموت بكثير ، هل تنفذينه ؟
انقبضت نفس حليمة وقالت بخوف : أطلب .
فاحتضنها بقوة وقال : ما دمنا سنتزوج قريباً فدعينا نتمتع .
نظرت إليه متوسلة وقالت : لا ، لا يا فتّاح . لا داعي للعجلة . كلها أيام ونتزوج على سنة الرسول .
فانسحب عنها وتساءل وقد عبّس وجهه : وما المانع الآن ؟ لن يعلم أحد بالأمر . ثم أننا سنتزوج .
قالت حليمة بلهجة رقيقة يمازجها الخوف وعيناها تتوسلان إليه : وليلة الدخلة يا فتاح؟ سينتظر أهلك على باب غرفتنا .
وسكتت لحظة ، ثم أضافت متضرعة : كلها أيام يا فتاح فالعن الشيطان .
قال فتاح بلهجة بطيئة وهو ما يزال عابس الوجه : إذن أنت لا تحبينني حقيقة .
فقالت حليمة بمرارة وقد جف ريقها : كلها أيام وأكون ملكك تفعل بي ما تشاء .. العن الشيطان يا فتاّح .
قال فتاح مغضباً : ألم تقولي قبل دقائق أنك ستطيعينني إلى حدّ الموت ، فهل كنت تكذبين عليّ ؟
وعصفت بحليمة حيرة مرةّ ، ولم تدر ماذا تفعل . وتشابكت في ذهنها الصور . وطغت فوقها صورة أبيها بوجهه الذابل وعينيه الذاهلتين .
همست بدون وعي:لا0لا0لن أ فعل هذا أبدا0
فطوقها فتاح بين ذراعيه ، وضمها إلى صدره وقد تملكته رغبة جامحة0 وراح يردد كالمحموم : والله لا تخافي .. لن يعلم أحد بالأمر أبداً .
دفعته حليمة عنها بقوة وزحفت إلى الوراء فزعة . ثم التقطت عباءتها والتفت بها بقوة . فنهض فتّاح محنقاً مغيظاً وهتف : إذا لم تطيعيني الآن قطعت علاقتنا .
فالتفتت حليمة بعباءتها بقوة وقالت لاهثة وهي ترمقه بنظرات فزعة : لا . لا. لن أفعل هذا أبداً يا فتّاح .. لن أفعله أبداً .
وأخذ جسدها يرتجف بشدة ، وسرت في ظهرها قشعريرة حادة . نهض فتاّح وقد استبد به الغضب ثم قال فجأة بلهجة ساخرة وصوته يرتجف : هل تحسبينني مجنوناً لأتزوج امرأة مثلك؟ وهل هناك رجل عاقل يفكر بالزواج من امرأة لها وجه أطول من الحذاء؟ إياك أن تريني وجهك القبيح مرة أخرى ، وإياك أن تقربي دكاني ، فلا أريد أن انتفع منك بفلس واحد .. يا وجه الحذاء .
وألقى عليها نظرات ازدراء ، ونفض ذرات التراب عن ملابسه ، ثم مشى مسرعاً باتجاه الجسر .
وكانت حليمة تحس أثناء ذلك بتغير غريب يجري في أعماقها ، في قلبها ، في عقلها .. لم تعد حليمة التي تعبد فتّاح . إنها تحتقره . وإنها لتعجب كيف أحبته يوماً .. كيف فكرت به زوجاً لها . وإن الحقيقة البشعة لتتكشف لها الآن كبالوعة نتنة . إنه لم يكن حباً 00 كان خدعة وضيعة .
تسمرت حليمة في موضعها وصور حياتها مع فتّاح تنثال على مخيلتها 00 كانت كمن يرى الدنيا للمرة الأولى حينما خرجت إلى لقائه في الموعد الأول . ومع أنها كانت تتخيل شبح عمر في كل شخص قادم من بعيد ، لكنها لم تفكر في التراجع0 وتجولا في تلك الشوارع الساكنة الهادئة . وكانا كلما وقعت أنظارهما على شخص قادم ابتعد أحدهما عن الآخر . ولم يكن بقدرتها أن تتكلم كثيراً في ذلك اللقاء . كان قلبها يخفق في قوّة ، وكانت رعشة خفيفة تنتظم جسدها . ولم يقل فتّاح سوى كلمات عابرة ، وصرفا معظم الوقت صامتين . لكنه كان صمتاً يعوّض عن مئات الكلمات . ولدى عودتها وقت الغروب أمعنت فكرها طوال الطريق لتخترع عذراً تبرر به غيابها عن الدار .
وترقبت بلهفة موعدهما التالي . وكانت في أغلب الليالي ترى حلماً واحداً لا يتغير هو تجوالها مع فتّاح في شوارع الوزيرية الصامتة. ولما التقى بها فتاح حدثها طويلاً عن أسرار المهنة ، وكيف يغش أحيانا في الوزن دون إن يشعر الزبائن . وضحكا كثيراً على بعض الخدع التي كانت تنطلي على المشترين . وأكدّ لها أنه لم يفكر يوماً أن يغشها ، وأنها كانت دائما زبونته المفضلة . وجلسا في حديقة صغيرة في الوزيرية على إحدى المصاطب جنباً إلى جنب . وكانت تتخيل طوال الوقت أنها تحلم حلمها اليومي وأن وجودها مع فتاح أمر غير حقيقي . وقد امتدت يده واشتبكت بيدها. لكنها سحبت يدها بسرعة فلم يمانع . وكم أسفت لذلك . ثم دأبا على اللقاء في تلك الحديقة الصغيرة المنعزلة . واعتادت أن تمضي إلى مواعيدها خاوية المعدة . فهي تقضي يوم الموعد في فرح طاغ يفقدها شهيتها للطعام ، فلا تصيب في الغداء سوى الشيء القليل . فكانت تشعر دائما بالإعياء وهي تمشي بجوار فتاّح . وفي ذلك اليوم انتابها إعياء شديد وهي تجلس بجواره في حديقتهما الصغيرة وتصغي إلى أحاديثه الساحرة . واشتدّ إعياؤها حينما التفت إليها فجأة وطوقها بين ذراعيه وأهوى على ثغرها بقبلة طويلة 0 حاولت أن تتملص من ذراعيه فلم تواتها قوتها . ارتخت أعضاء جسدها ، وأصابها ما يشبه الدوار ، وحلقت بها النشوة في سماوات سحرية . وصارت تلك القبلة اللذيذة فاتحة لقبلات طويلة .
وكان ثمة مرارة لاذعة تزداد ترسباً في قلبها كلما انثالت عليها صور غرامها . وزفرت زفرة قوية أخيراً وهتفت : أوف ربي00 لم ؟ لم؟
نهضت حليمة بتثاقل وهي تحس بإعياء شديد ، ونفضت ذرات التراب عن عباءتها . ثم التفت بها وسارت صوب جسر الصرافية 0 وقطعت الشارع المؤدي إلى الجسر بخطوات بطيئة . ولما بلغت الجسر توقفت عن السير . كان السكون من حولها عميقا والنهر ينساب بهدوء إلى مقرّه الأبدي. أسندت ذراعيها على حاجز الجسر . حدقت في المياه المنسابة من تحتها وقد انعكست عليها أضواء المصابيح الخافتة0 تأملت أشجار النخيل الشامخة المتلفعة بالصمت0 ودار رأسها واشتد إعياؤها وكان الطنين يملأ أذنيها . ثم رفعت عينيها إلى صفحة السماء .. هناك وراء تلك النجوم الملتمعة ، و في أعماق تلك القبة الزرقاء يحيا البشر حياة هانئة خالية من الظلم والبهدلة والخداع . وخيل إليها أنها تحلق بجناحين عظيمين نحو النجوم وتتغلغل بينها.
وفزّت من خيالاتها على غناء ينبعث من الأكواخ القريبة يمزق السكون في حزن : يُمهّ يا يُمةّ .. جبتيني للضيم ..
وانفجرت في بكاء مرّ آسر وتلاحقت شهقاتها الملتاعة .


الصديقان
تساءلت أمي وهي تملأ صحناً بالرزّ وتتوجّه بقطعة لحم كبيرة : من يأخذ هذا الصحن إلى أهل حسين ؟
وكنت أترقب بلهفة انتهاءها من تقسيم فخذ اللحم على صحوننا , وكانت شهيتي للطعام قد بلغت ذروتها . لكن سؤالها أنساني لهفتي وهتفت في الحال : أنا آخذ الصحن .
فحسين أعزّ أصدقائي , وإهداء مثل ذلك الصحن إلى أهله يملؤني فخراً . حملت الصحن وانطلقت مسرعاً 0 كانوا يقيمون في كوخ صغير في البستان المهجور في نهاية الدربونة . ولم أكن أخشى دخول ذلك البستان ليلاً فليس فيه كلاب . صحت بأعلى صوتي وأنا أقف تجاه الباب : حسين00 حسين .
كانت الستارة الزرقاء الحائلة اللون مسدلة على باب الكوخ ونور "النفطية" الخافت ينبعث من ورائها . وتناهى إليّ صوت أم حسين الأجشّ متسائلة : من يريده ؟
فقلت : أنا عدنان خالة .
أزيحت الستارة وظهرت أم حسين بجسمها الضخم ووجهها الغليظ الغامق السمرة . تناولت مني صحن الرز وقالت : الله يزيد النعمة .
مددت رأسي داخل الكوخ فرأيت حسين منبطحاً على الحصيرة وقد توسد ذراعيه . وكان أبو حسين يتربع على الأرض قرب الباب في خمول . لكنه انتصب في جلسته حينما رأى صحن الرز ونظر إلى أم حسين متحفزاً . واستدرت لأعود فقالت أم حسين : قف يا ولدي لأفرغ لك الصحن .
فتوقفت وقد فتر حماسي . كانت صورة صحني المتوّج بقطعة اللحم قد بدأت تلح على ذهني . وإذ كانت أم حسين تفتش عن صحن هجم أبو حسين على صحن الرز واختطف قطعة اللحم ودسّها في رغيف وراح يلتهمها ككلب جائع . وكدت أصرخ حانقاً فقد بدا لي أنه سيأتي على الرغيف في لقمتين وأنه لن يبقي من اللحم شيئاً لحسين . وتعلقت عينا حسين بوجه أبيه بجزع والدموع تكاد تطفر منهما . قالت أم حسين وهي تمدّ إلى الأب يدها : لا تأكل اللحمة كلها يا محيسن .. خلّ لحسين قليلاً منها .
فأبعد أبو حسين يدها بكوعه وانهمك في التهام الرغيف . تقدمت إليه أم حسين وأمسكت بالرغيف في يد ودفعته في صدره باليد الأخرى , فأفلت الرغيف وتقهقر حتى اصطدم بجدار الكوخ ووقع على الأرض . وفي غمضة عين مدّ يده إلى الموقد والتقط منه حجارة قذفها في وجه أم حسين , فانبثق الدم من جبهتها وتساقط على ثوبها الأسود وعلى صحن الرز . ثم مرق بجواري وتوارى في عطفة الدربونة . ولعلع صوت حسين بالعويل .
تملكني خوف شديد ، وجمدت لحظة في موضعي وأنا أرتعش كسعف النخلة . ثم ركضت إلى بيتنا وأنا أبكي بهلع . التفّ أبي وأمي وإخوتي حولي وأمطروني بالأسئلة الوجلة . وردّدت أمي بجزع : اسم الله عيني . الرحمن عيني .
قلت أخيراً بصوت مبهور الأنفاس : أبو حسين أكل اللحمة وفشخ أم حسين وهرب .
ففتر حماس الجميع ، وعاد إخوتي إلى طعامهم . وتساءل أبي متعجباً : وما الداعي إلى هذا الخوف والبكاء ؟!
وقال فالح : حسبنا أن السبع لاقاك في الطريق .
وانسحبت أمي إلى موضعها بجوار الموقد وقد عاودها الاطمئنان , وانهمكت في حك قدر الرز.ولبثت جامداً في مكاني أخزر الجميع وهم مشغولون عني وكأن أمراً فظيعاً لم يقع . ثم التفت إليّ أبي أخيراً وتساءل : لِمَ لا تعشى يا عدنان ؟
فقلت في غيظ : وكيف أتعشى ؟ أريد أن آخذ إلى بيت أم حسين صحناً آخر .
قالت أمي : إننا قسمنا اللحم كله يا عدنان ولم يبق منه شيء .
فتنامى امتعاضي واشتد بي الضيق والكرب . قال فالح وهو يمضغ لقمة حشا بها فمه : خذ لهم عشاءك إذا كنت مصرّاً .
وبدون تردد حملت صحني ومضيت به إلى الباب وعيون الجميع معلقة بي .
وداخلتني رهبة وأنا أدنو من الكوخ, وتمثل لي شبح أبو حسين بقامته الطويلة المحنية ولحيته الكثة المهوشة ورأسه الحليق .وتسمّرت بجوار الباب لا أجسر على مناداة حسين . ثم قهرت ترددي وصحت : حسين .
أزيحت الستارة الزرقاء وظهرت أم حسين . كان رأسها معصوباً بعصابة بيضاء لاحت في جانب منها بقعة حمراء كبيرة . ناولتها صحن الرز فنظرت إليّ بامتنان وقالت : الله يخليك لأهلك بجاه الحسين والعباس.
كان حسين جالساً القرفصاء على الحصيرة ورأسه يكاد يلامس ركبتيه . وكان صحن الرز الملوث بالدم بجواره لم يمسسه أحد . ولم ارَ لـ"أبو حسين" أثراً .
رجعت إلى المنزل حاملاً الصحنين الفارغين وأنا أشعر بارتياح . كنت موقناً أنني فقدت عشائي وخسرت قطعة اللحم , لكن الندم لم يتطرق إلى نفسي . وبدا لي الأمر سواء أتعشيت لحماً ورزاً أم رزاً وحده , أم خبزاً فقط . ودهشت حينما وجدت في موضعي المعتاد من الصينية صحناً مليئاً بالرز قد تناثرت فوقه قطع اللحم . وتلقاني أبي قائلاً : بارك الله فيك يا بنيّ .
ورمقني إخوتي في حنق وقال فالح : أنت تتبرع بعشائك ونحن ندفع الثمن .
***
التقيت بحسين صباح اليوم التالي في الدربونة فبادرني قائلاً : أمي تقول إنك أحسن أولاد المحلة .
فملأني الزهو لهذا المديح الصادر من أم ضخمة مخيفة كأمه وسألته : وأبوك 00 ألم يرجع بعد ؟
فقال : لا .
فسألته : وأين قضى الليل إذن ؟!
فلاحت في عينيه نظرة حزينة , وهز رأسه بحيرة وقال : لا أدري .
واستولت عليّ رهبة مفاجئة . وطافت في رأسي حكايات الناس الذين يهيمون في البرية وينامون مع الحيوانات المتوحشة ويأكلون من ثمار الأشجار . ورنوت إليه برثاء والدموع تكاد تطفر من عينيّ . ما أفظع أن يكون الإنسان بلا أب ! من الذي سيعطيه اليومّية صباح كل يوم , والعيدية في كل عيد ؟ لكنني سرعان ما تذكرت أن أبو حسين لا يعطيه سوى يومية ضئيلة , وأنه قد يبقى أياماً عديدة بلا يومّية . وكثيراً ما تقاسمت معه ما أشتريه من عطّار المحلة من لب غراش وضروك الجريدي وخرّيط و جقجه قدر .
ظل حسين ساهماً وأنا لا أجسر على مخاطبته ثم التفت إليّ أخيرا وقال بأسىّ : لن ألعب بعد الآن في الدربونة .
فهتفت بانزعاج : ولِمَ ؟
فقال: سأشتغل في دكان حمود الصفار وأساعده في العمل وأبقى في سوق الصفافير من الصباح إلى المغرب .
وهالني تخيّل مثل هذه الحياة . كيف يقدر الواحد أن يبقى في الدكان طوال النهار من دون لعب ؟! وتعذر عليّ أن أفهم كيف يرضى لنفسه هذا السجن . ثم تذكرت أمه المخيفة وحمدت الله على أنها ليست أمي . فكرت مليّاً ثم سألته : لِمَ لا تعاند أمك يا حسين وترفض الذهاب إلى السوق ؟
فقال باستنكار : ولماذا أعاندها ؟ سأقبض يومية وأتغدى من غداء حمود الصفار وأتعلم الصنعة .
فسألته : ولماذا لا تتغدى في بيتكم ؟
فقال وهو يتجنبني بنظراته : ليس في بيتنا غير الخبز .
تأمّلت وجهه الشاحب وهو مطرق يرسم بإصبعه على الأرض المتربة خطوطاً متعرجة . وفهمت السبب الذي جعله عزوفاً عن لعبة السباق . وكان عجزه فيها منذ أسابيع وتعبه السريع ـ وهو الذي كان أقدرنا وأسرعنا جميعاً ـ مثار عجبي وحيرتي . نظرت إليه لائماً وقلت : لماذا لم تخبرني يا حسين ؟ كنت جلبت لك من بيتنا مرقاً ورزاً كل يوم .
فقال وهو لا يزال يرسم على الأرض غير ناظر إليّ : أمي لا ترضى أن يعرف الجيران .
ولم أستمتع باللعب ذلك اليوم . كانت فكرة غياب حسين عن الزقاق طوال اليوم تعكر عليّ صفوي . متى سنلعب معاً ؟! فأمّه لا تسمح له باللعب في الطريق بعد الغروب , وأبي لا يسمح لي بذلك إلاّ في أيام الأعياد . وإن فقدان صديق كحسين أمر صعب سيجعل ساعات لعبي منغصة ولاشك .
لبثنا جالسين جنباً إلى جنب بالقرب من باب دارنا والصمت يخيّم علينا . ولم نتبادل سوى كلمات قليلة .
***

كنت موقناً أن أبويّ لا يرفضان لي طلباً إذا أصررت عليه . وكان سلاحي الأول في فرض مطالبي هو البكاء . فإذا لم يثمر أضربت عن الطعام . لكنني لم أكن أمتنع عن تناول الطعام حقيقة بل كنت أنتهز غفلة من الجميع وأتسلل إلى موضع الخبز وأسرق رغيفاً أدسّه في جيبي وأخرج إلى الطريق لألتهمه بعيداً عن عيون إخوتي . وكان امتناعي عن الطعام كافياً لأن يفقد أمي صوابها فتجيب طلبي مهما يكن . وكنت متأكداً أن طلبي الجديد غير سهل القبول , وأنه سيلقى معارضة شديدة وخاصة من إخوتي فهم لا يحبون حسين0 وعزمت على استخدام أسلحتي المعتادة إذا اقتضى الأمر . قلت لأمي : أريد أن آخذ عشائي كل يوم إلى كوخ أهل حسين وأتعشى هناك .
فتطلعت إليّ في عجب وتساءلت : ولماذا لا تتعشى هنا ؟!
فقلت :أريد أن أتعشى مع حسين فهو يظل بلا عشاء . أبو حسين هرب ولم يرجع .
فكرت أمي قليلاً ثم قالت : سأخبر أباك ونرى .
حان وقت العشاء وتحلقنا حول الصينية وأبي يتصدر المكان0 وأخذت أمي تملأ لنا الصحون من قدور الطعام . ونقّلت أنظاري بينها وبين أبي 0 وترقبت في لهفة أن يقول أحدهما شيئاً لكنهما لزما الصمت0 فظللت جالساً على مضض وقد عقدت العزم على أن يكون البكاء أول سلاح ألجأ إليه . وقدّمت أمي صحون الطعام واحداً بعد الآخر , ثم وضعت أمامي أخيراً صحناً مليئاً بالرز وفوقه المرق واللحم .نظر إليّ أبي باسماً وقال : قم إلى صاحبك يا عدنان .
حملت الصحن مغتبطاً وأسرعت الى البستان وأنا أكاد أطير من الفرح . لكن حماسي فتر عندما بلغت الكوخ ومثلت في ذهني أم حسين بقامتها المديدة ونظراتها الحادة . وهتفت وأنا ألصق أذني بالستارة : حسين .
نحيت الستارة وظهرت أم حسين . ورنوت إليها متهيباً0 كان وجهها الأسمر العريض ينبسط في ابتسامة وادعة . وكانت عيناها تلمعان بالحنان . قلت لها بلهجة متعثرة : أريد أن أتعشى مع حسين يا خالة .
فقالت برقة : تفضل عيوني ، محروس .
جلست أنا وحسين في زاوية من الكوخ نتناول عشاءنا بسعادة ونتهامس بما مرّ علينا من حوادث اليوم . وقصّ عليّ حسين حكايات مشوقة عمّا شاهده وجرى له في سوق الصفارين ، وقال إنه ساعد صاحب الدكان في البيع . وعجبت لذلك وسألته : كيف استطعت أن تبيع الأشياء وأنت لا تحسن العدّ إلى أكثر من مئة يا حسين ؟!
فقال محتجاً : أنا أقدر أن أعدّ إلى الألف .
وانطلق يعدّ بسرعة ، ولكنه ما كاد يتجاوز المئة حتى أخذ يخطئ في العدّ . ولم أحبّ أن أدلّه على خطئه فأفسد عليه سروره . كان يحاول أن يباريني في العدّ دائماًً , ولكنه لم يفلح أبداً . وتظاهرت بتصديق ادعائه لئلاّّّّ يؤدي العناد إلى خلاف بيننا كما يحدث دائماً . وسألته : هل رأيت أباك في السوق ؟
فقال بحزن : لا . لم أره . وذهبت إلى مسجد المحلة لعله نام هناك فلم أجده.
وسكت لحظة وقد غام وجهه ثم أضاف : كيف سأبقى بدون أب ؟!
وأثار هذا الأمر في نفسي حزناً شديداً . وتخيلت أباه في البرية مع الحيوانات الوحشية . وكانت أم حسين منزوية طوال الوقت في ركن من الكوخ وهي سارحة النظرات 0وكفّ حسين عن الأكل ولم ينته نصف الصحن بعد ، فكففت أنا أيضا مع أنني لم أشبع تماماً . ثم انصرفت إلى البيت تاركاً الصحن لآخذه في اليوم التالي .
***
في كل مساء كنت أحمل عشائي إلى كوخ أهل حسين 0 وكانت أم حسين تنزوي دائما في ركنها المعهود وهي ساهمة . وكنا نلعب أنا وحسين بعد العشاء وهي جامدة في جلستها وكأنها لا تشعر بوجودنا . ولم يعد منظرها يخيفني ، بل إنني بدأت أحبها ، وأخذت تبدو لي رقيقة حذونا كأمي . أما حسين فلم يعد ولوعاً باللعب كعهده ، وصار يفضل الجلوس صامتاً. ولعله كان يجبر نفسه على اللعب مجاملة لي . وغدا جوّ الكوخ كئيباً يقبض النفس .
وكنّا قد فرغنا ذات مساء من عشائنا وبدأنا نلعب جلكة . وارتعشت ستارة الكوخ فجأة فنظرنا إليها باستغراب . كان سعف النخيل ساكناً ولم يكن ثمة أثر للنسيم . ومرت دقائق ثم ارتعشت الستارة ثانية وتخايل شبح إنسان وراءها . نهضت أم حسين وتطلعت خارج الكوخ فلم تر أحداً ، فعادت إلى موضعها . تبادلنا أنا وحسين نظرات وجلة 0 وهمس حسين بصوت نمّ عن قلقه : كيف تتحرك الستارة من نفسها ؟
فقلت محاولاً الظهور بمظهر اللامبالي : ربما لم تتحرك حقيقة فأمك لم تر أحداً.
فقال وهو يرمق الستارة في خوف : لعلّ الجنيّ حرّكها ، فلا يمكن أن تراه أمي . هذا البستان مسكون بالجن يا عدنان .
أقلقتني هذه الفكرة وأثارت المخاوف في قلبي . وتذكرت أنني رأيت مرة وأنا ماض إلى الكوخ ليلاً معزى ترعى وحدها في البستان ، فلا شك أنها كانت جنّية0 وأيقنت أن مجيئي إلى الكوخ ليلاً لم يعد سهلاً . ظلت عيوننا مسمرّة على الستارة والوجل يملأ قلبينا . ثم قلت بدون وعي وعيناي لا تفارقان الستارة : أخي فالح يقول إن الجن لا وجود لهم .
ومرة ثالثة ارتعشت ستارة الكوخ ، ثم أطلّ منها وجه إنسان ذو لحية كثة . وكادت صيحة رعب تلفت من شفتي ، لكن حسين هتف بفرح : جاء أبي .
أضاء وجه أم حسين وهمّت بالنهوض ، لكنها عادت فعبست وأدارت رأسها إلى الناحية الأخرى . وكان رأس أبو حسين قد برز وظهر الجزء الأعلى من جسده . وكانت ابتسامة حائرة تتشبث بشفتيه . وألقى بحمل ذبيح أمام أم حسين كان يخبئه وراءه . نظرت أم حسين إلى الحمل من زاويتي عينيها ولم تتحرك . دخل أبو حسين بقامته العجفاء ووقف بجوار الباب وابتسامته الحائرة تتسع على شفتيه . ثم مدّ يده في جيبه وأخرج صرّة ألقاها في حضن أم حسين فرنّ صوت النقود . وسمّرت أم حسين عينيها على صرّة النقود وقد تبدّى السرور في وجهها لكنها لم تتحرك . تقدم أبو حسين داخل الكوخ بتردد ثم جلس القرفصاء في الجانب المقابل لأم حسين وهو ينقِّل نظراته الفرحة بينها وبين حسين . وهيمن صمت ثقيل على الكوخ تتوتر منه الأعصاب0 وأخيراً قال أبو حسين بلهجة مترددة : أنا لقيت شغل يا حسنة .
فالتفت إلىّ حسين وقد شعت عيناه بالسرور وهتف بفرح : سنلعب غداً طول النهار يا عدنان.

حب با ئس
ظل الأستاذ محي مثقلاً بالهمّ . ولم يهوّن دنّو موعد انتهاء الدرس الأخير من همّه بالرغم من أن اليوم هو الخميس وغداً تحل عطلة نهاية الأسبوع . وكان قد فرغ من إلقاء الدرس قبل ربع ساعة من الموعد فانصرف يقطع فسحة الصف جيئة وذهاباً . ولديه اليوم أكثر من سبب للإحساس بطول الوقت . فقرار مجلس المعلمين بفصل الأستاذ عباس قد كهرب جوّ المدرسة . والانسجام بينه وبين زملائه المعلمين مفقود في الأيام الاعتيادية 00 فما بالك في مثل هذا اليوم ؟ وبعد ، فما الذي يدعوه إلى استعجال الوقت ؟! ما دام لم يتوفر له المبلغ فلا شك أن أنيسة ستفسد عليه أمسية نهاية الأسبوع المعتادة في سينما غرناطة وستنقضي الجمعة في جو كئيب ، وسيقبل يوم السبت سريعاً وتقبل معه المتاعب من جديد .
ورنّ الجرس رنيناً حاداً متصلاً فخفق له قلب الأستاذ محيي ، وجمع أوراقه وكتبه سريعاً وغادر الصف . وما أن احتوته غرفة المدرسين وطالعته وجوه زملائه حتى افترسه الانقباض . لقد سأل أغلبهم إقراضه المبلغ فاعتذروا جميعاً . ولا يمكنه أن يلوم أحداً منهم ، فمن يتخلى عن ستة دنانير في أواخر الشهر ؟!
انصرف المعلمون واحداً بعد الآخر ولم يبق سوى الأستاذ خليل . كان حائراً لا يدري ماذا يفعل . وأورثته فكرة عودته إلى البيت بدون المبلغ همّاً حاداً . تشاغل بتقليب دفاتر الامتحانات ، لكن الضيق كتم أنفاسه . وتملكته فجأة كراهية جامحة لكل ما حوله 00 للبيت ، للمدرسة ، للمعلين ، للتلاميذ ، لدفاتر الامتحانات ، وودّ لو يهرب إلى مكان ناء لا يرى فيه أحداً .
عكف الأستاذ خليل على دفاتر الامتحانات يعمل فيها قلمه الأحمر .وأحسّ محيي وهو يختلس النظرات إلى وجهه الغليظ القسمات أنه يكرهه أكثر من أي وقت مضى . وقد اشتدت كراهيته له أثناء اجتماع مجلس المعلمين حينما تجادل معه حول فصل زميلهم عباس . ما الذي يدعوه إلى الاعتقاد أنه أفضل من غيره من زملائه ؟ إنه يأبى أن يعترف بأنه موظف مسؤول ، وأن عليه إطاعة الحكومة مهما تكن أوامرها . وقد أصر على معارضة القرار ورفض المصادقة عليه بالرغم من علمه بأن معارضته قد تؤدي إلى فصله من الوظيفة . فما معنى هذا التحدي للسلطة وهذه الثقة الزائدة عن الحدّ بالنفس ؟ وبعد فهو يعلم جيداً أن ذلك القرار قد صدر من المخابرات وأنه لا بد أن ينفذ ، شاء المعلمون أم أبوا .
تأمل محي وجه الأستاذ خليل فأثاره الهدوء المرتسم عليه00 هنيئاً له ، إنه غير مسؤول عن إعالة زوجة 0أما هو ..
وألحت عليه ثانية فكرة ضياع عطلة نهاية الأسبوع0 فلاشك أن أنيسة سترفض الذهاب إلى السينما كعادتهما في أمسية كل خميس0 وماذا سيفعل ؟ ماذا سيفعل ؟
نهض محي وقد حاصره ضيق لا يقاوم . وجمع كتبه ودفاتره وهمّ بالانصراف . وألقى نظرة أخيرة على الأستاذ خليل فقفزت إلى ذهنه خاطرة .." لماذا لا أسأله أن يقرضني المبلغ ؟"0 وابتسم في سخرية .." لا بد أنني جننت لأفكر بهذا الأمر"0 ومع ذلك ظل واقفاً0 وتنحنح مراراً والعبارات تتقلب على لسانه 0 ثم قال أخيراً بصوت متقطع : اسمح لي يا أستاذ خليل أن أسالك .. أن أطلب منك .. أن تقرضني ستة دنانير .
رفع الأستاذ خليل رأسه وتأمله لحظة ، ثم انتزع من جيبه محفظة نقوده وناوله المبلغ في صمت .راقب محي حركات خليل البطيئة في ذهول ممزوج بالفرح ، وتناول المبلغ وهو خافق القلب 0 كان الدم قد صعد إلى وجنتيه فأحسّ بهما تلتهبان . قال بصوت مضطرب وعلى وجهه تعبير كاسف : زوجتي مريضة ، وهي في حاجة إلى أدوية . وأنت تعلم حاجة المتزوجين في آخر الشهر . هنيئاً لكم أيها العزاب . شكراً جزيلاً.
قال الأستاذ خليل وهو ينحني على دفاتره : العفو .
وضع الأستاذ محي المبلغ في جيبه وتلفت حواليه حائراً لا يدري كيف يتصرف . ثم عاد يقول بصوته المضطرب : يجب أن أمرّ الآن على الصيدلية وأشتري الأدوية 00لا أدري كيف أشكرك يا أستاذ خليل .
قال الأستاذ خليل دون أن يرفع أنظاره عن دفاتره : العفو . هذا واجب .
ظل محيي واقفاً يتلفت حواليه في ارتباك ثم حمل حقيبته وقال وهو يفارق الغرفة : في أمان الله يا أستاذ خليل . أشكرك مرة ثانية .
- العفو ، مع السلامة .
***
كانت الصحون مهيأة على المائدة وأنيسة في انتظاره0 بادرته متسائلة : لماذا تأخرت؟
أجاب : كانت الباصات مزدحمة ، ولم يكن في الإمكان الحصول على أي مكان فيها ، حتى ولا موضع قدم . اليوم يخرج موظفو الدوائر في وقت انصراف المدارس كما تعلمين فهو يوم الخميس .
وجلس الى المائدة وهو طلق الوجه . أقبلت أنيسة بالطعام فتشممه في شهية وهتف:" سبانخ بالبيض 00عظيم "0 وما أن تناول الملعقة الأولى حتى تساءلت أنيسة : هل أحضرت المبلغ ؟
فرماها بنظرة سريعة وقد افترت شفتاه عن بسمة ماكرة 0قال : يا عزيزتي، كيف تتوقعين أن أعثر على معلم يملك مثل هذا المبلغ في أواخر الشهر ؟
تساءلت أنيسة وهي عابسة الوجه : لم تحضر المبلغ إذن ؟!
أجابها وابتسامته الماكرة تزداد اتساعاً : مع الأسف .
فاشتدّ اكفهرار وجهها وأخذت تلوك طعامها ببطء . غمغمت أخيراً وهي تحدّق في صحنها : اليوم هو آخر أيام التنزيلات في "أورزديباك"0
قال محيي : لا أدري ما الذي يحزنك يا أنس . أيهمك شراء تلك البدلة إلى هذا الحد ؟! آنت تعلمين أنني أفعل المستحيل لإسعادك .
رفعت أنيسة رأسها ببطء وتأملته بنظرة متعالية وقالت في تهكم: أنت تفعل
المستحيل لإسعادي ! وماذا باستطاعتك أن تفعل لإسعادي ؟! ماذا باستطاعتك ؟! أنت عاجز عن شراء بدلة بسيطة لي .
وراعه ما ارتسم على وجهها من احتقار، وآلمه تهكمها ، فلم يقل شيئا . وعادت أنيسة تلوك الطعام ببطء وتحدق في صحنها وتتحدث بلهجتها المتعالية : ما أسخفني ! لست أدري ما الذي حملني على الزواج من معلم ! إنني خطبت مراراً عديدة وخطبني أشخاص أثرياء. فلماذا رضيت بك من دونهم ؟! لو رضيت بالطبيب الذي خطبني قبلك بشهرين لكنت الآن أعيش في قصر ولكانت هناك سيارة تحت قدمّي ولكانت خزانتي مليئة بالملابس . ولماذا رفضته ، لماذا ؟! لست أدري . إنه حظي التعس .
صمتت أنيسة ووجهها الجميل يكفهرّ . كانت خصلات من شعرها الفاحم قد تدلت على جبينها فزادت وجهها جمالاّ . وعادت تقول بلهجتها المتعالية وهي ترسل نظراتها الغاضبة عبر النافذة : إنني سئمت هذه الحياة السخيفة . سئمت العيش في هذا البيت . كلما أردت شراء حاجة طال الأخذ والرد حولها .
نهضت فجأة وهي ملتوية الشفتين . ولما بلغت باب الغرفة التفتت وراءها وتأملته بنظراتها المتعالية ، ثم قالت في مرارة : ما أشدّ حماقتي حين رضيت بالزواج من معلم 0
وخرجت تسير متباطئة . لبث محيي مسمّراً في مقعده كالمصعوق . ثم رفع ملعقة الطعام إلى فمه وحاول أن يبتلع اللقمة فهاجمه نفور شديد . ومكث يحدق في الطعام طويلاً وقد اصطرعت في رأسه الخواطر والأفكار وافترسه شعور بألم عميق ممزوج بالحنق .
فارق غرفة الطعام أخيراً ومرّ في طريقه على غرفة النوم ، فرمق الباب بنظرات شزراء . إنه لن يصالح أنيسة هذه المرة مهما طال زعلها 00 لن يصالحها أبداً . وإذا شاءت فلتترك البيت وتذهب إلى أهلها ولن يرجع عن هذا القرار .
استخرج محي من مكتبه دفاتر الامتحانات وحاول الانشغال في تصليحها . فتراقصت الحروف أمام عينيه وتراقصت صورة أنيسة بينها 00 لا يحسن سوى الكلام ! هو الذي عاهد نفسه على أن يكون رهن إشارتها منذ وطئت قدماها بيته 0 ولم يفكر يوماً في الاستجابة لرغباته ، لكي يجيب طلباتها هي . كل شيء بات كمالياً بالنسبة إليه . وقد أصبحت ملابسه غير لائقة 0 فهو لم يشتر بدلة جديدة منذ تزوجها . حتى الكذب تعلمه من أجلها ! وقد كذب قبل ساعات على الأستاذ خليل ليستدين لها المال . وماذا كانت حصيلته بعد كل هذا ؟ لا شيء سوى التذمر من الحاجة إلى النقود كأنه مسؤول عن قلّة رواتب المعلمين . ولم تفكر يوماً في إظهار حبها له 00 في معاملته برقة 00 في إسعاده بكلمة لطيفة . هو الذي أحبها من أعماق قلبه . هو الذي أمل نفسه سنين طويلة بالسعادة معها .
انثالت الصور والذكريات على ذهن الأستاذ محيي وأثارت في قلبه مزيجاً من مشاعر الشوق والحنين0 كان يجلس ساعات طويلة في المقهى الواقع على رأس الدرب الذي يقع فيه بيتها ليراها حينما تخرج من المنزل أو تعود إليه0 وكم حلم باليوم الذي تكون فيه رفيقة حياته 0 كان يعتقد أنها أجمل فتاة في صوب الكرخ0 ولقد قضى أعوام الدراسة من دون أن يفكر يوماً في الاقتراب من امرأة 00لم يفكر يوماً في تملّي جمال امرأة غيرها0 كانت تبدو له أجمل امرأة في الوجود0 كانت صورتها مطبوعة على شغاف قلبه 0 لم يكن ثمة متسع لامرأة أخرى . وطوى حبه بين حنايا ضلوعه طوال تلك الأعوام0 لم يكن يحدّث به أي إنسان ، حتى أقرب أصدقائه إليه . كان سرّه شيئاً ملذاً لا يشاركه بالاستمتاع بمعرفته أحد . كان يهمس به لنفسه فقط . ولقد صمم على الزواج منها حالما يتخرج ، وقد فعل !
انبسطت أسارير محيي وارتسمت على شفتيه بسمة سعيدة وهو يتذكر اليوم الذي احتوى فيه بيته أنيسة . كان ذلك أسعد يوم في حياته . لقد بلغ قمة السعادة . كان يمدّ يده تلك الليلة بين لحظة وأخرى يتحسس جسدها برفق ليتأكد أنها موجودة حقيقة وأنه ليس بحالم0 وكانت قد غفت حالما وضعت رأسها على الوسادة لكن عينيه لم يغمض لهما جفن 0كان مستعداً أن يتنازل عن حياته تلك الليلة ، فقد كان يبدو له أنه قد بلغ السعادة القصوى ، ولم يعد ثمة معنى لاستمراره في الحياة.
عادت صورة أنيسة الغاضبة ونظراتها المتعالية تلح على محي0 رمى الدفتر المفتوح بين يديه على المقعد ونهض في حنق يذرع الغرفة . لقد حاول منذ اليوم الأول أن يجيب طلباتها مهما كلّفه الأمر . ولم يكن الراتب الذي يتقاضاه كافياً لحياة رفيهة . وكانت تعلم هذا جيداً ، لكن طلباتها تجاوزت حدود إمكاناته . فراح يجري وراء المحاضرات الخصوصية ويصل عمل الليل بالنهار0 وكان يضطر إلى تملّق مدراء المدارس ليجودوا عليه بالمحاضرات الإضافية . كل ذلك من أجلها 00 من أجلها هي ، ثم تتهمه بأنه لا يحسن سوى الكلام ! كان عليه ألاّ يقع في الحب ، ألاّ يورّط نفسه في الزواج من امرأة جميلة ، فجميع الناس يعلمون أن النساء الجميلات أنانيات مغرورات.
ترامى محي على المقعد والثورة تتأجج بين ضلوعه .. "معلم !"00 كما لو أنه ارتكب جريمة بكونه معلماً ذا دخل محدود ! كانت تعلم انه معلم حينما رضيت بالزواج منه ، فلم تفتخر أمامه دائماً بأن أشخاصاً أثرياء قد تقدموا لخطبتها ؟! لماذا تحاول دائماً إيلام شعوره ؟! وقد أصبح شخصاً آخر منذ تزوجها . كان جريئاً، حرّ الرأي، معتزاً بكرامته . فأي شخص هو الآن ؟ إنه شخص جبان متبلّد الشعور. كل ما يشغل باله أن يهيئ لها ما تريد ، أن يحقق لها حياة مريحة . وهو خائف طوال الوقت لئلا يحدث شيء ما يفقده عمله . لذلك انبرى يحاول بكل الطرق كسب ودّ المدير ليرفع عنه تقارير جيدة، وإرضاء المفتش بصنوف الاحترام ليمتدحه في تقاريره الخاصة 0وصار أول المؤيدين من زملائه لفصل المعلمين الذين ترد عنهم تقارير من المخابرات ليظفر بثقة الجهات الرسمية . وماذا سيفعل لو فصل ؟ إن الحكومة تحارب المفصولين بكل طريقة وتسدّ عليهم منافذ العيش . فكيف يوفر حياة رضيّة لأنيسة ؟!وإنه ليعلم جيداً أن هذا السلوك يخالف ضميره، يتنافى وأبسط قواعد الثقافة والإنسانية . وإنه ليعلم أن هذا السلوك قد أفقده احترام زملائه 0 و قد أخذوا يلقبونه فيما بينهم بالجاسوس0 وإنه ليكره نفسه ويحتقرها0 وإن ضميره ليؤنبه كلما خلا إلى نفسه . ولم كل ذلك ، لم ؟!
وتمنى محيي من أعماق قلبه لو أنه لم ير أنيسة ولم يحببها ، لو أنه تخلص من هذا الموقف بشكل ما00 سيبقى طوال حياته يجري من مكان إلى آخر ليلقي المحاضرات الخصوصية0 ثم يعود إلى البيت لينكب على تصليح دفاتر الامتحانات . وسيظل طوال حياته خائفاً وجلاً يترقب حدوث شيء ما يكسبه غضب الحكومة ويفقده عمله . وعليه أن يتملّق مدير المدرسة ، يداهن المفتشين، يعادي النشاط الوطني للمعلمين، وستواصل أنيسة الشكوى من قلة المال والفخر بخطابها الأثرياء0
وانتاب محيي رثاء عميق لنفسه ، لزملائه المعلمين ،للتلاميذ البائسين، وبدا له أن باستطاعته أن يكسر قيوده ويذهب إلى زوجته الآن ويقول لها بكل حزم "إما أن تكوني زوجة حقيقية تشاركينني السراء والضراء أو أن تغادري إلى بيت أهلك في الحال " . وسيصبح بعد ذلك حراً طليقاً لا يخشى الحكومة ولا يهاب أحداً . لا يتملق المفتشين 0 لا يتذلل لمدير المدرسة . لا يوافق على فصل زملائه الوطنيين . ولن يهتم للحكومة إن فصلته من وظيفته أم لم تفصله ، وسيستطيع أن يشتغل بأي عمل كان وبأي أجر كان .
والتهبت في شرايينه حماسة متدفقة ، وانبسطت أساريره، وزايلته كآبته0إنه لن يرضي بحياة الخنوع بعد الآن ، وسيبدأ منذ اللحظة حياة جديدة حرّة طليقة وليذهب حبه إلى الجحيم.
نهض محيي في عزم وانطلق إلى غرفة النوم 0وقف بجوار الباب لحظات يتسمع فلم يبلغه صوت 0 فنقر الباب ودفعه برفق . كانت أنيسة متمددة على الفراش وقد أسندت حنكها إلى الوسادة وأمامها كتاب مفتوح . وكان شعرها الأسود الفاحم قد تناثر على الوسادة فبرز وجهها الناصع من بين خصلاته كنجمة خاطفة الضوء . تأمل محيي جسدها البضّ وقد بدا رائع التنسيق في الرداء الأحمر الضيق الذي يلفّه . اقترب منها بخطوات متلكئة وتساءل : ماذا تقرئين يا أنس ؟
أجابت أنيسة بلهجة جامدة دون أن تحول عينيها عن الكتاب : الوسادة الخالية 0
بقي محيي واقفاً دقائق وهو يتأملها بنظرات مشغوفة 0 ثم تساءل بتردد : ألا زلت متأثرة يا أنس ؟
قالت بلهجتها الجامدة من دون أن تنظر إليه : البركة فيك .
فاقترب من السرير حتى حاذاه ، ثم جلس على طرفه . ومسح بيده على ظهرها برفق وقال : لا تنزعجي يا أنس فإني أحضرت لك المبلغ 0لم يكن ما قلت سوى مزاح .. مزاح لا أكثر ولا أقل .

آمنة
كنت أرى آمنة أغلب الأمسيات . كانت تتسلل إلى المقهى البرازيلي وجلة ، خجلة ، تتقدم رفيقتها العرجاء0و كان وجهها النحيل الدقيق الملامح يجتذب القلوب بوداعته وكآبته . وثمة سحر خاص في نحولها المفرط .
كان مرآها يثير ألمي . فهي واحدة من مئات النساء اللواتي يأتين من الريف إلى بغداد فتنتهي حياتهن نهاية تعسة . وذلك كان مبعث إشفاقي على آمنة كلما لاحت أمام عيني . وبدت هي نفسها كأنها تحسّ بهذا المصير البشع الذي يلاحقها ، تترقب افتراسه بين ساعة وأخرى . فعضلات وجهها متقلّصة أبداً تعبر عن الضراعة والاستسلام . وعيناها تضطربان في محجريهما بفزع كأنهما تتوقعان هجوم عدوّ بين لحظة وأخرى . وأصابع يدها اليمنى تشدّ على طرفي عباءتها في تشنج ، بينما تمتد يدها الأخرى المنبسطة إلى الناس في حياء قاهر .
لم أكن أراها إلاّ في ذلك المقهى . وفي تلك الأيام كنت مواظباً على الحضور إلى المقهى البرازيلي . وكنا ثلّة من الأصدقاء نجلس معاً دائماً ، ونتناقش في السياسة دائماً ، ونسب السلطة الغاشمة، ونراقب النساء المتأنقات اللواتي يزدحم بهن رصيف شارع الرشيد كل مساء . ثم حدث شيء لم يكن متوقعاً .. تزوجت . وهجرت المقهى البرازيلي فلم أعد أرى آمنة .. وحدثت زوجتي عن حياتي . حدثتها عن المقهى البرازيلي ، عن أصدقائي ، عن آمنة . فأثار حديث آمنة رثاءها . وحينما عجزنا عن العثور على خادم اقترحت علىّ أن أعرض على آمنة العمل في دارنا . وهكذا دخلت آمنة بيتنا . كنت واثقاً أن زوجتي ستولع بها حالما تراها . وذلك ما حدث . فقد حضرت زوجتي تبحث في صوان ملابسها وهي تتمتم : آخ يا ربي00 ما أشد بؤسها ! ما أشد نحافتها ! لا شيء يستر جسدها سوى خرق !
فقلت ساخراً : أكنت تحسبين إذا أن جميع الفتيات يملكن عشرات الفساتين والبدلات مثلك يا سميرة ؟ الناس يكافحون ببطولة ليشبعوا بطونهم .
فقالت : أرجوك يا سامح . لا تتحدث بهذه اللهجة . ربما عاقبتك الحكومة يوماً بسببها .
ثم أضافت : سأختار لها بعض قمصاني .
كنت أتوقع أن تشعر آمنة بيننا بالارتياح وأن تفارقها هيئتها الحزينة0 لكنها ظلت نفس الفتاة المرتاعة ، الوجلة ، التي تبدو أنها ستفجر باكية في أية لحظة بل إنها اشتدت انطواء على نفسها بمرور الأيام . وبدت مقتنعة أن حياتها ينبغي أن تبقى بمعزل عن حياتنا . ولم يعجبني هذا السلوك 00 لم يعجب زوجتي. تلك ليست صورة الحياة التي رسمناها لها . كنا نريدها أن تشعر بأنها تعيش في بيتها .. بين أهلها . لكنها كانت تمضي ساعات النهار صامتة ، واجمة ، لا تنبس بكلمة . كنا لا نكاد نسمع صوتها ، لا نكاد نحسّ بحركتها . وأدهشت زوجتي بصدودها الغريب . كانت تنكمش على نفسها كلما دخلت زوجتي المطبخ . ولن ينبسط وجهها مهما رقّت معها في الحديث . وإذا طال مكوث زوجتي اجتهدت في إنهاء عملها بسرعة لتفرّ إلى غرفتها الخاصة . وبذلت زوجتي محاولات عنيدة لكسب صداقتها . حدثتها عن نفسها ، عن أسرتها ، عن صديقاتها ، لكن تلك الأحاديث لم تخرجها عن صمتها . ألحت عليها أن تتواجد معنا في حديقة المنزل . لكتها لم تكن تحل لنفسها التواجد إلاّ في المطبخ وفي غرفتها الخاصة . دعتها للخروج للنزهة عصراً لكنها لم تفعل أبداً . واضطرت زوجتي أخيراً إلى الكف عن التدخل في شئونها بعد أن رفضت صداقتها بعناد .
وأخفقت أنا أيضاً في كسب صداقتها . فقد واجهتني بصدود أشد . كانت تتجنبني ، تنأى عني ، تخشاني 00 نعم تخشاني0 ‍‍‍‍‍‍وأعترف أنها صدمتني . فلم أتوقع منها هذا الانطواء . حاولت أن أمحو من قلبها الخوف . كلمتها برقة . سألتها عن بعض أمورها الخاصة لكنها لم ترد عليّ بكلمة واحدة . وكانت تمتنع حتى عن ردّ التحية المألوفة . وإذا انفردت بها في المنزل أسرعت إلى غرفتها وتوارت فيها وأغلقت الباب 0 ولن تفارق غرفتها حتى تعود زوجتي 0 وأثار تصرفها هذا حنقي وإشفاقي في آن واحد 0 وانصرفت أخيراً عن التدخل في أمورها الشخصية . لكن حالها ظلت تحرك في قلبي عواطف الإشفاق . كانت تحبس نفسها معظم ساعات النهار في غرفتها الصغيرة المطلة على حديقة المنزل الخلفية .و كثيراً ما رأيتها واقفة أمام النافذة واجمة وهي ترسل أنظارها الساهمة نحو الأفق البعيد . فكنت أعجب بماذا تفكر ، بماذا تحلم . لعلها تحلم بذلك الفارس الجبليّ الجميل ذي النطاق العريض المزركش الذي سيحملها بعيداً ، بعيداً ، منطلقاً بها إلى قريتها فوق الجبال الشماء0 ‍‍ثم أدركت يوماً أنها لم تكن تحلم بأشياء مسرّة . ذات صباح أخبرتني زوجتي أنها فاجأت آمنة تبكي بحرقة ، وحالما رأتها مسحت دموعها وكفت عن البكاء . ولم ترد على أسئلتها بكلمة واحدة . هرعت إليها مشفقاً متألماً . ألقيت عليها سيلاً من الأسئلة ، لكنها زمّت شفتيها واستحالت إلى تمثال أخرس0 ‍‍‍وأخيراً التفتّ إلى زوجتي وقلت : المسألة واضحة يا سميرة . إنها مرتاحة في منزلنا ، ويجب أن نكلمّ قريبها في الأمر .
فالتفتت نحوي بسرعة وهتفت باحتجاج شديد : لماذا عمو سامح ؟ أنا أحب مسيرة خانم كثيراً .. أنا أحب ..
ثم فطنت إلى اندفاعها فقطعت كلامها فجأة وتورد خدّاها . وتبادلنا نظرات مدهشة . لمَ هذا الانطواء إذن ؟ لم هذا الكآبة ؟ لمَ هذا الوجوم ؟
وعادت آمنة إلى جمودها وكأنها لم تتكلم . كان من العبث الاستمرار في سؤالها . وبدا من نظراتها الثابتة ، من هيئة شفتيها المزموتين ، من التقلصات المرتسمة على صفحة وجهها ، أنها لن تتكلم مرة أخرى0 فتركناها لشرودها ووجومها يائسين .
ولكن تلك النوبة من البكاء لم تكن الأخيرة ، ولا شك أنها لم تكن الأولى . بدأت زوجتي تكتشف هذه النوبات بين حين وآخر . كانت تحدثني عنها والدموع تترقرق في عينيها 00 " ما أمّره من بكاء يا سامح ، ما أمره من بكاء0 إنه بكاء إنسان‍‍‍ مكلوم القلب ، مهيض النفس ، مجروح جرحاً عميقاً0 إنه بكاء إنسان يقاسي آلاماّ مبرحة . آخ يا ربي ، لماذا يجب أن تقاسي هذه الطفلة مثل تلك الآلام ؟
لم تدع زوجتي وسيلة للاطلاع على سرّها دون أن تجربها فلم تفلح . وجربت بدوري أن أقتحم عالمها الحزين الغامض . كنت أحسّ نحوها برثاء عميق . وكان يدهشني أن تغوص هذه الصبية في هوة من الأحزان لا قرار لها . ما الذي يمكن أن يمسّ نفس صبية بالألم هذا المسّ العميق ؟ ولم تجد محاولاتي نفعا أيضاً . اعتصمت بالصمت تجاه أسئلتي . ومع أنها لاحظت الأثر الذي يخلفه فينا عنادها لكن ذلك لم يؤثر في صمتها .
وذات مرة شهدتها وهي أسيرة إحدى نوباتها الأليمة فلم أمتلك نفسي وهتفت في وجهها : لماذا تعذبيننا معك يا آمنة ؟
فارتعدت بشدة كالمقرورة ، وتساقطت دموع كبيرة من عينيها . ومنذ ذلك الحين لم تعد زوجتي تسمح لي بالدنو منها أثناء تلك النوبات . ولم تعد تحدثني عنها إلاّ عرضاً . اكتفت بتلميحات عابرة تكشف عن حيرتها 00" لا بد أن نفعل لها شيئاً يا سامح . لا بد أن نفعل شيئاً من أجلها" . ولكنني لم أكن أعلم ماذا عسانا نفعل . كان صمتها صمت أبي الهول . كان كصخرة هائلة تتحطم عليها أمواج البحر دون أن تؤثر فيها . وجربت أن أستفسر من قريبها عن سبب حزنها ، وكان يزورنا في مطلع كل شهر ليستلم راتبها ، فتملص من الجواب . وزعم أنها اعتادت على البكاء منذ الصغر . ولاحظت زوجتي أن نوبات بكائها تشتد كلما دنا موعد إجازتها الأسبوعية0 وكانت تذهب مساء كل خميس إلى منزل قريبها وتمضي الليل هناك . ولم تكن ملاحظة زوجتي تبدو منطقية فلم اعرها اهتماما .
لم تكفّ زوجتي عن محاولاتها للكشف عن مبعث حزن آمنة . ثابرت سراً على تحقيق هدفها . وبدا ذلك شغلها الشاغل . وضاعفت عنايتها بها ، وغمرتها بحنان فيّاض . لم أكن أعلم بماذا كانت تحاورها . كان صوتها يتناهي إلى سمعي أحيانا من المطبخ وهي تتحدث إليها بحنان . وأعترف أن قصة حزن آمنة وإصرارها على الصمت أخذت تبعث في نفسي الملل ، فلم أعد أعير الأمر أهمية .
وذات أمسية كنت مختلياً بكتبي فاقتحمت زوجتي الغرفة غائمة الوجه وقالت بصوت مرتجف : سمعت الآن أشياء فظيعة يا سامح .. أشياء فظيعة .
و ارتمت على المقعد والدموع تلمع في عينيها وهمهمت : آخ يا ربي .. هذه الصبية المسكينة ، هذه الصبية البائسة . كيف يمكن أن تقاسي كل هذا البؤس ، كل هذا العذاب ؟
تساءلت قلقاً : ماذا سمعت يا سميرة ؟
قالت ووجهها يختلج برثاء عميق : هذا البؤس لا يصدق . آمنة قاست كثيراً يا سامح .. قاست كثيراً منذ طفولتها . وذلك الرجل المتوحش الذي يقبض أجرها كل شهر ليس قريبها000 أبوها باعها كما يباع المتاع ليتخلص من عبئها .
وسال خيطان رفيعان من الدمع على وجنتي سميرة ، وابتلت رموشها فقلت : أنا لا أستغرب ذلك . سمعت الكثير من مثل هذه القصص .
جففت سميرة دموعها وقالت : كيف يمكن أن يوجد أمثال أولئك البشر القساة يا سامح ؟ لا يمكنني تصور ذلك . كانت سيدتها الجديدة تقسو عليها كثيراً0 وهي تعلم أنها وحيدة في الحياة00 أن أباها وأمها توفيا ولم يبقى لها أحد . كانوا يعاملونها كعبدة . يقولون إن زمن العبودية قد مضى ..
فقاطعتها : ومن قال هذا ؟ أنت وغيرك من المرفهات يتصورن ذلك ، ولكن ..
قاطعتني ضارعة : دعنا من الجدل يا سامح 0 أنا لا أريد أن أتجادل معك الآن . كلامك صحيح . وأنا أعلم الآن أكثر منك . فهناك طريقة جديدة للاستعباد0 فالأسرة الغنيّة تعمل عقد زواج صوريّ للخادمة على أحد أفرادها فتصبح عبدة لهم . وهذا ما حدث مع آمنة . إلاّ أنها هربت من أسيادها على أية حال 0 ولكن ما الفائدة ؟ إنها وقعت بأيدي أناس أقسى منهم . فذلك الرجل الغليظ المتوحش الذي يزعم أنه قريبها هو سيّدها الجديد . وإنّي اكتشفت سبب بكائها يا سامح . فهي لا تريد رؤيته . لا تريد الذهاب إلى بيته يوم عطلتها .
- الأمر في غاية السهولة إذن0 سأطرد ذلك الجلف حينما يأتي ليقبض مرتبها0
- لا تلجأ معه إلى العنف يا سامح . آمنة مصرّة على إعطائه راتبها لتأمن شرّه ، فهي تخشى أن يدلّ أسيادها القدماء على مكانها . وكل ما تريده أن تمتنع عن الذهاب معه .
- سأعرف كيف أكلّم ذلك الجلف إذا جاء في طلبها .
حلّت أمسية الخميس ، ولم تمض آمنة إلى بيت قريبها المزعوم . وانتابها قلق حاد أخذ يشتد كلما تقدم الوقت . واضطربت عيناها الشهلاوان في محجريهما . كانت تنطلق إلى باب الحديقة بين لحظة وأخرى كطير ملهوف ، ثم تعود وعيناها تومضان بغبطة مشوبة بالقلق . وقالت زوجتي بعصبية : إذا أصرّ قريبها المزعوم على اصطحابها فتخاصم معه .
ولم يُقبل الرجل ذلك المساء . وكم سرّت آمنة لذلك0 لكنه أقبل صباح اليوم التالي . كنا نتناول الفطور وكانت آمنة تشرف على خدمة المائدة0 وفجأة رنّ جرس الباب رنيناً طويلا . ورفعت أنظاري إلى آمنة كان وجهها قد شحب شحوباً شديداً حتى حاكى لون الليمون .و تلاحقت أنفاسها وأخذ صدرها الناهد يعلو ويهبط في حركة سريعة . ثم اندفعت نحو الباب بخطوات مرتبكة وهي تتعثر في مشيتها وتكاد تسقط . وتناهى إلى مسامعنا صوت قريبها المزعوم وهو ينفجر بسيل من العبارات الغاضبة لكنها لم ترد عليه . وبادرني حالما خرجت إليه يقول غاضباً : لماذا لم تزرنا آمنة أمس في إجازتها ؟!
فقلت بهدوء: أصبح لآمنة عمل كثير ، ولن تستطيع ترك البيت بعد اليوم .
فاربدّ وجهه واضطربت عيناه وهتف بانزعاج : يجب أن تأتي لزيارتنا في إجازتها 0 نحن نريد أن نراها .
قلت بلهجة قاطعة : اسمع . آمنة لا ترغب في رؤيتكم وأنت لا تستطيع أن ترغمها على زيارتكم . سندفع لك أجرها الشهري كالعادة حسب رغبتها ، ولكن لا تقترب منها . وإذا لم يعجبك هذا الكلام فلن تقبض فلساً وأحداً بعد اليوم .
فانهال على شاربه الغزير فتلاً . وبدون أن يضيف كلمة أخرى انصرف وهو مكفهر الوجه .
***
كان ذلك اليوم فاتحة عهد جديد في حياة آمنة . أصبحت فرحة جداً ، سعيدة جداً . صار وجهها منطلقاً على الدوام . وغابت من عينيها النظرات المرتاعة الوجلة . وأحبها كلانا من أعماق قلبه 0 من المؤكد أن فيها شيئاً يثير الحب . وشغفت بها زوجتي ، وغدا اسم آمنة على طرف لسانها . وبادلتنا عواطفنا . شاركتنا حبنا . ولم تكتم هذا الحين حبها . كانت ترنو إلينا بحنان وشغف ونحن نجلس في حديقة المنزل متقابلين 00 زوجتي مقبلة على التريكو أو التطريز أو الخياطة ، وأنا مقبل على كتبي وأوراقي . وكلما ضبطتها وهي ترنو إلينا بتلك النظرات المحبة حوّلت عينيها عنا بسرعة في حياء وارتباك . وأضحت صديقة مقربة لزوجتي . واكتشفت زوجتي فيها ذكاء وقاداً وروحاً فكهة . حدثتها عن نوادر سيدتها القديمة . كيف كانت تقلب المنزل في لحظة إلى جحيم . كيف كانت تبدو مضحكة في لحظاتها الجنونية . وحدثتها عن قريبها المزعوم وعن زوجته العرجاء . كيف كان يقسو في ضربها إن لم تأته بربح وفير . كيف كانا يقضيان الليل بطوله أحيانا وهما يتشاتمان . حاولت أن تسلّي زوجتي بكل ما تملك من موهبة . لكنها لم تكن بهذا الابتهاج والسعادة طوال الوقت . ففي بعض الأحيان ، وبينما تكون مندفعة في حديثها المرح ، تنكمش فجأة وتلوذ بالصمت ويكتسي وجهها بطابع الكآبة القديم . وكانت زوجتي تخفق في إعادة المرح إليها . إذ تعتصم بصمتها وتتجنب النظر إليها . وقد تسارقها بنظرات غريبة وهي مضرجة الخدين فاعتادت زوجتي ألاّ تضايقها في تلك النوبات المتباعدة .
أيقنت زوجتي أن الحنان هو كل ما يعوز آمنة . لقد قاست كثيراً منذ صغرها . لقد فقدت حنان أبويها . وقد لقيت على يدي سيدتها قسوة فظيعة0 ثم تلقفها ذلك الرجل الجلف ، ويبدو أنها عانت على يديه كثيراً أيضاً . وتعاظم حنان زوجتي نحوها يوماً بعد يوم . وبدأنا نفكر بمشاريع أخرى لها.. مشاريع تحقق لها مستقبلاً هانئاً . فكرنا في أن نرسلها إلى مدرسة ليلية لتتعلم القراءة والكتابة . فكرنا أن نعمل بجد على تغيير حياتها . فكرنا لها بكل شيء . ولكن شيئاً واحداً لم يخطر على بالنا . هل ستبقى معنا زمناً طويلاً ؟
***
في بداية الشهر التالي حضر الرجل ليتسلّم مرتّبها . قابلته آمنة أولاً فثارت مشاحنة بينهما . فخرجت إليه ومعي المال . وأخذ يعدّ المبلغ ببطء ولمّا انتهى ظل واقفاً وقد بدا التردد على وجهه 0 واستدرت لأعود فقال برجاء : لماذا تمنعون آمنة عن زيارتنا ؟
أجبته بلهجة حازمة : قلت لك إنها لا ترغب في زيارتكم وانتهى الأمر .
فنظر إليّ بتحدِ وقال بقحة : آمنة قحبة ! عيب عليكم تبقى في البيت0
فبهتّ لكلامه وتملكني الغضب لكنني تحكمت في أعصابي . قلت بهدوء : خير لك أن تذهب في الحال وألاّ ترينا وجهك مرة أخرى .
فرماني بنظرات شرسة ثم بصق على الأرض وتولّى مدمدماً .
عدت إلى غرفتي مستاء وإذا بآمنة منتصبة أمامي . وراعني منظرها المفزع ، ألجمني . اتسعت عيناها الشهلاوان اتساعاً غريباً ، واضطرب صدرها اضطراباً مخيفاً . وقبل أن أقول شيئاً ارتمت على يديّ وأمطرتها بالقبلات . وهمست في ضراعة والدموع تتساقط من عينيها : فدوه عمو سامح ، فدوه ... لا تقل لسميرة خانم ..
قلت بلطف وقد أخذت بارتياعها : ليس هناك شيء تخشينه يا آمنة ، اطمئني .
تمتمت وعيناها مليئتان بالدمع : أشكرك عمو سامح .. أشكرك ..
ثم اندفعت بخطوات متعثرة خارج الغرفة .
في صباح اليوم التالي كان الفطور جاهزاً على المائدة . لكن آمنة لم تكن في غرفة الطعام ، لم تكن في المطبخ ، لم تكن في غرفتها . وفتشنا عنها في كل مكان بدون جدوى . وأدركنا أخيراً أننا نخادع أنفسنا . لقد غابت عنا آمنة إلى الأبد !
ووقفت أرقب زوجتي بأسى وهي تقلّب الثياب التي تركتها آمنة مرتّبة على السرير . ولم تكن قد أخذت معها سوى القميص البالي الذي كانت ترتديه في اليوم الأول . وانثالت صور حياة آمنة على ذهني والحقيقة الأليمة تتكشف لعينيّ . وتناهى صوت زوجتي إلى سمعي حائراً متألماً :آخ يا ربي 0 إلى أين ستمضي هذه اليتيمة ؟! ليس لها أم ، ليس لها أب ، ليس لها أحد . إلى أين ستمضي ؟!



السِّرُّ
أشار عقرب الساعة إلى الثانية بعد الظهر ولا يزال أمامه نصف ساعة يمضيها في مقهى حسن عجمي 0 لقد انصرف جميع الرفاق وقد استبد به السأم من النقاشات السياسية التي يلتّون فيها ويعجنون 0 وإن كل شيء في هذا المقهى ليبدو له كريها، مضايقاً ، يثير الاشمئزاز . تجشأ الحاج حسن بصوت ضخم دوّى في أرجاء المقهى كخوار الثور ، فأحسّ بأنه يكره هذا المقهى من أعماق قلبه0 نهض مسرعاً ودسّ يده في جيب بنطلونه وأخرج قطعة نقود رماها في الصينية 0 واتجه نحو الباب فهتف الحاج حسن بصوته الجَهْوَرِيّ : في أمان الله أستاذ .
فأومأ برأسه إيماءة خفيفة وخرج إلى الشارع . سار في اتجاه باب المعظم0 وراح يطيل النظر في واجهات المخازن . يجب أن يتسكع . يجب أن يمشي دقيقة ويقف أخرى . لماذا لا يتجه في الحال إلى البيت ويخبرهم بكل شيء ؟ لقد سئم هذه المخادعة السخيفة "00 أخبرهم بكل شيء ؟" وابتسم ساخراً ." ماذا أقول ؟! اسمعي يا حجية . اسمعوا يا سليمة وسلمان ومحسن . أزفّ إليكم بشرى00 فصلت من الوظيفة " . ويا لها من بشرى ! رب العائلة ومعيلها يفصل من عمله ! ومن سيقدّر موقفه ؟ أمّه ، أم أخواته ، أم إخوانه الصغار ؟!00" هذا القرار سخيف بلا شك ، وسأنتظر علني أجد عملاًَ "0 إنه ليعلم جيداً أنه يخادع نفسه ، فهو يبحث عن عمل منذ شهر ، منذ أن أبلغ بفصله ، وليس ثمة بصيص من أمل 0وأين يجد العمل ؟ فإما أن يعمل المرء في هذا البلد موظفاً لدى الحكومة أو أن يفتح حانوتاً ما . والحانوت يحتاج إلى رأس مال ، وليس لديه دينار واحد يفيض عن حاجته .
تصفّح وجوه العابرين ومزيج من مشاعر الحنق والثورة يضطرم في صدره . كلا، خير له أن يقصد البيت في الحال ويخبرهم بكل شيء فروحه المعنوية تسفّ يوماً بعد يوم 0 وإنه ليفقد حبه للناس شيئاً فشيئاً . وكم شعر بكراهية نحو الحاج حسن قبل دقائق 00 هذا الشخص الذي كان يبدو له دائماً نموذجاً للإنسان الشعبي بطيبته وأريحيته وتوقد عواطفه0 ومن المسئول ؟ إنه الكتمان الذي يتمسك به بلا سبب مقبول . كلا ، إنه لن يدع روحه المعنوية تنحدر إلى الحضيض وسيصارحهم بالحقيقة .
انتابه حماس مفاجئ فأسرع في سيره حتى بلغ باب المعظم0 واستقل الباص إلى الكاظمية0 وفي البيت كانت الأم وسليمة تهيئان مائدة الغداء0 قالت الأم وقد أضاء وجهها ببسمة حنون : الغدا حاضر يا سعيد .
قال سعيد متشمماً : أشم رائحة طيبة .
قالت الأم باسمة : إنها أكلتك المفضلة 00"المدفونة"0
هتف سعيد متهلل الوجه : بارك الله فيك يا حجية .
قالت الأم وقد سرها مظهره : بالعافية يا سعيد . إن شاء الله أكون حجية بعون الله وعونك .
تذكر سعيد الحقيقة المرة فعاوده الأسى وغام وجهه 0 قال بارتباك وهو يتجنب النظر إليها : إن شاء الله .
ماذا لو علمت أنه يكذب عليها ، يخدعها ، ولن يستطيع يوما أن يحقق لها ً تلك الأمنية الغالية ؟ أيمكنه حقاً أن يحطم آمالها بهذه البساطة ويفضي إليها بالحقيقة المرة ؟
وضعت سليمة صحون الطعام على المائدة فجلست الأم قبالة سعيد وهي تلتهمه بعينيها الحنونتين . ومدّ يده إلى الطعام وقد غاضت شهيته . وخالس أمّه النظر فخيّل إليه أن ثمة هالة من الجلال تحيط بوجهها السمح الهادئ المغضن الجبين . كلا إنه لا يمتلك الشجاعة لمصارحتها بالحقيقة . ربما عثر على عمل غداً أو بعد غد. وما الداعي إلى العجلة ؟!
وكان وطء أنظار الأم على وجه سعيد يشتد لحظة بعد أخرى . اقتنص من وجهها نظرة سريعة فاجتذب انتباهه حزمة من الشعيرات البيض تطل من تحت العصابة السوداء ودهمته رغبة قوية في تأمل تلك الشعرات البيض وكأنه يراها للمرة الأولى ، وكأنها تحدثه عن تعب السنين .. كلا لن يخبرها بالحقيقة . إن ضجيج ماكينة الخياطة لا يزال يدوي في سمعه . كانت الماكينة تواصل ضجيجها الرتيب ليلاً ونهاراً . كان يعود من المدرسة وقت الغداء فيستقبله صوتها عند الباب 0 وكان يرجع عصراً فيتردد في سمعه موسيقاها الصاخبة . وكان يعكف على كتبه إلى وقت متأخر من الليل وصوت الماكينة ما يزال يجلجل ، وأمه ما تزال منحنية عليها 00من الصباح حتى المساء ، حتى منتصف الليل ، حتى الصباح التالي ! ولم تكفّ الماكينة عن ضجيجها إلاّ حينما أنهى دراسته في الجامعة وتوظف لدى الحكومة . وفي ذلك اليوم خلعت الأم ثوب الحداد الذي لازمته منذ وفاة أبيه . وارتدت فستانا كحليا خاطته خصيصاً لتلك المناسبة .
وكانت الأم تحاول عبثاً الاحتفاظ ببسمتها المغتصبة 0 وكانت يدهها تنتقل بين فمها وصحن الطعام بصورة آلية . آه لو حدّثها بما يضمر لألقى الهمّ عن قلبه واستراح ، ولاستراحت هي . وفي كل يوم تهمّ أن تفاحته ثم تحجم . لماذا لا تفاتحه الآن ؟ ولكن ماذا لو زادت همّة وألمه ؟ لا . لا . لن تفعل هذا . ستنتظر أن يبادئها هو00 " بجاهك يا أبا الحسن ، خلِّه يتكلم"0 ما معنى الحياة إن شابها كدر يصيب سعيد ؟ وما قيمتها إن لم تزينها بسمته الحلوة وضحكاته المرحة التي تملأ قلبها غبطة وحبوراً ؟00 " الله ينتقم منك يا من كنت السبب ، بجاهك يا أبا الحسن " . إن الطعام لم يعد مريئاً بعد أن تكدّر سعيد . ويا لها من سعادة تلك التي كانت تغمرها قبل عودة سعيد من العمل . فهي وسليمة تنشغلان في إعداد المائدة ، وإنها لتتخّيل وجه سعيد الضاحك ، لتسمع ضحكته المرحة 0 إنه يشبه أباه في كل شيء . في عينيه ، في ضحكته ، في طريقة حديثه . "نم هنيئاً يا طعمة في قبرك فأنت خلّفت ولداً يبيِّض الوجه"00حمداً وشكراً لله 0 لقد جرح قلبها في شبابها ، ولكن الله كتب لها السعادة في شيخوختها . ويا لها من سعادة بعد الغداء حينما تشرب الشاي مع سعيد . وينطرح سعيد على الحصيرة متكئاً على مرفقه ويسترسل معها في حديث ممتع موصول حول الأقرباء ، حول الجيران ، حول كل شيء . وأنغام الكتلى تترامى إلى سمعها كأبدع أنغام . والابتسامة العريضة لا تفارق وجه سعيد. وضحكاته المرحة تنطلق بين حين وآخر لفكاهة تقصها 00 " ربي ، لمَ كتبت عليّ
العذاب ؟" فسعيد لم يعد يبتسم . ومنذ أسابيع لم تتردد ضحكته في أرجاء البيت . حتى بسمته الحلوة غاضت ولم يبق لها أثر 00" بجاهك يا أبا الحسن . متى تعود تلك الأحاديث التي تردّ الروح ؟ "
رنت الأم إلى سعيد وحاولت أن تقول شيئاً لكن وجهه المتجهم شلّ لسانها . لكأن سكّيناً حاداً تقطع أحشاءها وهي ترى وجه سعيد الغائم 00 " عيني سعيد ، وجهك للابتسام لا للعبوس "
وكان سعيد يحاول أن يقول شيئاً ، أن يبدد الصمت الخانق . وكان يحسّ أن صمته الحزين يخنق البيت ، يحيله إلى مقبرة موحشة . ولكنه لم يتذكر شيئاً يستحق القول ، ولم يفلح في دفع كآبته .
كفّ عن الأكل ودفع مقعده قليلاً إلى الوراء ، فكّفت الأم عن طعامها 0قال وهو يعبر وجه الأم بنظره سريعة : لماذا لا تكملين غداءك يا حجية ؟! أنت لم تأكلي شيئاً .
فقالت الأم محتجة : أنت لم تأكل شيئاً . أنا شبعت والحمد لله .
تساءلت سليمة وهي تراقبهما عن بعد : هل أحضر الشاي ؟
فقال سعيد : إذا كان جاهزاً 00 " إنني وحش . كيف يمكن أن أكون غليظاً إلى هذا الحد ؟ "
وكانت سليمة تجلس القرفصاء بجوار موقد الشاي وعيناها معلقتان بوجه سعيد . وحاولت أن تفهم لماذا يعذب نفسه ، لماذا يعاند الحكومة ، لماذا يلقي نفسه في التهلكة ، فلم تستطع أن تفهم . وكان ذهنها يشرد باستمرار إلى بنات عيسى0 فمنذ خمسة أيام لم ترَ أي واحدة منهن . ولا بد أن تعترف بأن صداقتهن لها قد فترت . ولماذا تغالط نفسها ؟ فهي تعلم ماذا كنّ يبغين من وراء صداقتها . وقد بلغت بهن قلة الذوق حداً جعلت الأخت الصغيرة لبيبة تشيح بوجهها عنها قبل يومين حينما التقت بها في الدربونة 0 أما وفية ، الأخت الكبيرة العاقلة ، فلم تزرهم خلال عشرة أيام سوى مرتين . ولم تكن تفوّت يوماً واحداً من قبل دون أن تثبت وجودها ، وخاصة في الأوقات التي يكون فيها سعيد في البيت . وكانت تظهر لها من الحب ما لا تظهره أخت لأختها . كانت تعلم مبعث كل ذلك الحب . لم يكن من أجل سواد عيونها .لكنها على أية حال كانت تعلم مبعث كل ذلك الحب . لم يكن من أجل سواد عيونها . لكنها على أية حال كانت تعتقد أنها زوجة صالحة لسعيد . فهي خفيفة الدم ، وسمارها وإن كان غامقاً معجون بدمها الخفيف . ولكن سعيد لم يعد أفندي ، وأمها لم تعد أم الأفندي ، وهي لم تعد أخت الأفندي ، وعليها أن تتعلم موديلات جديدة لتجتذب إليها الزبائن . وأمّها لم تعد تصلح للقيام بالمهمة فهي لا تحسن سوى موديلات الطرز القديم . وهي لا تحب أن ترى وفيّة بعد الآن ، ولا أن ترى أختها لبيبة ، فهما لا يسويان شيئاً ، ومعدنهما ليس أصيلاً . وماذا يعيب الخياطة ، ماذا يعيبها ؟! إنها مهنة شريفة يكسب منها الإنسان عيشه بكدّه ، وإن خياطات الطرز الحديث يربحن عشرات الدنانير في الشهر 0وقد بعثت حمدية الخياطة أخاها إلى بلاد الإنجليز ليكمل دراسته . ويا ليتها تبعث سعيد إلى بلاد الإنجليز ليحصل على شهادة أعلى . وحينئذ لا تقدر وفيّة أو من هي أكبر منها منها بنات الجيران أن ترفع رأسها عليها .
صبت سليمة الشاي في استكانات وحملتهما في صينية صغيرة إلى مائدة الطعام . وناولت أمها إحداهما ، وتناول سعيد الثانية . وتفرّست في وجه سعيد وحاولت أن تفهم مرة أخرى لماذا يعاند الحكومة ، لماذا يرمي نفسه في التهلكة ، لماذا يعذّب نفسه ، فعجزت عن أن تفهم .
وتذكر سعيد وهو يذوّب السكر في " الاستكانة" جلسات الشاي الممتعة في غرفة الجلوس0 وغمره حنين دافق إلى تلك الجلسات ، إلى فكاهات أمه عن أم حمد، إلى ضحكاته المرحة 0 ورفع إليها أنظاره فإذا بعينيها معلقتين بوجهه وهما تشعان حناناً . كلا ، لا بد أن يخبرها بالحقيقة 0 يجب أن تفهم دوره في هذه الظروف وأن تعيه .و ارتشف قدحه في جرعتين .نعم سيخبرها بالحقيقة الآن . طالعها بنظرة سريعة ثم حوّل عينيه إلى سليمة . الأفضل أن يطلع أمّه فقط .
رشفت الأم شايها بسرعة وأعادت القدح إلى المنضدة . وكانت لا تزال تفكر بوجوب إخباره بالأمر . وأخبرته بينها وبين نفسها ، لكن شجاعتها خانتها ولم يسعفها صوتها . ملأت سليمة الاستكانة مرة أخرى وحملتهما إلى المنضدة ، فقال سعيد : سليمة ، أيمكن أن تنظفي غرفتي الآن ؟
فنظرت إليه سليمة مدهشة فقد نظفتها قبل ساعات ، وغادرت الصالة وهي تتلكأ في سيرها . تنحنح سعيد مرات عديدة ، ثم قال بعجلة : حجية 00 الحكومة فصلتني من الوظيفة .
وهبط على نفسه هدوء غريب ، وشاع الاطمئنان في حناياه ، وزال التوتر من أعصابه 00 " كان يجب أن أقولها قبل الآن . ما أسهل ذلك!"
وانتظر أن ترد عليه أمّه لكنها بقيت صامتة . تطلع إليها فإذا بشفتيها تتفرجان عن بسمة عريضة 00 " هذا ما كنت أخشاه .. احتقارها " 0ضرب بجمعه على منضدة الطعام فأحدثت استكانات الشاي صوتاً مجلجلاً 0ثم نهض محنقاً وهتف في شبه ثورة : نعم ، فصلتني الحكومة لمدة ثلاث سنوات ، لا لشيء إلاّ لأنني أكافح الطغيان والظلم .
انطلق يذرع الغرفة بخطوات سريعة وهو غائم الوجه ، غاضب العينين ، وأخذ يتكلم بعصبية : أنا أدري بماذا تفكرين يا حجية ، ولست ألومك على أفكارك ، فمسؤوليتي تجاهكم عظيمة ، وهي التي حدّت من نشاطي في مكافحة السلطة الغاشمة وإلا لكنت الآن في السجن شان غيري من المناضلين . ولكن هناك مسؤولية أعظم ، ويجب أن تعلمي أنه لم يكن بوسعي أن أفعل أقلّ مما فعلت . فهناك واجب فوق الفرد ، فوق العائلة ، فوق المصلحة الشخصية .
وكان الفرح قد أربك الأم فعجزت عن الكلام . لكن ابتسامتها كانت تتسع لحظة بعد أخرى00 " فرجت يا قريب الفرج "0 قالت في اعتزاز : أنت زينة الرجال يا سعيد ، فمن يعرف واجبه إذا لم تعرفه أنت ؟
توقف سعيد عن سيره العصبي ، وثبت عينيه على وجهها بدهشة . وكانت الابتسامة ما تزال تزيّن شفتيها ووجهها يضئ استبشاراً . " إنها تبتسم ! أفهمت ما قلت حقيقة ؟!" تساءل في دهشة : ألست غاضبة علىّ يا حجية ؟!
قالت الأم في حرارة : لا أراني الله اليوم الذي أغضب فيه منك يا سعيد . وهل يمكن لإنسان حنون مثلك أن يفعل غير ما فيه صلاح وخير ؟ أنت لم تعرِّض وظيفتك للخطر وتحرم عائلتك من رزقها إلاّ ووراء عملك خير عميم . أنا امرأة جاهلة يا سعيد ، لكنني أقدر أن أفهم هذه الأمور .
تهالك سعيد على مقعد قبالة الأم وقد عمراه الارتباك . وقال في خجل : كم كنت سخيفاً يا حجية . لم يكن لهذا التردد والكتمان من داع أبداً . كان يجب عليّ أن أخبركم بالأمر منذ اليوم الأول ، وإني لخجل من نفسي . كنت أخفي الحقيقة عنكم وكأنني قمت بعمل مخزِ لا بعمل يرفع الرأس . المعذرة إن كنت أسأت الظن بكم . ولكنك تعلمين يا أمي ماذا يعني فصلي من الوظيفة . كنت أبحث عن عمل كل يوم دون جدوى . كنت أخرج من الصباح المبكر وأعود وقت انصراف الموظفين لئلا تفطنوا إلى الحقيقة . كنت آمل العثور على عمل خلال هذه المدة ثم أخبركم لئلا تقلقوا . لكن من تمسّه نقمة الحكومة في هذا البلد تسدّ أبواب الرزق في وجهه .
قالت الأم وعيناها تتوقدان : أنت لم تخدعنا يا سعيد ، فنحن نعرف الحقيقة0 فصديقك نعيم التقى بأخيك محسن وأخبره بالأمر مصادفة 0 وكنت أحاول طوال هذه الأيام مصارحتك بالأمر ، ولكن لساني كان يعجز عن الكلام لئلا يزداد ألمك . وإن دقيقة من ألمك تعدل عندي سنة من العمر 0 وعلامَ هذا القلق يا سعيد ؟ نحن أعددنا ماكينة الخياطة في نفس اليوم الذي عرفنا فيه .
" أنا لست عاطفياً ، لكنني عاجز عن امتلاك زمام نفسي "0 نهض سعيد من مقعده وأكبَّ على الأم يعانقها . وكانت عينا الأم قد اغْرورقتا بالدمع 0 وسال خيطان من الدمع على وجنتيها 0 وسقطت دمعتان حارتان على عنق سعيد .


العاشقة
هّبت نسمة خفيفة فطارت ورقة من فوق المنضدة وسقطت على البلاط . وانتبهت سلوى من أفكارها ودفعت الكرسي قليلاً إلى الوراء وانحنت على الورقة والتقطتها . كانت المسألة الفيزياوية ما تزال متعذرة الحل ، وربما قضت ساعتين أو ثلاث حتى تتوصل إلى النتيجة . كم تكره الفيزياء ! إنها لم تحبب هذا الدرس قط ، ولم تشعر يوماً بأدنى مودة نحو مدرّسته الست حسيبة . ولو كانت الست رفيقة تدرسّ الفيزياء لهان الأمر ، فليس في الإمكان احتمال الفيزياء والست حسيبة في آن واحد . وما أبعد الفرق بين الست رفيقة مدرّسة الاجتماعيات والست حسيبة ! فالست رفيقة جميلة ، نازكة ، وفيها شبه كبير بالممثلة فاتن حمامة ، ولا تسميها عاشقاتها بغير هذا الاسم . ودرسها محبوب ، سهل الفهم ، ينقضي أغلبه بالفكاهات 0 ولا تكاد أية طالبة ترسب فيه مهما تكن مهملة . فلا يبعد إذن أن يكون ادّعاء محباتها صحيحاً بأنها تملك أكبر عدد من التلميذات العاشقات . أما الست حسيبة فهي دميمة ، جافة الطباع ، شديدة البخل بالدرجات ، وأغلب التلميذات يرسبن في درسها . ومن المحتمل أن ترسب هي فيه هذا العام 0 فقد أوشكت السنة أن تنتهي ولمّا يزد معدلها على الخمسين 0 وإذا لم تنجح في امتحان غد فقدت آخر أمل لها في النجاح .
ألقت سلوى نظرة امتعاض على كتاب الفيزياء المفتوح أمامها ثم أشاحت بوجهها عنه . إنها تعلم جيداً أن الواجب يقتضيها بذل جهد خاص في إتقان لمادة لكي تنال درجة عالية غداً ، لكن ضجراً لا يقاوم يأخذ بخناقها ويشلها عن الدرس.
زفرت سلوى زفرة حارة وقالت وهي تزحزح الكرسي وتنهض : أوف ربي .
واتجهت إلى الشرفة واستندت بذراعيها إلى السياج الحديدي وأطلقت أنظارها في حديقة الدار . كان إخوتها الصغار يتلاقفون كرة صغيرة ويجرون وراءها في مرح وبهجة . ونازعتها رغبة قوية أن تعود صغيرة مثلهم ، أن تلعب بمرح كما يلعبون، ألاّ تعرف معنى للتفكير في الدرس . وتخيلت نفسها وهي طفلة لم تتجاوز الخامسة ، يتدلى شعرها الذهبي في غدائر طويلة بلون الكهرب ، تتقافز في حديقة الدار بفرح وأم شنون تجري وراءها متعثرة . لقد مضت تلك الأيام الجميلة إلى غير عودة ، وأم شئون العزيزة ماتت منذ سنين وطمرت معها ذكريات الطفولة . ولقد تحوّل شعرها الذهبي إلى بني فاتح وفقد لونه البديع !
رنّ جرس الباب الخارجي رنيناً متصلاً فانتزع سلوى من أخيلتها ، وأنصتت برهة فترامى إليها صوت صلاح وخالتها من الصالة . وشعرت بالفرح ، وهمت بمغادرة الغرفة ، لكن حماسها فتر فجأة . وأرسلت أنظارها عبر الشرفة ، ثم تحولت إلى كتاب الفيزياء وظلت تنظر إليه حائرة ، ثم تقدمت نحو المنضدة ووضعت ورقة بيضاء في الكتاب وأطبقته وغادرت الغرفة .
كانت أمها وخالتها وصلاح يتوزعون على مقاعد الصالة 0 وكان صوت صلاح الجهوري يملأ المكان كالعادة . ألقت عليهم التحية وجلست صامتة تنقل أنظارها بين الوجوه في فتور . واستقرّت عيناها على وجه صلاح ، وجعلت تفحصه بدقة . أيمكن اعتبار صلاح جميلاً ؟! إن قامته وإن لم تكن طويلة ، لا يشوبها قصر 0 ولو اهتم بشعره الأسود الفاحم ومشطه بعناية لبدا بديعاً . أما قسماته فهي معتدلة ليس بينها ما ينبو عنه البصر 0 لكن هذه البعثرة في هندامه العام وفي ملابسه تجعله أقرب إلى القبح . وإنها لتعجب أي جدوى يمكن أن يكسبها الإنسان من وراء هذا المظهر ، وأي ضرر يحدث لو صرف دقائق على أناقته .
التفت صلاح نحوها وتساءل : كيف الحال ؟
-لا بأس .
_وكيف حال الدروس ؟
تململت سلوى في مقعدها وقالت : وقع بلاء على الدروس 0 عندنا امتحان فيزياء غداً . أوف ربي ، متى أخلص من الفيزياء ؟
قال صلاح في سخرية خفيفة : تقدرين أن تخلصي منها هذا العام لو أردت .
- لا ، لن أخلص منها في هذه السنة . أنا أدري أنني سأرسب في الفيزياء . فمعدلي خمسون وأنا غير مستعدة لامتحان غد .
- وما الذي يمنعك من الاستعداد للامتحان ؟!
- بدأت أدرس حالما انتهيت من الغداء ، لكنني ما قرأت سوى صفحات قليلة .أنا لا أحب درس الفيزياء وأكره مدرّسته .
- الذنب ليس ذنب مدرّسة الفيزياء بل ذنبك ، أنت لا تحبين الدرس . أنت مغرمة بتضييع الوقت .
قالت سلوى وهي تعبس وجهها : أنت بطران يا صلاح0 أنت تريد من كل الناس أن يكونوا مثلك . لماذا تلومني دائماً ؟!
فقالت أمها : لم يقل صلاح غير الحق ، أنت تحبين تضييع وقتك ولا تحببين الدرس . أنت تقضين اليوم كله في سماع الأغاني ولا يفوتك موعد من مواعيد طلبات المستمعين في كل الإذاعات .
قالت خالتها وهي ترمقها بحنان : سلوى تدرس بقدر طاقتها ، فهل تريدونها أن تميت نفسها بالدرس ؟
نهضت سلوى وقد بدا عليها الضيق وقالت : الرجال بطرانون فهم يقضون أوقاتهم في الخارج متى شاءوا ونحن نظل حبيسات البيوت ، ثم يتحدثون عن تضييع الوقت .
وخرجت إلى الحديقة وقد فاض بها الضجر . وشعرت كأنها حبيسة في قفص . وقفت بعيداً تراقب إخوتها الصغار وهم يتراكضون وراء الكرة فقفزت إلى ذهنها صورتها وهي في عمر بهجت الصغير0 وتخيلت نفسها تلعب بالكرة مع صلاح في حديقة الدار . لكأن صلاح الآن هو نفسه ذلك الطفل الضخم الجثة المشوش الهندام الجهوري الصوت الذي يلومها باستمرار على إفلات الكرة .
ولاحت بسمة خفيفة على ثغر سلوى وشعت في أعماقها غبطة مفاجئة . وهتفت بأعلى صوتها : بهجت .. أرم لي الكرة .
فصاح بهجت فرحاً : أتلعبين معنا ؟
فهزت رأسها بالإيجاب ، فضج الأطفال فرحين ، وتراكضوا نحوها وهم يسوقون الكرة بأقدامهم . وأخذت سلوى تجري وتتبادل معهم تلقف الكرة. وتزايلت كآبتها وتبدد ضيقها 0 لكنها ما لبثت أن انصرفت عنهم ضجرة . انتبذت ركناً منعزلاً من الحديقة وجلست على العشب . وراقبت الأطفال في فتور ، لكن ذهنها شرد عنهم . وطافت في مخيلتها صورتا صلاح وصابر ، الأول بهندامه المشوش والثاني بأناقته المفرطة . أي منهما يحبها أكثر من الثاني ؟ إن صلاح ينسى نفسه أحياناً فتجيش في عينيه عواطف متقدة تنم عن غرام ملتهب 0 ولكن لماذا ينتهز الفرص دائماً ليوجّه إليها اللوم ؟! صحيح أنه شاب مثقف وأن له مستقبلاً زاهراً 0 فهو الأول في صفه دائماً ، وهو يقرأ كثيراً ، وفي غرفته مكتبة مليئة بالكتب ، لكنه يقرأ أكثر مما يجب0 وكثيراً ما رثت لحاله وعجبت كيف يرضى أن يقضي عمره كله في قراءة تلك الكتب التي لا تنتهي . وإنه ليطلب منها عمل المستحيل إذ يريد منها أن تقرأ مثله . ولقد عزمت فعلاً أن تحقق رغبته وتقرأ ، لكن عزيمتها كانت تخونها كلما قلّبت الكتب التي يحضرها لها فواجهتها صحائفها الكثيرة وعدد كلماتها الهائل . ولم يكن بينها أي موضوع شائق ، فكلها تبحث في مواضيع سياسية واجتماعية جافة . إنها عجزت عن أن تكمل حتى رواية " إني راحلة " بالرغم مما فيها من مواقف مشوقة ، وبالرغم من أن زميلاتها قرأنها ، بل إن بعضهن أعدن قراءتها مراراً . ولكنها لا تزال على أية حال عازمة على تنفيذ تصميمها ، ولا بد لها أن تثقف نفسها يوماً ، وستقرأ كتباً كثيرة ، وربما قرأت جميع الكتب التي في مكتبة صلاح . سمعت صلاح يقول فجأة :أ أنت مصرّة على الرسوب في الفيزياء ؟
فانتبهت من أحلامها ورفعت رأسها فإذا بصلاح ينتصب أمامها باسماً 0 قالت في عتاب : أنت خوّفتني .
فقال صلاح في دعابة تشوبها سخرية خفيفة : بماذا كنت تفكرين ؟ بالفراغ كالعادة ؟ أليس من الأفضل لك أن تنجحي في الفيزياء ؟!
تأملت سلوى وجهه مفكرة 0إن لون عينيه جميل حقاً ، ومن الغريب أنها لم تلاحظ ذلك من قبل ، ولعل السبب أنها لم تتفرّس فيهما أبداً . إن صلاح مظلوم ، فلا يبدو للناظر جمال عينيه ما لم يحدق فيهما . ولا شك أنه أجمل من صابر ، فصابر لا يملك سوى التأنق وأنفه كبير وإن حاول يستر كبره بشارب كثّ . لكنه يبدو ألطف من صلاح . ولعل سبب ذلك روحه الخفيفة وأناقته وظرفه . ولا شك أنه يحبها من أعماق قلبه . فهو لا يقدر أن يكبح جماح عواطفه أبداً ، ولا بد أن تظهر في حركاته وتعابير وجهه . إنه يعمل المستحيل كيّ يراها عدة مرات حينما تزور بيتهم لتدرس مع افتخار . وإن افتخار لتبتسم ابتسامة خبيثة وترمقها بنظرات خاصة كلما أطلّ عليهما صابر متعللاً بأتفه العلاّت . فهو تارة يطلب من افتخار قلماً ، وطوراً يسألها عن موضع أحد أشيائه ، ومرة ثالثة يوصيها بأمر لتذكره به فيما بعد . وهو في كل مرة يبدو شديد الارتباك لا يقوى على التحكم في نفسه . ومع ذلك فلا بد أن يخلق المناسبات ليقول لها عبارة رقيقة ، أو ليلقي فكاهة طريفة تنتزع منها الضحك انتزاعاً . وكم يبتهج لاستجابتها لفكاهته ، فيشع وجهه بالسرور ويرتجف شاربه الكثّ طرباً . حقاً إنه شاب رقيق ، لطيف ، وإنه لجدير بحبها .
سمعت صلاح يقول في سخرية : ما هذا الاستغراق في التفكير ؟؟ أأنت مصرّة على التفكير في الفراغ وتضييع الوقت ؟!
كلا 00 إن صلاح لا يحبها أبداً . إنه لم يحببها قط 0 ولو كان يحبها ما عاملها بهذه الخشونة . إنه يحاول دائماً أن يقتنص الفرص لينحي عليها باللوم ، ليسخر بعقلها ، ليستخف بشخصيتها . فأي نوع من الحب هذا ؟!
قالت سلوى وهي تنتزع أغصان العشب وتلوكها : لماذا تحاول دائماً أن تغتنم الفرص لتلومني ؟! أنا لا أحب هذه الطريقة .
قال صلاح : ليس المهم حبك لهذه الطريقة أو عدم حبك لها ، فأنت تضيعين وقتك بأتفه الأمور 0 وهذا أمر لا أرتضيه أبداً .
قالت سلوى وهي تحدجه بنظرات حادة : أنت لست مسؤولاً عني فلم تزعج نفسك من أجلي ؟!
فلاح اضطراب خفيف على وجه صلاح ، وظل صامتاً قليلاً ثم قال : صحيح أنني لست مسؤولاً عنك باعتبارك ابنة خالي ، لكنني مسؤول عنك باعتبارك إحدى المواطنات . وأنت أقرب مواطنة تسمح لي الظروف بالكلام معها في حرية . أنا لا أرتضي هذه الحياة لجميع الفتيات أمثالك اللواتي يتفنّن في تضييع أوقاتهن ، ولو كان بإمكاني لو بّختهن جميعاً . أي خير يعود من ورائهن على هذا الوطن ؟! فهن لا يحاولن أن يثقفن عقولهن فيقر أن كتاباً مفيداً أو مجلة جدية .. سوى الروايات الغرامية التافهة والمجلات المصورة المبتذلة التي تتحدث عن الممثلات والممثلين وحياتهم الخاصة . كيف يتعرفن بهذه الطريقة على مشاكل الحياة في بلدهن ؟ وكيف سيتولين مشاطرة الرجل مسؤولية الحياة العائلية ؟ وكيف يثبتن جدارتهن للمساواة بالرجل ؟! نحن في حاجة إلى فتيات مثقفات يدركن مركزهن وواجباتهن تجاه الوطن المجتمع .
سكت صلاح فران صمت ثقيل تعكره صيحات الأطفال المتقطعة . وعكفت سلوى على أوراق العشب تنتزعها بقوة ثم ترميها جانباً . نهضت أخيراً وقد لاحت على وجهها سآمة حادة وقالت : أوف ربي .. أنا ضجرة . لست أدري ماذا أفعل .
فقال صلاح بسخرية تشوبها رقة : أنت ضجرة طول عمرك . اذهبي إلى غرفتك وادرسي فيزياء .
فتلكأت سلوى قليلاً ثم قالت : نعم ، الأحسن لي أن أذهب إلى غرفتي .
عادت سلوى إلى غرفتها وقلبها يفيض بحنين مبهم تمازجه كآبة وسأم . وجلست وراء منضدة الكتابة في ضيق وفتحت كتاب الفيزياء . ما أضخم هذا الكتاب! لكأن كل مؤلف يباري الآخر في ضخامة كتابه !
شرعت سلوى تقرأ في فصل " الكهربائية" فلم تفهم شيئاً . كان ذهنها يشرد عن الكتاب باستمرار . وكررت قراءة بعض العبارات فعجزت عن فهمها . واجتاحها فجأة شعور بالتعاسة ، وبدا لها بشكل واضح أنها إنسانة شقية . هل سيتبدد شبابها على هذا النحو ؟! ستظل أعواماً عديدة أسيرة الدراسة والامتحانات . وقد امتحنت في الجبر قبل أسبوع ، وستمتحن في اللغة الإنجليزية بعد ثلاث أيام ، وعليها أن تستعد منذ الآن للامتحان العام . فمتى ستتخلّص من الدروس والامتحانات ، متى ؟ ليتها تغمض عينيها وتفتحهما فتجد موعد العطلة الكبيرة قد حان .
أسندت سلوى مرفقيها إلى المنضدة وتاهت أنظارها في الأفق البعيد . لقد أقبل الصيف وهي لم تتأهب له بعد . وعليها أن تقضي ما تبقى من السنة الدراسية بملابس السنة الماضية . فليس لديها الوقت الكافي لشراء أقمشة جديدة وخياطتها قبل حلول العطلة الكبيرة . ولن تتقّيد هذه المرة بآراء أمها الرجعية ، بل ستخيط ملابسها كما تشاء . فليس في وسع أمها أن تتصور أن الفساتين المغلقة تجعل منظر الفتاة كريهاً . لا بد أن يكون الفستان الصيفي في مدينة كبغداد بدون أكمام ، ولا بد أن تكون فتحة الظهر والصدر واسعة ، وأي بأس في هذا ؟! لو كان لحرّ بغداد مثيل في أوروبا لسارت النساء في الشوارع عرايا . إن أمها لا يمكنها تقبل هذا المنطق0 وكيف يتأتى لها ذلك وهي من نساء الجيل القديم ؟ كلا ، إنها لن تخضع لمشيئتها بعد الآن ، فهي لا تزال تعيش في عقلية القرن الماضي . وستضرب بأوامرها عرض الحائط حينما تحلّ العطلة . لن تظل حبيسة الدار لا تخرج في النهار إلا لزيارة صديقاتها ، ولا يجوز لها أن تتمشى في شارع الرشيد أو شارع النهر لتتفرج على الناس وعلى مخازن البضائع . ولن تطيع أوامرها بزيارة السينما مرة واحدة في الأسبوع بصحبة إحدى صديقاتها . فما الداعي إلى هذه الأحكام ؟ ولماذا لا يجوز لها زيارتها أكثر من مرّة في الأسبوع ، بمفردها أو بصحبة شاب ؟ فصابر مثلاّ يذوب شوقاً إلى مرافقتها يوماً إلى السينما لكن افتخار أفهمته أن أمها لا توافق على ذلك مع أنها تتوق إلى ذلك من كل قلبها . فصابر إنسان رقيق للغاية ، وهو يبذل كل ما في قدرته لإدخال السرور على قلبها . وقد التقى بها مرة على أبواب سينما روكسي وكانت بصحبة افتخار فقطع لهما تذكرتين على حسابه ، واشترى لهما كمية عظيمة من الفستق واللوز . ولم يجلس بجوارهما رغم لهفته الشديدة لذلك ، وجلس في صف وراءهما . فما معنى هذه القيود السخيفة ؟
وعادت صورتا صلاح وصابر تلحان على ذهن سلوى . حقاً إنها لا تقدر أن تفضل أحدهما على الآخر لو خّيرت بينهما ،فلكل منهما ميزات تحبها ولا تتوفر للآخر0 فصلاح رغم خشونته ذو رجولة قوية وشخصية طاغية . وصابر رغم أنفه الكبير ذو لطف متناه ورقة فياضة . لكنها لا تستطيع أن تعيش مع أي واحد منهما . ولو كان لصلاح لطف صابر ، أو لو كان لصابر رجولة صلاح لأمكن أن تحب أحدهما . لكنها موقنة أنها ستلقي يوماً بشاب يجمع صفات الاثنين . ربما التقت بذلك الشاب في شارع الرشيد ، أو في الباص أو في السينما . وكم مرة وقعت أنظارها في الباص على نموذج للشاب الذي تفضله . ولقد حدث لها مراراً وهي في السينما أن شعرت بقوة تجذبها إلى وجه شاب من بين مئات الوجوه . وقد تتبادل معه نظرات إعجاب ، ثم لا يلبث أن يختفي من أفق حياتها حالما تغادر دار السينما 0 ولم يحدث لها أبداً أن التقت مرة ثانية بأحد أولئك الشباب الذين أعجبوها . وكيف تلتقي بهم ثانية وهي تحيى هذه الحياة الضيقة الحبيسة التي تشابه حياة السجينات ؟!
تجمعت سحب الكآبة مرة أخرى في أفق سلوى ، لكن نبعاً فواراً من البهجة تفجر في أعماقها فبدد تلك السحب . ستلتقي بذلك الشاب في يوم من الأيام حتماً . وسيحبها من كل قلبه ولا يفضل عليها أية امرأة في الدنيا . وسيعاملها برقة صابر ، ولن يطالبها كصلاح بقراءة الكتب الجافة0 وسيسمح لها بالتنزه كل يوم في كورنيش الأعظمية وفي شارع النهر لتفرج على مخازن البضاعة والناس . ولن يعارض في خياطة فساتينها بدون أكمام ، وبفتحات واسعة للصدر والظهر . وسيصحبها كل مساء إلى " السينما " فتستمتع بجوّها المرح المشبع بالموسيقى واللفتات والنظرات . وسيسمع لها بشراء كل اسطوانات فريد الأطرش وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ . وستتصرف على هواها لا يمنعها أحد ولا يلومها أحد .
وفاض قلب سلوى بنشوة عميقة ، وغمرتها سعادة متدفقة . وكانت الشمس قد توارت خلف النخيل البعيدة مخلفة وراءها غيوماً صفراً . وانعكست الأشعة الغاربة على محيّاها المشرق فبدا ذا جمال أخّاذ . وكانت نسمات خفيفة تهب عبر الشرفة فتداعب خصلات شعرها الكستنائي المتدلية على جبينها .

ليلة سوداء
بدت الأزقة الضيقة الملتوية في محلة الجباوين صامتة لا أثر فيها للحياة . ولاحت الأعمدة الكهربائية الصدئة في النور الخافت كأشباح مخيفة . و سرى حمادة مسرعاً دون أن يتلّفت حواليه . ولم تقع عيناه على إنسان سوى حارسين كان أحدهما متجمعاً على نفسه في عطفة صغيرة وقد غطّ في النوم، وكان الثاني مختبئاً في دهليز بيت قديم . ولم يلمح أي كلب أو قط ينبش في فضلات الأطعمة وأكوام الأقذار المنبثة في زوايا الأزقة .
أسلمه زقاق السّماكة إلى الشارع العام فاستقبله هواء قارص يهب من النهر . التفّ بسترته وأسرع الخطو وهو يفكر في الطريقة التي يقنع بها الدكتورة سلمى بمرافقته إلى البيت . من المحتمل أن تطرده حالما تراه . وربما طالبته بالأجر المتبقي عليه من زيارته السابقة . وماذا سيقول لها لو فعلت ؟ ليس في كيسه سوى دينارين ،وكان ينوي إعطاءهما إلى الحاجة فهيمة ، لكنه لن يعطيها شيئاً الآن . وماذا فعلت لنعيمة ؟ إنها تقاسي منذ ساعات الصباح الأولى ولا أثر للوليد . وإذا لم تنجدها الدكتورة سلمى فالله الساتر . لا بد أن يقنع الدكتورة سلمى . سيشرح لها خطورة حالتها وربما لان قلبها . ولمَ لا يكذب عليها ؟ لمَ لا يزعم لها أنه يملك أجرها حتى أذا ولّدت نعيمة أعطاها ما عنده ؟ تساقطت على وجهه قطرات المطر ، فرفع رأسه إلى السماء فإذا بها قطعة سوداء لا أثر فيها للنور .
بلغ منزل الدكتورة سلمى فوقف تحت شرفته متردداً . وعاوده الخوف والقلق . ومثل جسم الدكتورة الضخم ووجهها السمين في ذهنه فازداد يأساً . تقدم من الباب وضغط الجرس فرنّ رنيناً قصيراً . وانتظر دقائق بقلب واجف فلم يردّ عليه أحد . وكرر الضغط على الزرّ فتساءل صوت بعيد : من ؟
هتف مرتعش الصوت : أنا .. مريض .
انفرج الباب وظهر خادم الدكتورة الكهل . قال حمادة في استعطاف : الله يرحم موتاك ، صحّ الدكتورة . عندي مريض حالته خطرة .
قاده الخادم إلى الصالة وقال : اجلس هنا .
استلقى حمادة على أحد مقاعد الصالة لكنه أحسّ بوخز كاللهب يتوقدّ تحته ، فعاد إلى الوقوف . ومرّت دقائق حسبها دهراً ، ثم ظهرت الدكتورة وقد تدثّرت بروب أبيض اللون . وكان شعرها الأسود المنفوش يتناثر حول وجهها المقّبب ، وكانت عيناها لا تزالان مغلقتين نصف إغلاق . قالت وهي تتلفت حواليها متثائبة : أين المريضة ؟
أجاب حمادة : هي امرأتي يا دكتورة 0 تعسرّت ولادتها منذ الصباح .
تساءلت الدكتورة وهي تتثاءب : ولماذا لم تجئ إليّّ قبل الآن ؟
فلزم حمادة الصمت . قالت الدكتورة وهي تستدير بجسدها الضخم : انتظر قليلاً .
ووضعت قدماً خارج الصالة ، لكنها استدارت نحوه فجأة وتفرّست في وجهه ، ثم تساءلت : ألم تخضر إلىّ زوجتك من قبل ؟!
تلفّت حمادة حواليه في ارتباك . قالت الدكتورة في خشونة : اسمع . أنا أتقاضى عن هذه الحالات عشرة دنانير . هل معك المبلغ ؟
ابتلع حمادة ريقه ، ونقل نظراته الحائرة بينها وبين الخادم ، ولم يجب . قالت الدكتورة في غضب: ما معنى هذا ؟ هل تتصورون أن من واجب الدكاترة أن يشتغلوا مجاناً لوجه الله ؟ في المرة السابقة قطعت نصف الأجر ، وفي هذه المرة توقظني في منتصف الليل وتريد أن أعالج امرأتك بلا أجر !
وتركت الصالة وهي تغمغم : أغبياء .
لبث حمادة جامداً في موضعه وعيناه مثبتتان على باب الصالة . وسمع الخادم يقول : اذهب إلى الدكتور سامي في الشارع المجاور . إنه اختصاصي في التوليد أيضاً .
خرج حمادة يجرّ قدميه جراً . ومكث دقائق واقفاً تحت شرفة المنزل وأنظاره مصلوبة على باب الدار . كان يتوقع أن يخرج الخادم إليه ويستدعيه ، لكن انتظاره طال والصمت جاثم حوله . وانطفأ النور في نوافذ البيت وغرق في الظلام .
سار حمادة في الشارع متلكئاً . كان عليه أن يقترض من أحد زملائه الصفارين بعض النقود صباح هذا اليوم . ولو فعل ما طردته الدكتورة . والآن ماذا سيفعل ؟!
ومض البرق وأضاء الشارع بنور ساطع ، وأعقبه رعد قاصف 0تطلع إلى السماء فإذا بالظلام مطبق عليها0 وبدت صفحتها كالحة كئيبة . إنه لن يذهب إلى الدكتور سامي ، حتى لو كان مصير نعيمة ومصير طفله البكر موكولين به . كيف يسمح لرجل أن يولدّ زوجته وينكشف على عرضه ؟! إن شرفه أثمن من حياة نعيمة وحياة ولده وحياة أي إنسان .
اشتد انهمار المطر ، وابتلّ يشماغه وسالت قطرات المطر على رأسه . ومشى حمادة متباطئا .. إن الدكتور سامي طبيب على أية حال وجميع الناس يقولون إن أمر الطبيب غير أمر الرجل الاعتيادي . وهم يقضون أعمارهم في الدراسة ليقوموا بمثل هذه الأعمال . ولو كانت مخلّة بشرف الناس ما أتعبوا أنفسهم بتعلمها0 وقبل أسابيع اضطر يحيى الصفّار إلى نقل زوجته إلى المستشفى وقام أحد الأطباء بعملية لها .
انعطفت قدما حمادة في الشارع المجاور ، وتوقف أمام منزل الدكتور سامي . كان ثمة شعور أليم يدمي قلبه . وامتدت يده إلى مدقّة الباب ، وأطلّ رأس امرأة من نافذة علوية وتساءل صوت ناعم : من ؟
هتف حمادة : أنا خاتون . أريد الدكتور . تعسرت ولادة امرأتي .
غابت المرأة دقائق خيّل لحمادة أنها ساعات ، ثم ظهرت ثانية وقالت : الدكتور مسافر .
قال حمادة متوسلاً : والله تركتها في حالة خطرة يا خاتون .
فكرت المرأة برهة ثم توارت ثانية . وعادت بعد دقائق وقالت : اذهب بها إلى المستشفى الكبير فسيعالجونها هناك .
واختفى رأس المرأة وأغلقت النافذة0 وتلبث حمادة مسمرّاً في موضعه . إلى أين يولّي وجهه ؟ سار في الشارع يقتلع قدميه اقتلاعا . وانهمر المطر فوقه كالسيل ، والتصق قميصه بجسده ، وامتلأ حذاؤه بالمياه . ربما كان نقل نعيمة إلى المستشفى بعربة سهلاً . ولكن أين يجد العربة في مثل هذه الساعة ؟
تذكر حمادة بيت الحوذي في البستان الواقع وراء زقاق "السماكة " . لقد رأى عربته في البستان مراراً وهو عائد إلى البيت ليلاً ، ولا بد أنها هناك الآن .
هرول حمادة في الأزقة الموحلة وقدماه تنزلقان بن حين وآخر فيكاد يهوي على الأرض . ولم يتوقف حتى بلغ البستان0 وغمره سرور فيّاض حينما لمح في نور البرق الخاطف شبح العربة في ركن من البستان المهجور . تقدم نحو منزل الحوذي يسير حذراً ، وغاصت قدماه في الوحل0 تحسّس مدق الباب حتى أمسك به ، ثم انهال عليه قرعاً . تساءل صوت من داخل الدار : من ؟
صاح حمادة بأعلى صوته : أنا ، أسطى .
اقتربت سعلات متواصلة من الباب ، ثم فتح وظهر شخص صغير الحجم محنيّ الظهر 0 تساءل في استغراب : مَن هذا الذي يترك بيته في مثل هذه الساعة ؟
وومض البرق فبرز لحمادة وجه الحوذي العجوز بلحيته الكثة . قال في ضراعة : رحمة الله على موتاك يا أسطى تعسرّت ولادة امرأتي منذ الصباح ، ويجب أن أنقلها إلى المستشفى .
تساءل الحوذي : ألا يمكنك الانتظار حتى الصباح ؟
فقال حمادة : هي في حالة خطرة ، وربما تموت إن لم أنقلها الآن إلى المستشفى صمت الحوذي برهة ثم قال : ولكن الشوارع لا تصلح لسير العربة . وقد تتزحلق الخيل وتنكسر أرجلها .
قال حمادة متضرعاً : وحقّ كل عزيز لديك ، لا تخيبّني لا خيّبك الله .
صمت الحوذي مفكراً ، ثم هز رأسه وقال: أمري إلى الله .
غاب الحوذي برهة ، ثم خرج وهو يقود زوج الخيل . وانهمك في شدّهما إلى العربة وهو يغمغم : ليس هناك حوذي يخرج بعربته في مثل هذا الجوّ إلاّ المجنون . قد ينزلق الحصان وتنكسر رجله .
درجت بهما العربة في بطء . وكانت الخيل تقتلع أرجلها من الطين بصعوبة0 وأخيراً بلغت المنزل فانحدر عنها حمادة . دقً باب الدار ثم دخل وهو يردّد : يا الله .. يا الله .
اشتد خفقان قلبه وهو يجتاز الدهليز . وتناهت إليه تأوهات نعيمة مختلطة بأصوات نسوة الجيران وهن يرددن في نغمة واحدة : علي . علي . علي . استعيني بـ " أبو الحسن " استعيني بحلاّل المشاكل .
واستوى وراء باب الغرفة وهتف : حجية فهيمة . سآخذ نعيمة إلى المستشفى.
فصاحت الحاجة فهيمة بامتعاض : تأخذها إلى المستشفى وهي في هذه الحال ؟ أتريد أن تقتلها ؟
قال حمادة : لا شأن لك بهذا . سآخذها الآن إلى المستشفى أحسن من أن تموت بين يديك .
وترامى إلى حمادة لغط النسوة وقد ساءهن قراره0 لكنه هرع إلى غرفته وغّير ملابسه المبتلة 0 ثم خبط على جدار الغرفة المجاورة وصاح : حجية فهيمة هل جهزتها ؟
فصاحت الحاجة فهيمة: تعال خذها . تعال أقتل المسكينة .
تقدم حمادة نحو الغرفة المجاورة خافق القلب . كانت نسوة الجيران الثلاث محيطات بنعيمة وهن متلفعات بعباءاتهن . وابتدرته إحداهن قائلة : هذا شيء غير معقول ي(أبو غائب نعيمة0 ليست في حالة تمكنها من الذهاب إلى المستشفى .
وقالت امرأة ثانية : كيف تخرجها وهي في هذه الحال ، وفي مثل هذا البرد والمطر ؟
قال حمادة بلهجة جازمة : لا شأن لأحد بهذا . ستموت لو بقيت بين أيديكن .
فقالت الحاجة فهيمة : دعوه يأخذها إلى المستشفى . سيرى ماذا سيفعلون لها هناك . لن يجيء المولود حتى يشاء الله .
أقبل حمادة على نعيمة مترفقاً . كانت متمددة على فراش وقد عصبت رأسها بعصابة بيضاء . قالت بصوت خائر وهي تحاول النهوض : سأموت يا حمادة .. سأموت .
قال حمادة برقة وهو يساعدها على النهوض : توكلي على الله يا نعيمة . توكلي على الله .
تأوهّت نعيمة وهي تستند إلى ذراعه وقالت متوجعة : سأموت ف الطريق يا حمادة ، أنا أدري أنني سأموت .
ورّد حمادة مشجعا : توكلي على الله يا نعيمة . توكلي على الله .
قادها حمادة إلى العربة فتسلقتها بصعوبة وتهالكت في داخلها وهي تئن وتتوجع0 وأسندها حمادة إلى صدره . تحركت العربة ببطء ، وخاضت في الأوحال بصعوبة . كانت سيول المطر تنهمر متدفقة كأن أبواب السماء قد فتحت على مصاريعها 0 وكان الحوذي العجوز يتمتم طوال الوقت بكلمات غير مفهومة ويفرقع بسوطه في الهواء .
وأخيراً خرجت العربة إلى الشارع العام . وكانت المياه قد ملأت الشارع وكوّنت فيه بركاً عظيمة . وأسرعت الخيل في جريها ، واندفعت العربة وهي تهتز بقوة . وفجأة حدث صوت احتكاك عنيف وهوى زوج الخيل في بركة المياه . قفز الحوذي إلى الأرض مولولاً : يا رب لطفك .. يا رب لطفك .
جثا الحوذي على الأرض يفحص زوج الخيل ثم ضرب رأسه بجمعه وهتف مولولا : ويلي عليّ . ويلي عليّ .
وقف حمادة مرتبكاً لا يدري ماذا يفعل . كان أنين نعيمة يعلو لحظة بعد أخرى 0 التفت إليه الحوذي أخيرا وقال : خذ امرأتك يا عمي واذهب بها إلى المستشفى واتركني . الله كتب لي هذه المصيبة .
قال حمادة مواسيا: عمي ، هذه كلها أقدار . سأحمل امرأتي على ظهري والله في عوني وعونك .
والتفت إلى نعيمة قائلاً : توكلي على الله يا نعيمة ، توكلي على الله0 سأحملك على ظهري .
قالت نعيمة جزعة : و كيف يمكنك أن توصلني إلى المستشفى يا حمادة؟
قال حمادة وهو يثني ركبتيه بجوار العربة : توكلي على الله يا نعيمة ، توكلي على الله .
شبكت نعيمة ذراعيها حول عنق حمادة 0 وساعده الحوذي على النهوض فاستوى على قدميه . تأرجح حمله لحظة ثم مشى ببطء وهو يتلمس مواضع قدميه . واشتد إحساسه بثقل حمله لحظة بعد أخرى ، لكنه عضّ على يشماغه لئلا يفلت منه أي صوت . وراح يرفع رأسه إلى نعيمة بين حين وأخر متسائلاً : كيف حالك يا نعيمة ؟
فتردّ عليه نعيمة في صوت خائر : الحمد لله .
صفعت الرياح وجهيهما بقوة . وابتلّت عباءة نعيمة وسحتّ المياه منها على وجه حمادة ، ثم تسربت الى صدره ، ثم ظهرت على ساقيه العاريتين . وارتعش جسد نعيمة فوق ظهره ، وتصيدت أذناه آهاتها المكتومة . وفجأة صكّت سمعه صرخة حادة فتوقف عن السير وتساءل مرعوباً : ما بك يا نعيمة ؟
غمغمت نعيمة وهي تحاول عبثاً كتم تأوهاتها : أنزلني هنا يا حمادة ، أنزلني . سيميتني وجع ظهري .
فخطا نحو شرفة قريبة ووقف تحتها ، ثم ثنى ركبتيه فانحدرت نعيمة بصعوبة عن عاتقه . نظر إليها متضرعاً وقال : لم يبق إلاّ القليل يا نعيمة . توكلي على الله . بعد قليل نصل إلى المستشفى .
انطرحت نعيمة على عتبة المنزل وهي تئن وتتلوى . وسحّت المياه من عباءتها وملابسها وسالت في مجار صغيرة على عتبه الدار ، ثم تجمعت في بركة على الأرض .قالت وهي تعضّ على شفتيها وتتلوّى : لن نصل إلى المستشفى يا حمادة . سأموت هنا . عيني حمادة ، أنا لا أريد أن أموت 0 هل ستتزوج غيري يا حمادة ؟
قال حمادة بصوت مرتعش : توكلي على الله يا نعيمة . توكلي على الله ومحمد وعلي .
انهمرت دموع نعيمة وأخذت تبكي متوجعة وتضغط على بطنها متأودة . وانتصب حمادة بجوارها يتطلع إليها تارة ويتلفت حواليه تارة أخرى . كان متعباً ، متوجعاً ، قد أمضّه البرد ، لكن الهمَّ أذهله عن كل شيء . ثم لاح له أن هذا الكابوس سيرتفع عن صدره حالما يصل إلى المستشفى . فقال مختلج الصوت وعيناه تتضرعان إلى نعيمة : توكلي على الله ودعيني أحملك يا نعيمة . لم يبق من الطريق شيء 0 سيؤذيك البرد إن بقيت جالسة هنا والمياه تقطر من ملابسك .
همست نعيمة أخيراً : احملني على مهلك يا حمادة ولا تحركني ، أخاف أن يميتني الألم . أنا لا أريد أن أموت يا حمادة ، أريد أن أرى ولدي .
قال حمادة وهو يتقدم لحملها : توكلي على الله يا نعيمة ، توكلي على الله ومحمد وعلي .
حملها حمادة بحذر واستأنف سيره البطيء . وعادت الرياح تصفع وجهيهما وسيول المطر تنصب فوقهما . وتحوّل الشارع العام إلى نهير صغير ، فخلع حمادة حذاءه وجعل يخوض المياه حافي القدمين . كانت المياه تسح باستمرار من عباءة نعيمة على وجهه وتكاد تحجب الطريق عن عينيه .و كان التعب قد أنهكه ، والصداع قد شتّت ذهنه . وتراءى له أن الطريق لن ينتهي أبداً ، وأن النهار لن يطلع ، وأنه سيظل يخوض الأوحال في وحشة الليل وقسوة الريح والبرد بقية عمره !
انبعثت فجأة صيحات الاستغاثة من نعيمة ممزقة وحشة الليل ، وراحت تردد وهي تبكي : متى نصل يا حمادة ، متى ؟
كان حمادة قد فقد الأمل في الوصول بسلام ، لكنه ظلّ يجيبها مشجعاً :"توكلي على الله يا نعيمة ، توكلي على الله" . وظلت قدماه تخطوان إلى الأمام في يأس محموم0 ثم لاح لعينيه أخيرا أحذ التل بأشجاره المتشامخة وبجواره بناية المستشفى الكبير 0 فتسمر في مكانه كالمصعوق 0 وصرخ غير متمالك نفسه : وصلنا يا نعيمة ، وصلنا .
كان الصمت يخيّم على المستشفى 0 وكان ثمة نور شاحب يتهافت من وراء النوافذ . انحدرت نعيمة عن كتفي حمادة وجسدها يرتعش بشدة والمياه تقطر من ملابسها . وجلست القرفصاء في المدخل وهمست : الحقني بالطبيب يا حمادة00 الحقني بالطبيب .
هرول حمادة في أروقة المستشفى على غير هدى . كانت وحشة قاتمة تسود المكان ، ولم يكن ثمة أثر لإنسان . وفتر حماسه شيئاً فشيئاً وغاض السرور من قلبه . توقف عن سيره برهة وتلفّت حواليه حائراً . ثم عاد يذرع الأروقة في لهفة . ولاح أخيراً شبح يرتدي البياض فهرع نحوه وسأله : خويه ،أين الدكتور ؟ أريد أن يرى امرأتي . تعسّرت ولادتها منذ الصباح .
سأله الممرض : وأين هي الآن ؟
أجاب : هنا في المستشفى 0 تعال معي لتراها .
ألقى الممرض على نعيمة نظرة فاحصة ثم قال وهو ينصرف عجلاً : سأخبر رئيسة الممرضات .
وطالت غيبة الممرض ، واشتدت الآلام بنعيمة . همست أخيراً في لوعة : لماذا لم تدعني أموت في بيتي يا حمادة ؟
ولزم حمادة الصمت . كان ينتصب إلى جوارها وهو يلتهب غيظاً . ولم يجرؤ على الكلام . خيّل إليه أن أية كلمة تنبعث من بين شفتيه ستزيد من آلام نعيمة . وأخيراً لاح الممرض بصحبة شابة ممشوقة القوام . وألقت الشابة على نعيمة نظرة سريعة وقالت للمرض : أنقلوها إلى غرفة العمليات .
غاب الممرض دقائق ثم حضر بصحبة ممرض آخر ومعهما محفة ، وحملا نعيمة إلى غرفة العمليات . فتبعهما حمادة وقد أطبق عليه وجل ساحق0 وحضر الطبيب بصحبة الممرضة واختفيا في غرفة العمليات . وبعد دقائق خرج الطبيب وسار متباطئاً حتى توارى في آخر الرواق . ثم خرجت الممرضة في أعقابه فتبعها حمادة خافق القلب . قال متضرعاً : سستر ، هل ستلد الآن ؟
أجابت الممرضة دون أن تتوقف عن سيرها : الطبيب الخفر لا يمكنه إجراء العملية ولابد أن يجربها الطبيب المختص0
فهتف حمادة جزعا : كيف يتركها في هذه الحال حتى يأتي الطبيب المختص ؟! إنها تتعذب منذ الصباح ، وقد تموت في أية دقيقة .
هزّت الممرضة كتفيها وقالت بفتور : ماذا يعمل لها ؟
ثم واصلت سيرها حتى توارت عن أنظاره0 فجرّ حمادة قدميه عائداً إلى غرفة العمليات . وألصق أذنه على شقِّ الباب وأنصت بكل جوارحه . وخيّل إليه أن نعيمة تناديه مستغيثة فانتفض كالملدوغ . ودفع الباب بكل قوته فلم ينفتح ، فهرع إلى رأس الرواق ومدّ بصره في الفناء فلم يرَ أحداً . فرجع إلى غرفة العمليات وحيرة مرّة تضطرم في صدره0 وأخذ يهمس جزعاً : يا رب الرحمة . يا رب الرحمة : يا رب الرحمة .
ولم يدرِ ماذا يفعل . وإذ هو ملصق أذنه على الباب فُتح وظهر الممرض ، ثم أغلق بسرعة . فاعترض طريقه وسأله : أخويه ، من فضلك ، متى يجيء الطبيب المختص ؟
أجاب الممرض : والله لا أدري . خابره الطبيب الخفر ولكن يظهر أنه غير موجود في البيت0
تساءل حمادة في صوت فيه رنة بكاء : وهل ستتركونها تموت ؟
فهزّ الممرض رأسه ولم يتكلم . قال حمادة في يأس وقد ألهب الغضب وجهه : ربما ماتت إذا لم يعالجها الطبيب0
فكر الممرض برهة ثم قال : اذهب إلى الطبيب الخفر واسأله أن يجري العملية على مسؤوليتك .
قال حمادة : دلّني على مكانه رحمة الله على أمواتك .
قاده الممرّض إلى غرفة في أقصى الممر ذات باب نصفها من الزجاج السميك فوقف إمامها مترددا 0 نقر الباب ومرت دقائق ثم فتح وظهر الطبيب . تساءل : نعم ؟
قال حمادة بصوت متلعثم : امرأتي يا مولاي .. تعسرت ولادتها منذ الصباح .
فقال الطبيب : أنا لا أستطيع عمل شيء .
تساءل حمادة : ألا يمكنك أن تجري العملية بنفسك يا مولاي رحمة الله على أمواتك ؟!
أجاب الطبيب بلهجة جازمة : هذا أمر غير ممكن .
فهوى حمادة على يده يحاول تقبيلها ، لكن الطبيب سحب يده وقال بلهجة قاطعة : أرجوك .. لا تحرجني . هذه ليست مهمتي .
وأطبق الباب في وجهه . جرّ حمادة قدميه وتهاوى بجوار غرفة العمليات . وهجم عليه فجأة البرد والإعياء والألم دفعة واحدة . وخيل إليه أنه كان طوال هذه الساعات عرضة لضربات عشرات الهراوات , وتراءى له أن ثمة بحاراً شاسعة تفصل بينه وبين نعيمة وأنه عاجز عن اجتياز تلك البحار . وغشيه رويداً ، رويداً ، يأس دبّ في جسده كالمخدّر فاستسلم للخمول . وتسللت أنوار الفجر عبر نوافذ المستشفى واختلطت بأنوار المصابيح . ولم يعد حمادة يفكر بنعيمة أو بالطبيب الخفر أو بالطبيب المختص . كان يحاول باستمرار أن ينتزع نفسه من هذا الجمود ، لكن رأسه ظل يسقط على ركبتيه بعناد . ثم فزّ على هزات قوية فرأى الممرض ينتصب أمامه . كان وجهه العابس ينبئ بالشرّ . قفز حمادة على قدميه مرعوبا وهتف : كيف حال امرأتي رحمة الله على موتاك ؟
قال الممرض ببطء : البقيّة في حياتك .
شعر حمادة بالأرض تميد به فاستند إلى الجدار لحظات 0 ثم أحسّ فجأة بالنار تتلظّى في أعماقه 0 واسْوَدَّ كل شيء في عينيه . فهجم على الرجل الماثل أمامه وقبض على عنقه وزمجر صارخاً : ماذا فعلتم بامرأتي يا مجرمين ؟
فتعالت استغاثة الممرض ، وتراكض الممرضون لنجدته 0 وخارت قوى حمادة ثانية واختلطت في عينيه الصور .

فتاة المرقص
قال فتحي : سأصحبك إلى مرقص تتمرن فيه كما تحب يا علي .
- هيا بنا .
وانطلقا معاً . تركنا الترام في محطة باب الحديد واخترقنا الميدان ، وانعطفنا في شارع جانبي ، ثم توقف فتحي أمام عمارة قديمة . دلفنا إلى مدخلها المعتم ، وارتقينا سلّماً قذراً أسلمنا إلى ممر واسع في الدور الأول . وفي أقصى الممر لاح باب مفتوح على مصراعيه تنبعث منه أنغام راقصة .
كان المرقص حافلاً بالروّاد ، وكانت سحب الدخان تتكاثف قرب السقف وحول المصابيح ، وضحكات النساء تشيع جوّاً خليعاً ، وجلبة الحاضرين تملأ السمع . قال فتحي : أرنا همّتك يا بطل .
وغاب مسرعاً في زحمة الراقصين . انتبذت موضعاً منزوياً ، ودارت عيناي متفحصة القاعة الفسيحة . كان أثاث المكان يعلن عن حقارته .. المقاعد القديمة المصفوفة حول الجدران، البار المتآكل المنزوي في ركن من أركان القاعة ، و الجرامفون الهرم المتواري عن الأنظار . وكرهت المرقص ، كرهت وجودي فيه . كان ثمة شيء قذر في هوائه المشبع بالدخان ، في فتياته المتزوقات بتبذل ،في رقص زبائنه المجرد من الاحتشام . انقطعت الموسيقى وتفرّق الراقصون وأقبل فتحي يشقّ طريقة نحوي . بادرني متسائلاًَ : كيف الحال ؟
- هذه دعابة سخيفة يا فتحي . إنك أتلفت عليّ الأمسية في هذا المرقص الحقير .
- لا . لا تبالغ يا علي . صحيح أنه ليس من المراقص الراقية لكنك تستطيع أن تتمرن فيه قدر ما تشاء . هذا بالإضافة إلى وجود بعض الوجوه الجميلة .
- وأين الوجوه الجميلة ؟ أنا أتحداك أن تدلني على وجه واحد فقط .
- واحد ؟! ما أسهل هذا . تعال معي .
كانت الموسيقى قد صدحت من جديد ، وكان الراقصون يتخلعون في حركاتهم المبتذلة . اخترقنا حشدهم ووقفنا في موضع قرب الباب . وطافت عينا فتحي في حلبة الرقص ، ثم لكزني بكوعه وهو يشير بعينيه إلى فتاه دنت منا وتساءل : ما رأيك في هذه ؟
وابتعدت الفتاة عنا سريعاً فلم ألمح فيها جمالاً خاصاً . قلت في غير حماسة : لا بأس بها .
فهتف باستنكار : لا بأس بها ! يا أخي قل رائعة . أتدفع ثمناً للوصف ؟!
- رائعة أم غير رائعة أنا خارج يا فتحي . لا أتحمل البقاء مدة أطول في هذا المكان .
- صبراً . صبراً يا علي . خمس دقائق فقط . رقصة أخرى معها ثم نخرج .
قال ذلك وعيناه ما تنفكان تلاحقان الفتاة. ثم التفت إلىّ وأضاف: اسمع يا علي. سلها الرقصة التالية وسأدعوها أنا بعدك ثم نخرج . ما رأيك ؟
- أوافق على أن تفي بعهدك .
صمتت الموسيقى فحنت الفتاة رأسها لرفيقها ، واتجهت إلى مقعد منعزل وجلست في احتشام . ثم عزفت اسطوانة جديدة فدعوتها إلى الرقص . وما كدت أتوسط الحلبة حتى عراني الارتباك وتخبطت قدماي ، وعجزت عن ضبطهما على إيقاع الموسيقى . توقعت أن تتركني رفيقتي بين لحظة وأخرى وتعود إلى مقعدها غاضبة . لكنها جعلت تربِّت على ذارعي في كل خطوة لتقود قدميّ على ضربات اللحن 0 ولم ألبث حتى وجدتني أرقص بثقة واطمئنان . وزايلني الإحساس بالنفور وخلفه شعور بالغبطة والارتياح . واعترفت وأنا أختلس النظرات من وجهها أن فتحي محقّ في إعجابه . إنها رائعة حقاً 00 رائعة بعينيها الرماديتين الواسعتين ذات الأهداب الطويلة ، بوجهها البيضاوي ذي البشرة الشمعية الصافية ، بشعرها الكستنائي الطويل المسترسل على كتفيها . وألفيتني أحاذر طوال الوقت ألاّ يمسّ صدري صدرها وألاّ تضغط يدي على خصرها . كان ثمة شيء طاهر ، رقيق فيها . يثير في القلب إعجاباً خالصاً . وشعرت بأسف حينما سكتت الموسيقى وانتهت الرقصة . وعدت إلى فتحي تتوزعني الغبطة والحسرة .
صدحت اسطوانة جديدة فهرع فتحي إلى الفتاة قبل أن يسبقه شخص آخر ، ووقف أراقبهما من بعيد ومشاعر النشوة تفعم قلبي . وتمثلت لي نظراتها الفارغة وهي تراقصني ،وخيّل إلىّ أنها تطوي تعاسة مرةّ . تلفت حواليّ أتأمل المرقص وزبائنه ،فعاودني الشعور بالاشمئزاز والنفور وتملّكني الانقباض . وتمنيت من أعماقي أن تنتهي الرقصة .
توقفت الموسيقى فأقبل عليّ فتحي عابس الوجه وقال : هيا نخرج .
استقبلنا الهواء المنعش خارج البناية فتنفست الصعداء كأن عبئاً ثقيلاً رفع عن كاهلي . التفت إليّ فتحي بعد صمت وقال : أنت محقّ يا علي ، هذا المرقص حقير جداً .
- وهل يحتاج هذا إلى كلام ؟
فأضاف وكأنه يحدث نفسه : وليس هناك أمل في الظفر بها . وخير لي أن أهجر هذا المرقص السخيف .
_الظفر بمن ؟
_ بدريّة التي رقصنا معها الآن . يظهر أن محاولاتي معها لن تثمر .
_لا أدري كيف تحتمل جوّ هذا المرقص يا فتحي من أجلها أو من أجل غيرها . أما أنا فهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي أزوره .
***
كنت واثقاً أن قراري في مقاطعة ذلك المرقص حاسماً . وحينما خالجتني الرغبة بعد أيام في زيارة مرقص أخذت أستعرض في ذهني المراقص التي أعرفها . واستقر عزمي على ارتياد أحدها . ولست أدري كيف انساقت قدماي إلى باب الحديد ووجدتني واقفاً أمام العمارة القديمة والحيرة تعصف بي . ثم ارتقيت السلّم القذر بتثاقل ومشاعر الشق تصطرع في صدري . وتسمّرت بجوار الباب . خيّل إلىّ أن عيون الجميع اتجهت نحوي في تساؤل ساخر . وتصبب العرق من جبيني ، وألحّ على ذهني سؤال عنيد: " كيف حدث هذا ؟!"
لكن الموسيقى استمرت في أنغامها الصاخبة ، وضحكات النساء الخليعة ظلت تتردد في القاعة ، والراقصون لم ينقطعوا عن رقصهم المبتذل . وعاودني هدوئي شيئاً فشيئاً ، وتسللت بين جوانحي مشاعر الاستهانة وعدم المبالاة . وبحثت عيناي عن درية حتى استقرتا عليها وهي منتبذة مجلسها المختار ، فشققت طريقي بين الراقصين واخترت موضعاً قريباً منها . وخفقت في قلبي وأنا أتأملها مشاعر رقيقة حنون . كان ذلك التعبير الطاهر النقيّ يحيطها بجوّ فريد . وبدا لي أن وجودها في مثل هذا المرقص أمر شاذ ، كوجود مصلّى في حانة !
تتابعت الأنغام ، وظل الراقصون يتسابقون في دعوتها . كانت تلبي دعواتهم بهيئة آلية ،وتراقصهم كدمية متحركة ، ثم ترجع إلى مقعدها بخطواتها الموزونة ومظهرها المحتشم . ولم تداخلني رغبة في مراقصتها . كنت مغتبطاً بمراقبتها من بعيد وإن شابت غبطتي كآبة مبهمة .
غدوت زبوناً لمرقص مولان روج منذ تلك الليلة . كنت أحرص على زيارته مرة في الأسبوع . وكان برنامجي لا يتغيّر .. اختيار مقعد بقرب مجلس درية ، واستيفاء الرقصات المخوّلة لي معها .. وكانت تتوزعني دائماً غبطة عميقة وكآبة مبهمة وأنا أراقصها . أمّا هي فكانت تراقصني كدمية متحركة . وكان وجهها يبدو كئيباً على الدوام ، والنظرات الحزينة لا تفارق عينيها 0 ولم أجسر يومأً على مخاطبتها .
وذات يوم أمسية نظرت إليّ درية وقالت : أنت أتقنت الرقص سريعاً يا أستاذ.
كانت لهجتها عادية لا تنبئ عن شيء ، لكنني رددت عليها بحماسة : يسرني أن تلاحظي ذلك ، والفضل يعود إليك يا مدموازيل درّية .
فقالت بلطف : العفو يا أستاذ .
ومرت الأيام ، وبدأنا نتبادل التحيات المألوفة وعبارات مقتضبة عامة . وخيّل إليّ أن موقفها مني يتغّير مرة بعد مرة ، وأن هيئتها الرسمية الصارمة تفارقها أثناء رقصها معي . وكنت أحسبني مبالغاً في تخيلاتي ، لكن موقفها مني أخذ ينجلي شيئاً فشيئاً مبدداً شكوكي . أخذت تستقبل دعوتي للرقص بابتسامة وتتقدم معي إلى الحلبة برغبة واضحة . وكانت أسارير وجهها تبدو منطلقة طوال الوقت . ومع أن الحياة دبت في رقصها ، إلا أن هيئتها المحتشمة لم تفارقها يوماً . ولم تسلمها رقصة التانجو مرة إلى ضغط صدرها على صدري أو إسناد رأسها إلى كتفي كما تفعل الأخريات .
وشجعني موقفها مني على التفكير بدعوتها إلى شراب رغم أنها تأبى قبول دعوة أحد . كنت أحسب أنها ستولي دعوتي اعتباراً خاصاً . وكنت أحب أن أعّبر لها عن امتناني بطريقة ما . نفضت عني التردد ذات مساء وقلت : أتسمحين لي أن أدعوك إلى شراب يا مدموزايل درية ؟
فطالعتني بعينين حائرتين وقالت برقة : لا مؤاخذة يا أستاذ علي ، أنا لا أقبل دعوة من أحد .
- أرجو المعذرة .
ومع أنني قدّرت موقفها إلاّ أنني أخفقت في التخلّص من شعور بالضيق والحرج طوال بقية السهرة .
وألمّت بي امتحانات آخر العام الجامعي فصرفتني عن زيارة المرقص0 وما كادت تنتهي حتى مضيت إليه بشوق . وأخذت طريقي المعتاد إلى مجلسي بالقرب من دريّة . كانت تراقص شاباً وكأنها دمية من عاج . وما أن انتهت الرقصة حتى عادت إلى مقعدها بخطواتها الموزونة . ولاحت منها التفاتة إلى جهتي فتلاقت عيوننا . وخيّل إليّ أنها همّت بالنهوض والإقبال عليّ . كان سرورها برؤيتي جليّاً . زايلها الجمود وتألق وجهها وافترت شفتاها عن بسمة مشرقة . ولم تحّول عينيها عن وجهي طوال فترة الاستراحة .
تعالت أنغام الموسيقى ثانية فتقدمت إليها . وما أن خطونا في حلبة الرقص حتى تساءلت بلهجة مزيجة من الغبطة والعتاب : لماذا غبت كل هذه الأيام يا أستاذ علي ؟
أجبتها : شغلتني امتحانات آخر العام يا مدموازيل درية ، وهذه هي المرة الأولى التي أتملص فيها من المشاغل .
وللمرة الأولى منذ عرفت درية وجدتها مستسلمة لعواطفها . كان كل شيء فيها يعّبر عن غبطة عميقة .. نظراتها الحالمة ، وجهها الضاحك ، رقصها النابض بالروح . وراحت تميل على جسدي بين لحظة وأخرى فيلتصق صدرها الناهد بصدري ويلامس شعرها الناعم خدي . وقالت لي في الرقصة الثانية بلهجة مترددة : إذا كنت يا أستاذ علي تحب أن تدعوني إلى شراب فلا مانع عندي .
- يسرّني ذلك جدا يا مدموازيل درية .
قالت بتردد : ولكن ليس هنا .
- خارج المرقص ؟
أومأت بالإيجاب ووجهها يتورد .
غادرنا المرقص عقب الرقصة الثالثة ،واخترقنا الميدان ، وسلكنا شارع إبراهيم باشا . وقرّ عزمي على اصطحابها إلى مطعم في شارع الألفي . قطعنا معظم الطريق صامتين . كانت درية تسير بجواري وهي خافضة الطرف مضرجة الوجنتين . ودخلنا مطعماً أنيقاً تشعّ الأنوار من نوافذه . كانت موائده مزدحمة بالزبائن . وكان هواؤه المفعم بالعطر ، وبريق الحليّ في أنواره المتوهجة ، ووجوه زبائنه الناعمة تسبغ عليه جواً أرستقراطيا0 تقدمنني درية نحو مائدة خالية وهي تتعثر في خطواتها . وما أن انحطت على المقعد حتى تمتمت وهي تغتصب ابتسامة حائرة : أنا خائفة يا أستاذ علي .
- خائفة ! ممن ؟
- أنا لم أدخل في حياتي مطعما غالياً كهذا . وهؤلاء الناس الأغنياء00
قاطعتها في لطف : بماذا يتميّز عليك هؤلاء الأغنياء ؟! بمظاهر الأبهة لا أكثر .
فتجمعت في مقعدها متصاغرة وجعلت تتفحص فستانها في قلق مُمِّض . قلت محاولاً صرفها عن خواطرها : والآن ماذا ستطلبين يا مدموازيل درية ؟
تناولت قائمة الطعام ، وحارت عيناها بين الأسماء المتزاحمة.وقالت أخيراً : رز وملوخية .
- هذا طلب غير موفق . اسمحي لي أن أطلب لك أنا بنفسي .
وحضر النادل فقلت له : هات فراخاً محشو مع الرز والملوخية .
تطلعت إليّ درية في انبهار ، وكادت صيحة اعتراض تفلت من بين شفتيها . قالت باحتجاج حالما مضى النادل : لا ، لا أستاذ علي . هذا كثير جداً . كنا متفقين على شراب فقط .
_بالعكس يا مدموازيل درية ، هذا أقل ما يمكن أن أقدّمه لك .
_متشكرة جداً .
أحضر النادل الطعام ، فانبرت تتناول لقيمات صغيرة في حذر وقلق . وكانت تحاول أن تتجنبني بنظراتها طوال الوقت . قالت أخيراً بصوت متعثر وهي ترمي وجهي بنظرة سريعة : لا مؤاخذة يا أستاذ علي إذا كنت لا أتصرف كما يتصرف المدموازيلات : أنا لم أخرج مع أي واحد من قبل .
_أنا أعلم ذلك ، فأنت لا تقبلين دعوة أحد من رواد المرقص على شراب ، فكيف تخرجين معهم ؟! وكم أثار عجبي امتناعك هذا في الوقت الذي يتهالك فيه زميلاتك للحصول على زجاجة ككولا .
فقالت : لا تلمهن يا أستاذ علي فهن يبحثن عن لقمة العيش . إنهن مضطرات وإلا طردن من المرقص .
-ولمَ لا تطردين أنت إذن ؟
قالت وهي تخفض نظرها بحياء : أظن لأنني أحلى الموجودات .
وتردّدت قليلاً قبل أن ألقي عليها ذلك السؤال الذي أمضني طويلاً ، ووجدتني أقول : اسمحي لي أن أسألك يا مدموازيل درية . كيف ارتضيت لنفسك العمل في مثل هذا المرقص .. الوضيع ؟!
فشحب وجهها ، ثم احمرّ احمرارا شديداً ، وتسمّرت عيناها في الصحن .
وأخذت تتناول طعامها بحركة آلية وتلوكه ببطء . وهيمن علينا صمت تقيل ، وأدركت أنني قد أفسدت جلستنا . وبقيت حائراً لا أدري كيف أنقذ الموقف . ثم همست درية أخيراً دون أن ترفع أنظارها عن الصحن : وكيف يعيش إخوتي ؟
_أنا آسف يا مدموازيل درية ولست أدري كيف أعتذر لك عن هذا السؤال الفضولي . لكن وجودك في ذلك المرقص كان يبدو لي دائماً أمراً شاذاً لا يتناسب وشخصيتك .
فلاحت في عينيها نظرة كئيبة وغمغمت : ومن له حق الاعتراض على إرادة ربنا ؟ أنا مسؤولة عن خمسة إخوة أكبرهم في أولى ثانوي .
وسرعان ما توارت الكآبة من عينيها وانبسط وجهها ونظرت إليّ بهجة وقالت: ومع ذلك فأنت ترى أن ربنا لم يحرمني من السعادة فجعلني أتعرف بك .
فقلت : هذا ثناء لا أستحقه با مدموازيل درية .
عادت إلى درية بهجتها ، وأقبلت على طعامها في شهية ، ومضت تتحدث بانطلاق : أتعرف يا علي ؟ أنا لم أكن أحب أن أراقصك في البداية . كنت أحسب أنك مثل صديقك الذي جئت معه في المرة الأولى 0 ثم ظهر لي يوماً بعد يوم أنك تختلف عنه تماماً 00 تختلف عن زبائن المرقص جميعاً .فهم كلهم ينظرون إليّ بطريقة بشعة وكأنهم يريدون أن يفترسوني .أما أنت فمهذب ، رقيق ، حنون ، لا تفارق الابتسامة وجهك0 وكنت ألاحظك وأنت تختار مجلسك على مقربة مني دائماً وتسارقني النظر . أصارحك يا علي أن نظراتك كانت تضايقني في البداية . كنت أحسب أنها شبكة لاصطيادي . ثم بدأت أشعر بسرور وارتياح لها . وحينما دعوتني إلى شراب في تلك الليلة كنت أودّ من كل قلبي أن أقبل دعوتك ، لكنك تعرف ظروفي . فلمّا انقطعت عن المجيء خشيت أن تكون زعلت مني ولن تأتي مرة أخرى . ولمت نفسي على رفضي دعوتك . وكم كان مجيئك هذه الليلة مفاجأة سارة لي يا علي ! الحمد لله أنك لست زعلاناً مني . وكم أتمنى أن تحضر لزيارتنا في البيت وتتعرف بأمي ، وسأعرفك بإخوتي أيضاً . إنهم لطاف جداً . وسيحبونك . أنا متأكدة أنهم سيحبونك كثيراً .
كانت تتكلم بحرارة وعيناها تتألقان بعواطفها المشبوبة . وكنت أصغي إليها وأنا أهزّ رأسي وابتسامة باهتة تتشبث بشفتي . كنت أحاول عبثاً مواجهة نظراتها السعيدة . كانت عيناي تزوران على الرغم مني ناظراً ببلاهة إلى الموائد المجاورة . وفاضت جوانحي بشعور قاس ، مرّ ، مهين . وتعلّقت بذهني صورة زوجتي في الوطن البعيد 0 واستولى عليّ إعياء مفاجئ ، وشعرت بصداع أليم . وحينما غادرنا المطعم أيقنت أنني مريض .
سرنا صامتين وقد أشرق وجه درية بابتسامة سعيدة . ولم أجرؤ على النظر في عينيها . وبلغنا ميدان العتبة فقالت درية : لا مؤاخذة يا علي ، يجب أن أعود إلى البيت قبل أن تقلق أمي . سأراك مساء السبت في المرقص . أليس كذلك ؟
- طبعاً00 طبعاً .
وجمدت في موضعي أراقبها وهي تندسّ بين ركاب الترام . وظلت عيناي عالقتين بالترام رقم" 3 "وهو ينطلق مجلجلاً حتى غاب عن أنظاري .


سهيلة ونزار
- أريد أن أصحبك .
- هذا غير ممكن .
- ولمَ ؟
- لأن المكان لا يعجبك ولن تستطيعي البقاء فيه طويلاً .
وتجهمّ وجه سهيلة . لم يعد في وسعها أن تغالط نفسها . إن حب نزار ذهب إلى غير رجعة ، وإنه ليزداد زهداً فيها يوماً بعد يوم . ولمَ تلومه ؟ هذا هو شأن الفنانين . إن حبهم لا يدوم طويلاً . وإنها الآن تدرك لماذا قدّم لها قبل أيام كتاب حياة أعاظم الرسّامين وسألها أن تقرأه . لقد كان خير شاهد على هذه الحقيقية ، فمعظم أبطاله قد أحّبوا أربع أوخمس مرات في حياتهم . وكان حب البعض منهم لا يدوم أكثر من أسابيع معدودات . لكن نزار لن يفعل هذا معها . إنها لن تدعه يتخلّى عن حبها بهذه البساطة 0فهي لم تنعم بالحياة معه سوى شهور قليلة مرّت كالحلم . وهي لا تطيق الحياة بدونه ، لا تحتمل مجرد التفكير بذلك . ومن المؤكد أنها ستموت ، ستقتل نفسها .
اختلست سيلة من نزار نظرات مشغوفة وهو منهك في اختيار الألوان ومزجها في علبة الأصباغ . كان يرتدي سروال العمل الأزرق الملّوث بالدهان والبلوز الصوفي الأخضر الذي حاكته له بنفسها هذا الشتاء . وكم يبدو جميلاً في هذا البلوز 00كم يبدو جميلاً ! كانت واثقة أن اللون الأخضر الفاتح أنسب الألوان لبشرته 0 وشكراً لله ، فقد اقتنع برأيها وترك الألوان القاتمة التي كان يفضلها قبل الزواج 0 إن قامته كقامات أبطال كرة السلة ، وإن له شعراً فاحماً ممَوجاً وعينين بنيّتين واسعتين يضارع بهما أجمل ممثلي السينما . وكيف يمكنها العيش بدونه ، كيف ؟
-نزار ، أتحبني ؟
أجاب نزار دون أن يرفع أنظاره : طبعاً .
وهذا دليل آخر على انطفاء حبه . طبعاً .. يرد عليها بهذه البساطة وكأنها سألته إن كان يرغب في لون معّين من الطعام ! ولعله نسي كيف كان يعذبها ساعات، بل أياماً ، قبل أن يقول لها أحبك . وكم كان مقتصداً في قول كلمات الحب ، حتى في الشهر الأول من زواجهما ! ومع ذلك كانت موقنة آنذاك أنه يحبها بكل قلبه . أما الآن فهو مستعد أن يقول لها أحبك متى شاءت ، وهذا يعني أنه لم يعد يحبها حقيقة . إنها ليست بحاجة إلى برهان جديد0 فهناك مئات الشواهد على اعتقادها، بل إن حياتها الحالية معه بكليتها أسطع برهان . ومع ذلك فستقيم برهاناً جديداً الآن .
_نزار ، هذه الصورة ستكون أروع صورك .
تحوّل نزار عن علبه الأصباغ ، وتأمل الصورة الموضوعة على الحامل لحظة ثم تمتم وهو يعكف على عمله : ربما .
رمقته سهيلة بنظرات حانقة 0 وضغطت على قلم الرصاص فوق المنضدة فانكسر رأسه . كانت قد رسمت كلمة أحبك على ورقة بيضاء أمامها مراراً عديدة ، بخطوط ملتوية متشابكة . وتأملت الكلمة مفكرة 0 وتساءلت إن كانت قد فقدت حبه إلى الأبد ! إن سلوكه معها يؤكد ظنها بشكل قاطع 0 وقد سقط حتى في هذا الامتحان الأخير . إنه يرد على إطرائها في برود تام وكأنه يسمعه من شخص اعتيادي لا قيمة لرأيه . أهذا هو نزار حقاً ؟! نزار الذي عرفته في معرض الفنانين الشعبيين في قاعة كوبلنكيان ؟! و الحقيقة أنها لم تعجب حينذاك برسومه . لكن منظره بهرها حقاً حتى أنها همست في أذن امتثال وهما يمرّان به : " هذا الشاب أحسن صورة في المعرض " فأيدتها امتثال . وكان هو يقف بقامته الشامخة إلى جوار صوره وعيناه البنيتان تتفحصان زوار المعرض . فلما وقفت مع امتثال أمام صوره لاحظت من طرف خفي أن عينيه استقرّتا عليها . وكم شعرت بزهو ونشوة لتلك النظرات ! كانت ترتدي فستانها البنفسجي الذي ما تزال تعتبره أجمل فساتينها . وكانت ساحرة حقاً . كانت عيون زواّر المعرض تتبعها حيثما اتجهت ، الرجال مأخوذين بجمالها والنساء معجبات بفستانها . ولم تطل امتثال وقفتها أمام الصور وقالت : فلنذهب إلى مكان آخر يا سهيلة فأنا لا أفهم هذه الصور .
ولكنها أبت أن تغادر المكان برغم أنها لم تفهم الصور أيضاً . وقالت بصوت مرتفع : لمَ العجلة ؟! هذه الصور لا تفهم بسرعة .
وسمع ردها كما توقعت ، ولمحته يتقدم نحوهما بخطوات بطيئة ،ثم وقف وراءهما . وتلفتت حواليها فالتقت عيناها بعينيه . وقالت لامتثال وهي تردّد أنظارها بينه وبين زوار المعرض : ربما ساعدنا في فهمها المشرفون على المعرض .
فتساءل : هل من خدمة يا آنسة ؟
فقالت باسمة : كنت أحب أن أسال عن معنى هذه الصور .
ثم أشارت إلى صورة بدا فها حيوان غريب مطبقاً أسنانه على جسد شابة حسناء وتساءلت : ما معنى هذه الصورة مثلاً ؟
فأشار نزار بإصبعه إلى عبارة مكتوبة أسفل الصورة فقرأت : الحرية تناضل.
وتمعنت في عينيه البنيتين وقالت : إنها صورة رائعة بلا شك ، لكن جوّها الغامض يجعل فهمها صعباً .
فقال وهو يتأمل الصورة : أنا أتفق معك يا آنسة ، ولكن ما قيمة الفن إن كان بوسع كل إنسان أن يفهمه منذ النظرة الأولى ؟
وثار بينهما نقاش كانت خلاله هي المصغية معظم الوقت 0 ولم تكن في الحقيقة تصغي إلى نقاشه بقدر انصرافها إلى تأمل عينيه ووجهه وإعجابها بوسامته تتعاظم لحظة بعد أخرى .
وبدا لها أن تزور المعرض مرة ثانية . وارتدت فستانها البنفسجي ومضت بمفردها . وكان نزار كان ينتصب إلى جوار لوحاته وعيناه تتصفّحان الزوار . واختلست إليه النظر وهي تتنقل في أرجاء القاعة فرأت عينيه معلقتين بها . وما أن وقفت أمام لوحاته حتى تقدم نحوها وحيّاها وقال لها مبتسما: أظن أن من واجبي يا آنسة أن أشرح لك صوري ما دمت تزورين المعرض للمرة الثانية0
وأخذ يشرح لها الصور واحدة بعد الأخرى . وراحت تكيل له المديح بعد أن فهمتها ، فتلقى نزار مديحها بسرور بالغ . كان يبتسم ابتسامته العذبة ويقول وهو يدس يديه في جيبي بنطلونه : " إنني سعيد جداً لو جود زوّار مثلك يقدّرون الفن حق قدره . لكن أفراد هذه الطبقة قليلون جداً مع الأسف ، وإن الإنسان ليحتاج إلى منظار مكبّر ليبحث عنهم بين جموع هؤلاء الزوار" . أما اليوم فلم تعد لآرائها قيمة تذكر ، ويبدو أنه نسي أنها من تلك الطبقة القليلة التي يّبحث عن أفرادها بالمنظار المكّبر ! ولم يعد يتلقى أحكامها على صوره بتلك الحماسة والسرور التي كان يتلقّاها بهما من قبل ، والسبب واضح جداً . خير لها مائه مرة لو رفضت الزواج منه وظلت تحيط نفسها بجوّ غامض كما كانت تفعل أيام صداقتها 0 فالفنان يهفو دائماً إلى المجهول وإذا تكشفّت له أسراره فقد طرافته . بل إن وجودها في الاستديو غدا ثقيلاً عليه بدلاً من أن يكون موحياً له !
خبطت سهيلة المنضدة بقبضتها في عنف فطار قلم الرصاص إلى الأرض ، وتدحرج حتى استقر عند قدمي نزار 0 وهتفت بإصرار : سآتي معك .
وكان نزار قد فرغ من مزج الأصباغ فأغلق العلبة ، ثم رفع إليها أنظاره متسائلاً : أنت تعلمين أن ذلك المكان لا يصلح لمجيئك ، فما معنى هذا الإصرار ؟!
قالت سهيلة وهي تلقي بشعرها الأسود الطويل إلى الوراء : إنه ليس المكان بل سبب أخر .
- وما هو ؟
قالت وهي تحّدق في أظافرها القرمزية : أنت لم تعد تحب وجودي ، فلم لا تصارحني بذلك ؟
لاح الاستياء على وجه نزار وقال بانزعاج : أعدنا إلى هذا السخف يا سهيلة ؟
رفعت سهيلة رأسها وقالت بحدّة : نعم ، هذا هو السبب 0 هذه هي الحقيقة0 أنت لم تعد تحبني .
قال نزار وقد غام وجهه : قلت لك إن من الخير لي ولك نبذ هذه الأوهام يا سهيلة، أنا لا أستطيع أن اخصص وقتي كله لأؤكد لك في كل لحظة حبي . لديّ أعمال أخرى ومن المستحيل أن أفرغ لهذا الأمر وحده .
كان وجه سهيلة قد احتقن وتعكرت صفحته النقية . وكان ثمة عاصفة بكاء على وشك الانفجار . استمرت تقول بصوت مختنق : طبعاً ، طبعاً ، أنت مشغول بأمور أخرى أكثر أهمية ، وما شكوكي سوى أوهام سخيفة . لماذا لا تقول إنني حمقاء ؟
تعلّقت قطرات فضية برموشها الطويلة ، ثم سالت على وجنتيها . وأحسّ نزار بقبضة تعصر قلبه . ألقى بعلبة الأصباغ على المنضدة ، ثم دنا منها حتى واجهها وقال برقة : أنت تعلمين جيداً أنني أحبك يا سهيلة . أنت تعلمين هذا ، فلم تحاولين إفساد حياتك وحياتي بهذه الأوهام ؟!
وسكت لحظة وهو يحدّق في وجهها بعينيه المتضرّعتين ، لكنها ظلت مطرقة عابسة الوجه ، فاستمر يقول : هل تقدرين أن تقدمي لي برهاناً ملموساً واحداً على هذه التخيّلات ؟
حاولت سهيلة مواجهته بالبرهان الملموس فلم تسعفها ذاكرتها . إن من العسير حقاً تقديم برهان عملي على شكوكها. فرقة نزار ولطفه لم يتغيرا . لكن الأمر لا يتعلق ببرهان عملي بل بإحساس داخلي . فهي تحسّ إحساساً مفعماً أنها مصيبة . قالت فجأة وكأنها عثرت على الدليل : لو كنت ما تزال تحبني لرسمت صورتي .
فتحوّل عنها نزار وقد عاوده يأسه ، وقال في ملل : عدنا إلى هذه الموضوع .
فثار غضب سهيلة من جديد ، وهتفت محتدة : نعم ، حتى هذا الموضوع صار مزعجاً لك . طبعاً لو كنت ما تزال تحبني حقاً لرسمت صورتي .. أم تراني تغيرت خلال هذه الشهور وغدوت غير صالحة للرسم ؟! أنسيت كيف كنت تظهر في بداية تعارفنا إعجابك الشديد بي كنموذج للرسم ، وكيف كنت تلّح عليّ أن أسمح لك برسمي ؟! أما الآن فالإشارة إلى هذا الموضوع تجعلك عصبياً . لماذا ؟! ألأنني لا أستحق أن أستنفد جزءا من موهبتك بينما يستأهل الشحّاذون وذوو الوجوه الكريهة والأماكن القذرة أن تصرف على رسمها أياماً طويلة ؟!
تنهد نزار وقال بصوت يائس : أنت لا تحاولين أن تفهمي موقفي يا سهيلة ، أنت لا تريدين أن تفهمي .
وسكت لحظة ثم التفت إليها وقال بهدوء : كيف تتجاهلين رأيي في الرسم إلى هذا الحد يا سهيلة ؟! أنت تعلمين تمام العلم أنني لا أسخّر فني لمثل هذا الترف ، فعلى عاتقي واجب مقدس ، ويجب أن أكرّس فني لخدمة الشعب 0 ولا أفهم كيف تنسين أنني انبثقت من صميم هذا الشعب البائس وأن من واجبي أن أخدمه0
فهتفت سهيلة في غيظ : وأنا ؟ الست فرداً من هذا الشعب ؟ لماذا لا توجه اهتمامك إلىّ أيضاً ؟! أنت تمعن في إهمالي يوماً بعد يوم . أنت لا تهتم إلاّ بعملك .
وكان ثمة نار متأججة قد اندلعت في أعماق سهيلة 0 وكانت تتأمل غضبها المتّقد بدهشة وذعر ، لكنها عجزت عن كبحه . واستمرت تهتف بحدّة : أنا لم أعد بالنسبة إليك سوى قطعة من أثاث المنزل ، قطعة لا تستحق الالتفات . ومتى يمكنني أن أتحدث إليك كما تفعل الزوجات مع أزواجهن ؟! أنت مشغول دائماً . وإذا رافقتك في الأستديو فليس لي أن أتكلم بحرية لئلا يطير الوحي منك . وإن وقتك ليضيق عن زيارة أصدقائنا ، ويضيق عن اصطحابي إلى السينما . وقد مضى على آخر فلم شهدنا معاً أكثر من شهر . ولم يكفك ذلك فحرّمت عليّ حتى مرافقتك إلى أماكن الرسم . ومع ذلك فأنت تزعم أنك تكرّس فنك لإنقاذ الشعب البائس . إنك لا تعمل على إنقاذه من بؤسه في الحقيقة بل تضيف إليه معذبين جدداً . وكيف يمكنك إنقاذ الشعب برسومك غير المفهومة هذه، كيف ؟!
كان نزار يحاول طوال الوقت ضبط أعصابه ، لكن عبارتها الأخيرة ألهبت غضبه . وهمّ أن يخرسها بصيحة غير أنه تمالك نفسه وغمغم وهو يدير إليها ظهره : المناقشة معك عقيمة فأنت لا تريدين أن تفهمي الموقف .
والتقط علبة الأصباغ بعجلة ، وتأبط لوحة الرسم والرافعة الخشبية وفارق الأستديو مسرعاً .
أوسع نزار خطواته في الشارع وكأنه يهرول . كان صراخ سهيلة ما يزال يدوّي في أذنيه فيثير بين جوانحه انزعاجاً حاداً . إنه ليكاد ينكر سهيلة ولا يصدق عينيه ، فليس من عادتها الصراخ . لقد كانت هادئة دائماً فيما يشجر بينهما من خلاف 0وكانت تعدّ الصراخ لدى أصدقائه أبرز الدلائل على تخلفهم . وها في الآن تصرخ في وجهه بكل ما أوتيت من قوة ! لماذا ؟! لأي سبب ؟ إنه لا يعرف له ذنباً . ولا بد أن ثمة خطا ما . لا بد أن أمراً قد حدث لها . فهذه ليست سهيلة ، ليست سهيلة الوديعة اللطيفة . إنه عاجز عن فهم أسباب تغيّرها .وإن طباعها لتشتد خشونة يوماً بعد يوم . لقد بدت له في أوائل تعارفهما امرأة ممتازة جمعت كل الصفات الحسنة كانت لطيفة ، ذكية ، شغوفة بالفن . وكثيراً ما سهرت معه ليالي طويلة في الشهر الأول من زواجهما لتشهد اكتمال صورة من صوره . وإنه ليتذكر كيف صمّم ذات ليلة على إنجاز إحدى صوره 0 وكيف سهرت معه حتى الصباح . كانت تجلس على الكرسي الخشبي الطويل في الأستديو مسندة ظهرها إلى متكئه وعيناها لا تتحوّلان عن الصورة . وكان النعاس يهاجمها بإصرار فتقاومه بصلابة وعناد . وكان رأسها يسقط على صدرها بين حين وآخر فتنتبه مذعورة وتختلس إليه النظر لئلا يكون قد شهد ذلك . وعبثاً حاول إقناعها بالانصراف إلى الفراش ، وعبثاً تظاهر بالتعب وحاول تأجيل العمل إلى الغد0 فقد أصرّت على البقاء في الأستديو حتى تنجز الصورة . لكن هذا الحماس اختفى مؤخراً0 فهي تعلن تبرّمها وضيقها باستمرار من انهماكه في الرسم0 ونسيت أن الرسم أهم شيء لديه في الحياة ، وأنه بالنسبة إليه كالماء للسمكة . وظن في البدا أن هذا التبرّم نزوة طارئة ، وحسب أنها ستزول سريعاً . لكنه أيقن الآن أن تقديره كان خطأ . فقد اشتدت كراهيتها للرسم ، والله يعلم إلى أي مدى ستصل . وماذا سيفعل حينئذ ؟ ماذا سيفعل ؟! إنها تعلم جيداً أنه عاجز على هجرها ، إن مجرد وجودها على مقربه منه ، في " الأستديو" في غرفة النوم ، في أحد أركان المنزل ، ليملأ نفسه غبطة ، غير أنه عاجز عن هجر الرسم أيضا . وليتها تفهم هذا ، ليتها تفهم موقفه جيداً .
انتبه نزار من أفكاره على صخب الأطفال فتوقف عن السير . كان قد بلغ موضع الرسم في كامب الصليخ ، لكن البقعة التي اعتاد اختيارها قد غمرتها المياه الآسنة0 وتطلع حواليه مفتشاً عن بقعة مجاورة يحافظ فيها على زوايا الصور . وراقبه بعض الأطفال الحفاة الممزقي الثياب في نهيّب ولهفة0 وكان قد أعتاد أن يمنح بعضهم نقوداً ، ويلاطف البعض الأخر ، غير أنه لم يحسّ تلك اللحظة برغبة في ذلك . واتجه بصمت نحو بقعة جافة دون أن يلتفت إليهم ، ووضع أدواته على الأرض . وهيأ الصورة ، وأعدَ الألوان ، ثم بدأ بالعمل . وراقبه الأطفال بأنظارهم المتلهفة دون أن يجرؤوا على الاقتراب منه ، ثم انصرفوا إلى لهوهم يائسين .
أكبّ نزار على الرسم وهو يشعر بضيق شديد ولم يفهم السبب00 ربما كان مرجع شعوره هذا إلى الرائحة القوية التي تنبعث من المستنقع المجاور . ولقد أحسن صنعاً برفض طلب سهيلة ، فلو قدمت معه لما احتملت البقاء أكثر من دقائق معدودات . وإنه لواثق أن من الخطأ اصطحابها إلى مثل هذه الأمكنة . فليس وراء ذلك سوى تبديد الوقت . صحيح أنها كانت تلقى في صحبته إلى مثل تلك الأماكن متعة في الشهور الأولى ، غير أنها لم تعد تطيق ذلك الآن . وكلما رافقته إلى أحد أحياء الفقراء أصرّت على العودة سريعاً ،وأخذت تلح عليه في الكفّ عن رسم تلك المواضيع ، وإنه لمندهش من هذا التحول الغريب في أفكارها وصحيح أنه تنتمي إلى الطبقة كانت شعبية في ميولها ولا يتذكر أنها عارضته يوماً وهو ينتقد أولئك الفنانين الذين يقصرون فنهم على مواضيع الترف . وكانت تسميهم هي نفسها فناني الصالونات وكم كانت تبدي ارتياحها لأنه ليس من تلك الزمرة . وقد قالت له مرّة أيام صداقتهما في شيء من الدعابة أنه لو انضم إلى فناني الصالونات لقطعت صلتها به . أما الآن فهي تأسف على الوقت الذي ينفقه في رسم الحياة الشعبية ! وينبغي له أن يذكّرها دائماً بفلسفته في الرسم 0
كفّ نزار عن العمل ، وتراجع بضع خطوات إلى الوراء وتأمل الصورة وقتاً ، ثم حوّل أنظاره إلى بيوت الحيّ . كانت شمس العصر تلقي على الأكواخ المتزاحمة أشعة صفراء فاقعة . وكان بعض العجائز يجلسن أمام الأكواخ في كسل وتراخ وجيوش الذباب تحلق فوق رؤوسهن . وانتشر الأطفال بجوار البرك الأسنة يلعبون في خمول . وبدا لنزار أن جواّ من الكآبة يخيّم على كل شيء .. على البيوت الطينية الحقيرة ، على وجوه الأطفال والعجائز الشاحبة ، على الأقذار والبرك الآسنة . وعاد يتمعن في الصورة وهو يهز رأسه متأملاً . لا شك أنه عبّر عن بؤس هذا الحيّ تعبيراً جديداً . وقد مثّل البيوت بفجوات مظلمة كفوهات القبور ، والأطفال والعجائز بمخلوقات غريبة ذات أجسام هزيلة شوهاء وعيون بارزة ورقاب طويلة 0 ومع ذلك فهو يحسَ أن شيئاً ما مفقود في الصورة . ربما كان تلك الروح الخانقة الكئيبة التي تكلكل على الحيَ .
استأنف نزار عمله وقد اعتراه الفتور . من المؤسف أن الذين يبذل من أجلهم كل هذه الجهود يعجزون عن فهمه ، فهم لا يحبون فنه ، وصوره لا تلقى صدى في نفوسهم . والذنب على أية حال ليس ذنبه بل ذنب الجمهور ذي الذوق البدائي . فهو لا يمكنه أن يرسم بالأسلوب التقليدي و إلاّ فقد أهم ميزة للفنان وهي الابتكار ، غير أنه لا يلوم الجمهور فسيحلّ يوم يقدّرون فيه فنه حق قدره . والذي يحز في نفسه إنكار الفنانين لمقدرته وهم أعلم الناس بها0 فهم يدركون تمام الإدراك قيمة إيداعه في الأسلوب والألوان والمواضيع ، ولا يمكن أن يدانيه أحد منهم في ضربات فرشاته ، لكن حسدهم يمنعهم من الاعتراف بالحقيقة . وقد اتخذوا من عجزهم في نبذ الأسلوب التقليدي حجة لاتهامه بالغموض . وراحوا يحاربونه ليؤثروا على عقول الجمهور ويصرفوا أنظارهم عن صوره . ولم يكن يأبه لمحاولاتهم من قبل ، لكنه أدرك الآن مدى تأثيرهم على الآخرين ، فقد بدأت سهيلة نفسها تؤمن باتهاماتهم .. سهيلة التي كانت آخر إنسان يمكن أن ينحاز إلى جانبهم كان تحمّسها لصوره يبلغ حدّ الهوس 0 وقد تخاصمت مع امتثال وهي أعز صديقاتها لأنها أصرّت على القول بأن صوره لا يفهمها أحد0 وكانت تؤمن أن أي صورة من صوره تضاهي عمل أيّ فنان عالمي ! وكان من جانبه يعتز بإعجابها ويسرّ له في أعماق نفسه ، رغم اعترافه بضحالة ثقافتها في فن الرسم .وإنها لخسارة حقاً أن يفقد معجباً كسهيلة ، لكن هذه الخسارة جزء من تضحياته في سبيل خلق فنّ ذي أسس راسخة من الإبداع والتجديد .
وأصل نزار عمله وفتوره يتنامى لحظة بعد أخرى . وخالجته رغبة قوية في الكفّ عن العمل ، لكنه ظلّ يقاومها . وأتم اللطخات النهائية للبيوت ثم تراجع إلى الوراء بضع خطوات وتأمل الصورة0 بإمعان 0 وبدا له فجأة أن الصورة سخيفة لا معنى لها ، أنه يبدد حياته لغير سبب واضح ، أن الاستمرار على هذا المنوال حماقة كبرى . وجمع أدواته مسرعاً وانقلب إلى البيت .
وفي الطريق اقتنع مرة أخرى بشكل حاسم أنه لا يستطيع الحياة بلا رسم ، بلا كفاح في سبيل الشعب ‘ بلا سهيلة ، وأن الكفاح والرسم وسهيلة جزء واحد لا يتجزأ ، وينبغي له أن يصمد أمام الصعوبات حتى يفلح في هدفه . وأسرع الخطو وقد تملكه حماس مفاجئ ، وودّ لو يصل في نفس اللحظة إلى البيت ليحدّث سهيل بكل آماله . لكن سؤالاّ حائراً قفز إلى رأسه وأخذ يقرع جمجمته في ألم ممض : كيف أجعل سهيلة تفهم الموقف ، كيف؟

الكسيح

التقيت عبد الحسين في بستان كنت أختلف إليه بصحبة كتبي لأخلو بنفسي . إذ لم يكن بيتنا الصغير الضيق يوفر لي الراحة . فهناك شقيقاتي الأربع اللواتي يصرفن النهار في الحديث مع بعضهن أو مع الجارات الرائحات الغاديات لملأ أوعيتهن من مياه الإسالة أو لاستعارة شئ أو لقضاء الوقت . وهناك أختي الصغيرة التي تنفق بياض النهار في بكاء مثير للأعصاب وكأنه هوايتها الوحيدة . وهناك أطفال الطريق الحفاة اللذين اتخذوا زقاقنا ميداناً للعبهم ، وراحوا يصلون الليل بالنهار في زعيق وعراك وسباب . وكان ذلك كله يزيد من المتاعب النفسية التي تعصف بي .. طرد من الكلية ، وضيق مالي ، وحرمان عاطفي ، وقلق وسأم .
وكان عبد الحسين يحضر دوماً ليجمع ثمار أشجار الرمان والتفاح التي اشترى محصولها لذلك العام . وقد أعجبني منذ وقعت عليه عيناي . فوجهه الناصع البياض يفيض بالبشاشة ،وملامحه الدقيقة تنم عن نفس طيبة ، ولحيته الرمادية القصيرة توحي بالهيبة والوقار0 وكانت أحاديثنا في بدء تعارفنا لا تتجاوز التحية وتبادل عبارات قصيرة . ثم تنوعت مواضيعها حتى قال لي يوما وقد بدا التردد على وجهه : عمي رؤوف .. أريد أسألك سؤال .
فقت : تفضل .
فقال : عمي شعجب تقضي وقتك بطّال ؟
فأجبته : أنا مرغم على ذلك يا عمي عبد الحسين فالكلية فصلتني لبقية العام الدراسي لأني اشتركت بمظاهرة احتجاج ضد الحكومة .
فهتف بدهشة : عجايب ! جا لعد منو اللي راح يفتهم الوضع أحسن منهم ؟
فقلت : لا تستغرب يا عمي عبد الحسين .. قليل من أمور بلدنا تتماشى مع المنطق السليم .
فقال مؤمناً على كلامي بهزّ رأسه: عمي صحيح .. هو شنو الماشي حسب الأصول عندنا .. أشو الواحد مثلاً يا شي اللي يمدّ إيده عليه يلكا غالي . والفلوس تطب منا وتطلع منا .. متنكمش مثل الزيبك . الواحد ما يكدر يجمع له جم قرش ذخر لأهله ما يدري يا جر شيصير ما يصير بي .. بيا ساعة يدير وجهه.
فقلت:هذا صحيح ،ولكن الحمد لله إن صحتك جيدة يا عمي عبد الحسين . وغداً يكبر أولادك ويعاونوك في تدبير معيشتهم 0
فقال بلهجة مرة : وين عمي ؟! شفايت لي لو الله منّ عليّ بالها لنعمة ؟
فسألته: يعني ما عندك أولاد؟
فقال بمرارة: الله رزقني بولد واحد 0
فقلت: فيه الخير والبركة، وغدا يحل محلك0
وانقطع الحديث بيننا،وهبطت على عبد الحسين فجأة كآبة ثقيلة0 ثم نهض متثاقلا وألقى التحية بتمتمة خافتة وانصرف 0
حينما اختفى عبدالحسين جعلت أراجع حديثنا بدقة 0 بماذا تفوهت فمسست جرحا في قلبه؟ وبدا لي إن الكلام عن ولده مسؤول عن حزنه الفجائي0 ولكن لماذا تأثر لذكر ولده ؟ كانت لهجته في الحديث عنه تشي بحزن غريب0 ترى ماذا وراء هذا الحزن من سر؟
وشغلني هذا السر ولم أستطع إبعاده عن ذهني0 جربت في الأيام التالية أن أسوق عبد الحسين للخوض في شؤونه الشخصية كي يفصح عن سره0 حدثته عن نفسي ، عما ألاقيه من صعاب في حياتي، عن المجرمين الذين وقفوا في طريقي وأضاعوا عاما من حياتي، علّ تلك الأحاديث الشخصية تشجعه على الإفضاء إليّ بذات نفسه 0 لكن جوابا واحدا ظل يردده كلما فرغت من الحديث :" هذي دنيانا يا عمي رؤوف 00شسوّي ؟" وبت أتحرق شوقا لذكر ولده0 وكلما طال صمته التهبت حماستي 0كنت أخشى مفاتحته بالسؤال عن ولده لئلا أذّكّره بآلامه0 ثم وجدتني ذات يوم أسأله فجاة :كيف حال ولدك يا عمي عبدالحسين؟
فأجاب باقتضاب :على الله0
وركن إلى الصمت0 فقلت :الحقيقة أنني أحب معرفته يا عمي عبدالحسين0
فانتفض كالحيوان الجريح وهتف بانزعاج:عمي شتعرف منّه؟ واحد صكط ملتهي ببلواه0
فقلت بتأثر: متأسف0
بقي عبدالحين بضع دقائق مطرقا0ثم رفع رأسه وقال ببطء: والله عمي أنت عزيز عندي00لكن ما أدري شجاني0
فقلت بلطف: لا داعي للاعتذار يا عمي عبدالحسين0
فصمت قليلا ثم قال:تريد الصدك يا عمي رؤوف؟ آني ملّيت من الناس وعمايلهم0 بس يعجبهم يتفرجون على مصايب غيرهم0وآني ما شاء الله مصيبتي هينة00الله رزقني بولد واحد وكّرمه!بالله عليك00هالطفل هذا شنو ذنبه؟ باجر إذا متت شراح يسوّي؟وهالمرّة فوق همي الله سلّط عليّ ناس أراذل متغرّضين لي ويمكن باجر عكبه يكتلوني عبن آني ضمنت فواكه هاي البستان بدلهم حق أطكطك بيها يالتكّان أحسن ما أشتري من بره . زين إذا صار عليّ قدر شلون راح يعيش هذا بين الناس اللي ما عندهم رحم ولا إنسانية ؟!
فقلت بلطف : الحق معك ولكنك مبالغ في تخوّفك يا عمي عبد الحسين .
فقال باستنكار : ليش عمي أنت ما تعرف الوضع ؟! أشو كتلة الإنسان صارت مثل كتلة الجلب .
فقلت : ولكن ليس إلى هذا الحد يا عمي عبد الحسين . وأنا أعتقد أن الأخ ليس عاجزاً عن العمل رغم عاهته .
فقال وهو يهز رأسه : والله هو يشتغل فوق بلوته ما مقصر .
وصمت لحظة ثم قال :متشرّفنا فد يوم بالتكّان .
وكنت أنتظر هذه الدعوة بلهفة . فقلت بحماس : أتسُرّف .
وكان أول شئ عملته في الصباح التالي هو المرور بدكان عبد الحسين ، لكن ولده عياس لم يكن موجوداً ، وأعدت الكرة عصراً فرأيته00 شاب في حوالي العشرين من عمره يكاد يكون نسخة من أبيه . بشرته الناصعة البياض المشوبة بحمرة خفيفة ، ملامحه الدقيقة ، عيناه الصغيرتان ، بسمته المشرقة . كان مقتعداً كرسياً منخفضاً من القش و ساقاه مختفيتان في ثوبه الفضفاض 0 ولم تكن تبدو عليه دلائل المسكنة التي ترتسم عادة على وجوه المنكوبين.
ورأيت عباس بعد ذلك كثيراً وتحدثت إليه . فقد صار من عادتي أن أمر بالدكان بين حين وآخر . وكنت ألاحظ من دلائل حبّ أبيه له ما كان يدهشني . كان يعامله كإنسان كامل . وكان يعهد إليه بأعمال قد لا يستحسن العهود بها لمن تشلّه عاهة عن الحركة . فكنت أعجب كيف أبدى لي يوماً من الرثاء له ما أوحى إليّ بأنه يشك بقدرته على العيش بنفسه.
***
استيقظت ذات صباح في ساعة متأخرة كعادتي وإذا بأخواتي يتحدثن في ضجة وصخب ، فخرجت إلى باحة الدار منزعجاً وقلت باستياء : ابتدأت اللغوة من الصبح ؟!
فسكتت أخواتي ، ثم قالت أختي الكبرى مكيّة بلهجة مترددة : مو اكو واحد بالدربونة اليم دربونتنا ذابحيه البارحة بالبستان اسم الله عليك .
فهتفت بارتياع : من ؟ عبد الحسين العباس ؟
فنظرت إليّ بدهشة وقالت : شمدرينا والله عيني يمكن هوّ .. خطيةّ المكرود يكولون عنده ولد مَكرّم .
هرعت إلى ملابسي عجلاً وجريت إلى منزله . واستقبلني صراخ النساء وعويلهن من بعيد. وكان عشرات منهن يتجمعن على باب الدار وفي الزقاق وهن يتحدثن باهتمام . وحاذيت جمهرة منهن فقلت وكأنني أخاطب نفسي : دفنوه ؟
فقالت إحداهن : ليش يمته خلَوهم الظلاّم يجيبوا للحوش حتى يدفنوه ؟! أخذوه للقصطخانه حتى يقطعوه الله يكطع ركابهم .
فأسرعت إلى المستشفى . ولم يكن هناك من معارفه سوى ولده عباس . ولمحته من بعيد وهو متجمع على نفسه في إحدى زوايا الردهة الخارجية وقد امتدت ساقاه الكسيحتان أمامه. ودنوت منه . كان متكئاً إلى الجدار وهو ساكن الحركة وكأنه استحال إلى قطعة من الحجارة . وكان وجهه جامداً لا أثر فيه للحياة . وكان خيطان غليظان من الدمع يجريان على خديه باستمرار وينحدران إلى عنقه . وهتفت به في تأثر : صحح عملوها به يا عباس ؟
فأفاق من جموده وصاح بصوت باك : خويه رؤوف .. كتلوا أبويه .
واغرورقت عيناي بالدمع . قلت : هل يمكنني أن أراه ؟!
فأجاب وهو يواصل نحيبه : خويه كتلوا لأبويه .. خويه كصوا رأسه .. كصوا راسه خويه .
وتركته وهو ينوح وأسرعت إلى ردهة التشريح . كانت رغبتي قاهرة في رؤية عبد الحسين للمرة الأخيرة . وأفلحت في غرضي أخيراً . ووقفت جامداً أمام جثته الممددة على طاولة التشريح أحدق فيها وأنا أحسّ بغثيان ودوار شديد . أية وحشية تلك التي تنطوي عليها نفس الإنسان ؟ وكيف تمتد يده بالسكين إلى عنق إنسان مثله فتذبحه كما تذبح الشاة ؟ ما أحقر هذه الحضارة المزيفة التي لم تمسّ جوهر الإنسان المتوحش فتغيره أو تصقله !
لم أنقطع عن عادتي في المرور على دكان المرحوم عبد الحسين وأنا في طريقي إلى البستان لتفقد أحوال عباس . وكانت حاله تثير في قلبي حزناً لاذعاً . فقد حطّم مقتل أبيه روحه المعنوية. تلاشت النظرة المتفائلة من عينيه وحلت مكانها نظرة قاسية . وراح يقضي الساعات وهو صامت ساهم . وبدا عاجزاً عن العمل . قال لي ذات يوم وهو عابس الوجه : أكولك00 ليش ما د تكمش الشرطة قاتل أبويه ؟
فأجبته : لا يجوز أن يقبضوا على أحد بدون أدلة كافية يا عباس .
فقال في حدة : ليش هوّ القاتل ما معروف ؟
فقلت : مهما يكن الأمر فلا يصحّ القبض على متّهم لم تتوفر الأدلّة ضده فاصبر يا عباس .
فقال في ثورة : وإلى متى أصبر ؟
فقلت : إن شاء الله لن يطول صبرك .
فسكت على مضض وهو مكفهر الوجه . ولم ينقطع عباس يوما عن الذهاب إلى مركز الشرطة والسؤال عن قضية أبيه . وكان ذلك يضطره إلى إغلاق الدكان أغلب ساعات النهار . وحاولت أن أصرفه عن ذلك فقلت له يوماً : لابد أن تنصرف إلى شغلك يا عباس وتترك المسألة بين أيدي أولي الأمر .
فنظر إليّ باستنكار وقال : تريدني أعوف قضية أبويه وأدير بالي على شغلي؟! ليش شراح أقبض من الشغل ؟
فقلت : وكيف ستدبر أمور معيشتك إذن ؟
فقال في احتقار : وشلّي بها العيشة الزفرة ؟ أبويه تأكل بي الدود والقائل يمشي بطوله.
فقلت : ولكنك ستجوع إن أهملت العمل بهذا الشكل يا عباس فدكانك يكاد يكون خالياً من البضاعة .
فأجاب : للمقبرة .. ليش آني دا أشوف للأكل طعم من يوم ما مات أبويه ؟1
وصمت لحظة ثم قال وهو تائه الأنظار : ما راح أكدر آكل اللقمة مثل ما يأكلوها الناس إلا يوم ما أشوف قاتل أبويه متعلك من ركبته وديرفس بالهوا .
وومض في عينيه بريق مخيف وصرّ على أسنانه كذئب يطبق فكيه على فريسته . وأدركت منذ ذلك اليوم أن من العبث نصحه . لكنني ظللت ألاحظه وقلبي يتمزق أسى . فقد اشتد هزاله يوماً بعد يوم ، واستحال احمرار وجهه إلى اصفرار فاقع . واسودت أجفانه وبدا في عينيه الإجهاد والكلال . ولم يعد دكانه يحوي سوى القليل من الفواكه التالفة 0 وقال لي يوماً وهو مقطب الوجه : البارحة من راجعت الشرطة طردوني.
فهتفت باستنكار : وكيف ذلك ؟
فقال وهو مربدّ الوجه : لمّن شافني مفوّض التحقيق صاح بوجهي : ولك أنت ما ابتلينا بيك وبأبوك ؟ متروح أنت تدوّر على اللي كتله .
فغمغمت متألما : كلاب .
وصمت عباس مقهوراً . ثم تمتم وهو يضغط على مخارج الألفاظ وأنظاره مسّمرة في الارض : يكول لي روح أنت دوّر على اللي كتل أبوك .. ليش الله عرف ينطيني رجلين سويت الأوادم حتى أراوي لهذا منو ربّه ؟! لو بيّه خير كان خلّيته لهذا متمتع بدنياه يوم واحد ورا أبويه ؟ لكن مع الأسف الله صكطني .. الموت أحسن لي من ها الحياة .
وتحولت أنظاره إلى ساقيه الملتويتين اللتين تقلصت قدماهما فبدتا ككرتين صغيرتين . ونفث من صدره حسرة طويلة وكأنه نفث معها جزءاً من قلبه ! وأحسست بقشعريرة باردة تسري في ظهري ، وآمنت أنه لن يتردد في تمزيق جسد قاتل أبيه بأسنانه لو كان ذلك باستطاعته . وقلت له مواسيا : لا تيأس يا عباس واصبر فلا بد للقاتل ان ينال جزاءه .
فقال باستياء : يعني شلون ؟ أجوز من قاتل أبويه ؟ وإلى متى أظل صابر ؟
فقلت : ولكن يا عباس هذه ليست الطريقة الصحيحة للإسراع بمعاقبة القاتل .
فقاطعني بحدة : لعد شسوّي ؟ أكدر آني ألزمه للقاتل وأخنكه بيدي ؟!
لو أكدر ما جان رحت كل يوم لها المناعيل الوالدين أتذلل إلهم .
فقلت مترفقا : أرى يا عباس أن تترك هذا الأمر للحكومة فمن واجبها معاقبة القاتل . وأرى ان تنتبه لعملك لتعيّش أمك وتعيش نفسك . ماذا تعمل إذا نفد المبلغ الذي خلفه لك أبوك المرحوم ؟
فلبث صامتاً برهة طويلة وهو محنيّ الرأس ثم تمتم : آني أدري لويش أنت دائماً تعيد عليّ هذا الكلام 00حتى ما تراجعهم وتكلهم يكمشون القاتل ..
فقلت في شئ من التأثر : ولكنك تعلم يا عباس أنني فعلت كل ما بوسعي في هذه القضية . وقد وضعت بين أيديهم كل ما أعرفه عن الجريمة وبقى عليهم أن يقوموا بواجبهم وهذا يحتاج إلى وقت . وتأكد أنه لو كان باستطاعتي ان أفعل أي شئ آخر لفعلته .
فهز رأسه وتمتم في خيبة مرة : أنا ما عندي غير الله .
منذ ذلك اليوم قل مروري بتكان عباس . وكنت أراه مغلقاً في غالب الأحيان . وتصرمت أسابيع عدة . وبينما كنت أجتاز السوق ذات يوم ناداني عباس من بعيد . ولما دنوت منه طالعني وجهه النحيل وقد اشتد اصفرار وغارت عيناه . وتأملت وجهه بوجوم . وتمثلت صورته يوم كان أبوه حّيا .. شتان بيت الصورتين . قال بصوت مرتجف وشفتاه ترتعشان : خويه رؤوف .. سوّي لي جاره .. وين أروح .. وين أو لي .. إلمن أشتكي ؟
فقلت باهتمام : خيراً يا عباس ؟
فقال بلهجة منكسرة : اليوم لمن راجعت الشرطة طردوني وكالوا لي القضية انسدّت لعدم العثور على القاتل .
فهتفت بحنق : كلاب .
فاستمر يقول بلهجته الذليلة : خويه باصرني .. وين أروح .. إلمن أشتكي ؟ .. يعني آني جا واحد فقير يطردوني ؟ جا أبويه ما عند ظهر تروح كتلته بالهواء ؟ أخويه رؤوف .. يصير تروح كتلة أبويه بالهوا ؟
فقلت بألم : قيمة الإنسان ضائعة في هذا البلد يا عباس .
فقال وقد صرعه يأس هائل : لعد شلون خويه ؟ شسوّي ؟
فتمتمت مخذولاً : إذا حفظت القضية فستظل كذلك إلى أن يظهر دليل جديد . ولكن كيف يظهر الدليل بدون تحقيق ومن دون أن يهتم بالأمر أحد ؟
تمتم عباس بلهجة منسحقة : شلون لعد خويه ؟! كتلة أبويه تروح بالهوا؟! خويه أنت شلون تقبل ؟ شلون تروح كتلة أبويه بالهوا ؟! خويه سوّي لي جاره" .
وهيمن علينا للحظات صمت مقبض . ثم انفجر عباس في بكاء عنيف ، وراح ينشج نشيجا مراً وهو يردد : أبويه قتلك راح بالهوا .. أبويه قتلك راح بالهوا ..
وتصبب جسدي عرقا باردا وعصف بي ألم مرض . ثم قمت صامتاً وأنا أعاني من دوار في رأسي وجفاف في حلقي .
في الصباح التالي استيقظت على صخب أخواتي وعلى صوات يترامى من الزقاق المجاور. فسألت مكيّة عن سبب الضجيج فقالت متوجعة : عباس المكرم شنق نفسه بعيد عنك .

الصيف
اندفع سيل الموظفين من مكاتبهم حالما أشارت الساعة إلى الثانية ، وحمل هذا السيل معه حمدي عبود الموظف في وزارة العدلية . وعند الباب الكبير للقشلة التصق حذاؤه بالجير المائع ، فقطع طرف الجريدة ومسح الجير لئلا يلوث بنطلونه . ومرّ بمحمد الأسود وهو يجلس في موضعه المعتاد عند التقاء شارع المتنبي بسوق السراي فلم يتوقف شأنه كل يوم ، وردّ على ابتسامته العريضة بإيماءة سريعة . فهو لا يستطيع أن يقف تحت وهج الشمس لينتقي بطاقة يانصيب، وهو لم يعد يؤمن بحظه على أية حال . وعند التقاء شارع المتنبي بشارع الرشيد وقف حمدي على الرصيف المظلل يفكر حائراً .. أيواصل السير إلى باب المعظم ليقتصد ثمن تذكرة الباص أم يستقل الباص من هذه المحطة ويضحي بالأربعة عشر فلساً ويتقي شرّ الحرّ ؟ ومرّ بجواره حمّال ينوء ظهره بخزانة ضخمة وقد التصق ثوبه المبلل بجسده . وتخاطفت السيارات الأمريكية أمام عينية. تأمل بقع الجير المائع أمامه وقرر أن يستقل الباص . وتأهب لعبور الشارع إلى الجانب المقابل فلمح امرأة كاعبة النهدين تقبل نحوه ، فترقب بلهفة وصولها . كانت ذات بشرة عاجية وعينين زرقاوين وشعر ذهبي ملتف من الخف في كرة جميلة . وكان فستانها الشبيه بقميص داخلي ينحسر عن صدرها الرحب وثدييها الناضرين .
اتجهت المرأة نحو باب المعظم فمشى وراءها وكأن قوة مغناطيسية تجذبه جذباً . لا شك أنها أوروبية ، وربما كانت ألمانية ، فقد سمع كثيراً عن جمال الألمانيات وعن أجسادهن الريانة . ويا لها من حياة يمضيها المرء في بلاد الألمان الجميلة بين هؤلاء النسوة الرائعات ! أفتحسب حياته هذه حياة ؟! انعطفت المرأة في شارع مقهى الزهاوي وتوقفت عند سيارة أمريكية فاخرة . فوقف يتابع حركتها حتى انطلقت بها السيارة صوب الباب الشرقي . وخيّل إليه أنها ودعته ببسمة خفيفة . واصل سيره ومزيج من عواطف الشوق والأسى يتجاذب قلبه .
وسبح جسده بالعرق ، والتصق قميصه بجسده . كانت خيوط العرق تنحدر على مؤخرة عنقه وعلى خديه باستمرار . فلم يعد يعبأ بتجفيفها فسرعان ما تنحدر خيوط غيرها !
كانت محطة باب المعظم مزدحمة كالعادة 0 وكان بعض المنتظرين يقفون خارج المظلة ليسبقوا الآخرين . ولكن حمدي فضل الوقوف تحت المظلة ليتقي أشعة الشمس . أقبل الباص فانقض عليه جمهرة من المنتظرين وتدافعوا في خشونة ووطيء بعضهم بعضاً . وأقبل " الباص " الثاني ، ثم الثالث ، ثم الرابع دون ان يخف الزحام . وابتلّ قميص حمدي كليّاً ، فخلع سترته ووضعها على ذراعه . ولم يكن يحب التخلي عن سترته ، فهو يتخيل نفسه بلا سترة كصبي أخرق ، ولكن الحر لم يعد يطاق . ولا شك أن ثمة خطأ واضحا في طراز ملابس الرجال . فلم لا يرتدون المآزر كما يفعل الهنود مثلاً ؟
وما أن لاح الباص الخامس حتى خرج حمدي من تحت المظلة واستعد للهجوم عليه . وغنم لقدميه موضعاً داخل الباص بعد جهاد شاق . وفي داخل الباص كان الجو حاراً خانقاً وكان العرق يسحّ من وجوه الركاب جميعاً . واختلطت المساحيق في وجوه النسوة بقطرات العرق . وكانت أيدي الركاب في حركة دائبة ، تحاول اجتذاب الهواء بالمناديل أو الجرائد أو الحقائب . وكان ثمة طفل يوشك أن يختنق وامرأة عجوز يكاد يغمى عليها. وتشاجر الجابي وأحد الركاب، وتبادلا الشتائم . واشترك السائق في الشجار ، ثم أوقف الباص وأبى أن يتحرك ما لم ينزل الراكب . وانحبس الهواء عن الباص وصار كفرن ملتهب .
وعندما وصل إلى موقف جامع أبي حنيفة كان الإنهاك قد بلغ بحمدي منتهاه . وحينما دخل الدار كانت خيوط العرق تجري تحت بدلته من قمة رأسه حتى قدميه . وكان رأسه يكاد ينفجر وأعصابه توشك أن تلتهب . خلع بدلته وانطرح على الحصيرة بملابسه الداخلية . وفتح المروحة فحملت إليه هواء حاراً لاهباً . وتذكر غرفة مدير القسم فاجتاحه اشتياق طاغ إلى مكان بارد0 أين يجد مثل ذلك المكان ؟ أفي هذه الغرفة التي تتلظّى أم في غرفته في الدائرة حيث تقذف عليه مروحة سقفية هواء حاراً كاللهب ؟! وإن رأسه ليوشك أن ينفجر وهو ينكب على أوراقه في حرّ تلك الغرفة . ومع ذلك فحضرة مدير القسم غير راض عنه لأنه يرفض تمشية أمور غير قانونية لإرضاء جناب الوزير . وقد وجّه إليه صباح اليوم عبارات جارحة . وكم كان يود أن يقذف الدوسيه في وجه .
أقبلت ناهدة تحمل صينية الطعام ووضعتها أمامه بصمت ، فدارت عيناه فيها واستقرتا على طبق الشجر . كم يكره الشجر ! لقد سئم منظر الطعام الذي لا يكاد يختلف لونه من يوم لآخر 0 وهمّ بأن يلقي بالصينية بعيداً . قال في امتعاض : أفي كل يوم نتغذى شجراً ؟ أما كان بوسعك شراء شئ آخر ؟ أنت تعلمين أنني أكره الشجر .
قالت الزوجة في احتجاج : هذا ما قدرت عليه .
وكان العرق يسح من وجهها 0 وكان شعرها منكوشاً 0 وكان ثمة بقعة سخام على طرف أنفها 0 وومضت في ذهن حمدي صورة المرأة الأوربية فأحس أنه يكره زوجته ، يكره هذا الطعام ، يكره عمله ، يكره كل شئ . قال مغضباً : أنت تلقين اللوم دائما على السوق ، لكنك تتكاسلين في الحقيقة عن الطبخ .
قالت الزوجة في استياء : وما ذنبي ؟ الباميا غالية والباذنجان مبزّر والفاصوليا رديئة ، ولا يكفي المصروف اليومي لأكثر من هذا .
وكان يخيل لحمدي وهو يتطلّع إليها أن ثمة ناراً تتأجج في صدره وان كلماتها تلقي الوقود على هذه النار . وتذكر أن نهدي المرأة الأوربية كانا شامخين بالرغم من أنها أكبر سناً من ناهدة. وربما ولدت عدداً من الأطفال أكثر منها . ومع ذلك فقد تهدل نهدا زوجته منذ وقت بعيد وبسرعة لم يتوقعها . صاح مغضباً : ألا تجدين غير هذا العذر الواهي ترمين به وجهي كل يوم ؟ أنا أعرف أن داءك هو الكسل .
فأحمر وجه الزوجة وانتفخ العرق الأزرق في جانب عنقها ، واغرورقت عيناها بالدمع . قالت بصوت فيه رنّة بكاء : أتراني أجلس بلا عمل من الصباح إلى المساء كما تفعل الخوانم ؟ أنا واقفة على قدميّ منذ الصباح الباكر حتى الآن . ولكن حظي النائم هو الذي يجعلك تتشاجر معي .
وسالت دموعها واختلطت بمجاري العرق الذي كان يسحّ على خديها باستمرار. وخيل لحمدي أنه لم يعد يطيق مرأى زوجته وأن بقعة السخام على طرف أنفها تزيدها قبحاً . فصاح وهو يغمض عينيه : أذهبي عن وجهي لخاطر الله.
فانصرفت الزوجة وهي تدمدم . وشّيعها حمدي بنظرات تفيض بالاشمئزاز . إنه لا يفهم أية رغبة سخيفة حملته على الزواج من ناهدة . أكانت نزوة أثارتها في نفسه منظر نهديها الكاعبين ؟ يا للسخف ! صحيح أن منظر النهود الجميلة يخلبه ، ولكن هل كان الأمر يستحق كل هذه المتاعب ؟! لو لم يتزوج لكان من الممكن أن يكمل دراسته في كلية الحقوق ويصح محاميا مشهورا ، وربما سياسياً لامعاً، أو أي شخصية معتبرة إلا موظفاً مهملاً في وزارة العدلية يضطهده رئيسه لنزاهته في عمله. ولو حاولت أن تخفي نهديها عن عينيه لما خطرت على باله فكرة الزواج منها .و كان كلما اجتاز الدرب إلى بيته ورفع أنظاره إلى نافذتها تصدى له نهداها في سحر لا يقاوم 00 والنهود الجميلة هي نقطة الضعف فيه 0وماذا كانت النتيجة؟ هذه الحياة البائسة .
فرغ حمدي من طعامه فانطرح على الحصيرة وحاول أن يستسلم للنوم . كانت الغرفة مليئة بالذباب 0 وكانت دوامات اللهب تنفث من المروحة السقفية باستمرار. وبدا له أن النوم حلم بعيد المنال في مثل هذه الغرفة الملتهبة رغم شعوره بإرهاق شديد . وأية غرفة في البيت تصلح للنوم ظهرا ؟ إنها جميعاً تواجه الشمس ، وهي في مثل هذه الساعة من النهار تبدو كفرن ملتهب .
وفجأة علا صراخ محمود . تقلّب حمدي على الحصيرة وهو يحاول عبثاً تجاهل الصراخ . لابد أن أمّه قد ولدته في يوم نحس . فلماذا يقاسي كل هذه المضايقات ؟! إن بعض الناس يمضون شهور الصيف في لبنان أو في أوروبا ، والبعض الآخر يسكن قصوراً مزودة بالهواء المكيّف ، وعليه هو أن يقاسي الحرّ في مثل هذا البيت . صرخ حانقاً : أسكت ملعون الوالدين .. أسكت وإلا كسرت رأسك .
وكانت الأم تحاول عبثاً إسكات محمود 0 وكان توتر أعصابه يشتد لحظة بعد أخرى . هرع أخيراً إلى الطرار فرأى محمود منبطحاً على الأرض . صاح غاضباً : ماذا بك ؟
قالت الأم : تعارك مع كامل .
فقال متوعداً : إذا لم تسكت أهلكتك من الضرب .
لكن محمود واصل عويله . فانقضّ عليه ورفعه عن الأرض وأجلسه وانهال عليه صفعاً . فتعالى عويله واخذ يرفس الأرض كالمصاب بالصرع . فعاد حمدي إلى الغرفة واستلقى على الحصيرة منهوك القوى . وأغمض عينيه محاولاً الإغفاء ، لكن عويل محمود كان يهبط على مسمعه كضربات مطرقة ضخمة . واشتد شعوره بالحرّ ، وانتابه صداع حادّ . وأخذ يضغط على جبهته وهو يهمس في حيرة : أين المفر ؟ أين ؟!
وكان يعلم أن محمود لن يكفّ عن البكاء إلاّ بعد ساعات طويلة . وكان الحرّ والبكاء والصداع قد جثم على صدره ككابوس مرعب . وتساءل في استنكار كيف رضي أن يُزج في كل هذه المشاكل ! لقد ضاعت حياته وتبدّد شبابه وصار مضطهداً في كل مكان .. في البيت، في الشارع . في العمل . واختلطت في مخيلته صورة رئيسه الغاضب بصورة ناهدة المنفرة بعويل محمود الحاد . واستوى قاعداً وشعور باليأس يدمي قلبه . وتساءل شارد النظرات : أين المفرّ؟ أين ؟
ارتدى ملابسه عجلاً ، وخرج إلى الطريق الملتهب بضرب بلا هدف . كان الطريق ناراً تتلظى 0 لابد أن درجة الحرارة قد تجاوزت السابعة والأربعين . وكان يجهل إلى أين يذهب . ثم خطر له أن يستقل الباص ويقصد إلى إحدى السينمات المبردّة . أقبل الجابي وهو يهوِّي على وجهه بحاملة التذاكر والعرق يسحّ على وجهه ، وناوله التذكرة ومسح وجهه بذراعيه . وعجب حمدي وهو ينظر إلى الجابي كيف يطيق البقاء في هذه السيارة ثماني ساعات. ولاحظ " الجابي" نظراته العطوف فقال وهو يجلس على مقعد قبالته ويهوِّي على وجهه براحة يده: اليوم الدنيا حارة جداً .
فقال حمدي : موت حرّ . كان الله في عونكم ، فالباص يلتهب كالتنّور .
قال الجابي : ليت الباص خفيف الحمل دائما كما هو الآن . فما عدا ساعة أو ساعتين يزدحم بشكل لا يترك لي مجالاً للتنقل .
ثم مصمص شفتيه أسفاً وأضاف : مهنتنا من أصعب المهن ، ولكن ما العمل ؟ لابد للإنسان ان يشتغل من أجل لقمة العيش .
فقال حمدي : كان الله في عونكم .
ارتخت أعصاب حمدي وشعر ببعض العزاء . إن عذابه لأهون من عذاب غيره . فها هو . ذا إنسان أكثر عذاباً منه00 وإن محمد الأسود أكثر عذاباً من كليهما . وهناك ملايين من المعذبين الذين تغصّ بهم الأرض . ولكن ما معنى هذه المتناقضات المذهلة ؟! ما معنى أن يعيش البعض في نعيم ويعيش آخرون في شقاء ؟ ولماذا يعيش إنسان كمحمد الأسود بلا ذراعين ولا ساقين . ما معنى حياته ؟! ولماذا ينبغي ان يتعرض لمثل هذا الغرم .
فارق حمدي الباص عند سينما الخيام ودخل السينما دون التعرف على الفلم المعروض . وفي الداخل كان الجوّ بارداً ينعش النفس . وكانت القاعة الواسعة تبدو كالمهجورة ولم يكن يسمع سوى قزقزة اللب المنبعث من مقاعد الدرجة الثانية . وحينما بدأ الفيلم تلاشى ضيقة شيئاً فشيئاً . وتابع الفيلم بلذة واسترخاء . وعادت به مخيلته إلى أيام شبابه00 يوم كان قلبه يتوق إلى المرأة ويوم كانت ناهدة تمثل بنهديها الكاعبين أجمل أحلامه .و كان الفيلم يعرض قصة غرام بين طالب جامعي وعاملة في متجر صغير . وكان ملوناً بألوان زاهية بدت من خلالها الحياة في حلة بهية . فالسماء زرقاء صافية الزرقة . والحدائق خضراء شديدة الخضرة قد فرشت ممراتها بالرمل الأصفر . والشوارع مزينة الجوانب. وأمواج البحر تداعب الشاطئ الجميل الذي يغصّ بالأجساد الرائعة . والناس المتأنقون يتحركون في سعادة ومرح وحبور . والبطلة والبطل يتنافسان في جمالهما وقبلهما الطويلة . وفي ختام الفيلم انكشفت حقيقة البطل وإذا به ابن مليونير كبير !
خرج حمدي إلى الشارع وهو ما يزال يبتسم في غبطة وارتياح . لكن موجة من الحرارة اللافحة أيقظته من أحلامه . فتوارت الشوارع المزينة والممرات المفروشة بالرمال الصفر وحل محلها شارع الرشيد بوضاعته وكآبته . واكتسحت صدره موجة عاتية من الاشمئزاز ، وتذكر في لمحة زوجته وأطفاله . وتساءل في إعياء : أين المفرّ ؟ أين ؟!
وخطر له أن يستقل الباص إلى محلة الميدان ليبحث في أحد بيوتها عن امرأة ينسى في أحضانها همومه . وتملّكه حماس متدفق ، وعاودته ذكريات العزوبة ، لكن اشمئزازاً حاداً طغى على نفسه 0 فهز رأسه في استنكار وواصل سيره نحو الباب الشرقي . ثم عرج على شارع أبي نواس واقتحم أول حانة اعترضت طريقه . كانت سحب الدخان تنبعث من سجائر لا عدد لها وتنعقد في سماء الحانة فتكتم
الأنفاس. وكانت المراوح السقفية تقذف الجالسين بدوامات من لهب . اختار حمدي مائدة منعزلة وجلس وحيداً . وما أن احتسى الجرعة الأولى من كأسه حتى عاودته صور الفيلم الأمريكي . وتنازعته عواطف متناقضة .. اشتياق عميق لاحتضان بطلة الفيلم بين ذراعيه ، وضيق شديد يكاد يفجّر صدره . ثم طغت عليه مشاعر الضيق وجثمت على صدره كالكابوس . وطافت في ذهنه صور متشابكة 00 زوجته بأنفها الملوث بالسخام ونهديها المتهدلين ، محمود وهو يرفس على الأرض كالمصاب بالصرع ، رئيسه المتجبر وهو يوسعه لوماً وتقريعاً . واقتنع بشكل نهائي أن حياته لم تعد تطاق . وفزّ من أفكاره على صوت متهدج ينادي : إخواني . هل تسمحون لي بدقيقة من وقتكم ؟
رفع أنظاره إلى صاحب الصوت ، فإذا بكهل يقف مستنداً بيديه المرتعشتين إلى مائدة في الزاوية المقابلة . اتجهت أنظار الحاضرين جميعاً إلى الرجل فواصل الكلام بصوته المتهدّج والدموع تلتمع في عينيه : ابني عبدالله يا إخواني جوهرة .. ابني الجوهرة تحبسه الحكومة بلا ذنب لكونه أضرب عن العمل في المعمل !! قبّلت الأيدي ليطلقوا سراحه فلم يهتم بي أحد . ماذا أعمل يا إخواني ؟ ماذا أعمل ؟!
خيمّ على الحانة صمت مطبق . ثم أضاف الرجل بصوت تخنقه العبرات : أترضون بهذا الظلم يا إخواني ؟! أترضون ؟!
فصاح أحد الحاضرين : ألعن أبوها الحكومة الظالمة .
وساد الحانة هرج ومرج وانهالت اللعنات على الحكومة من كل صوب. ووجد حمدي نفسه يشارك في صبّ اللعنات على الحكومة في حميّة وحماس .
حينما غادر حمدي الحانة بعد ساعات كان يحسّ بالرضا . وكانت الحرارة قد باخت والنسائم تهب عبر دجلة عليلة رائقة . سار بخطوات وانية في شارع أبو نواس وفي أذنيه طنين متصل . وبدت السماء صافية الزرقة والنجوم تلتمع في قبّتها كالماس . وأطل البدر من عليائه فغسل النهر والشارع بنور فضي .


الفهرس

حياة قاسية
الصديقان
حب بائس
آمنة
السر
العاشقة
ليلة سوداء
فتاة المرقص
خصام
الكسيح
الصيف








#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - حياة قاسية