أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-















المزيد.....



حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 2252 - 2008 / 4 / 15 - 11:15
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بعد نشر التقديم الملخص لمضمون الكتاب الذي صدر في رام الله (فلسطين) مؤخراً تحت عنوان "اليسار والخيار الإشتراكي...قراءة في تجارب الماضي وفي احتمالات الحاضر"، وهو التلخيص الذي نُشر في موقع "الحوار المتمدن"، كما في مواقع وصحف ومنابر عربية أخرى، سواء بصيغة خبر مقتضب نسبياً أو بصيغة المقالة الأطول، كما هو الحال في موقع "الحوار المتمدن"، أو بصيغة حوار مع الكاتب، كما جرى مع صحيفة أردنية، وصلني عدد من الملاحظات والتعقيبات من قبل عدد من الذين قرأوا هذه التلخيصات. كما اطلعت على مقالات تتناول بعض ما جاء في هذه التلخيصات.
وبما ان التقديم المنشور هو ملخّص مكثّف، وقصير بالضرورة، للكتاب الذي يقع في زهاء الـ270 صفحة من الحجم الكبير، فلم يكن ما تضمنته التلخيصات كافياً، بالطبع، لشرح وتوضيح بعض العناوين والصيغ والأحكام المقتضبة الواردة فيها. ومن الواضح أن بعض التعليقات التي اطّلعت عليها كانت ناجمة عن عدم تمكّن المعلِّقين المعنيين من الإطلاع على الكتاب، وبالتالي على التفاصيل والتحليلات والإستطرادات التاريخية والوقائعية الواردة فيه، وهي، بمجملها، تقدّم توضيحاً وافياً لتساؤلات عدة طُرحت من قبل المعقِّبين. وأستثني من ذلك، طبعاً، مقالة الزميل عصام العاروري، مدير مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، المنشورة في "الحوار المتمدن" ليوم 10/4، والتي استندت الى قراءة للكتاب بكامله، وكذلك تعقيبات أخرى شفهية استمعت اليها في ندوات ولقاءات عقدت في فلسطين.
وبما انني لا أسعى بتعليقاتي الأولية أدناه الى القيام بدعاية للكتاب، الذي لا أدري إذا ما وصلت نسخ منه الى بلدان أخرى خارج فلسطين، فسأقوم ههنا بإيراد بعض التوضيحات حول بعض القضايا التي تناولتها التعقيبات والملاحظات، لعل ذلك يكون مفيداً لإزالة بعض الإلتباسات الناجمة عن التكثيف. وأبدأ بشكر كل الذين تقدموا بملاحظات إيجابية مشجعة. كما أشكر كل الذين أبدوا ملاحظات استفسارية أو توضيحية لجوانب لم تكن موضّحة في التلخيص. وربما بعض هذه التعقيبات، التي وصلت أو التي يمكن أن تأتي لاحقاً، ستُغني الموضوع المطروح في الكتاب والذي له علاقة بإعادة الإعتبار لأهمية دور اليسار في عالم اليوم ولمشروعية استمرار الطموح الإشتراكي، بالرغم من الصدمة الكبيرة التي شكّلها للعديد من اليساريين في العالم، وخاصة في "عالمنا الثالث"، انهيار الإتحاد السوفييتي وتجربة التحول الإشتراكي فيه وفي عدد من البلدان الأخرى المجاورة أو القريبة منه.
والى جانب ذلك، فلا بد لي من القول بأن هناك آراءً أُبديت حول بعض القضايا المثارة في الكتاب أتفّق معها، وهناك آراء أخرى أجد فيها جوانب مفيدة وأختلف مع بعض جوانبها الأخرى، وهناك آراء أختلف معها تماماً، ولا أتفق مع مضمونها ومنطلقاتها، سواء في ما يتعلق بالتجربة السوفييتية نفسها أو بجوانب فكرية أو سياسية مرتبطة باليسار في عالم اليوم وتجارب التحول الإشتراكي المستمرة، أو تلك التي رفعت لواء التحول الإشتراكي في السنوات الأولى من القرن الجديد، في أميركا الجنوبية خاصةً، تحت شعار "إشتراكية القرن الحادي والعشرين".
وبالتأكيد، فإن مثل هذه الإختلافات في الرؤية والتحليل لأحداث الماضي، وكذلك بالنسبة للحاضر أو للتوقعات المستقبلية، أمر طبيعي، طالما ان كل إنسان لديه رؤيته الخاصة وخلفيته الفكرية ومخزونه المعرفي أو المعلوماتي، إذا صحّ التعبير. وفي كل الأحوال، أرى أنه ينبغي الآن أن نقتنع أكثر من أي وقت مضى، بعد كل الذي حدث، خاصةً في العقدين الماضيين، بأن لا أحد، ولا جماعة، يمكن أن يحتكر، أو تحتكر، وحده (أو وحدها) معرفة الحقيقة، ولا هي، أي الحقيقة، سهلة الإحاطة بها دائماً، خاصة عندما لا تتوفر معلومات كافية عن بعض جوانب الأحداث الماضية والقضايا الراهنة. فالجهد الجماعي وعمل العديد من الناس المتسلحين بالمعرفة وبالتجربة هما شرطان ضروريان لبلورة الصورة الأقرب الى الحقيقة، أو، إذا شئنا الدقة، للتحليل الصائب لماهية الحدث والواقع المرصود.
وبالطبع، لا أحد يستطيع التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه أوضاع بعض تجارب التحول الإشتراكي الأخرى المستمرة في عالمنا الراهن، وتحديداً في القارة الآسيوية، أو تلك التي أطلقت مشروعها، أو تطلعها، للتحول الإشتراكي، في السنوات القليلة الماضية، والمقصود تحديداً تجارب اليسار الجذري في أميركا اللاتينية التي تطرح مشروع بناء "إشتراكية القرن الحادي والعشرين". مع كل التقدير لأهمية استمرارية التجربة الكوبية، الأطول عمراً في تلك القارة، لكونها شكّلت حافزاً بالغ التأثير لتيارات اليسار الناهض في أميركا اللاتينية لإعادة طرح توجهات إشتراكية جديدة، أو لإجراء إصلاحات جادة لتخفيف معاناة غالبية السكان من الفقر والمرض والفاقة في بلدان هذه القارة التي كانت لفترة طويلة تحت سياط الهيمنة الإميركية الشمالية، ولا زال بعضها كذلك.
هذا، مع التأكيد بأننا، كيساريين، نأمل أن تتمكن كل هذه التجارب المستمرة في آسيا وفي أميركا اللاتينية من إنجاز أهدافها المعلنة وبلورة نماذج جديدة للمشروع الإشتراكي، تعيد الإعتبار، على أوسع نطاق في العالم، لهذا الطموح الكبير الذي حرّك مئات الملايين من البشر خلال عقود طويلة، سعياً للوصول الى مجتمعات أكثر عدلاً واحتراماً لكرامة الإنسان، كل إنسان، وحقوقه الطبيعية في الحياة الحرة والمنتجة، مجتمعات خالية من الإضطهاد والإستغلال والبؤس المادي والروحي، تعيد البناء على إيجابيات التجارب السابقة، وتعمل على تفادي السلبيات التي كانت سبباً في التراجع عنها.
ولا بدّ من القول، في البداية، انني لست من الذين يسلّمون بتقاليد بعض المدارس اليسارية في الماضي، وهي تقاليد يصعب التخلي عنها على ما يبدو، تقوم على إصدار أحكام إرتجالية قاطعة وحادة، وللتعاطي مع التجربة السوفييتية، تحديداً، بصورة شبه ميتافيزيقية ومخالفة للنهج الذي أرساه كارل ماركس ومدرسته في التحليل الملموس للواقع المادي الملموس. وذلك سواء أكان هذا التجاوز لنهج ماركس سواء من خلال تمجيد وتقديس التجربة في الإتحاد السوفييتي بمجملها وفي تفاصيلها وتكتيكاتها السياسية، أو تمجيد مرحلة معينة منها وتسويد مراحل أخرى، بصورة شبه لاهوتية، أو، من الجانب الآخر، من خلال تسويد هذه التجربة كلياً أو جزئياً، واعتبارها مشروعاً فاشلاً قائماً على "وهم تغيير الطبيعة البشرية"، كما يرد في بعض التقييمات المناهضة لها بالأساس، أو المنفضّة عنها بعد الإنهيار.

التجربة السوفييتية تبقى حدثاً مركزياً في القرن العشرين وفي التاريخ البشري

فالتجربة السوفييتية في التحول الإشتراكي، ومهما كان تحليلنا لمراحل مسارها ولأسباب انهيارها، تبقى حدثاً مركزياً بالغ الأهمية في القرن العشرين وفي التاريخ البشري بمجمله، حدثاً ترك بصماته على تطورات العالم كله خلال سنواتها السبعين ونيّف. وستبقى التجربة تترك تأثيراتها ومفاعيلها بعد الإنهيار.
فمن الممكن أن تكون هناك آراء متنوعة حول تقييم هذه التجربة، وحول مراحلها المتعاقبة، منذ ثورة العام 1917 وحتى الإنهيار وتفكك الإتحاد السوفييتي في العام 1991. ومن الممكن التفكير بفرضيات متعددة... لو حدثت ثورة أخرى، أو أكثر، واكبتها في إحدى دول أوروبا الأكثر تطوراً إقتصادياً ومجتمعياً... أو لو عاش لينين مدةً أطول ليقود بنفسه تلك المرحلة الإنتقالية البالغة الصعوبة... أو لولا أعمال هذا القائد أو ذاك من قادة الإتحاد السوفييتي اللاحقين... وهي فرضيات ليس من الممكن الجزم بما كانت ستؤول إليه، لأن ذلك كله يتعلق بماضٍ رحل، وبمعطيات بالغة التعقيد والتشابك لا يمكن، بالطبع، معرفة ما كان يمكن أن تفرزه بشكل محدد ومحسوم. وفي كل الأحوال، نحن الآن أمام تجربة منتهية وأصبحت مُلكاً للتاريخ. وما هو ممكن الآن، وضروري، هو السعي الى دراستها ودراسة إنعكاساتها على وضع الشعوب التي عاشت في ظلها أو في ظل تجارب شبيهة، كما شعوب بلدان ومناطق العالم الأخرى.
وأعتقد جازماً أن الأمور، في أية حال، لا تنتهي عند هذا الحد. أي إن التجربة السوفييتية، وأقصد هنا أيضاً مجمل التجارب الشبيهة التي شملتها انهيارات 1989-1991 وتفككات يوغسلافيا اللاحقة، باقية بآثارها على مجتمعاتها، وعلى بلدان العالم، بأشكال متعددة. وهي، وإن انتهت من زاوية حضورها المرئي، ستبقى، كما العديد من الأحداث الكبرى في التاريخ البشري، موجودة تحت السطح ولها امتدادات متنوعة ومتراكمة، بحيث ستبقى بصماتها وتفاعلات ما أنجزته، وما أخفقت في إنجازه، قائمة لفترة طويلة من الزمن.

أفكار الثورة الفرنسية احتاجت لأكثر من قرن للدخول في الممارسة

وبإمكاننا، لإسناد رأينا هذا، أن نتناول مصير الثورة الفرنسية التي انطلقت في أواخر القرن الثامن عشر، وطرح كبار قادتها ومفكريها برامج طموحة جداً لإحداث تغيير جوهري في البنى السياسية والقانونية والمجتمعية في فرنسا، وامتداداً في بلدان العالم الأخرى، بدءً بالبلدان الأوروبية الأقرب لها.
فقد تعرضت هذه الثورة لإنقلابات متتالية على مشاريعها الجذرية، تُوِّجت بـ"انقلاب" الضابط نابليون بونابارت في العام 1799 للسيطرة على الحكم، ثمّ تحوّله الى إمبراطور في العام 1804، منهياً بذلك ما يسميه الفرنسيون جمهوريتهم الأولى، وحاملاً معه مشروعاً عسكرياً توسعياً كبيراً في أوروبا (وذلك بعد محاولة السيطرة في العام 1798 على مناطق غير أوروبية، والمقصود بشكل خاص غزو مصر، ومحاولة الغزو الفاشلة لجوارها الشمالي، أي فلسطين...). ومعروف أن بونابارت حاول، في مشاريعه الإمبراطورية التوسعية، الإستناد الى شعارات الثورة الفرنسية لتدعيم مطامحه ولإعطاء توجهاته العسكرية التوسعية طابعاً تنويرياً، الى أن انتهى المشروع البونابارتي بالإنتكاس، ومعه ما تبقى من شعارات الثورة الفرنسية العلنية، إثر الهزيمة النهائية للمشروع النابليوني العسكري في معركة واترلو في العام 1815 ونفي صاحبه الى جزيرة في جنوبي المحيط الأطلسي، ليعود بعده النظام الملكي الى فرنسا، ولتسود القوى التقليدية المحافظة في أوروبا لعقود طويلة لاحقة.
ولكن هذه العقود اللاحقة من الإستقرار النسبي في فرنسا وفي أوروبا تخللتها أيضاً سلسلة من الإنتفاضات والثورات، سواء في فرنسا نفسها، أو في عدد من بلدان القارة الأخرى، وذلك طوال القرن التاسع عشر، الى أن انتهت الأمور في أواخر ذلك القرن وخلال القرن العشرين الى تحققٍ عملي متدرج لعدد من أبرز مطالب الثورة الفرنسية، في قوانين وممارسات بلدان القارة.
ونسوق هنا، على سبيل المثال، مبدأ الإنتخابات العامة، أي تلك التي لا تقتصر على شريحة معينة ومحدودة من الشعب، وهو المبدأ الذي تم النص عليه في دستور الثورة الفرنسية في العام 1793 ولكنه لم يطبّق في فرنسا إلا في العام 1848 مع إعلان الجمهورية الثانية هناك، قبل أن يجري الإنقلاب عليه باتباع رئيس الجمهورية الثانية المنتخب، لوي نابوليون بونابارت، لخطوات عمّه الراحل، عبر أنهاء الجمهورية الثانية وإعلان نفسه إمبراطوراً في العام 1852، الى أن سقط نظامه أمام الإجتياح الألماني (البروسي) لفرنسا في العام 1870، لتتأسس بعد ذلك الجمورية الثالثة ويعود مبدأ الانتخابات العامة (للذكور) للتطبيق في سبعينيات ذلك القرن. وعلى سبيل التذكير، نشير الى أن مقولة كارل ماركس الشهيرة، المحوّرة عن مقولة للفيلسوف الألماني هيغل، عن كون التاريخ يكرر نفسه، بشكل ما، مرتين، بحيث تكون الأولى تراجيديا والثانية مهزلة، أو مَسخَرة، هذه المقولة وردت في سياق مقارنة ماركس بين نابليون الأول ونابليون الثالث.
وكانت فرنسا، آنذاك، أول بلد يطبّق هذا النظام الإنتخابي العام، ولكنه كان يُطبَّق، كما أشرنا أعلاه، على الذكور فقط. بحيث لم يشمل حق الإقتراع والترشيح مجمل البالغين، أي الإناث أيضاً، إلاً في العام 1944 بعد تحرير فرنسا من الإحتلال النازي في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وهكذا، فإن هذا البلد الصناعي المتطور بقي يمنع مشاركة النساء في الإقتراع والترشيح حتى منتصف القرن العشرين، رغم حدوث سلسلة من الثورات والإنتفاضات والحروب الأوروبية والعالمية، ومن بينها ثورة كومونة باريس في النصف الأول من العام 1871، وهي الثورة العمالية التي أقرت بهذا الحق للنساء، لكن هزيمة تجربتها القصيرة أعادت الساعة الى الوراء، لتنتظر إناث فرنسا أكثر من سبعين عاماً لإقرار حقهن الإنتخابي.
هذا، فيما كانت بلدان عديدة، أوروبية وغير أوروبية، وإن سبقتها فرنسا بتطبيق تعميم حق الإقتراع والترشيح على كافة الذكور البالغين، كانت قد سبقت فرنسا الى إعطاء النساء الحق في التصويت والترشيح، وفي المقدمة نيوزيلندا، وفنلندا والدانمرك والنرويج وأستراليا وروسيا بعد ثورة العام 1917 وغيرها من البلدان. ومن المفارقات أن بلداً أوروبياً متطوراً مثل سويسرا لم يعترف بهذا الحق للنساء إلا في العام 1971، حيث كانت عدة استفتاءات شعبية (مقتصرة على الذكور وحدهم، طبعاً) قبل هذا التاريخ تعطي موقفاً سلبياً تجاه مشاركة النساء، بحيث سبق العديد من بلدان "العالم الثالث"، بما في ذلك بلدان عربية، هذا البلد الأوروبي المتقدم إقتصادياُ وصناعياً.
والأمر ذاته ينطبق على "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الصادر ابان الثورة الفرنسية عام 1789، وما تضمّنه من نصٍ على حقوق وحريات ديمقراطية، من بينها حرية التعبير والنشر، وهي الحرية التي تقدمت بشكل متدرج في تقاليد وقوانين بلدان العالم بعد سلسلة من الصراعات الإجتماعية والنضالات الديمقراطية المتواصلة. مع العلم بأن الأنظمة الرأسمالية المتطورة المعنية ما إن تنتهي من قوننة هذه الحريات، إلاّ وتبدأ محاولات الإنتقاص منها والإلتفاف عليها بشتى الوسائل والحيَل.
وهو ما نشهده اليوم في العديد من هذه البلدان في مجال حرية التعبير والنشر، حيث تسيطر مؤسسات وشركات رأسمالية كبيرة على أبرز وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة في معظم هذه البلدان، بحيث تحولت حرية التعبير في الممارسة العملية الى صيغة تعطي للأكثر ثراءً ونفوذاً إقتصادياً حقوقاً في التعبير وفي نشر رأيهم أوسع بكثير من تلك التي تُترَك لبقية شرائح ومكونات المجتمع. ويكفي أن نستعرض الجهات المالكة لوسائل الإعلام الكبرى هذه في الولايات المتحدة وفي دول أوروبية عديدة وبلدان أخرى مثل أستراليا ونيوزيلندا، وغيرها من بلدان العالم، لندرك حجم الإلتفاف الواسع الذي جرى على مبدأ حرية التعبير، الذي نصت عليه وثائق الثورة الفرنسية وانتزعته نضالات القطاعات الشعبية والديمقراطية المتواصلة في بلدان العالم المختلفة طوال قرن ونيّف.
ويمكن أن نشير هنا، أيضاً على سبيل المثال، الى الخداع الواسع الذي قامت به مؤسسات الإعلام الأميركية الكبرى عشية الهجوم الأميركي- البريطاني على العراق في آذار/مارس من العام 2003، حيث أوهمت هذه المؤسسات متابعي نشراتها الإخبارية ومنشوراتها بأن العراق يملك أسلحة دمار شامل ويتعاون مع منظمة "القاعدة"، التي اتُهمت بارتكاب الهجمات على نيويورك وواشنطن في 11/9/2001. صحيح أن الكذبة كانت قصيرة العمر، لكن لو لم تتم عرقلة الإجتياح ومقاومته في العراق بعد الإحتلال، ولو لم تبدأ القوات الأميركية بتكبّد الخسائر البشرية الملموسة، لكان بإمكان هذه الكذبة الكبرى أن تمرّ، كما حصل مراراً في التاريخ البشري، الذي قيل في الماضي أن "المنتصرين هم الذين يكتبونه".
وبالرغم من كون شبكة الإنترنت العالمية، التي راجت منذ أواخر القرن العشرين، تعطي الإنطباع بتوفير مجالٍ أوسع للديمقراطية، بحيث يستطيع كل من يدخل الشبكة إبداء رأيه ونشر صفحته، وهي بالتأكيد خطوة هامة الى الأمام في مجال حرية التعبير وتعددية الرأي، لكن يبقى، رغم ذلك، أن المواقع الأهم والأكثر استقطاباً من حيث القدرة على اجتذاب القراء والمشاهدين تبقى تلك الأغنى والأكثر دعماً من قبل أصحاب النفوذ الإقتصادي، كما تظهر إحصائيات المؤسسات المتابعة لحجم التردد على مواقع الإنترنت، مثل مؤسسة "ألكسا". وعلى أية حال، فهذا موضوع واسع وغني يحتاج الى معالجة ملموسة في مجال آخر.

الحريات الديمقراطية (بمعناها الشعبي الحقيقي) ضرورةٌ في المرحلة الإشتراكية

ولكن ذلك يوصلنا الى فكرة طرحها بعض المعلّقين في سياق نقاش كتابنا المشار إليه، حول مسألة الديمقراطية في التجربة السوفييتية وتلك القائمة في البلدان الرأسمالية المتطورة. وقد ذهب بعض المعلّقين الى حد اعتبار الحريات الديمقراطية غير مفيدة في مرحلة التحول الإشتراكي، مرحلة "ديكتاتورية البروليتاريا"، باعتبار "الديمقراطية سمة من سمات المجتمعات الرأسمالية". وهو كلام يمنح المسيطرين على هذه المجتمعات الرأسمالية، من طبقات وأصحاب نفوذ إقتصادي وسياسي، وساماً لا يستحقونه: فهم ليسوا ديمقراطيين في حقيقة الأمر، وقد أعطينا أعلاه مثالاً عن سياسة تفريغ حرية التعبير والنشر من مضمونها أو عمليات الإلتفاف عليها. وبالإمكان إعطاء أمثلة عديدة أخرى في مجال آخر.
وفي الواقع، فإن كل الحريات الديمقراطية التي توفرت في هذه البلدان لم تكن منّةً من الشرائح الحاكمة، إنما جاءت نتاج نضالات وصراعات واسعة، وحادة في بعض الأحيان، خيضت في مختلف هذه البلدان، وأرغمت الطبقات الحاكمة والمسيطرة على تقديم التنازلات للقطاعات الشعبية الأوسع، على غرار ما ذكرناه بالنسبة للثورة الفرنسية، وما يمكن أن يقال عن مسلسل الثورات والعمليات الكفاحية العمالية والشعبية في أنحاء العالم، طوال القرنين الماضيين خاصةً، وحتى يومنا.
ومشكلة هذه الحريات، بالتالي، أنها، كما أشرنا، معرضةٌ دائماً للقرض والإنتقاص من مساحتها، بما في ذلك وخاصةً في البلدان الرأسمالية المتطورة، وحتى أكثرها تطوراً ديمقراطياً، نظراً لتغليب الشرائح الحاكمة لمصالحها الذاتية على مصالح القطاعات الشعبية الواسعة، كما تُظهر ذلك في العقود الثلاثة الماضية هجمة أنظمة العولمة الرأسمالية على المكتسبات الإجتماعية للشغيلة، من عمال وموظفين، وشغيلة عموماً، بما في ذلك على الحق في العمل، والضمانات الصحية وضمانات الشيخوخة. فكل هذه المكاسب الإجتماعية انتُزعت في سياق مسلسل الكفاحات والنضالات الماضية. وفي مرحلة "الحرب الباردة"، التي خيضت ضد الإتحاد السوفييتي وتجارب التحول الإشتراكي الأخرى، سعى حكام الدول الرأسمالية المتطورة الى سحب البساط الإجتماعي من تحت أقدام أنصار هذه التجارب أو المتعاطفين معها من القطاعات الشعبية، عبر تقديم مثل هذه التنازلات لها، منعاً لتنامي التعاطف الشعبي مع التيارات اليسارية الجذرية الداعية الى التحول الإشتراكي. وفي مرحلة تراجع التجربة السوفييتية ثم انهيارها في الثمانينيات ومطلع التسعينيات الماضية، لم تعد الشرائح الرأسمالية الحاكمة بحاجة الى تقديم تنازلات كهذه، فعملت، كما ذكرنا، على التراجع عما كانت قد وافقت عليه من حريات وحقوق ديمقراطية للقطاعات الشعبية الأوسع، وهو أحد الجوانب الأبرز في تطبيقات ما أُطلق عليه تعبير "الليبرالية الجديدة" في مرحلة العولمة.
ومن هنا، نرى أن الديمقراطية الحقيقية في مرحلة التحول الإشتراكي، التي تحدث عنها فلاديمير لينين في كتابه الشهير "الدولة والثورة"، الذي صدر عشية ثورة أكتوبر عام 1917، لا بد أن تكون أبعد مدىً وأكثر ديمقراطية من تلك القائمة في أكثر البلدان الرأسمالية ديمقراطيةً، على حد تعبيره. ولذلك، كان لا بد من تناول مجريات الأحداث على الأرض في روسيا أبان وبعد ثورة أكتوبر 1917 وخلال مسار التجربة السوفييتية بمجملها بمنظار واسع الأفق، يحلّل الظروف التي قامت في ظلها التجربة، ومستوى تطور البلد، والصراعات والتناقضات التي كانت تتسم بها تلك المرحلة الصعبة، في ظل تحديات خارجية هائلة لم تهدأ ولم تتوقف.
وهذه المعطيات لم تكن، بالضرورة، حتمية وصالحة لكل زمان ومكان، ولا ينبغي بالتالي أن ترتفع الى مستوى التنظير والمبدئية، بحيث يقال أن لا نموذج آخر ممكنٌ للتطور والتحول الإشتراكي سوى هذا النموذج، على أهمية التجربة السوفييتية ودورها الكبير في التأثير على أحداث العالم كله، كما سبق وأشرنا. أي إن بعض جوانب التجربة السوفييتية، مثل فرض نظام الحزب الواحد أبان الحرب الأهلية وبعد المواجهات التي لجأت إليها بعض القوى اليسارية الأخرى، التي كان بينها وبين الحزب البلشفي تحالف في بدايات الثورة، ومثل تغييب الحريات الديمقراطية، ومنها حرية التعبير، لا يمكن اعتبارها مكوّناً ضرورياً وحتمياً ودائماً من مكوّنات نظام مرحلة التحول الإشتراكي.
وينبغي هنا توضيح الإستعمال الخاطئ المتكرر لمفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" في بعض الأدبيات وبعض التعليقات، حيث يجري إفتراض ضرورة كون النظام السياسي في ظلها بالضرورة نظاماً ديكتاتورياً، بمعنى أنه يقوم على أساس تسلط مجموعة صغيرة من الناس ومن الأفراد على غالبية المواطنين وعلى مصائر البلد ومقدراته. ومهما كانت كفاءة هذه المجموعة الصغيرة وتفانيها في خدمة مصلحة المجموع، فإن تغييب الحريات العامة في سياق هذا التفسير للمفهوم النظري (أي ديكتاتورية البروليتاريا) يذهب بالعكس مما قصده لينين، وقبله كارل ماركس، في حديثه عن هذا المفهوم.
إذ من المعروف أن الماركسية تعتبر كل سلطة، كل دولة، بالضرورة، نظاماً قمعياً لطبقة أو مجموعة من الطبقات على طبقات أخرى، وأن الحرية الكاملة للإنسان لن تتوفر إلا بعد تلاشي الحاجة للدولة وغيابها بالتالي، واعتماد الناس على تنظيمهم لأنفسهم بأنفسهم. وهذا تطلع هو، في كل الأحوال، كما أثبتت أحداث القرن الماضي، بعيد المدى والتحقق، أكثر مما كان يتصور بعض أنصاره في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وهكذا، فإن التحليل الماركسي يعتبر أن الدولة الرأسمالية، حتى لو كان مستوى التطور الديمقراطي فيها عالياً، هي في الواقع ديكتاتورية للبورجوازية على بقية الشعب، أي ديكتاتورية أقلية على الأغلبية، حتى بالنسبة لبلدان متطورة مثل البلدان الإسكندنافية في شمال غرب أوروبا، التي ينظر إليها البعض اليوم كنماذج للتطور الديمقراطي والإجتماعي المتقدم. وهو ما لا يعني، كما هو واضح، أنها بلدان قمع وبطش وإرهاب دولة على غرار بعض النماذج التي عرفناها طوال القرن العشرين، مثل ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وحكم فرانكو في إسبانيا وسالازار في البرتغال والنظام العنصري في جنوب إفريقيا والصهيوني في إسرائيل وغيرها من الأنظمة الإستبدادية القمعية. ومن هذه الزاوية، فإن أنظمة التحول الإشتراكي، التي يُفترض نظرياً أنها دول "ديكتاتورية البروليتاريا"، ينبغي أن تكون أكثر ديمقراطية بكثير من الدول الإسكندنافية، كما نفهم من كلام لينين المشار إليه أعلاه.
لكن ما حدث في التجربة السوفييتية، لأسباب قد تكون لها علاقة بالظرف التاريخي والإستهداف الخارجي المحموم، منذ بدايات التجربة، كما لها علاقة بتاريخ البلد الإستبدادي قبل الثورة وضعف تطور المجتمع المدني والحريات الديمقراطية فيه آنذاك، وهي أسباب تُفسِّر، ولكنها لا تُبرِّر، التغييب المستمر للحريات الديمقراطية، أو الإستعاضة عنها بالحديث عن الحريات، أو الحقوق، الإجتماعية، أي نظام الضمانات الواسع على صعيد الحق في العمل والرعاية المادية الدائمة للمواطنين منذ الولادة وحتى الوفاة.
وبالرغم من كون هذه الحقوق الإجتماعية هامة وأساسية، إلا انها ليست بديلاً عن الحريات الديمقراطية، بمنظورها الأوسع والأشمل من تلك المتوفرة في الأنظمة الرأسمالية. ومن الواضح، حسب بعض استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخراً في بلد مثل تشيكيا أو الجزء الشرقي من ألمانيا، أن غالبية السكان هناك ما زالت تعتبر هذه الحقوق الإجتماعية مكاسب هامة كانت تتمتع بها في الماضي، وهي اليوم مطالب ضرورية راهنة لها. ولكن غياب الحريات الديمقراطية الأوسع، المفترضة في التجربة السوفييتية وغيرها من التجارب الشبيهة، جعلت القطاعات الشعبية الواسعة، التي تضررت من إسقاط هذه التجربة على صعيد مستوى معيشتها وحقوقها الإجتماعية، تقف متفرجة وغير فاعلة إزاء عملية تفكيك وتدمير هذه التجربة واستيلاء قلة من المتنفذين، ومن المافيات الجديدة، على الملكية العامة وثروات الشعب في بلدانها. ووقوفها متفرجة يعود، بالأساس، لاستبعادها طوال هذه التجربة من مواقع المشاركة في القرار وتسيير شؤون البلد، حيث كان القرار حكراً على قلة محدودة نسبياً من الناس في قمة السلطة، قادت البلد في مراحله المختلفة، بمركزية قرار سياسي واقتصادي شديدة، وقام بعض أفراد هذه المجموعة المتنفذة، في نهاية المطاف، بإحداث الإنقلاب الذي أدى الى انهيار التجربة، دون أن تكون القطاعات الشعبية الواسعة لها دور مباشر في التصدي لهذا الإنقلاب والدفاع عن المكاسب الإجتماعية المتحققة خلال مرحلة التحول الإشتراكي. ومن الجليّ أن لا تفسيرَ آخر لهذا الإبتعاد الشعبي الواسع عن التحرك إلاّ تراث إبعاد هذه القطاعات الشعبية الواسعة، وفي المقدمة الشغيلة، عن البنية السياسية وغياب المشاركة الفعلية، وليست الشكلية، لها في الشأن العام وفي الرقابة على الحكم، والحياة عامةً، في هذه التجارب.
ونحن لا نقول ذلك لتسويد هذه التجارب، وخاصة التجربة الأولى، السوفييتية، التي سردنا في الكتاب بشكل مطول إنجازاتها الواسعة، ليس فقط على صعيد الجمهور في الإتحاد السوفييتي وإنما أيضاً على صعيد استنهاض قوى التحرر في العالم الخاضع للإستعمار وللنفوذ الإمبريالي، ودفع أصحاب القرار والنفوذ في البلدان الرأسمالية المتطورة لتقديم تنازلات لصالح الشغيلة والقطاعات الشعبية خشيةً من "تمدد الشيوعية" واكتساب الشيوعيين واليساريين لمواقع إضافية في بلدانها ونفوذاً على السياسات العامة فيها. كما لا نريد أن نبدو وكأننا نملك أحكاماً وحلولاً قاطعة لأوضاع شديدة التعقيد تواجهها القوى والتيارات التي تعمل من أجل التحول الإشتراكي بعد وصولها الى السلطة في تعاملها مع الواقع المركّب ومع مصاعب التغيير الجذري، وفي الآن ذاته مع محاولات التخريب التي تقوم بها، بشكل خاص، قوى خارجية ذات نفوذ وإمكانيات مادية وعملية كبيرة.
ولنا هنا مثال أقرب إلينا زمنياً، يتمثل في التخريب الذي واجه تجربة الساندينيين في نيكاراغوا بين العامين 1979 و1990 خاصة على أيدي الإدارات الأميركية التي دعمت قوات مضادة للتجربة على حدود البلد وبتمويل من الولايات المتحدة، كما ومحاولات التخريب الجارية راهناً على تجارب يسارية ذات برامج متقدمة في أميركا اللاتينية، وخاصة على تجارب فنزويلا وبوليفيا وإكوادور، الأكثر جذريةً في تلك القارة.

الإشتراكية أمامنا... وليست وراءنا

ووضع الإصبع على الجرح بهذا الصدد، أي على نقائص وسلبيات التجربة السوفييتية، لا يُراد منه، بالتالي، الإنتقاص من قيمتها التاريخية، وإنما الإستفادة من هذا التشخيص الضروري بهدف بناء تجارب تحوُّل إشتراكي جديدة أكثر تقدماً ونجاحاً وأكثر مناعةً تجاه محاولات التخريب والعرقلة الخارجية.
فالإشتراكية الفعلية، كما قيل، ليست وراءنا، بل هي أمامنا. وحتى نقرّب من تحققها، لا بد من أن نسارع الى تدارك سلبيات التجارب السابقة في عمل وتوجهات التيارات المتمسكة بهذا الهدف. وهذه التيارات كثيرة وواسعة في أنحاء العالم خلافاً لما تشيعه أوساط المناهضين للإشتراكية أو المحبَطين من انهيار أول وأهم تجربة لها حتى الآن. وقد حاولنا في الكتاب أن نرسم صورة لبعض مواقع اليسار الجذري المستمرة في العالم، ومنها مواقع يستمر فيها التقدم وتحقيق الإنجازات، وليس فقط في أميركا اللاتينية.
وإذا كان صحيحاً أن روسيا الإتحادية وجمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق الأخرى، وبلدان أوروبا الشرقية والوسطى والجنوبية الشرقية التي شهدت بعض التجارب الشبيهة، كلها اتجهت الآن الى أشكال متنوعة، ومتفاوتة النجاح، من نظام السوق الرأسمالي، فإن قطاعات واسعة من سكان هذه البلدان ما زالت تعتبر الحقوق الإجتماعية الواسعة التي كانت قائمة في ظل أنظمة التحول الإشتراكي السابقة مكاسب هامة، وتؤيد من يدعو إلى تأمين إعادة الإعتبار لها وإعادة توفيرها في المستقبل. وهو ما يظهر في استطلاعات رأي أجرتها مؤسسات مهنية لا علاقة لها باليسار، على سبيل المثال، في كل من جمهورية تشيكيا، العضو حالياً في الإتحاد الأوروبي، ومقاطعات ألمانيا الشرقية، التي باتت منذ العام 1990 جزءً من ألمانيا الإتحادية الموحدة. ويذهب البعض في هاتين المنطقتين، وفق الجهة المنظمة للإستطلاع، الى الحديث عن أن "الإشتراكية شيء جيد، لكن ممارستها العملية كانت فيها نقائص"، كما جاء على لسان بعض المستجوبين في ألمانيا الشرقية. وليست صدفة أن في هاتين المنطقتين اللتين كانتا، حتى في ظل نظام التحول الإشتراكي، أكثر تطوراً إقتصادياً وصناعياً وذات مستوى معيشة أعلى مما كان في الإتحاد السوفييتي نفسه، ليست صدفة أن تكون الأحزاب اليسارية الجذرية ذات حضور ملموس فيهما. وهو حال الحزب الشيوعي لبوهيميا ومورافيا في تشيكيا، الذي تعطيه الإستطلاعات أكثر من 15 بالمئة من الأصوات في أية انتخابات قادمة، كما وحزب الإشتراكية الديمقراطية، وريث الحزب الحاكم سابقاً في "جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، والذي أصبح منذ أواسط العام 2007 جزءً من "حزب اليسار" الذي تَشَكّل بالتلاقي مع الجناح اليساري المتقدم في الحزب الإجتماعي الديمقراطي، حزب غيرهارت شرودر، الحزب المشارك حالياً في حكومة أنغيلا ميركيل الإئتلافية، والمتناغم بالتالي مع سياساتها الرئيسية ذات المنحى اليميني.
وإذا كان الحزبان اليساريان الجذريان التشيكي والألماني المشار إليهما أعلاه لهما سياسات ورؤى مختلفة بعض الشيء عن سياسات النظامين الحاكمين قبل العام 1989 في كل من تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية، فذلك لأنهما عملا على استخلاص دروس التجارب السابقة، واستندا الى تحليلها والتقاط القضايا التي تهم القطاعات الشعبية في البلدين الحاليين، تشيكيا وألمانيا، وخاصة قطاعات العمال والموظفين، وقطاعات الشغيلة عامة، وهو ما يفسِّر التوسع في العضوية والنجاحات الإنتخابية للحزبين الجديدين في كلا البلدين.
ونحن لسنا هنا بصدد تقييم برامج وسياسات هذين الحزبين بتفاصيلها، وذلك يحتاج الى حيّزٍ آخر. وفي كل الأحوال، فإن مهمات وضع هذه البرامج والإستراتيجيات، أو تصويبها، ليست مهمتنا نحن، بل هي مهمة اليساريين الجذريين في كل من البلدين. وقد أردنا من طرح هذين المثلين إظهار استمرارية التطلع، حتى في البلدان الرأسمالية المتطورة، وحتى بعد انهيارات أنظمة التحول الإشتراكي في الفترة بين 1989-1991، الى مجتمعات أكثر إنصافاً وعدلاً وضماناً لمصلحة الغالبية الساحقة من المواطنين، وليس فقط الرفاهية والثراء الفاحش لقلة من السكان على حساب الضنك والفقر لغالبية المواطنين (وهو فقر نسبي طبعاً في تلك البلدان المتطورة إقتصادياً، ولكنه أحياناً فقر واقعي حقيقي حتى في هذه البلدان، كما رأينا، مثلاً، مشاهد البؤس في ولاية لويزيانا ومدينة نيو أورلينز في جنوبي الولايات المتحدة ابان إعصار كاترينا المدمر في العام 2005).
وبما أننا لم نحاول في الكتاب الحلول مكان القوى والتيارات اليسارية الجذرية في بلدان تجارب التحول الإشتراكي السابقة في شق الطريق الجديد لتحقيق أهدافها، فقد أكدنا، في الوقت ذاته، أن أية تجربة جديدة للتحول الإشتراكي، في هذه البلدان ذاتها، وهو أمر وارد ومحتمل، وإن يكن ليس في الأمد القريب على الأرجح، أو في بلدان أخرى، هذه التجارب المحتملة لا يمكن أن تعيد نسخ التجارب السابقة، بما في ذلك التجربة السوفييتية. بل هي، بالضرورة، ستكون تجارب أكثر تقدماً ونضجاً، على خلفية الإستفادة من دروس التجارب السوفييتية وعلى خلفية التطور والتقدم الإقتصادي الذي تشهده بعض هذه الدول حالياً، ومنها تشيكيا وألمانيا، وحتى بشكل متزايد روسيا نفسها، وهو تقدم لم يكن قائماً في روسيا القيصرية حين قامت الثورة البلشفية.
وقد أوردنا في الكتاب أفكاراً للقائد والمفكر العمالي الإيطالي البارز أنطونيو غرامشي حول التمايز بين ما أسماه مناطق "الشرق"، وهي المناطق ذات الأنظمة الإستبدادية، حيث "الدولة هي كل شيء، والمجتمع المدني لا شيء"، على حد تعبيره، وبين مناطق "الغرب"، كما أسماها بدون إعطاء مضمون جغرافي بالضرورة للكلمة، حيث تطورت بنى المجتمع المدني، بحيث ينبغي كسب المجتمع وإقناع قواه الحية والفاعلة وقطاعاته الواسعة لتحقيق التحول الثوري، وليس فقط الإستيلاء على جهاز الدولة.
ولا يغيب عن بالنا هنا، بالطبع، ان العالم تغيّر بشكل كبير خلال العقود التسعة الماضية منذ ثورة أكتوبر 1917، وخلال العقود السبعة منذ وفاة غرامشي نتيجة معاناته من سجون فاشية موسوليني. وهو ما يعني أيضاً أن على اليساريين الجذريين، الى جانب الإستفادة من تجارب وأفكار الماضي، دراسة التطورات التي حصلت في العالم، وفي البلد المعني طبعاً، على صعيد البنى الإقتصادية والإجتماعية وعلى صعيد تطور العلوم والتقنيات ووسائل الإتصال، كما سعى لينين في عصره أن يفعل بعد رحيل ماركس وإنغلز في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل أكثر من عقدين من ثورة أكتوبر في روسيا، وكذلك كما فعل، ويفعل، ثوريون ومفكرون يساريون جذريون آخرون في أنحاء العالم.
فالمعرفة لم تتجمد في أية مرحلة من مراحل التاريخ، ولن تتجمد. وإذا كان الحنين للسنوات الأولى من الثورة البلشفية مفهوماً لدى البعض من أنصارها، وهو أمر طبيعي لما كان لهذه الثورة من وهج وأصداء وتأثيرات هائلة على عالم تلك المرحلة، فإن الوفاء لأفكار صُنّاع هذه الثورة يقتضي، في العمل الملموس، تجاوز مستوى الحنين الى مستوى فهم الواقع الحالي واشتقاق الإستراتيجيات التي تستند الى هذه المعرفة لتغيير الواقع الحالي بالإتجاه المتوخى. وهو ما يعني العمل من أجل بناء نموذج جديد للتحول الإشتراكي، يحقق للبشر أفضل ما كان قائماً في التجارب السابقة، مع أقل قدر من السلبيات التي رافقتها، بالإضافة الى كل المكتسبات الجديدة التي حققتها وتحققها المجتمعات البشرية، وتطويرها الى مستويات أعلى، وكل ذلك على أساس ما أسميناه الديمقراطية الشعبية، التي ترتكز الى دور فاعل ومشارك للقطاعات الشعبية في مجمل عملية التحول، تمييزاً عن أشكال الديمقراطية المنقوصة، والمعرضة للإنتقاص والتحايل، القائمة في البلدان الرأسمالية المتطورة حالياً، كما أوردنا أعلاه.
وهنا، من المفيد التأكيد مجدداً أننا لم نستهدف من وراء الكتاب المجيء بتحليلٍ شافٍ ووافٍ للتجربة السوفييتية، وهو عمل يمكن أن يقوم به بشكل أفضل منا أولئك الذي عايشوا تلك التجربة أو درسوها عن قرب وبعمق، وهو أمر لا ندّعيه، مع التأكيد على الحرص الذي أبديناه في الكتاب على التدقيق في كل المعلومات والأحكام التي أوردناها ومصادر هذه المعلومات. فهدفنا من الكتاب هو محاولة توضيح الصورة أمام القارئ الحالي بشأن ماضي تجارب التحول الإشتراكي وتفسير خلفيات ما جرى في أواخر القرن الماضي من انهيارات، ومن ثمَّ تقديم صورة أوسع لوضع القوى اليسارية في مناطق العالم المختلفة، لنصل الى التأكيد على كون تطلعات أولئك الذين راهنوا على التجربة السوفييتية وغيرها من تجارب التحول الإشتراكي، وأيدوها بحماسةٍ وثقةٍ عميقتين بالمستقبل، هذه التطلعات، بمضمونها الأوسع والأشمل، لا زالت راهنة ولا ينبغي أن تسقط بالإحباط واليأس اللذين تنشرهما الأوساط المناهضة لمُثل وأهداف اليسار والإشتراكية، وتلك المراهِنة على تأبيد وإدامة النظام الرأسمالي، نظام "نهاية التاريخ" المزعومة. وهكذا، فإن أسباب النضال من أجل إنهاء الظلم والإستغلال والإضطهاد والتمييز بين البشر، وهي كلها سمات تلازم النظام الرأسمالي، لا زالت قائمة، لا بل هي تزداد حدةً في مرحلة العولمة و"الليبرالية الجديدة" وفي عالم القطب الأوحد، عالم التفرد الأميركي بالسطوة الكونية، وعالم العدوانية العسكرية المنفلتة من عقالها.
هذا، مع العلم بأن هذا التفرد بات يتعرض الآن لتحديات متزايدة من شعوب العالم، ومن قوى كونية جديدة صاعدة، ازدادت قوةً وثقةً بالنفس خلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. وقد تناولنا في الكتاب، كما سبق وذكرنا، الى جانب تحليل التجربة السوفييتية وأسباب انهيارها، الصعود الواسع، الملفت للإنتباه، لليسار في أميركا اللاتينية، وكذلك تنامي القوة الإقتصادية لبلدين مهمين في آسيا الشرقية، الصين وفييتنام، والأولى مرشّحة لتصبح قوةً عظمى في السنوات القادمة، وتعزيز وضع قوى اليسار في بلدان عديدة أخرى في أنحاء العالم، من الهند الى جنوب إفريقيا. هذا، الى جانب بروز الحركة العالمية المناهضة للعولمة الرأسمالية، والتي تشمل قطاعات متنوعة وعديدة أوسع من قطاعات اليسار الجذري التاريخية، وتخوض العديد منها معارك قوية في مجالات التصدي لبعض أو مجمل سياسات القوى الإمبريالية والرأسمالية، المستمرة في الإستهتار بمصير غالبية البشر ومصير بيئتهم الطبيعية. حيث لا يزال هاجس الربح الأقصى والإكتساح المتواصل للأسواق ولمصادر الثروة في العالم يحكم سلوك وسياسات هذه القوى الرأسمالية، كما كان قد أوضح كارل ماركس في دراساته العميقة للمرحلة الرأسمالية الصناعية، وهي دراسات تحتفظ براهنية كبيرة في تحليلها وتشخيصها لطبيعة النظام الرأسمالي، الذي لا زال هو نمط الإنتاج السائد في عالمنا الراهن، أي بعد أكثر من قرن على رحيل ماركس وإنغلز، مع أهمية استيعاب العناصر الجديدة التي طرأت على تجليات هذا النظام، وعلى القوى المنتجة وتقنيات الإنتاج التي شهدت تطوراً هائلاً خلال هذا القرن الذي مضى، وما تزال.

أفغانستان... "الفخ" الذي نصبه بريجينسكي!

بعض التعقيبات على تقديم مضمون الكتاب تساءلت حول مدى تأثير التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان منذ أواخر العام 1979 في مفاقمة تأزم الوضع الداخلي السوفييتي في الثمانينيات، كما جاء في الكتاب، الذي اعتبر هذا التدخل أحد العوامل التي أدت الى وصول الأزمة العامة الى نهاياتها مع انهيار الإتحاد السوفييتي، طبعاً مع عوامل أخرى تناولها الكتاب لها علاقة بشكل رئيسي بالبنية الإقتصادية، والسياسية، للبلد. ونسبت بعض هذه التعقيبات الى بعض الدول الآسيوية الشرقية دوراً في التخريب على النظام القائم آنذاك في أفغانستان، قبل التدخل السوفييتي العسكري المباشر، وخاصة عبر حفيظ الله أمين، الذي قام في أيلول/سبتمبر 1979 بإنقلاب على الرئيس الأفغاني نور محمد طرقي، الذي كان قائد حركة نيسان/أبريل 1978 ضد الحاكم السابق لأفغانستان محمد داود، التي أوصلت الحزب الذي كان يقوده، واسمه حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني، الى السلطة. وفي الواقع، فإن الحزب الحاكم الجديد في أفغانستان كان يعاني، حتى قبل أن يصل الى السلطة، من جملة من التناقضات الداخلية، تمثلت أبرزها بوجود جناحين كانا منفصلين في السابق، ثم اتحدا، ولكن بقيت هناك حساسيات بينهما، وهما الجناحان اللذان كانا معروفين باسم "خلق"- أي الجماهير-، بقيادة طرقي، و"بارشام" - أي الراية-، بقيادة بابراك كرمال. ولقي وصول الحزب الى السلطة والإطاحة بنظام محمد داود في ربيع العام 1978 ترحيباً شعبياً واسعاً في حينه في أنحاء البلد نظراً للفساد وللقمع اللذين سادا في ظل الحكم السابق. لكن بعض المسؤولين الجدد في البلد قاموا بعد ذلك بسلسلة من الخطوات والسياسات المتسرعة في سياق محاولة تطوير وضع البلد تعليمياً واجتماعياً، مما استنفر مواقف سلبية لدى قطاعات واسعة من السكان، المحافظين في غالبيتهم، والذين تحولوا بشكل سريع الى موقف عدائي من النظام. وهو تحول جرى تشجيعه بسرعة من الخارج المعادي للإتحاد السوفييتي، وخاصة من قبل الولايات المتحدة. وهو ما سمعناه مباشرة من عدد من المسؤولين في هذا الحزب في لقاءات معهم في مطلع الثمانينيات.
وقد اتضح في السنوات الأخيرة أن التدخل الخارجي الرئيسي للتخريب على نظام طرقي في أفغانستان كان من قبل الولايات المتحدة، وقبل أشهرٍ من دخول القوات السوفييتية الى البلد. وقد كشف ذلك، بوضوح شديد، زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي في تلك الفترة، في مقابلة نشرت معه في مجلة أسبوعية أوروبية في الشهر الأول من العام 1998، قال فيها ان رئيسه جيمي كارتر وقّع، بناءً على اقتراح منه، على أمر رئاسي في مطلع تموز/يوليو 1979 يقضي بتوفير الدعم العملي للمعارضين للنظام الأفغاني آنذاك، وذلك قبل ستة أشهر من تدخل القوات السوفييتية في أفغانستان. وأضاف بريجنسكي في المقابلة ذاتها أن هذا التدخل كان يستهدف استدراج الإتحاد السوفييتي للتدخل العسكري في أفغانستان، بحيث تصبح أفغانستان "فييتنام الإتحاد السوفييتي"، على حد تعبيره. ورداً على سؤال للصحافي الذي سأله إذا ما كان نادماً على ان هذه السياسة الأميركية قادت الى تنامي الحركات الأصولية العنفية الإسلامية، اجاب بريجينسكي بما معناه ان انهيار الإتحاد السوفييتي وتفككه أهم بكثير بالنسبة لواشنطن من تفلت حفنة من المتطرفين الإسلاميين، على حد تعبيره (هذه الرواية واردة مع ذكر المصدر والكلام الحرفي للمستشار الأميركي في الفصل الخاص بالتجربة السوفييتية في الكتاب إياه "اليسار والخيار الإشتراكي").
بعض التعقيبات على الكتاب تساءل أيضاً عن مدى تأثير سباق التسلح الذي فرضته إدارة رونالد ريغن الأميركية (1981-1989) على الإتحاد السوفييتي، خاصة بعد تخلي تلك الإدارة، منذ بداية ممارستها لمهماتها، عن مناخ الإنفراج الدولي والإتفاقات السابقة مع الإتحاد السوفييتي، وطرحها لمشاريع تسليح الفضاء، التي عُرفت باسم "حرب النجوم". وفي الواقع، فإن المسؤولين السوفييت خاضوا معركة دعاوية واسعة، في ذلك الحين، ضد هذه المشاريع الأميركية لرفع وتيرة التسلح، نظراً للوضع الإقتصادي الصعب في البلد ولحاجتهم لتكريس مزيد من الأموال لتحسين الأحوال المعيشية لسكانهم. وعلاوةً على العبء الكبير، الإقتصادي والسياسي والمعنوي، الذي شكّلته الحرب في أفغانستان والتصعيد الأميركي في السباق العسكري، كان هناك أيضاً عبء المساعدات الواسعة التي كان الإتحاد السوفييتي يقدمها، لبلدان "العالم الثالث" خاصةً، بما في ذلك في مجال التسليح لعدد من الدول الآسيوية والإفريقية، ومن بينها عدة دول عربية، كانت تشتري السلاح السوفييتي ولا تسدد أثمانه، وهي مسألة لم تسوَّ حتى الآن مع بعض هذه الدول. مع العلم بأن روسيا الإتحادية اعتمدت، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، على السعي لعقد اتفاقات ثنائية مع دول مدينة لتسديد جزئي، وأحياناً رمزي وعينيّ، بمعنى عبر الإستعاضة عن الدفع المالي بقبول إرسال منتجات معينة من البلدان المعنية.
هذا، دون أن ننسى أن المساعدات العسكرية، وغير العسكرية، التي كان يقدمها الإتحاد السوفييتي (وبلدان أخرى مثل الصين) لفييتنام في حربها التحررية خلال الستينيات وأوائل السبعينيات، ثم لعدد من حركات التحرر في إفريقيا ومناطق أخرى كانت، بالطبع، مساعدات غير مدفوعة الثمن. وخلافاً للنظام الرأسمالي الذي يقود فيه أحياناً تنشيط التصنيع العسكري، خاصة خلال الحروب، الى تنشيط الحركة الإقتصادية، كما حصل مع النظام النازي في الثلاثينيات الماضية وفي الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية، فإن الإنفاق العسكري في النظام السوفييتي كان يجري على حساب تلبية الإحتياجات المتزايدة للمواطنين في البلد، الذين كانوا، رغم توفُّر الحاجات الأساسية والضمانات الإجتماعية الواسعة التي أشرنا إليها أعلاه، يطمحون الى مستوى أفضل من الرخاء والتمتع بنتاجات الإكتشافات والتقنيات الحديثة.
وقد أشرنا في الكتاب أيضاً الى كون انخفاض أسعار النفط في أواسط الثمانينيات كان عاملاً مهماً في مفاقمة الوضع الإقتصادي السوفييتي، لكون هذه المادة الأولية، وكذلك الغاز الطبيعي، كان جزء منهما يُصدَّر الى دول رأسمالية متطورة مقابل تأمين واردات سوفييتية من هذه البلدان، من بينها استيراد الحبوب في سنوات الجفاف في الإتحاد السوفييتي من بلدان مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ودول أوروبية، وكذلك استيراد بعض الصناعات الإلكترونية والنكنولوجيات المتطورة. وهذا التبادل التجاري كان، بالطبع، قسماً محدوداً من التبادل التجاري السوفييتي، الذي كان يجري بالأساس مع دول منطقة "كوميكون"، أي "مجلس التعاضد الإقتصادي المشترك"، الذي كان يضم، في السنوات الأخيرة لوجود الإتحاد السوفييتي، كأعضاء، أنظمة التحول الإشتراكي الأخرى في أوروبا، باستثناء ألبانيا، بالإضافة الى منغوليا وفييتنام وكوبا، كما كانت هناك إتفاقيات تعاون بين المجلس وبعض دول "العالم الثالث" ذات التوجه اليساري. وكان الإتحاد السوفييتي يتعامل مع بلدان "العالم الثالث" هذه بشروط مخففة، ويقدم لها المساعدات العينية، والنقدية أحياناً. وبما أن العملة السوفييتية لم تكن قابلة للتصدير وللتعامل في الأسواق الخارجية، فرضت الحاجة السوفييتية للعملة الصعبة نفسها للقيام بهذه المعاملات. والعملة الصعبة لم تكن تعني فقط العملة الأميركية، التي جرى فرضها كعملة قياس دولية في مؤتمر بريتون وودز في العام 1944، في أواخر الحرب العالمية الثانية، وكانت عملة مربوطة آنذاك بالذهب وقابلة للتحويل إليه، وهو الربط الذي ألغاه، بقرار أحادي الجانب، الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في العام 1971، على خلفية استنزاف إحتياطي الذهب لدى الولايات المتحدة والتراجع في الوضع الإقتصادي الأميركي، والرأسمالي عموماً. وهذا التراجع في الوضع الإقتصادي الأميركي لعب دوراً كبيراً في التمهيد لمرحلة "الليبرالية الجديدة" وما عُرف لاحقاً باسم "العولمة"، التي كانت تستهدف، بالدرجة الأولى، وضع حد لتباطؤ النمو الإقتصادي المتزايد، وكذلك لتدني معدلات الربح، في الولايات المتحدة، كما في العديد من الدول الرأسمالية المتطورة الأخرى.
وفي سياق الحديث عن أسعار النفط وتأثير انخفاضها على الإقتصاد السوفييتي، يمكن التذكير بتصريحات علنية للرئيس الأميركي اليميني المتشدد رونالد ريغن في أوائل الثمانينيات الماضية، قال فيها بأنه سيعمل على خفض أسعار النفط العالمية لإضعاف عدد من الدول المصدّرة للنفط، والتي كان يعتبرها معادية للولايات المتحدة، أو كما كان يقول "الراعية للإرهاب"، وذكر بالإسم الإتحاد السوفييتي وإيران وليبيا. وهو خفض لأسعار النفظ العالمية تحقّق فعلاً، بتواطؤ من بعض الدول العربية العضوة في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، التي أخذت تغرق السوق بالنفط لتحقيق هذا الخفض. هذا، في وقت كانت فيه دولتان عضوان أيضاً في "أوبك"، هما العراق وإيران، منشغلتين بحرب دموية رهيبة في ما بينهما، أدت الى استنزاف أرواح شعبيهما وثرواتهما، كما وقسم من ثروات الدول الخليجية العربية التي كانت توفر المساعدة المالية للجانب العراقي في الحرب. بحيث نجحت الولايات المتحدة والدول الأوروبية، من خلال صفقات الأسلحة لجانبي الحرب وسائر احتياجات البلدين لمواصلة الحرب، في استعادة قسم كبير من الأموال التي أنفقتها على شراء النفط بعد ارتفاع سعره أكثر من مرة منذ أواخر العام 1973، وهي أموال تراكمت كأرصدة لدى هذه الدول المصدّرة للنفط، وخاصة دول الخليج.
***
وعلى أية حال، فإن ما أوردناه هنا، كما في الكتاب، لا يهدف، بالأساس، الى إحاطة أكاديمية مفصّلة بما جرى في الإتحاد السوفييتي وبأسباب انهياره، بقدر ما حاولنا إيراد معلومات رئيسية تفسّر الحدث وترمي الى محاولة استخلاص الدروس لفتح الطريق أمام تجارب تحول إشتراكي جديدة، مسلّحة بدروس التجربة السوفييتية الغنية، سعياً لتقديم لاحق لنموذج ناجح ومتقدم لاشتراكية، لا زالت، كما سبق وذكرنا، مشروعاً مستقبلياً أكثر منها تجربةً ماضيةً.
ومن هذه الزاوية، ننظر الى التجارب الماضية التي انهارت أو انتكست بقيمة الدروس التي راكمتها والخلاصات التي خلّفتها للمراحل التاريخية القادمة. كما ننظر باهتمام وتضامن الى التجارب التي ما زالت قائمة، آملين أن تحقق أهدافاً تلبّي تطلعات شعوبها، بحيث تُقدّم للعالم نماذج جديدة أكثر نجاحاً. كما نبدي كل التعاطف مع المحاولات الجديدة التي بزغت في مناطق مختلفة من العالم لشق طرق جديدة تمكّن من تجاوز النظام الإقتصادي الرأسمالي، ولمحاصرة عدوانية القطب الأوحد الذي يقوده ويهدد البشرية كلها بمخاطر تعميم وتوسيع الحروب "الإستباقية"، للإستيلاء على المواد الأولية الإستراتيجية، كالنفط والغاز الطبيعي، كما يهدد البيئة البشرية وأجواء الكرة الأرضية بمزيد من التلوث، وبالتالي، بمزيدٍ من الخراب للمجتمعات البشرية عامة.
وننتهي الى التذكير بما قاله كارل ماركس قبل وفاته بأشهر قليلة في العام 1883، ونقله عنه رفيق دربه وعلمه فريدريش إنغلز بشأن المواقف المتطرفة والمتسرعة والمستهينة بأي تقدم جزئي لصالح العمال والشغيلة، أي لصالح غالبية المواطنين، وهي المواقف التي كان يتبناها الزعيم اليساري الفرنسي، جول غيسد، وكذلك زوج ابنة ماركس، لورا، اليساري الفرنسي أيضاً بول لافارغ: إذا كانت هذه هي الماركسية، فأنا (المقصود ماركس) لست ماركسياً.
فالأهم من قراءة النصوص وتكرارها هو استيعابها بشكل خلاّق، بحيث يتم تحليل الواقع ورؤيته كما هو، وليس عبر إسقاط المفاهيم النظرية والنصوص عنوةً عليه، كما يتم اكتشاف الآليات التي تسمح بتغيير هذا الواقع بالإتجاه المطلوب. وهو ما يعيدنا ثانيةً الى أن النجاح والفشل في تجارب التحول الإشتراكي ليسا مرتبطين بالتزام نظري بحت، هو، في كل الأحوال، بحاجة الى تدقيق لمضمونه، بل بشكل رئيسي بالربط بين الإلتزام والثقافة الفكرية والقدرة على التعامل الخلاق مع الواقع، المتجدد والمتغيّر دائماً، والمتنوع بين منطقة وأخرى وبين بلد وآخر. وتلك معادلة من الواضح أنها ليست سهلة.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا ...
- -اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتما ...
- 90 عاماً على الثورة البلشفية في روسيا.... هل كان بالإمكان تف ...
- حروب النفط والصراعات على منابعه وممراته مرشّحة للإتساع
- القرن 21 سيكون قرناً آسيوياً؟
- صعود الصين وتنامي استقلالية روسيا...يؤشران لتوازنات عالمية ج ...
- ملاحظات على هامش إنتخابات الرئاسة في فرنسا
- اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل
- تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية
- اليسار الجذري والديمقراطية التعددية هل يلتقيان؟ فنزويلا قالت ...
- الأيديولوجيا والسياسة... إستقلال نسبي، وضوابط ضرورية
- إنتصارات اليسار في أميركا اللاتينية -الخلفيات والآفاق
- داود تلحمي في حوار مع العربية ضمن برنامج السلطة الرابعة
- المؤرخ والعالم الاجتماعي مكسيم رودنسون... نموذج مختلف للإستش ...
- بعد خمسين عاماً من الانتصار التاريخي في - ديان بيان فو
- نحن والإنتخابات الأميركية: -إزاحة- اليمين المتطرف... وبلورة ...
- بعد صدور القرار 1515 لمجلس الأمن حول -خارطة الطريق
- في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد ...


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - داود تلحمي - حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-