"إن وزارتى سوف تبذل قصارى الجهد فى تحقيق الامانى الوطنية - لكنة لابد من إدراك ان النجاح فى تحقيق هذة الامانى الوطنية يقتضى تطهير الحياة السياسية فى مصر من الفساد, وإقرار الامن والاطمئنان و ردع الاهمال ان يقوض الحياة العامة للبلاد,و محاسبة المسؤلين عن الانحراف بالفساد او بالتستر عليه ,واذا لم يقع مثل هذا الحساب فإن الاثار سوف تكون فادحة على فكرة العمل العام لإن بعض الساسة إحترفوا السياسة وسيلة من وسائل الثراء تمارس بغير حياء إلى درجة اصبحت فيها مقاعد مجلس النواب مواقع تباع بالمزاد العلنى كما تباع العقارات و تفشى الفساد و المحسوبية و الاستغلال الى حد الاستهتار بالقوانين و إبتذالها ."
هذه فقرة نقلتها حرفيا من خطاب قبول التكليف برئاسة الوزارة فى الأول من مارس من عام 1952 والذى أرسله الأستاذ نجيب الهلالى إلى الملك فاروق بعد أن كلفه بتشكيلها بعد إقالة وزارة الطوارىء التى جاءت الى الحكم فى أعقاب حريق القاهرة فى يناير 1952
وقد نقلتها حرفيا حتى يتبين لنا كيف بدى الحال فى مصر فى تلك الأيام والغريب فى الأمر أن الحال اليوم وفى نهايات عام 2003 قد أصبح صورة طبق الأصل مما كان عليه ومنذ أكثر من خمسين عام مضت .
تصبح هذه الوثيقة الشديدة الوضوح علامة دامغة لعصر كان على وشك السقوط ثم سقط بالفعل بعد ذلك بشهور قليلة عندما قامت ثورة يوليو1952 وللأمانة فقد أعادها الى الذاكرة كتاب الأستاذ هيكل القيم" سقوط نظام " وهو يحكى وبدقة شديدة عن الأحوال والظروف والملابسات التى أدت الى قيام الثورة ومن ثم سقوط النظام الملكي .
فرضت تلك العبارة نفسها علىّ فلم أستطع منها فكاكا أو هروب ذلك لأنها وبوضوح وإيجاز لخصت الحالة التى نعيشها اليوم وكأنها كتبت فى هذه الايام .
فقد وصل الفساد فى أيامناهذه إلى درجة غير مسبوقة حتى أصبح فى حكم المستحيل أن يتمكن أى فرد فى مصر اليوم من قضاء أى خدمة فى أى مصلحة حكومية دون أن يدفع الرشوة تلو الأخرى وأصبح هذا الأمر يمارس علنا و دون أى حياء او خوف من المساءلة .
ومن ثم اتسعت دائرة الفساد لتصل إلى دوائر ما كنا نتصور ابدا ان تصل اليها يده
والمفزع فى الأمر أن الدولة وأجهزتها قادت و بإصرارعملية خرق و إهدار القانون عندما راحت تضرب عرض الحائط بالأحكام الباتة و النهائية التى يصدرها القضاء مما أفقد هذه الأحكام هيبتها وقوتها عند المواطنين فساعدت بذلك على تكريس الفساد بل والإفساد ولا ندرى هنا هل يتم ذلك عمدا ام غباءا ام قصورا فى التفكير؟
إن الموضوع الذى يفرض نفسه علينا هذه الأيام والذى إتضح بمحاولة الحكومة والحزب الإلتفاف على حكم المحكمة الدستورية وكذا الإدارية العليا بشأن المتهربين من التجنيد و عدم أحقيتهم بالتشرف بتمثيل الشعب نيابيا وذلك بدفعهم دفعا إلى التقدم بإستقالاتهم الى المجلس حتى يتثنى للحزب ان يتقدم بمرشحين جدد فى نفس الدوائر التى خلت وفق الأحكام القضائيةالباتة والنهائية من مرشحيه الفارين من شرف الخدمة العسكرية والواجب الوطنى .
إن هذا الأمر يكشف لنا و بوضوح عن المعدن الرخيص الذى يمثله وعن مدى الحال الذى وصل اليه فكره .
ذلك لأن هذا الموضوع كان يستوجب بداية المحاسبة الشديدة لكل من تسبب فى وقوعه أصلا .
بداية بوزارة الداخلية و هى المسؤلة عن قبول وفحص طلبات الترشيح وانتهاءا بالحزب الذى رشحهم .
ولكن هذا لم يحدث ولن يحدث ونحن جميعا نعلم ذلك فقد تم ذلك وقتها أمامنا جميعا علنا وعلى رؤس الأشهاد .
والمسؤلون عن ذلك يجلسون مبتسمون على مقاعد الوزارة والمجلس الموقر ليعيدوا الكرّة و يهدروا مرة اخرى أحكام القضاء دون أى مبالاة و دون أدنى مسائلة .
إنهم هم أنفسهم الذين ساعدوا سارقى البنوك على النهب المنظم لثروة مصر وهم من إقتسمها معهم ومن ثم تركوهم يفرون إلى الخارج ليستمتعوا بالغنيمة ويرفعوا من أرصدة من أعانهم .
إنهم هم أنفسهم الذين يحتلون أعلى المناصب ويتقلدون أرفع الأوسمة مكافئة لهم على النهب والسرقة والفساد والإفساد .
إنهم هم أنفسهم الذين يبيعون اليوم سمعة مصر ودور مصر لأمريكا و لإسرائيل علّهما يرضيان عنهم فيسكتون عن الكثير مما يعلمون لأنهم بذلك يضمنون ولاءهم وصمتهم القبيح عن كل ما نراه أمام أعيننا من جرائم ترتكب فى حق شعبنا اولا وفى حق الشعوب العربية فى العراق و فلسطين ثانيا و ثالثا و ألف مرة .
إنهم هم أنفسهم الذين أرسلوا السيد أحمد ماهر الى السفاح شارون بعد أن أعلنوا مئات المرات أنهم أبدا لن يتعاملوا معه فعاد بالأمس يحمل لنا طلبا بالإفراج عن جاسوسهم عزام و ربما يستجيبون قريبا ولم يتمكن فى الوقت نفسه من الحصول على أى شىء للشعب الفلسطينى والذى سافر من أجله كما يقول سيادته .
لم يبق من شىء يقال سوى أن علينا فى هذه الأيام ان نعى أن مشكلتنا الحقيقية هى فى الأساس تكمن فى واقعنا الداخلى الذى نعيشه والذى أصبح من الواجب علينا جميعا وبكل ألوان طيفنا السياسى أن نتكاتف و نصطف يدا واحدة من أجل ان نغيره حتى نستطيع الانتقال بهذا الوطن نقلات حقيقية إلى الأمام و حتى نتمكن من النظر بعين الامل الى مستقبل أكثر إشراقا لأبنائنا فى هذا الوطن المهانه كرامته والمطعون فى كبريائه والذى لا يستحق أبدا هذه المهانه و هذا الإذلال
إنها و بوضوح دعوة أتوجه بها الى كل المثقفين الشرفاء كى نتكاتف و نتوحد من أجل وطن يضيع و أمّة أخشى عليها حقيقة من الفناء .
د. محمد حامد عباس
الإسكندرية