أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعد محمد رحيم - شبح ماركس















المزيد.....


شبح ماركس


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 2257 - 2008 / 4 / 20 - 07:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


يعلمنا جون دوفر ولسن، في كتابه ( ما الذي يحدث في هاملت )، وهو الذي قضى سنين طويلة يدرس أعمال شكسبير، أن وجود الشبح في مسرحية ( هاملت ) هو الدبوس الذي يمسك بأطرافها، أي يمنحها تماسكها. فالشبح، أو الطيف، هو إحدى شخصيات المسرحية، وعلينا أن نراه كما رآه الأليزابيثيون، وإلاّ غابت عنا مسائل تتعلق بحبكة المسرحية التي يتصل بها الطيف اتصالاً حميماً.
نحن، القراء، نتساءل؛ من أين يأتي شبح شكسبير؟. أيخرج من كهف قاتم في العقل؟ أهو وليد مخاوف شخوص المسرحية وقلقهم وجهلهم؟ أم إنه يؤدي وظيفة تحفيزية درامية محض من أجل الفعل؟ فيما يتساءل ولسن؛ من أين يأتي الطيف؛ من السماء أم الجحيم أم المطهِّر؟ مؤكداً أن طيف شكسبير هو شبح انتقام وشبح مقدمة في آن معاً.. يقول؛ "الطيف في هاملت يأتي، لا من الجحيم الأسطوري، بل من مكان الأرواح الراحلة التي كانت إنكلترا، بعد العصر الوسيط، ورغم قشرة البروتستانتية الظاهرة، ما زالت تؤمن بها في أواخر القرن السادس عشر".
يظهر طيف شكسبير مدججاً بالسلاح، داعياً للانتقام.. يقول هاملت؛ "روح أبي تحت السلاح، ليس كل شيء على ما يرام". غير أن هاملت يبقى في شك من أن يكون الشبح شيطاناً جاء ليضلله، ويجعله يرتكب عملاً أحمق. إن المسرحية كُتبت لإنكلترا البروتستانتية التي تحتفظ ببقايا معتقدات كاثوليكية، والأخيرة تقول؛ إن الأشباح هي أرواح الموتى وقد سُمح لها بالعودة من المطهِّر لغرض خاص. فيما يرفض البروتستانت، الذين ينكرون وجود المطهِّر، الفكرة أعلاه. ويرون أن الأطياف قد تكون أحياناً ملائكة، ولكنها عموماً شياطين.
والمحمول الإيديولوجي لشبح شكسبير هو أن شكسبير أنسن شبحه ونصّرها، وجعل منها شخصاً يتبينه المشاهدون كما لو أنه كان حقيقياً، على وفق رأي ولسن. وهذا المحمول له طابعه الديني الكاثوليكي بقشرة بروتستانتية واضحة. وعلى الرغم من أن هدف شكسبير لم يكن دينياً غير أنه وظّف الرمز الديني في سبيل غاية درامية وأخلاقية. أما المحمول الإيديولوجي لكتيب ( البيان الشيوعي ) الذي كتبه ماركس وأنجلس في العام 1837 فثقيل وصارخ وفي غاية الوضوح. وإذا كان شبح هاملت ملتبساً نوعاً ما فإن ديريدا في كتابه ( أطياف ماركس ) يدفعنا إلى فضاء أكثر تعقيداً والتباساً، ذلك أنه يقف في مواضع، تبدو بعضها متناقضة، من موضوعته، ولا يكاد يعطينا وجهة نظر راسخة. إن ما نفهمه من ( أطياف ماركس ) يأخذ شكلاً مزدوجاً، فأولاً هو يفضح خوف الرأسمالية الليبرالية المحتفية بانتصارها التاريخي النهائي ( بعد سقوط الكتلة الاشتراكية ) من عودة الشبح الماركسي.. أي أن ديريدا يقول لنا أن ذلك الانتصار أمر مشكوك فيه.
"ما دام مثل هذا التعزيم يُلح اليوم، بإجماع أصم، لكي يبقى الذي مات، كما يقول، ميتاً، فها هو يوقظ الشك. إنه يوقظنا هنا حيث يريدنا أن ننام. فلنأخذ الحذر إذن؛ فربما لا تكون الجثة قد ماتت، قد ماتت بالبساطة التي يحاول التعزيم أن يوهم بها".
وفي المقابل يتحدث ديريدا عن إرث ماركس ومسؤولية التوارث؛
"وإن كل البشر، فوق الأرض جميعاً، هم اليوم بمعنى من المعاني، ورثة ماركس والماركسية سواء أرادوا ذلك وعلموه أم لا. وهذا يعني أنهم، لنقل هذا في هذه اللحظة، ورثة الفرادة المطلقة لمشروع ــ أو لوعد ــ ذي شكل فلسفي وعلمي".
وإذا كان شكسبير قد كتب في عصر، ولجمهور يؤمن بالأشباح فإن ماركس حقن عباراته عن الشبح الشيوعي بقدر كبير من التهكم.. إن ما يعتقدونه الشبح هو في حقيقته قوة كامنة على وشك التفجر، وإمكانية تاريخية في طريقها إلى التجسد.
* * *
مع استحضار مفاهيم التفكيكية التي وضعها جاك ديريدا، وبالتعامل معها بشيء من التصرف الذي تقتضيه موضوعتنا عن ماركس فإننا إن عددنا ماركس علامة تتضمن ( الاختلاف + الإرجاء )، فإن ماركس ليس إلاّ ذاته، متقمصاً كتاباته/ إرثه. هو لا يشبه إلاّ نفسه، ولكن ثمة شيء آخر، مؤجل لا يوجد في العلامة بمدلولها التقليدي.. إنه وعده طالما أن العلامة في المنظور التفكيكي "نصفها وافٍ، والنصف الآخر غير وافٍ". ولأنها غير وافية فإن العلامة تكون تحت الإمحاء ( الشطب ). فعند التفكيكيين "لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها إنها دال لشيء أزلي، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة، كما أنها لا تحيل إلى شيء متعال.. فالعلامة سياقية contextual وهي تخلق سراب المدلول".
والآن، إذا جئنا بالعلامة الأخرى ( الشبح )، فيمكـن القـول أن شبـح ديريدا في كتـاب ( أطياف ماركس ) هو شبح آخر، يختلف عن شبح شكسبير، وشبح ( البيان الشيوعي )، له قوة إرجائه، ونقصه الذي يضعه تحت المحو.. وهذه العلامة "ترسلنا بحثاً عمّا تحتاج هي إليه، وتذكِّرنا بما هو غير كائن فيها". من هنا تغدو العلامة أثراً علينا أن نتقصى بالتعويل عليه. فبما أن "ما موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها" فإن الشبح الذي تحدث عنه ديريدا لا يحيل إلى ماركس فحسب، إذا ما تجاوزنا الأطروحة البنيوية/ السوسيرية التي ترى في العلامة وحدة الدال والمدلول، بل إلى وعده الذي يُرعب الطبقة البرجوازية العليا، ويتربص بالنظام الرأسمالي. ولا سيما حين نضع الشبح وماركس في سياقه البلاغي، ونعود ونضع ماركس والماركسية في سياقهما التاريخي، ونقلب ما أرادته التفكيكية من أسبقية للبلاغة على المنطق، ونتبصر في التاريخ.
إن الأثر في مفهوم ديريدا هو البصمة الشبحية على ( الكتابة الأصلية ) التي هي ليست الكتابة بالمعنى المبتذل، وإنما النقش عموماً سواء كان حرفياً، أو غير حرفي ( التصوير السينمائي، الرقص والموسيقى والبورتريت والبوستر، واسم العلم والإيماءة المنطوقة والكلمة المكتوبة، الخ )، إذ ينشأ التمركز حول الكتابة بدلاً من التمركز حول اللوغوس، أو حول الكلام. ويمكن تعريف التمركز حول الكتابة "بأنه هذا الإدراك الحسي الجديد، بأن شيئاً ما، شيئاً غائباً، قد ترك بصماته ( بصماته الشبحية ) على الموضوعات التي تخلق حركات معينة في الذهن ( وتلك البصمات الشبحية هي الأثر ). ويبدأ الأثر بالعمل من خلال الاختلاف والإرجاء".
نشك في أن وراء الشيء الظاهر، سرٌ ما؛ شيء مفقود، أو غائب/ الكتابة الأصلية التي تتجلى في شكل آثار مثل طبع الأقدام على الرمال. الأثر يحيل إلى الشيء الغائب الذي لابد أن يكون موجوداً بدلالة الأثر.
إن المطاردة المقدسة المدعومة بكلاب الصيد ضد الطيف ( طيف ماركس ) لابد أن تتحقق بتعقب الأثر؛ ترصّد هذا الشيء المفقود والغائب، لكن الموجود في مكان ما.. المختلف، الحاضر في مكان آخر، المرجأ ( المؤجل ) الذي يراهن على الزمان بعدِّ الإرجاء مفهوماً زمانياً.
كان على هاملت أن يختبر صدق شبحه.. أن يضع شبحه على المحك، عبر استشفاف الحقيقة الخفية وراء القناع الذي يلبسه عمه الملك، الذي خلّف أباه وتزوج من أمه. وذلك في ما عُرف بتمثيلية غونزاغو.. أن يقرأ الممحو/ المشطوب، ويستقدم ما هو مرجأ.. يقول هاملت؛ "فإذا لم ينسرح جرمه الخبيئ، عند عبارة معينة، لن يكون ما رأيناه إلا طيفاً لعيناً، وما أنا إلا ملوث الأوهام".
وما كشفت عنه التمثيلية ليست جريمة عم هاملت بحق الملك الراحل فقط، وإنما تبيان مقدار تردد هاملت نفسه، وعدم ثقته بمشروعية عمله، كما يقول كثر من النقاد. لكن هاملت يصل إلى اليقين، وهذا ما يمنح مسوّغاً لتسويفه وتردده الطويل.
* * *
يستدرك صاحبا ( البيان الشيوعي ) بعد التحدث عن الشبح أنهما ينأيان عن فكرة الشبح بعدِّها خرافة، ذلك أننا إزاء حقيقة تمشي على قدمين.. إزاء قوة تتحرك فعلياً في المدن البرجوازية، في المصنع والمكتب والشارع السياسي.. يعود ديريدا ويسمي الهلع من عودة ماركس توجساً من الشبح القادم، أو الشبح المختبئ في مكان ما من المدينة..
بالعود إلى البيان الشيوعي واللعب منطقياً، من خلال الاستعارة، بزعم ماركس وأنجلس حول حقيقية الشبح الشيوعي، يكون الافتراض عن شبح ماركس المهدد ( بكسر الدال الأولى )، ونحن نقرأ ديريدا، هو كلام عن حقيقة تنكر البرجوازية إقرارها، كنوع من التعزيم؛ محاولة في إبعاد الشبح وتصويره خرافة. غير أنه ليس شبحاً خرافياً، كما يؤكد ماركس وأنجلس في البيان، أو كما ستؤكد الماركسية في الزمان والمكان التاريخيين، كما نفترض.
وطوال الصفحات التالية سيتعقب مؤلفا ( البيان الشيوعي ) أثر الشبح.. سيرصدان هذا الأثر بدقة، ولكن ليس بموضوعية كاملة، فهما منحازان، ولا يخفيان انحيازهما، ولا يداريانه أو يخجلان منه.. إنهما متعاطفان مع الشبح ( كنايةً عن البروليتاريا المنظّمة ) ويبشران به وينطقان باسمه.
إن الشبح سيتقمص هيئة البروليتاريا، ومن ثم هيئة طليعتها الثورية.. إنه بكلمة أخرى؛ شبح مركب، ينطوي على المتعدد، ولكن في الواحد.. إن بروليتاريا ماركس لا تحضر في تناقض مع الخارج/ البرجوازية فقط، بل تحمل تناقضها في داخلها أيضاً.. ذلك التناقض الذي يعكس صراعاً ذاتياً من أجل تجاوز وضعها، في كينونتها الآنية، واختلافها مع ما تسعى إليه.. قوة الإرجاء التي تفصح الآن عمّا ستكون عليه في زمن آت..الوعد في أن تتغير، ومع تغيرها يتغير العالم برمته.. إذن يمكن أن نؤشر تناقضاً مركباً للبروليتاريا التي في ذهن ماركس؛ مع الخارج؛ العالم الرأسمالي بتناقضاته وآلياته ومنطقه الاستغلالي.. وفي الداخل؛ وهذا يتخذ أنماطاً مختلفة؛ بين وضعها الآني، وما تريد.. في سعيها أن تكون برجوازية، أو تتشبه بها.. وكذلك، بينها وبين البروليتاريا الرثة التي تكون أحياناً أداة بيد الرجعية والبرجوازية.
لا يجوز انتزاع ( البيان الشيوعي ) من سياقه التاريخي، وهذا لا يعني قطعاً عدّ كل ما جاء فيه يخص أوربا القرن التاسع عشر بتشكل بروليتاريتها واتساع نطاق ثورتها الصناعية.. إن التبصرات المعرفية والتاريخية التي انطوى عليها البيان لا شك يعطينا مفاتيح قراءة التراث الماركسي اللاحق. فإذا كان بعض ما قاله ماركس وأنجلس فيه قد تجاوزته تطورات ومفاجآت الواقع التاريخي، ولا سيما في العقود الأخيرة، فإن بعضها الآخر، وهو الجزء الأهم في ديباجة البيان مازال وسيبقى مصدر إضاءة لحركة التاريخ، ومرجعاً فذاً لفكر اليساريين، اليوم وغداً، وحتى زمن بعيد. ومنبع إلهام للمفكرين الذين يجدون في ماركس نسباً لهم، حتى وإن لم يكونوا ماركسيين، بالمعنى التقليدي للكلمة. وفنار أمل للمضطهدين والمستغلين ( بفتح الطاء والغين ) في العالم كله. ومبعث خوف ورعب للمضطهدين والمستغلين ( بكسر الطاء والغين ) في العالم كله.
في الذكرى التسعين لصدور البيان، أي في العام 1937 قال ليون تروتسكي:
"يفاجئ هذا البيان، أكثر بيانات الأدب العالمي عبقرية، بطراوته لحد الآن. تبدو أقسامه الرئيسة وكأنها كتبت أمس. حقاَ أحسن الكاتبان الشابان ( كان عمر ماركس 29 سنة وأنجلس 27 ) النظر إلى المستقبل على نحو لم ينظر به أحد قبلهما وربما حتى بعدهما.
كان ماركس وأنجلس قد أشارا، منذ مقدمة الطبعة الإنجليزية سنة 1872، إلى أن أقساما ثانوية من البيان باتت شائخة ولم يعتبرا من حقهما تعديل النص الأصلي لأن البيان أصبح، خلال 25 سنة المنصرمة، وثيقة تاريخية. ومنذئذ مضت خمسة وستون سنة. وغاصت بعض الأقسام المعزولة من البيان بشكل أعمق في الماضي". وسيقوم تروتسكي كما يقول؛ ببذل قصاراه ليعرض في مقالته، التي كتبها بالمناسبة، أفكار البيان التي حافظت كليا على قوتها حتى اللحظة، وكذا تلك المحتاجة إلى تعديلات جدية أو إضافات.
وفي الذكرى 150 لصدور البيان ( 2007 ) سيفعل آلان وود الشيء ذاته في مقالته ( البيان الشيوعي للقرن الواحد والعشرين ).. يقول في استهلالها:
"يبدو من خلال النظرة الأولى وكأن إعادة نشر بيان الحزب الشيوعي يتطلب شرحا ما. فكيف يمكن لأحدنا تفسير طبعة جديدة لكتاب أُعد منذ 150 سنة تقريبا؟ لكن في الحقيقة، بيان الحزب الشيوعي هو من أكثر الكتب حداثة. ويمكن بسهولة التدليل على هذه الحقيقة. فإذا ما تفحصنا أي كتاب لبرجوازي كتب منذ ما يقارب القرن ونصف القرن حول نفس هذا الموضوع فسيبدو جليا أن مثل ذلك العمل لا يقدم إلا فائدة تاريخية بدون أي ذرة قابلة للتطبيق عمليا. في حين أن هذا العمل -بيان الحزب الشيوعي- يقدم لنا بكلمات معدودة تحليلا عميقا وشرحا ذكيا لأهم الظواهر التي تشغل اهتمامنا في عالمنا المعاصر".
* * *
ستصل أية قراءة تتعدى السطح، حتى وهي تفكك على طريقة ديريدا، أو تحفر على طريقة فوكو، إلى نتيجة؛ إن صاحبا البيان يرغبان، وربما في لا وعيهما، بالاستحواذ على الشبح وتوجيهه وجهة مقصودة بعينها.. إن العبارات الجازمة القاطعة تعكس ثقة عالية بالنفس وقدرتها على السيطرة والتحكم. بيد أن التاريخ سيكون له رأي آخر؛ إن الشبح لم يعد تحت السيطرة الآن، وأن ورثة ماركس سيكونون أشد ارتياباً وحذراً، وهم يرون تغير طبيعة الشبح وطريقة فعله وشكل وجوده في العالم. وهذا يفسر أن المسكوت عنه في الأطروحة الماركسية هو أن البروليتاريا ليست طبقة ثورية، في مطلق الأحوال، وإنما فقط لحظةَ تتعرض للإفقار ( النسبي والمطلق )، لحظةَ لا يكون لديها ما تخسره بالثورة سوى أغلالها.،وهي ليست كذلك في وضعنا التاريخي الحالي.
لم يخطر لماركس قط أن تتمتع البروليتاريا بمستوى عال من المعيشة كما هي عليه الآن في الغرب الرأسمالي بفضل وفرة الإنتاج، والتقدم العلمي ــ التقني وتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية من خلال سياسات معينة كابحة للصراع الطبقي يشكله الصارخ، تدمج المجتمع كله في ما يُعرف باقتصاد الوفرة، وبالاعتماد على نهب البلدان الأخرى. وقطعاً من غير أن يخلو الأمر من أزمات دورية.. ولذا رأى بعض الماركسيين أن مستوى معيشة البروليتاريا لن يشجعها على تدمير النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي القائم من أجل هدف طوباوي.. إن البروليتاريا ربما ستخسر في الثورة، أكثر بكثير من أغلالها.. إذن علينا أن نبحث عن مسوّغات أخرى للثورة، وعن كتلة تاريخية جديدة تختلف عن بروليتارية ماركس في القرن التاسع عشر، لكنها لا تستبعدها. ( هذه الطبقة التي لابد أن تكون نواة تلك الكتلة وطليعتها وليست ممثلتها الوحيدة ). وأن نعوّل على افتراضات مستحدثة لتغيير مسار التاريخ.
فإذا كان النظام الرأسمالي يتبجح، اليوم، بتلبية الحاجات الفردية، وضمان الحريات الأساسية، فهو بالمقابل يخلق واقعاً، في أوجه عديدة منه، هو غير إنساني بالمرة، فعدد المهمشين والمنبوذين في ازدياد، وكذلك نسب الجريمة التي لا تني ترتفع، والأضرار الملحقة بالبيئة، والمجاعة التي تنتشر، والمشاكل النفسية التي تعاني منها قطاعات واسعة من المجتمع، تحت وطأة نظام يغدو يوماً بعد آخر، أشد آلية ولا إنسانية ولا أخلاقية، ناهيك عن مجموعة المعضلات والأزمات الطارئة والدورية والمزمنة.
أما إخفاق ماركس في تأشير اللحظة التاريخية المؤاتية، في إطار زمني محدد، لانهيار الرأسمالية وتغير علاقات الإنتاج وإقامة المجتمع الاشتراكي، في العالم الصناعي الرأسمالي المتقدم.. نقول؛ هذا الإخفاق لا يعني أن لا وجود للحظة تاريخية مؤاتية، في نقطة ما من المستقبل، استطاع حدس ماركس الوقوع عليها، ولم يستطع تحديدها على وجه الدقة. فالرأسمالية صارت واعية لقوانين حركتها وتناقضاتها، تلك التي اكتشفها ماركس. ولأنها نظام اقتصادي سياسي مرن وبارع وعقلاني ( أداتي ) إلى حد بعيد، فقد نجحت في استثمار وعيها ذاك للحيلولة دون تفجر التناقضات، وتأخير اللحظة المرتقبة. ولكن ليس إلى الأبد. فبوساطة آليات مبتكرة ومناورات حاذقة يمكن التلاعب بفعل القوانين التي ليست موضوعية بالكامل، وإنما خاضعة، أيضاً، لفعل البشر.. إن وعي الضرورة الذي يعين الماركسي على العمل في الاتجاه التاريخي الصحيح، يعين الرأسمالي كذلك في عرقلة ذلك الاتجاه. وأكثر ما استفادت منه الرأسمالية هو الجمود العقائدي الذي طبع سياسة المعسكر الاشتراكي، وأدى، فيما بعد، إلى تفككه، كما لو أن العقل الرأسمالي كان أكثر دراية بما قاله ماركس.
إن ( البيان الشيوعي ) وضع الشبح في ضمن خريطة، وعلى مسار محدد بصرامة قاطعة. غير أن التاريخ نكّل بهذا.. انتقم الواقع، إذا ما استعرنا عبارة لبرهان غليون، من النظرية، وتفلت الشبح.. صار على غير ما كان عليه. أو على صورة تتباين، إلى حد مؤسٍ، عن تلك التي رسمها ماركس وأنجلس في بيانهما. بيد أن هذا لا يعني أبداً، فساد النظرية.. أخطأ ماركس في النبوءة، بيد أنه لم يخطئ في القراءة. فأبداً لن نستطيع أن نثبت أن تاريخ العالم ليس تاريخ صراع الطبقات. وأبداً لن نستطيع أن نجزم أن الاشتراكية ليست مستقبل العالم. ويبقى صحيحاً أن "تاريخ الشعوب التي لها تاريخ هو تاريخ الصراع الطبقي" حيث تنخرط شعوب كثيرة اليوم بفضل التقدم التقني، وسياقات العولمة في حركة التاريخ. والصراع الطبقي واحد من أهم محركات التاريخ، قد يخفت أحياناُ، ويحتدم أحياناً، ويتخذ أحياناً صيغاً مختلفة، معقدة، لكنه لن يتوقف طالما ثمة تفاوت يتسع؛ أغنياء يزدادون ثراء، وفقراء يتسع عددهم ويتدهور مستوى معيشتهم، يوماً بعد آخر، على الصعيد الكوني.
ما يعنينا أن الرأسمالية لن تهزمها قوة من خارجها، خارج محيط فعلها السياسي والجغرافي والثقافي، فليست ثمة قوة مؤهلة لذلك، لأن تلك القوى التي رشحها هنتنغتون للصراع هو جزء من المنظومة الرأسمالية ذاتها، أوهي اندمجت فيها، وهذه ليست غير قادرة فقط، وإنما ليست من مصلحتها أن تتهاوى الرأسمالية، لذا يبقى العدو الأول للرأسمالية هي الماركسية التي سينتاب شبحها الغرب الرأسمالي مجدداً.
قلنا؛ ما سيجعل الرأسمالية الغربية تتآكل من الداخل، لابد انه موجود في الداخل الجغرافي السياسي للرأسمالية نفسها، ولكن هذا لا يلغي دور اللاعب/ العامل الخارجي. فالكتلة التاريخية الجديدة ستكون معولمة ( أممية ) كذلك، لأن المشاكل التي أفرزتها الرأسمالية تتعولم هي الأخرى.. إن ما سيوحد تلك الكتلة ليست المصلحة الاقتصادية المباشرة والضيقة فحسب، كما كان شأن بروليتاريا القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ( بروليتاريا ماركس وأنجلس ولينين ) بل تحديات جديدة، كونية الطابع أيضا،ً مثل الأمراض الفتاكة التي يسببها التقدم التكنولوجي المنفلت، وكذلك، والأهم مشاكل البيئة من احتباس حراري وخطر اتساع ثقب الأوزون وخطر ذوبان جليد القارتين القطبيتين المنجمدتين وخطر تدمير الغابات وزيادة التصحر وانخفاض مناسيب مياه الأنهار والبحيرات، أي باختصار؛ تدمير المحيط الحيوي وتبذير موارد الأجيال القادمة على يد الشركات الاحتكارية الكبرى العابرة للقارات، وهذا ما نبه إليه لينين مبكراً وهو يحلل طبيعة الإمبريالية بعدِّها أعلى مراحل الرأسمالية، في حينها. ناهيك عن العامل الاقتصادي؛ فوضى الأسواق، وسيطرة الشركات الاحتكارية عليها، وازدياد البطالة، وعدد الذين يعيشون تحت خط الفقر، واتساع هوامش المدن، والانفجار السكاني وتبديد الموارد المحدودة، وأزمات الغذاء والطاقة والأسواق المالية والتضخم، الخ.
إذن هي كتلة تاريخية جديدة، يحركها وعي كوني وضمير إنساني يقظ والمصلحة العليا للمجموعة البشرية. وهي لا تتمأسس على غرار الأحزاب اليسارية التقليدية فقط، بل، وأيضاً في إطار منظمات وفعاليات المجتمع المدني الوطنية والعابرة للحدود، والمدافعين عن البيئة ومراكز البحوث وأجهزة الإعلام المستقلة. ولابد أن تفكر بمنظور استراتيجي متقدم وبطرق مبتكرة، لاشك ستجترحها في كفاحها القادم.
تطلق قوى أوربا القديمة. بل قل؛ الغرب الحديث كله، كلاب الصيد، لتعقب أثر الشبح والفتك به. أو على الأقل، لتحجيمه، وحصره في مكان ضيق، وتجنب تأثيره وفعله.. ما تخشاه تلك القوى، في أعمق أعماقها ليس التنين الصيني الرأسمالي أو الإرهاب الأصولي الديني، كما تدّعي، بل الشبح الماركسي. وقد يبدو في الظاهر أن الرأسمالية مشغولة بالصراعات القائمة على الحدود الثقافية، كما نظّر لها هنتنغتون. لكنها في الحقيقة قلقة من أن يكون فوكوياما على ضلال. وأن الشبح لم يمت. وإنه سيعاود المجيء.
وما يزال يتصادى، على ما يبدو، توعد ماركس للبرجوازية الرأسمالية بتحطيم عالمها والقضاء عليها، في زاوية حساسة من وعيها. وأحسب أن ما يجب على ماركسيي اليوم أن يعززوه هو فكرة الشبح ذاتها.. شبح القرن الحادي والعشرين الذي يختلف، بلا ريب، عن قرينه؛ شبح القرن التاسع عشر.
المصادر:
1ـ مسرحية ( هاملت ) شكسبير.. ترجمة؛ جبرا إبراهيم جبرا.
2ـ ( ما الذي يحدث في هاملت ) جون دوفر ويلسون.. ترجمة؛ جبرا إبراهيم جبرا.
3ـ ( البيان الشيوعي ) ماركس وأنجلس.. النص المنشور على موقع الحوار المتمدن.
4ـ ( أطياف ماركس ) جاك ديريدا.. ترجمة؛ د.منذر العياشي.
5ـ ( البنيوية والتفكيك: تطورات النقد الأدبي ) س. رافيندران.. ترجمة: خالدة حامد.
6ـ مقال ( تسعون سنة من البيان الشيوعي ) ليون تروتسكي. ( الحوار المتمدن ).
7ـ مقال ( البيان الشيوعي للقرن الواحد والعشرين ) آلان وود. ( الحوار المتمدن ).



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أخلاقيات الحوار
- حواف الإيدز؛ أو خالد في الصحراء
- الإعلام القاتل
- ضد ماركس
- كلام في الحب
- هنتنغتون وفوكوياما ومسار التاريخ
- المثقف ومعادلة السلطة المعرفة
- فقدان حس الحاضر
- موضوعة -السأم- في الأدب الروائي
- أفواه الزمن؛ هذا الكتاب الساحر
- شتائم ملوّنة
- مشكلاتنا ومشكلاتهم
- إيان مكيوان في -أمستردام-
- قصة قصيرة: ضاحية التيه
- هناك مع الوردة حلم زنزانة
- السرد وميثاق التخييل
- ماركس الناقد
- غوايات القراءة: -أن تحسب حصاد السنين بعدد الكتب التي قرأت-
- بحثاً عن ماركس
- رعد عبد القادر ومؤيد سامي: في ذكرى رحيلهما المبكر


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سعد محمد رحيم - شبح ماركس