أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - سالم الفائدة - جدلية السجن والكتابة















المزيد.....


جدلية السجن والكتابة


سالم الفائدة

الحوار المتمدن-العدد: 2249 - 2008 / 4 / 12 - 06:26
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


-جدلية السجن والكتابة
يقول بوكوفسكي: "عرف تاريخ البشرية عشرات الملايين من الناس الذين دخلوا السجن وعشرات الألف منهم الذين كتبوا ارتساماتهم عن هذه التجربة لكن كل هذا لم يكن كافيا لإطفاء عطش الانسانية، لم يقلص من الاهتمام البالغ والمستمر الذي يثيره موضوع الأسر. ذلك أن الانسان منذ أقدم العصور تعود على اعتبار الموت والجنون والسجن من أشد المظاهر هولا. إننا نستهوي ما يرعبنا وننجدب له كما هو الشأن بالنسبة لكل ما هو مجهول. نعم، لو رجع الآن شخص ما من الآخرة، فمن المحتمل أنه سيقتل من جديد لفرط الأسئلة التي ستوضع عليه."

1- السجن
لن نتناول هنا السجن تناولا لغويا كما ورد في "لسان العرب" على أنه "المحبس" ،
ولن نتناول السجن كما يتداول في الدراجة المغربية باعتباره "الكاشو" أو الزنزانة، التسجين أو دار الحراسة، "البيضانسي".

لن نأتي كذلك على ذكر عدد السجون في المغرب سواء منها المعروفة، أو السرية، لن نتحدث كذلك عن شكلها أو حجمها الذي جعل المغرب بفتخر بأنه يملك أكبر السجون في أفريقيا (المركزي بالقنيطرة).

لن نتناول السجن كذالك باعتباره منبرا لإعطاء الدروس، وتوزيع النصائح، بل باعتباره عالما مصغرا لسجون رحبة بدون جدران، تلخص نفس المأساة اليومية، ونفس العذابات تنطق بلهجة الصراع والحب، فتجربة الاعتقال ليست امتيازا ولا ميدالية ذهبية، بل هي في نهاية الأمر محنة واختبار.

إن السجن السياسي أو الاعتقال السياسي يختلف في طبيعته، عن السجن العادي من حيث المراحل التي يمر منها السجين، فهو شكل من أشكال القمع تمارسه الدولة كأداة بيد الطبقات السائدة ضد كل معارض، ويهدف الاعتقال كشكل من أشكال التعديب، المختلفة أنواعه إلى انتزاع الاعترافات وطبخ الملفات وسواء كان التعذيب جسديا، أو نفسيا فإنه يمثل أبشع مظاهر الحط من كرامة الانسان ومن أبسط حقوقه فهذا الفضاء يغيب فيه القانون بشكل كلي، وتحضر فيه السادية، التي تتجلى في الجلاد المبدع في أشكال التعذيب، فالسجن إذن عالم خاص له قوانينه الخاصة والتي لا يعرفها إلا من كانوا ضيوفه.

يقول عبد اللطيف اللعبي: " لكل نظام مؤسساتي نظريته لكن نظرية النظام السجني غير مكتوبة ولا منطوقة. لقد حرس رواد هذا النظام وحفدته على أن تبقى سرا مطبقا لا تقل هولا عن أسرار الكون والموت وكل الأسرار الأخرى، التي تغذي الضعف والخوف والقدرية." *
ويذهب عبد الله زريقة وهو واحد ممن عاشوا تجربة الاعتقال السياسي في المغرب، إلى أن السجن في دلالته العامة هندسة للخنق، وقتل إرادة المعتقل، أي اعتقال الحياة فيه وإفراغه من طاقته في الخلق والإبداع. لكنه بعد هذا الكلام يتسائل قائلا: هل يستطيع السجن تأدية هذه الوظيفة المعطاة من طرف واضعيه ؟

وتقول فريدة النقاش في كلام بسيط: " "السجن" صور.. الباب المغلق على الحرارة، والرطوبة والبق والصراصير وتضيف في صفحة أخرى السجن موحش في الظلام وموحش أيضا في النور".

وفي نفس الإطار يرى محمد البكراوي: "أن السجن واجهة أخرى للنضال والمقاومة، والمعتقل عندما يقاوم فهو يتشبت بالحياة فمنذ دخول السجن تبدأ تلك الآلة التي لا اسم لها.. هي لا ترى ولكنها تعاش إنها دقيقة، حادة رفيعة أيضا تخترق الصمت الذي يلف الزنزانة عندها يطرح السؤال: إن المقصود هو قتلي والقتل هنا ليس نسفا، ولا رميا بالرصاص، لأن القتل بهذه الطريقة أو تلك يرفع المناضل الشهيد إلى متابة الرمز، الحي دوما في ذاكرة الجماهير. ولكن أخطر أشكال القتل، هو الذي وضع السجن لتنفيده في صمت وهدوء فالسجن كمخطط إبادة ما هو انساني في المعتقل يأخذ على عاتقه كمؤسسة توقيف الرأس المفكر، ما دام الرأس المفكر هو أصل البلوى في نظر الجلادين".
إن نظرية النظام السجني التي أجمع معظم الذين عاشوا تجربة الاعتقال، على أنما تسعى إلى قتل كل قدرات السجين، وقواه العقلية والبدنية، لا يمكن اقتحامها وتفكيك آليتها إلا من الداخل فهي نظرية عملية تصل إلى أهدافها من خلال مجموع الاجراءات والأدوات التي تسخرها.
فبدءا بمعمارية الفضاء السجني (الموقع الجغرافي لقلعات النفي، الأسوار، الزنازن، الاضاءة، التهوية، الألوان...) مرورا بكل الاجراءات التي تستهدف تجريد الأسير من هويته وقطع صلاته بالعالم الخارجي وحركة وقوى التغيير ونسف الأرضية التي تنبني على أساسها علاقاته الانسانية، وصولا إلى تقسيم الزمان إلى وحدات ميكانيكية لا تسمح إلا لقضاء الحاجيات التي تضمن استمرار الوظيفة الحيوية (أكل، نوم، فسحة قصيرة، نظافة، زيارات متباعدة ومحروسة بإتقان).
إن النظام السجني يعمل على تخريب مقومات الرغبة في العيش والعزيمة والفعل. إن مجموع هذه الاجراءات تستهدف خلخلة وتعطيل كل حواس وقدرات "النزيل".

إن القتل الذي تمارسه الآلة السجنية، أخطر بكثير من القتل العادي فالقتل بالنسبة للمعتقل المناضل يتجسد عندما ينتزع عن جذوره في المعامل، والحقول والمدارس والأحياء الفقيرة. هنا تتجلى الخطورة، وهدف القمع هو استئصال هذه الجدور فالقتل أن يموت المعتقل من الجدب كما تموت الأرض من شوقها للماء. لكن السؤال الذي نعيد طرحه الآن بعد أن وجد مبرراته في سياق كلامنا عن الأسر هو: هل يستطيع الأسر بالفعل أن يصل إلى الأهداف التي حددها؟

إن الأمر إذن يتطلب مزيدا من التدقيق خصوصا عندما نجد عبد اللطيف اللعبي كمعتقل سياسي يقول: "إن النظام السجني ومن حيث لا يدري، يتحول إلى سلاح مضاد لوظيفته ويخلق شروط تعريته وإذانته ومشروع انقراضه – إنه لا يستطيع الانفلات من شراهة قانون الجدلية من اللحظة الأولى التي يأوي في أحشائه عنصره المضاد، نقيضه وضحيته المفترطة الأسير".
إن الأمر لا يزال يجتاج إلى تفسير أكبر، فكيف ذلك؟
إن استحضار الكثير من التجارب التي مر منها معتقلون سابقون يجعلنا نعتقد مع البكراوي قوله السابق الذكر، "إن السجن واجهة أخرى للنضال والمقاومة ويجعلنا كذلك نتجاوز نظرية النظام السجني، التي تسعى في جوهرها ودلالتها العامة، هندسة الخنق وقتل إرادة المعتقل خصوصا عندما يطرح عبد الله زريقة باعتباره من الذين ذاقوا عذابات القهر والاضطهاد المادي والمعنوي في المعتقلات المغربية السرية والعلنية، سؤالا مهما هل يستطيع السجن تأدية هذه الوظيفة المعطاة من طرف واضعيه؟، ليجيب بعد ذلك: " إن ممارسة الحياة أي توفير شروطها داخل السجن، تتبعك للأوضاع العامة، ارتباطا بالعائلة، بالعلاقات الشحصية، خلق حياة جماعية داخل السجن تتوفر على الحماس والدفئ المفترض في أية علاقة انسانية، ممارسة الغناء، الاعتناء بالنباتات في ساحة السجن، خلق أمسيات، وباختصار السجن لا يستطيع قتل هذه الأشياء في الانسان، بل العكس يثير فيك حب الانسان لممارسة الحياة ولا استثني هنا ممارسة كتابة الشعر التي تزيد الأحاسيس استنفارا أي تعلقا بالروح المرحة للحياة، فالشعر هو نفسه ممارسة للحياة فكما تكتب تعيش، هذا الانسان الذي يريدون قتله وخلقه من جديد جلادا لمبادئة وكل ما يحمله هو هذا الانسان الذي لا يزيدهم السجن إلا تعلقا بأبسط الممارسات، العلاقة بالطفل، بالأم، بالمرأة التي يحبها، ففي السجن تمارس دائما إعادة إنتاج علاقاتك بهذا العالم،أنت تمارس حريتك في السجن، وهذه الحرية توسع من نطاقها وجمالها بنضالاتك وتحركاتك وفي ذلك تخنقهم، فالمعتقل كإنسان هو نفسه الحامل لقضيته في ممارسته العادية للحياة".

هكذا يتحول السجن من فضاء ضيق مصمم لاغتيال إرادة المعتقل إلى فضاء رحب تتحول فيه كل الأشياء الصغيرة "التافهة" إلى أشياء ذات أهمية وذات معنى بالنسبة للأسير. وهكذا يزداد الأسير تعلقا أكثر بالحياة من خلال ممارسة حريته المحدودة داخل هذا الفضاء.
هذا بالنسبة للسجن فماذا عن الكتابة ؟

2– الكتابة:
إن الحديث عن الكتابة كممارسة إبداعية أو كفعل إنساني يهدف من خلاله التعبير عن الذات وعن همومها سواء الذاتية او المجتمعية يقتضي التمييز أولا بين نوعين من الكتابة :

_ الكتابة في ظروف الانتاج الاعتيادية، والتي تشكل حسب اللعبي خروجا عن إجماع الصمت وتأزيما بمجمل التوازنات التي تعرقل انبثاق الجديد من أحشاء القديم. إنها "بدعة" و "اعتزال" قطيعة داخل الديمومة، تفكيك وإعادة تركيب، تحويل لمجرى تلمس الواقع، وبديهي أن عملية من هذا الحجم لا يستطيع القيام بها إلا الإنسان المتمكن من كل قدراته الإنسان الذي لا يعتريه الخوف من مصارعة كافة القوى المنظمة للصمت وعقر الاستقرار.

فالشاعر عبد اللطيف اللعبي يعتبر الكتابة نوعا من مقاومة الموت، وهي أيضا تعبير عن عشق الحياة، ويصرح كذلك أن الموت هنا ليس بمعناه البيولوجي ولكن الموت الذي يحدث عندما ...نسقط في الامبلاة، مثلا فتصاب طاقتنا بالفتور، وتنزع إلى الاستقالة من عدد من الواجبات التي تفرضها علينا الحياة. ويبقى كل هذا من رهانات الكتابة ويضيف اللعبي إن الكتابة لغز في آخر المطاف، الكتابة نوع من القبر إن صح التعبير. لمذا في وسط إجتماعي معين، في لحظة تاريخية معينة يتعاطى رجل أو امرأة للكتابة؟ هذا فعلا لغز يجب أن ينضاف إلى لغز الموت والحياة والحب . أما النوع الثاني من الكتابة الذي نود الحديث عنه والذي يهمنا بشكل كبير هو الكتابة داخل الأسر، فما هو إذن أمر الكتابة داخل السجن وكيف تبتدئ؟

لقد تساءل عبد اللطيف اللعبي: هل هناك نقيض لجوهر الأسر أدق من الكتابة ؟
يقول مبارك ربيع: "الكتابة اليوم ضرورة ملحة أمام سيادة العدم والغياب والضياع للقيم الانسانية الجميلة، والمعاني السامية النبيلة، والكتابة ترسيخ لحقنا في الحلم ولرسم بشائر الفجر في الأفق. فالإبداع فضاء حريتنا المتبقي" .

وما دام الإبداع فضاء الحرية المتبقي بالنسبة للأسير، ومادامت الكتابة بمجرد وجودها تعير بجلاء عن الخلل الأصلي المرافق لآلية الأسر، وما دامت الكتابة تعني اجتياز حقول الألغام والرمال المتحركة واجتياز أسوار الصمت المضروبة من حول الأسير، واختراق استراتيجية التطويق والإبادة التي تستهدفه باستمرار.
يذهب ع. زريقة إلى أنه ليست هناك مقاييس معينة تبدأ منها الكتابة داخل المعتقل وأنه ليست لهذه الكتابة لوغاريتمات أو قوانين عليا تتحكم فيها، بل هي كتابة واسعة الصدر. وأن الكتابة بالنسبة إليه تبدأ حسب ما تعلمه من الحياة وفي الحياة.
فالكتابة داخل الأسر قد تنطلق في البدئ كرد فعل تلقائي أشبه ما يكون بفعل البقاء "أنا أكتب إذن أنا حي" كما قال اللعبي فهي تأتي كصرخة نوعية يتأكد من خلالها الأسير – الكاتب من استمرارية نفسه، طاقاته العقلية، وحواسه، وهذا التأكيد الذي تحدث عنه اللعبي أساسي فهو تأكيد على أن الأسر ليس نهاية الإنسان والأحلام العادلة، وليس بمقدوره تحويل الأسير إلى ذلك الإنسان الصفر الذي فقد كل مكونات هويته وأسباب وجوده وكفاحه.
"الكتابة صنو الحرية وهي كذلك ملازمة لكل العوامل والظروف السالبة للحرية وهي كذلك أنجع الأدوات بين أيدي السجين لقهر تلك العوامل، والظروف السالبة لحريته وأكثر ما نلمس اقتران الكتابة بالسجن عند معتقلين لم يسبق لهم أن دخلوا رحبة الكتابة، إلا بعد أن خبرو تجربة الاعتقال والحبس
يقول البكرواي: "رغم وجود العصابة على العينين والقيد الحديدي في اليدين: نظموا شعرا، وانتقل بيننا مثل زهرة، أو جدول حفر مجراه رغم أن القانون الداخلي للمعتقل السري ينص على منع "الكلام" وهو قانون تتجسد عقوبته في ساعات طويلة من الجلد".
ويقول بعد ذلك كنت أجد لذة وأنا ألمس الورق، ورق علبة السجائر في البداية كنت أخربش فوقه مثل طفل يكتشف لأول مرة شكل الأحرف لكن الكتابة لدى المعتقل ليست مرهونة بالورق والقلم كأدوات، إنها كتابة داخلية لأنها على خلاف كل الأشياء الطبيعية لا موعد لها... هي لقاء مع الحياة شاذ وعلى غير موعد. بهذا المعنى بدأت الكتابة منذ لحظة اختطافي، كتابة داخلية تخالف كتاباتي السابقة لكنها تظل تلك الترجمة الدقيقة لعلاقاتي بالعالم وإعادة رؤيته وصياغته لأحرره من قيد المعاناة والعذابات، وفي عملية تحريره مني واستقلاليته الجديدة عني تنشئ بيننا علاقة تنافر جديدة... فالكتابة لدى البكراوي في المعتقل وجه للصراع والمقاومة.2

إن كتابة الأسر إذن ليست ترفا دهنيا أو وسيلة تغزو السلطة الرمزية فهي ترتبط بالقضية الأنطوجية الأكثر مأساوية، فهي الصراع الواعي بين الموت والحياة بدخيلة الكائن الحي.
لكن السؤال الذي قد يطرح الآن على كل المهتمين بمجال الكتابة وخاصة الكتاب داخل الأسر هو: هل بالفعل الإبداع داخل السجن له "خصوصية "، إذا كان ذلك صحيحا فماالفرق بين الإبداع داخل السجن وخارجه؟

إن الإجابة على مثل هذا التساؤل كما يؤكد اللعبي تقتضي أن نتأمل جيدا في المبدأ التأسيسي لكتابة الأسر فبدون استيعاب لا نستطيع فهم خصوصية ووظيفة هذا الإنتاج الذي ينتج في ظروف القهر والحرمان من الحرية.

إن الكتابة داخل الاسم حسب عبد اللطيف اللعبي تتطور هي الأخرى فتكون تدريجيا منهج مقاربتها لواقعها الملموس والأدوات التعبيرية التي تمكنها من رصد حركة هذا الواقع وفرز عناصره الأكثر إيحاء ودلالة.

إلا أنه لا يجب ان نسقط في نزعة المقارنة، إن العديد من مكونات ومستلزمات الكتابة تختلف هنا عن مقابلاتها في العالم الخارجي. والعلاقة مع الواقع تختلف هي الأخرى ليست في منهج المقاربة، ولكن بحكم مغايرة الطرفين اللذين يدخلان في هذه المعادلة أي الكاتب الأسير من جهة وواقع الأسر من جهة ثانية. إن هذه العلاقة بالواقع تبتعد إلى حد كبير عما يلاحظه في تجربة الكتابة العادية.
وفي جواب على السؤال الذي سبق وطرحناه حول خصوصية الإبداع داخل السجن، يقول ع. الله زريقة أن هناك خصوصية للإبداع داخل السجن عن خارج السجن، لكنها ليست خصوصية قطيعة بل خصوصية تلازم. بمعنى آخر أنه ليس هناك تمييز حاد بين السجن الصغير والسجن الكبير، فنفس الهموم المعاشة ونفس الإنسان في كلا السجنين، أما ما لمسته في الانتاجات المكتوبة داخل السجن هو:

1 ـ أولا أنها حساسة جدا بالروابط الأكثر عمقا، ودلالة بين أناس يعيشون نفس المعاناة.
2 ـ ثانيا، إن كتابة معتمرة "بالحكمة" و "النظرة العميقة" للحياة. أي ما معناه أن هذه الكتابة تبتعد كثيرا عن تجريدات الحياة وتركيزها على دلالات نضالية البشر رغم أقسى الظروف.
3 ـ ثالثا، إن تجربة السجن بالنسبة له تختصر التجاوز والتحدي ولا محدودية إرادة المعتقل .
إنما يستشف من كلام ع. زريقة هو أن الكتابة ذات قيمة كبرى ما دامت متعلقة بقدرة المعتقل، وإرادته في الإبداع، وكذا بمعانقة هذه الكتابة للنضالات التي يخوضها المعتقل من أجل تحسين شروط وجوده وضمان حقوقه، هذا رغم أن فعل الكتابة يتم في نطاق القيد وفي نطاق محدود.
ففي واقع الأسر تسقط كل الأقنعة فيصبح هذا العالم شفافا، فتتجلى التناقضات في عريها وتقف أطراف الصراع في خندقين متقاربين متقابلين تظهر الكرش المكورة واليد التي بثرت أصابعها آلة الرأسمال، الأعين التي أطفأتها مخدرات اليأس والوشوم المتعددة التي خطتها سياط سوء التغذية والحرمان الجنسي، وعدابات الجهل والتهميش.

وتظهر بجلاء خصوصية هذا الإبداع داخل السجن، في قول اللعبي بأن كاتب الأسر يعب من المنبع مباشرة، فهو لا يتخيل ولا يتوهم هنا ينتفي إلى حد ما ذلك التناقض الميؤوس من حله ما بين الذاتي والموضوعي، إن الذاتي يتجلى في الموضوعي والموضوعي في الذاتي، ويكفي للكاتب أن ينظر إلى نفسه ومن حوله ليجعل الواقع يتحدث هو نفسه بلغة الصدق والأمانة.

لذلك فنظرة الكاتب الأسير للعالم نظرة "فطرية" لهذا السبب اعتبر عبد اللطيف اللعبي خطاب الإبداع في الأسر على أنه خطاب "نأصيلي" لأنه بحكم ظروفه وشروطه يرى الأشياء في عذريتها ونقائها الأصلي ويتشكل كلغة لانبجاسها من ثنايا اللامنطوق واللامرئي.

فإذا كانت واقعية الأدب تعني انتماءه للواقع الاجتماعي فأدب الأسر أيضا الذي من خلاله يصارع الأسير الموت، والخنق وينضح بلغة الحب والصراع الذي يصل إلى درجة أن الكاتب الأسير تظل حياته مهددة باستمرار، مما يجعله يعتقد دائما أن أي قصيدة يكتبها قد تكون هي وصيته الأخيرة، ولكن رغم أن ع. اللطيف اللعبي اعتبر خطاب الإبداع في الأسر على أنه خطاب "تأصيلي" فهو لم يتردد في طرح التساؤل حول كيف يمكن اعتماد الموضوعية تجاه هذا النوع من الإنتاج الأدبي حتى لا نسقط في تمجيده والتساهل معه؟ أو في التحايل واعتباره إبداعا من الدرجة الثانية؟ وكيف نقي أنفسنا من نزعة المغالاة الايديولوجية، كيف ما كان مصدرها وحسن أوسوء النيات التي تقف وراءها؟ وكيف إذن نحلل هذا الإنتاج من إشكالية خصوصيتة دون أن نلغي إشكالية "أدبيته" ؟ ويعترف اللعبي في هذا السياق بالهين، خصوصا إذا ما اعتبرنا أن النقد الأدبي والثقافي عموما وفعاليته العلمية، وفي إطار محدوديته تلك، لم يتناول إلا نماذج محسوبة مما يمكن تسميته "بالإنتاج المركزي" فكيف له أن يهتم بالإنتاجات الهامشية كأدب النساء وأدب الأطفال، وأدب الأسرى .

وتفاديا للوقوع فيما حدرنا منه وبعد إذن القارئ، فلنلقي نظرة على أهم الإنتاجات عن هذا الشكل الأدبي بالعالم العربي التي عملت على كشف وفضح وتعرية عالم السجن السياسي. سيجد القارئ نفسه كما نجد نحن أيضا أنفسنا مقودين بالضرورة للحديث عن "ثنائية السجون" ( شرق المتوسط والآن هنا...! وشرق المتوسط مرة أخرى) للروائي العربي عبد الرحمان منيف، هذه الثنائية التي تميزت بأنها لم تخصص للحديث عن أي بلد عربي محدد، يقول منيف في رواية "شرف المتوسط" "فقد كانت بداية المقاومة (مقاومة السلطات العربية لهذه الرواية) الإدعاء أن الأمر لا يعنيها، وإنه يعني الدول الأخرى، خاصة أن الرواية جاءت بصيغة التعميم أي أن شرق المتوسط مع أنها لا تسمي مكانا بذاته لكنها تعني كل دولة تحديدا ولذلك حين كان يجري الحديث عن شرق المتوسط كانت كل دولة تنظر للأخرى على أنها هي المعنية ص 8-9.

ولأن منيف لم يعثر لرواياته عن عالم السجن السياسي وطنا محددا، ولأنه لم يطنب في التفاصيل الحديثة نظرا لأن الموضوع عام (القمع والسجن) يشغل الإنسانية جمعاء.

فمنيف لم يحدد ملامح المكان ولأن الأحداث تقع في كامل "شرق المتوسط" فقد بين قساوة التجربة، وأن الأدب، الفن، والإبداع، التزام تجاه الشعوب، والجماهير التي تقاتل بدمها والطواقة إلى التحرر والقضاء على الاستغلال. وكثيرا ما يوصف ع. الرحمن منيف بين النقاد على أنه المواطن العربي الأشمل، الذي امتزج في أدبه السؤال الوطني بسؤال الحرية والنضال دفاعا عن القيم العليا. فمنيف عاش مطاردا حتى الإغتراب القسري، وعاش منفيا يبدأ منه وإليه الرحيل، فقد كانت كل بلدان المتوسط وطنه وقد كانت كل "كل قلوب الناس جنسيته" حسب تعبير محمود درويش. وهو يبرهن من خلاله "ثنائية السجون" أن كل هموم الناس "قضيته وأهمها قضية الحرية، الديمقراطية وكرامة الإنسان".



#سالم_الفائدة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الأمم المتحدة تعلق على مقتل مراسل حربي روسي على يد الجيش الأ ...
- مسؤولون في الأمم المتحدة يحذرون من مخاطر ظهور جبهة جديدة في ...
- الأمم المتحدة: 800 ألف نسمة بمدينة الفاشر السودانية في خطر ش ...
- -خطر شديد ومباشر-.. الأمم المتحدة تحذر من خطر ظهور -جبهة جدي ...
- إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب ...
- إسرائيل: 276 شاحنة محملة بإمدادات الإغاثة وصلت إلى قطاع غزة ...
- مفوضية اللاجئين تطالب قبرص بالالتزام بالقانون في تعاملها مع ...
- لإغاثة السكان.. الإمارات أول دولة تنجح في الوصول لخان يونس
- سفارة روسيا لدى برلين تكشف سبب عدم دعوتها لحضور ذكرى تحرير م ...
- حادثة اصفهان بين خيبة الأمل الاسرائيلية وتضخيم الاعلام الغرب ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - سالم الفائدة - جدلية السجن والكتابة